الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٢٧٤] ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوالَهم بِاللَّيْلِ والنَّهارِ سِرًّا وعَلانِيَةً فَلَهم أجْرُهم عِنْدَ رَبِّهِمْ ولا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ﴾ . ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوالَهم بِاللَّيْلِ والنَّهارِ سِرًّا وعَلانِيَةً فَلَهم أجْرُهم عِنْدَ رَبِّهِمْ ولا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ﴾ وفي تَقْدِيمِ اللَّيْلِ عَلى النَّهارِ والسِّرِّ عَلى العَلانِيَةِ إيذانٌ بِمَزِيَّةِ الإخْفاءِ عَلى الإظْهارِ. قالَ الحَرالِيُّ: فَأفْضَلُهُمُ المُنْفِقُ لَيْلًا سِرًّا، وأنْزَلُهُمُ المُنْفِقُ نَهارًا عَلانِيَةً، فَهم بِذَلِكَ أرْبَعَةُ أصْنافٍ. لَطائِفُ: لا يَخْفى أنَّ في حَضِّهِ تَعالى عَلى الإنْفاقِ في هَذِهِ الآيَةِ الوافِرَةِ، وضَرْبِهِ الأمْثالَ في الإحْسانِ إلى خَلْقِهِ تَرْغِيبًا وتَرْهِيبًا، ما يَدْعُو كُلَّ مُؤْمِنٍ إلى أنْ يَتَزَكّى بِفَضْلِ مالِهِ. (p-٦٩٤)قالَ الإمامُ الغَزالِيُّ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ في " الإحْياءِ " ما نَصُّهُ: في وجْهِ الِامْتِحانِ بِالصَّدَقاتِ ثَلاثَةُ مَعانٍ: الأوَّلُ: أنَّ التَّلَفُّظَ بِكَلِمَتَيِ الشَّهادَةِ التِزامٌ لِلتَّوْحِيدِ، وشَهادَةٌ بِإفْرادِ المَعْبُودِ، وشَرْطُ تَمامِ الوَفاءِ بِهِ، أنْ لا يَبْقى لِلْمُوَحِّدِ مَحْبُوبٌ سِوى الواحِدِ الفَرْدِ، فَإنَّ المَحَبَّةَ لا تَقْبَلُ الشَّرِكَةِ، والتَّوْحِيدَ بِاللِّسانِ قَلِيلُ الجَدْوى، وإنَّما يُمْتَحَنُ بِهِ دَرَجَةُ الحُبِّ بِمُفارَقَةِ المَحْبُوبِ، والأمْوالُ مَحْبُوبَةٌ عِنْدَ الخَلائِقِ لِأنَّها آلَةٌ تُمْتِعُهم بِالدُّنْيا، وبِسَبَبِها يَأْنَسُونَ بِهَذا العالَمِ ويَنْفِرُونَ عَنِ المَوْتِ، مَعَ أنَّ فِيهِ لِقاءَ المَحْبُوبِ، فامْتَحَنُوا بِتَصْدِيقِ دَعْواهم في المَحْبُوبِ، واسْتَنْزَلُوا عَنِ المالِ الَّذِي هو مَرْمُوقُهم ومَعْشُوقُهُمْ، ولِذَلِكَ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ المُؤْمِنِينَ أنْفُسَهم وأمْوالَهم بِأنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ﴾ [التوبة: ١١١] وذَلِكَ بِالجِهادِ، وهو مُسامَحَةٌ بِالمُهْجَةِ شَوْقًا إلى لِقاءِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، والمُسامَحَةُ بِالمالِ أهْوَنُ، ولِما فُهِمَ هَذا المَعْنى في بَذْلِ الأمْوالِ انْقَسَمَ النّاسُ إلى ثَلاثَةِ أقْسامٍ: قِسْمٌ صَدَقُوا التَّوْحِيدَ ووَفَوْا بِعَهْدِهِمْ ونَزَلُوا عَنْ جَمِيعِ أمْوالِهِمْ، فَلَمْ يَدَّخِرُوا دِينارًا ولا دِرْهَمًا، وقِسْمٌ دَرَجَتُهم دُونَ مَن قَبْلَهُمْ، وهُمُ المُمْسِكُونَ أمْوالَهُمُ، المُراقِبُونَ لِمَواقِيتِ الحاجاتِ ومَواسِمِ الخَيْراتِ، فَيَكُونُ قَصْدُهم في الِادِّخارِ الإنْفاقَ عَلى قَدْرِ الحاجَةِ دُونَ التَّنَعُّمِ، وصَرْفَ الفاضِلِ عَنِ الحاجَةِ إلى وُجُوهِ البِرِّ مَهْما ظَهَرَ وُجُوهُها، وهَؤُلاءِ لا يَقْتَصِرُونَ عَلى مِقْدارِ الزَّكاةِ، وقَدْ ذَهَبَ جَماعَةٌ مِنَ التّابِعِينَ إلى أنَّ في المالِ حُقُوقًا سِوى الزَّكاةِ، كالنَّخَعِيِّ والشَّعْبِيِّ وعَطاءٍ ومُجاهِدٍ. قالَ الشَّعْبِيُّ: (بَعْدَ أنْ قِيلَ لَهُ: هَلْ في المالِ حَقٌّ سِوى الزَّكاةِ؟) قالَ: نَعَمْ. أما سَمِعْتَ قَوْلَهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿وآتى المالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبى﴾ [البقرة: ١٧٧] الآيَةَ، واسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ (p-٦٩٥)عَزَّ وجَلَّ: ﴿ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾ [الأنفال: ٣] وبِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناكُمْ﴾ [البقرة: ٢٥٤] وزَعَمُوا أنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَنسُوخٍ بِآيَةِ الزَّكاةِ، بَلْ هو داخِلٌ في حَقِّ المُسْلِمِ عَلى المُسْلِمِ، ومَعْناهُ أنَّهُ يَجِبُ عَلى المُوسِرِ، مَهْما وجَدَ مُحْتاجًا، أنْ يُزِيلَ حاجَتَهُ فَضْلًا عَنْ مالِ الزَّكاةِ. وقِسْمٌ يَقْتَصِرُونَ عَلى أداءِ الوُجُوبِ فَلا يَزِيدُونَ عَلَيْهِ ولا يَنْقُصُونَ مِنهُ، وهي أقَلُّ الرُّتَبِ، وقَدِ اقْتَصَرَ جَمِيعُ العَوامِّ عَلَيْهِ؛ لِبُخْلِهِمْ بِالمالِ ومَيْلِهِمْ إلَيْهِ، وضَعْفِ حُبِّهِمْ لِلْآخِرَةِ. قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنْ يَسْألْكُمُوها فَيُحْفِكم تَبْخَلُوا ويُخْرِجْ أضْغانَكُمْ﴾ [محمد: ٣٧] يُحْفِكم أيْ: يَسْتَقْصِي عَلَيْكم. فَكَمْ بَيْنَ عَبْدٍ اشْتَرى مِنهُ مالَهُ ونَفْسَهُ بِأنَّ لَهُ الجَنَّةَ، وبَيْنَ عَبْدٍ لا يَسْتَقْصِي عَلَيْهِ لِبُخْلِهِ، فَهَذا أحَدُ مَعانِي أمْرِ اللَّهِ سُبْحانَهُ عِبادَهُ بِبَذْلِ الأمْوالِ. المَعْنى الثّانِي: التَّطْهِيرُ مِن صِفَةِ البُخْلِ، فَإنَّهُ مِنَ المُهْلِكاتِ. قالَ ﷺ: ««ثَلاثٌ مُهْلِكاتٌ: شُحٌّ مُطاعٌ، وهَوًى مُتَّبَعٌ، وإعْجابُ المَرْءِ بِنَفْسِهِ»» . وقالَ تَعالى: ﴿ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ [التغابن: ١٦] وإنَّما تَزُولُ صِفَةُ البُخْلِ بِأنْ نَتَعَوَّدَ (p-٦٩٦)بَذْلَ المالِ، فَحُبُّ الشَّيْءِ لا يَنْقَطِعُ إلّا بِقَهْرِ النَّفْسِ عَلى مُفارَقَتِهِ حَتّى يَصِيرَ اعْتِيادًا، والزَّكاةُ، بِهَذا المَعْنى: طُهْرَةٌ. أيْ: تُطَهِّرُ صاحِبَها عَنْ خُبْثِ البُخْلِ المُهْلِكِ، وإنَّما طَهارَتُهُ بِقَدْرٍ بَذْلِهِ، وبِقَدْرِ فَرَحِهِ بِإخْراجِهِ واسْتِبْشارِهِ بِصَرْفِهِ لِلَّهِ تَعالى. المَعْنى الثّالِثُ: شُكْرُ النِّعْمَةِ. فَإنَّ لِلَّهِ عَزَّ وجَلَّ عَلى عَبْدِهِ نِعْمَةً في نَفْسِهِ وفي مالِهِ، فالعِباداتُ البَدَنِيَّةُ شُكْرٌ لِنِعْمَةِ البَدَنِ، والمالِيَّةُ شُكْرٌ لِنِعْمَةِ المالِ، وما أخَسَّ مَن يَنْظُرُ إلى الفَقِيرِ، وقَدْ ضُيِّقَ عَلَيْهِ الرِّزْقُ، وأُحْوِجَ إلَيْهِ، ثُمَّ لا تَسْمَحُ نَفْسُهُ بِأنْ يُؤَدِّيَ شُكْرَ اللَّهِ تَعالى عَلى إغْنائِهِ عَنِ السُّؤالِ وإحْواجِ غَيْرِهِ إلَيْهِ. فَصْلٌ ولِلْغَزالِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أيْضًا بَحْثٌ في المَنِّ والأذى المُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُما. يَجْدُرُ ذِكْرُهُ هُنا، لِما فِيهِ مِنَ الفَوائِدِ لِطالِبِ الآخِرَةِ. قالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: الوَظِيفَةُ الخامِسَةُ (يَعْنِي مِن وظائِفِ مُرِيدِ طَرِيقِ الآخِرَةِ بِصَدَقَتِهِ) أنْ لا يُفْسِدَ صَدَقَتَهُ بِالمَنِّ والأذى، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكم بِالمَنِّ والأذى﴾ [البقرة: ٢٦٤] واخْتَلَفُوا في حَقِيقَةِ المَنِّ والأذى، فَقِيلَ: المَنُّ أنْ يَذْكُرَها، والأذى أنْ يُظْهِرَها. وقالَ (p-٦٩٧)سُفْيانَ: مَن مَنَّ فَسَدَتْ صَدَقَتُهُ، فَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ المَنُّ؟ فَقالَ: أنْ يَذْكُرَهُ ويَتَحَدَّثَ بِهِ. وقِيلَ: المَنُّ أنْ يَسْتَخْدِمَهُ بِالعَطاءِ، والأذى أنْ يُعَيِّرَهُ بِالفَقْرِ، وقِيلَ: المَنُّ أنْ يَتَكَبَّرَ عَلَيْهِ لِأجْلِ عَطائِهِ، والأذى: أنْ يَنْتَهِرَهُ أوْ يُوَبِّخَهُ بِالمَسْألَةِ، وقَدْ قالَ ﷺ: ««لا يَقْبَلُ اللَّهُ صَدَقَةَ مَنّانٍ»» . وعِنْدِي أنَّ المَنَّ لَهُ أصْلٌ ومَغْرِسٌ، وهو مِن أحْوالِ القَلْبِ وصِفاتِهِ، ثُمَّ يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ أحْوالٌ ظاهِرَةٌ عَلى اللِّسانِ والجَوارِحِ، فَأصْلُهُ: أنْ يَرى نَفْسَهُ مُحْسِنًا إلَيْهِ ومُنْعِمًا عَلَيْهِ، وحَقُّهُ أنْ يَرى الفَقِيرَ مُحْسَنًا إلَيْهِ بِقَبُولِ حَقِّ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ مِنهُ، الَّذِي هو طُهْرَتُهُ ونَجاتُهُ مِنَ النّارِ، وأنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْبَلْهُ لَبَقِيَ مُرْتَهَنًا بِهِ، فَحَقُّهُ أنْ يَتَقَلَّدَ مِنَّةَ الفَقِيرِ؛ إذْ جَعَلَ كَفَّهُ نائِبًا عَنِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ في قَبْضِ حَقِّ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ. قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ««إنَّ الصَّدَقَةَ تَقَعُ بِيَدِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ قَبْلَ أنْ تَقَعَ في يَدِ السّائِلِ»» . فَلْيَتَحَقَّقْ أنَّهُ مُسَلِّمٌ إلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ حَقَّهُ، والفَقِيرُ آخِذٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى رِزْقَهُ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِ إلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، ولَوْ كانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِإنْسانٍ فَأحالَ بِهِ عَبْدَهُ أوْ خادِمَهُ الَّذِي هو مُتَكَفِّلٌ بِرِزْقِهِ، لَكانَ اعْتِقادُ مُؤَدِّي الدَّيْنِ كَوْنَ القابِضِ تَحْتَ مُنْتَهٍ سَفَهًا وجَهْلًا، فَإنَّ المُحْسِنَ إلَيْهِ هو المُتَكَفِّلُ بِرِزْقِهِ، أمّا هو فَإنَّما يَقْضِي الَّذِي لَزِمَهُ بِشِراءِ ما أحَبَّهُ، فَهو ساعٍ في حَقِّ نَفْسِهِ، فَلَمْ يَمُنُّ بِهِ عَلى غَيْرِهِ؟ ومَهْما عَرَفَ المَعانِيَ الثَّلاثَةَ الَّتِي ذَكَرْناها قَبْلُ، أوْ أحَدُها، لَمْ يَرَ نَفْسَهُ مُحْسِنًا إلّا إلى نَفْسِهِ، إمّا بِبَذْلِ مالِهِ إظْهارًا لِحُبِّ اللَّهِ، أوْ تَطْهِيرًا لِنَفْسِهِ عَنْ رَذِيلَةِ البُخْلِ، أوْ شُكْرًا عَلى نِعْمَةِ المالِ طَلَبًا لِلْمَزِيدِ، وكَيْفَما كانَ فَلا مُعامَلَةَ بَيْنَهُ وبَيْنَ الفَقِيرِ حَتّى يَرى نَفْسَهُ مُحْسِنًا إلَيْهِ، ومَهْما حَصَلَ هَذا الجَهْلُ بِأنْ رَأى نَفْسَهُ مُحْسِنًا إلَيْهِ تَفَرَّعَ مِنهُ عَلى ظاهِرِهِ. ما ذَكَرَ في مَعْنى المَنِّ، وهو التَّحَدُّثُ بِهِ وإظْهارُهُ وطَلَبُ المُكافَأةِ (p-٦٩٨)مِنهُ بِالشُّكْرِ والدُّعاءِ، والخِدْمَةِ والتَّوْقِيرِ والتَّعْظِيمِ، والقِيامِ بِالحُقُوقِ والتَّقْدِيمِ في المَجالِسِ، والمُتابَعَةِ في الأُمُورِ، فَهَذِهِ كُلُّها ثَمَراتُ المِنَّةِ، ومَعْنى المِنَّةِ في الباطِنِ ما ذَكَرْناهُ، وأمّا الأذى فَظاهِرُهُ التَّوْبِيخُ والتَّعْبِيرُ وتَخْشِينُ الكَلامِ وتَقْطِيبُ الوَجْهِ وهَتْكُ السِّتْرِ بِالإظْهارِ، وفُنُونِ الِاسْتِخْفافِ وباطِنِهِ، وهو مَنبَعُهُ أمْرانِ: أحَدُهُما كَراهِيَتُهُ لِرَفْعِ اليَدِ عَنِ المالِ وشِدَّةُ ذَلِكَ عَلى نَفْسِهِ، فَإنَّ ذَلِكَ يُضَيِّقُ الخُلُقَ لا مَحالَةَ، والثّانِي: رُؤْيَتُهُ أنَّهُ خَيْرٌ مِنَ الفَقِيرِ وأنَّ الفَقِيرَ لِسَبَبِ حاجَتِهِ أخَسُّ مِنهُ، وكِلاهُما مَنشَؤُهُ الجَهْلُ. أمّا كَراهِيَتُهُ تَسْلِيمَ المالِ فَهو حُمْقٌ، لِأنَّ مِن كَرِهَ بَذْلَ دِرْهَمٍ في مُقابَلَةِ ما يَسْوِي ألْفًا فَهو شَدِيدُ الحُمْقِ، ومَعْلُومٌ أنَّهُ يَبْذُلُ المالَ لِطَلَبِ رِضا اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، والثَّوابِ في الدّارِ الآخِرَةِ، وذَلِكَ أشْرَفُ مِمّا بَذَلَهُ أوْ يَبْذُلُهُ لِتَطْهِيرِ نَفْسِهِ عَنْ رَذِيلَةِ البُخْلِ، أوْ شُكْرِهِ لِطَلَبِ المَزِيدِ، وكَيْفَما فَرَضَ فالكَراهَةُ لا وجْهَ لَها، وأمّا الثّانِي فَهو أيْضًا جَهْلٌ، لِأنَّهُ لَوْ عَرَفَ فَضْلَ الفَقْرِ عَلى الغِنى وعَرَفَ خَطَرَ الأغْنِياءِ لَما اسْتَحْقَرَ الفَقِيرَ بَلْ تَبَرَّكَ بِهِ وتَمَنّى دَرَجَتَهُ، فَصُلَحاءُ الأغْنِياءِ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بَعْدَ الفُقَراءِ بِخَمْسِمِائَةِ عامٍ. وقَدْ أطالَ الغَزالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مِن هَذا النَّفْسِ العالِي. فَلْيُراجَعْ. فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ ﷺ في الزَّكاةِ والصَّدَقَةِ قالَ شَمْسُ الدِّينِ ابْنُ القِيَمِ الدِّمَشْقِيُّ في " زادِ المَعادِ ": هَدْيُهُ ﷺ في الزَّكاةِ أكْمَلُ هَدْيٍ في وقْتِها، وقَدْرِها ونِصابِها، ومَن تَجِبُ عَلَيْهِ، ومَصْرِفِها، ويُراعى فِيها مَصْلَحَةُ أرْبابِ الأمْوالِ ومَصْلَحَةُ المَساكِينِ، وجَعَلَها اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى طُهْرَةً لِلْمالِ ولِصاحِبِهِ، وقَيَّدَ النِّعْمَةَ بِهِ عَلى الأغْنِياءِ، فَما أزالَ النِّعْمَةَ بِالمالِ عَلى مَن أدّى زَكاتَهُ، بَلْ يَحْفَظُهُ عَلَيْهِ ويُنَمِّيهِ لَهُ ويَدْفَعُ عَنْهُ بِها الآفاتِ، ويَجْعَلُها سُورًا عَلَيْهِ وحِصْنًا لَهُ وحارِسًا لَهُ. (p-٦٩٩)ثُمَّ قالَ في (هَدْيِهِ ﷺ في صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ): كانَ ﷺ أعْظَمَ النّاسِ صَدَقَةً مِمّا مَلَكَتْ يَدُهُ، وكانَ لا يَسْتَكْثِرُ شَيْئًا أعْطاهُ لِلَّهِ تَعالى ولا يَسْتَقِلُّهُ، ولا يَسْألُهُ أحَدٌ شَيْئًا عِنْدَهُ إلّا أعْطاهُ، قَلِيلًا أوْ كَثِيرًا، وكانَ عَطاؤُهُ عَطاءَ مَن لا يَخافُ الفَقْرَ، وكانَ العَطاءُ والصَّدَقَةُ أحَبَّ شَيْءٍ إلَيْهِ، وكانَ سُرُورُهُ وفَرَحُهُ بِما يُعْطِيهِ أعْظَمَ مِن سُرُورِ الآخِذِ بِما يَأْخُذُهُ، وكانَ أجْوَدَ النّاسِ بِالخَيْرِ، يَمِينُهُ كالرِّيحِ المُرْسَلَةِ، وكانَ إذا عَرَضَ لَهُ مُحْتاجٌ آثَرَهُ عَلى نَفْسِهِ، تارَةً بِطَعامِهِ وتارَةً بِلِباسِهِ، وكانَ يَتَنَوَّعُ في أصْنافِ عَطائِهِ وصَدَقَتِهِ، فَتارَةً بِالهِبَةِ وتارَةً بِالصَّدَقَةِ وتارَةً بِالهَدِيَّةِ وتارَةً بِشِراءِ شَيْءٍ، ثُمَّ يُعْطِي البائِعَ الثَّمَنَ والسِّلْعَةَ جَمِيعًا كَما فَعَلَ بِجابِرٍ، وتارَةً كانَ يَقْتَرِضُ الشَّيْءَ فَيَرُدُّ أكْثَرَ مِنهُ، وأفْضَلَ وأكْبَرَ، ويَشْتَرِي الشَّيْءَ فَيُعْطِي أكْثَرَ مِن ثَمَنِهِ، ويَقْبَلُ الهَدِيَّةَ ويُكافِئُ عَلَيْها بِأكْثَرَ مِنها أوْ بِأضْعافِها تَلَطُّفًا وتَنَوُّعًا في ضُرُوبِ الصَّدَقَةِ والإحْسانِ (p-٧٠٠)بِكُلِّ مُمْكِنٍ، وكانَتْ صَدَقَتُهُ وإحْسانُهُ بِما يَمْلِكُهُ وبِحالِهِ وبِقَوْلِهِ، فَيُخْرِجُ ما عِنْدَهُ ويَأْمُرُ بِالصَّدَقَةِ ويَحُضُّ عَلَيْها ويَدْعُو إلَيْها وبِحالِهِ وقَوْلِهِ، فَإذا رَآهُ البَخِيلُ الشَّحِيحُ دَعاهُ حالُهُ إلى البَذْلِ والعَطاءِ، وكانَ مَن خالَطَهُ وصَحِبَهُ ورَأى هَدْيَهُ لا يَمْلِكُ نَفْسَهُ مِنَ السَّماحَةِ والنَّدى، وكانَ هَدْيُهُ ﷺ يَدْعُو إلى الإحْسانِ والصَّدَقَةِ والمَعْرُوفِ، ولِذَلِكَ كانَ ﷺ أشْرَحَ الخَلْقِ صَدْرًا وأطْيَبَهم نَفْسًا وأنْعَمَهم قَلْبًا، فَإنَّ لِلصَّدَقَةِ وفِعْلَ المَعْرُوفِ تَأْثِيرًا عَجِيبًا في شَرْحِ الصُّدُورِ، وانْضافَ ذَلِكَ إلى ما خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ مِن شَرْحِ صَدْرِهِ لِلنُّبُوَّةِ والرِّسالَةِ وخَصائِصِها وتَوابِعِها، وشَرْحِ صَدْرِهِ حِسًّا وإخْراجِ حَظِّ الشَّيْطانِ مِنهُ. ولَمّا ذَكَرَ تَعالى الأبْرارَ المُؤَدِّينَ النَّفَقاتِ مِنَ الزَّكَواتِ والصَّدَقاتِ في جَمِيعِ الأحْوالِ والأوْقاتِ، شَرَعَ في ذِكْرِ أكَلَةِ الرِّبا وأمْوالِ النّاسِ بِالباطِلِ وأنْواعِ الشُّبَهاتِ، فَأخْبَرَ عَنْ حالِهِمْ يَوْمَ خُرُوجِهِمْ مِن قُبُورِهِمْ، وقِيامِهِمْ مِنها إلى بَعْثِهِمْ ونَشُورِهِمْ، فَقالَ:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب