الباحث القرآني

﴿ولِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالمَعْرُوفِ﴾، ظاهِرُهُ العُمُومُ كَما ذَهَبَ إلَيْهِ أبُو ثَوْرٍ، وقَدْ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ: (ومَتِّعُوهُنَّ) اخْتِلافُ العُلَماءِ فِيما يُخَصَّصُ بِهِ العُمُومُ؛ فَأغْنى عَنْ إعادَتِهِ، وتَعَلَّقَ ”بِالمَعْرُوفِ“ بِما تَعَلَّقَ بِهِ ”لِلْمُطَلَّقاتِ“، وقِيلَ: بِقَوْلِهِ ”مَتاعًا“، وقِيلَ: المُرادُ بِالمَتاعِ هُنا نَفَقَةُ العِدَّةِ. ﴿حَقًّا عَلى المُتَّقِينَ﴾، قالَ ابْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ مُؤَكِّدَةً لِأمْرِ المُتْعَةِ؛ لِأنَّهُ نَزَلَ قَبْلُ: ﴿حَقًّا عَلى المُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: ٢٣٦]، فَقالَ رَجُلٌ: فَإنْ لَمْ أُرِدْ أنْ أُحْسِنَ لَمْ أُمَتِّعْ، فَنَزَلَتْ: ﴿حَقًّا عَلى المُتَّقِينَ﴾ . وإعْرابُ ”حَقًّا“ هُنا كَإعْرابِ ”حَقًّا“ عَلى المُحْسِنِينَ ”، وظاهِرُ“ المُتَّقِينَ ”: مَن يَتَّصِفُ بِالتَّقْوى الَّتِي هي أخَصُّ مِنَ اتِّقاءِ الشِّرْكِ، وخُصُّوا بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا لَهم، أوْ لِأنَّهم أكْثَرُ النّاسِ وُقُوفًا، واللَّهُ أسْرَعَهم لِامْتِثالِ أمْرِ اللَّهِ، وقِيلَ“ عَلى المُتَّقِينَ ”أيْ: مُتَّقِيِ الشِّرْكِ. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكم آياتِهِ﴾، أيْ: مِثْلَ هَذا التَّبْيِينِ الَّذِي سَبَقَ مِنَ الأحْكامِ، يُبَيِّنُ لَكم في المُسْتَقْبَلِ ما بَقِيَ مِنَ الأحْكامِ الَّتِي يُكَلَّفُها العِبادُ. ﴿لَعَلَّكم تَعْقِلُونَ﴾، ما يُرادُ مِنكم مِنَ التِزامِ الشَّرائِعِ والوُقُوفِ عِنْدَها؛ لِأنَّ التَّبْيِينَ لِلْأشْياءِ مِمّا يَتَّضِحُ لِلْعَقْلِ بِأوَّلِ إدْراكٍ، بِخِلافِ الأشْياءِ المُغَيَّباتِ والمُجْمَلاتِ؛ فَإنَّ العَقْلَ يَرْتَبِكُ فِيها، ولا يَكادُ يَحْصُلُ مِنها عَلى طائِلٍ. قِيلَ: وفي هَذِهِ الآياتِ مِن بَدائِعِ البَدِيعِ وصُنُوفِ الفَصاحَةِ: النَّقْلُ مِن صِيغَةِ“ افْعَلُوا ”إلى“ فاعِلُوا ”لِلْمُبالَغَةِ، وذَلِكَ في“ حافِظُوا ”، والِاخْتِصاصُ بِالذِّكْرِ في“ والصَّلاةِ الوُسْطى ”، والطِّباقُ المَعْنَوِيُّ في“ فَإنْ خِفْتُمْ ”؛ لِأنَّ التَّقْدِيرَ في“ حافِظُوا ”وهو مُراعاةُ أوْقاتِها وهي هَيْئاتُها إذا كُنْتُمْ آمِنِينَ، والحَذْفُ في“ فَإنْ خِفْتُمْ ”: العَدُوَّ أوْ ما جَرى مَجْراهُ. وفي“ فَرِجالًا ”أيْ: فَصَلُّوا رِجالًا، وفي“ وصِيَّةً لِأزْواجِهِمْ ”سَواءٌ رُفِعَ أمْ نُصِبَ، وفي“ غَيْرَ إخْراجٍ ”أيْ: لَهُنَّ مِن مَكانِهِنَّ الَّذِي يَعْتَدِدْنَ فِيهِ، وفي فَإنْ خَرَجْنَ مِن بُيُوتِهِنَّ مِن غَيْرِ رِضًا مِنهُنَّ، وفي“ فِيما فَعَلْنَ في أنْفُسِهِنَّ ”أيْ: مِن مَيْلِهِنَّ إلى التَّزْوِيجِ، أوِ الزِّينَةِ بَعْدَ انْقِضاءِ المُدَّةِ، وفي“ بِالمَعْرُوفِ ”أيْ: عادَةً أوْ شَرْعًا (p-٢٤٧)وفِي“ عَزِيزٌ ”أيِ: انْتِقامُهُ، وفي“ حَكِيمٌ ”أيْ: في أحْكامِهِ. وفي قَوْلِهِ“ حَقًّا ”أيْ: حَقَّ ذَلِكَ حَقًّا، وفي“ عَلى المُتَّقِينَ ”أيْ عَذابُ اللَّهِ، والتَّشْبِيهُ في“ كَما عَلَّمَكم ”، والتَّجْنِيسُ المُماثِلُ: وهو أنْ يَكُونَ بِفِعْلَيْنِ أوْ بِاسْمَيْنِ، وذَلِكَ في“ عَلَّمَكم ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ”، والتَّجْنِيسُ المُغايِرُ في“ غَيْرَ إخْراجٍ فَإنْ خَرَجْنَ ”، والمَجازُ في“ يُتَوَفَّوْنَ ”أيْ: يُقارِبُونَ الوَفاةَ، والتَّكْرارُ في“ مَتاعًا إلى الحَوْلِ ”، ثُمَّ قالَ:“ ولِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ "؛ فَيَكُونُ لِلتَّأْكِيدِ إنْ كانَ إيّاهُ، ولِاخْتِلافِ المَعْنَيَيْنِ إنْ كانَ غَيْرَهُ. وقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الآياتُ الكَرِيمَةُ حُكْمَ المُتَوَفّى عَنْها زَوْجُها، وأنَّ عِدَّتَها أرْبَعَةُ أشْهُرٍ وعَشْرٌ، وأنَّهُنَّ إذا انْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ لا حَرَجَ عَلى مَن كانَ مُتَوَلِّيًا أمْرَهُنَّ مِن ولِيٍّ أوْ حاكِمٍ فِيما فَعَلْنَ مِن تَعَرُّضٍ لِخِطْبَةٍ، وتَزَيُّنٍ، وتَرْكِ إحْدادٍ، وتَزَوُّجٍ، وذَلِكَ بِالمَعْرُوفِ شَرْعًا، وأعْلَمَ تَعالى أنَّهُ خَبِيرٌ بِما يَصْدُرُ مِنّا، وأنَّهُ لا جُناحَ عَلى مَن عَرَّضَ بِالخِطْبَةِ أوْ أكَنَّ التَّزْوِيجَ في نَفْسِهِ، وأفْهَمَ ذَلِكَ أنَّ التَّصْرِيحَ فِيهِ الجُناحُ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى عَذَرَ في التَّعْرِيضِ بِأنَّ النُّفُوسَ تَتُوقُ إلى التَّزَوُّجِ وذِكْرِ النِّساءِ، ونَهى تَعالى عَنْ مُواعَدَةِ السِّرِّ وهو النِّكاحُ، وأباحَ قَوْلًا مَعْرُوفًا مِنَ التَّنْبِيهِ بِهِ عَلى أنَّ المَرْأةَ مَرْغُوبٌ فِيها، فَإنَّ في ذَلِكَ جَبْرًا لَها وبَعْضَ تَأْنِيسٍ مِنهُ لَها بِذَلِكَ. ثُمَّ نَهى عَنْ بَتِّ النِّكاحِ قَبْلَ انْقِضاءِ العِدَّةِ، وأعْلَمَ أنَّ ما في نَفْسِ الإنْسانِ يَعْلَمُهُ اللَّهُ، وأمَرَ بِأنْ يُحْذَرَ، ولَمّا كانَ الأمْرُ بِالحَذَرِ يَسْتَدْعِي مَخُوفًا؛ أعْلَمَ أنَّهُ غَفُورٌ يَسْتُرُ الذَّنْبَ، حَلِيمٌ يَصْفَحُ عَنِ المُسِيءِ؛ لِيَتَعادَلَ خَوْفُ المُؤْمِنِ ورَجاؤُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ رَفْعَ الحَرَجِ عَنْ مَن طَلَّقَ المَرْأةَ قَبْلَ المَسِيسِ، أوْ قَبْلَ أنْ يَفْرِضَ لَها الصَّداقَ؛ إذْ كانَ يُتَوَهَّمُ أنَّ الطَّلاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِها لا يُباحُ، ثُمَّ أمَرَ بِالتَّمْتِيعِ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ عِوَضًا لِغَيْرِ المَدْخُولِ بِها مِمّا كانَ فاتَها مِنَ الزَّوْجِ، ومِن نِصْفِ الصَّداقِ الَّذِي تَشَطَّرُ بِالطَّلاقِ، وجَبْرًا لَها بِذَلِكَ ولِغَيْرِ المَفْرُوضِ لَها، وأنَّ ذَلِكَ التَّمْتِيعَ عَلى حَسَبِ وجْدِ الزَّوْجِ وإقْتارِهِ، ولَمْ يُعَيِّنِ المِقْدارَ، بَلْ قالَ أنَّ ذَلِكَ بِالمَعْرُوفِ، وهو الَّذِي أُلِفَ عادَةً وشَرْعًا، وأنَّ ذَلِكَ حَقٌّ عَلى مَن كانَ مُحْسِنًا. ثُمَّ ذَكَرَ أنَّهُ إذا طَلَّقَ قَبْلَ المَسِيسِ وبَعْدَ الفَرْضِ فَإنَّهُ يَتَشَطَّرُ المُسَمّى، فَيَجِبُ لَها نِصْفُ الصَّداقِ إلّا إنْ عَفَتِ المَرْأةُ فَلَمْ تَأْخُذْ مِنهُ شَيْئًا، أوْ عَفا الزَّوْجُ فَأدّى إلَيْها الصَّداقَ كامِلًا إذا كانَ الطَّلاقُ إنَّما كانَ مِن جِهَتِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ أنَّ العَفْوَ مِن أيِّ جِهَةٍ كانَ مِنهُما أقْرَبُ لِتَحْصِيلِ التَّقْوى لِلْعافِي؛ إذْ هو إمّا بَيْنَ تارِكٍ حَقَّهُ، أوْ باذِلٍ فَوْقَ الحَقِّ. ثُمَّ نَهى عَنْ نِسْيانِ الفَضْلِ، فَفي هَذا النَّهْيِ الأمْرُ بِالفَضْلِ. ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِأنَّهُ بَصِيرٌ بِجَمِيعِ أعْمالِهِمْ؛ فَيُجازِي المُحْسِنَ بِإحْسانِهِ والمُسِيءَ بِإساءَتِهِ. ولَمّا ذَكَرَ تَعالى أحْكامَ النِّكاحِ، وكادَتْ تَسْتَغْرِقُ المُكَلَّفَ؛ نَبَّهَ تَعالى عَلى أشْرَفِ العِباداتِ الَّتِي يَتَقَرَّبُ بِها إلى اللَّهِ تَعالى المُكَلَّفُ، وأمَرَ بِالمُحافَظَةِ عَلَيْها، وهي الصَّلَواتُ، وخَصَّ الوُسْطى مِنها بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا عَلى فَضْلِها، ومِن تَسْمِيَتِها بِالوُسْطى تَبَيَّنَ تَمْيِيزُها عَلى غَيْرِها، وهي بِلا شَكٍّ صَلاةُ العَصْرِ، ثُمَّ أمَرَ بِالقِيامِ لِلَّهِ مُتَلَبِّسِينَ بِطاعَتِهِ، ثُمَّ لِلْمُبالَغَةِ في تَوْكِيدِ إيجابِ الصَّلَواتِ لَمْ يُسامِحْ بِتَرْكِها حالَةَ الخَوْفِ، بَلْ أمَرَ أنْ تُؤَدّى في تِلْكَ الحالِ، سَواءٌ كانَ الخائِفُ ماشِيًا أوْ راكِبًا، وإنْ كانَ في ذَلِكَ بَعْضُ اخْتِلالٍ لِشُرُوطِها. ثُمَّ أمَرَ أنْ تُؤَدّى عَلى حالِها الأوَّلِ مِن إتْمامِ شُرُوطِها، وهَيْئاتِها إذا أمِنَ الخائِفُ، وأنْ يُؤَدِّيَها عَلى الحالَةِ الَّتِي عَلَّمَهُ اللَّهُ في أدائِها قَبْلَ الخَوْفِ. وذَكَرَ أنَّ اللَّواتِي يُتَوَفّى عَنْهُنَّ أزْواجُهُنَّ لَهُنَّ وصِيَّةٌ بِتَمْتِيعٍ إلى انْقِضاءِ حَوْلٍ مِن وفاةِ الأزْواجِ، وأنَّهُنَّ لا يَخْرُجْنَ مِن بُيُوتِهِنَّ في ذَلِكَ الحَوْلِ، فَإنِ اخْتَرْنَ الخُرُوجَ فَخَرَجْنَ؛ فَلا جُناحَ عَلى مُتَوَلِّي أمْرِها فِيما فَعَلَتْ في نَفْسِها. ثُمَّ أعْلَمَ أنَّهُ عَزِيزٌ لا يُغْلَبُ ويُقْهَرُ، حَكِيمٌ بِوَضْعِ الأشْياءِ مَواضِعَها. ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى أنَّ لِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعًا مِمّا عُرِفَ شَرْعًا وعادَةً، واقْتَضى ذَلِكَ عُمُومَ كُلِّ مُطَلَّقَةٍ، وأنَّ ذَلِكَ المَتاعَ حَقٌّ عَلى مَنِ اتَّقى. ولَمّا كانَ تَعالى قَدْ بَيَّنَ عِدَّةَ أحْكامٍ فِيما تَقَدَّمَ مِنَ الآياتِ؛ أحالَ عَلى ذَلِكَ التَّبْيِينِ، وشَبَّهَ التَّبْيِينَ الَّذِي قَدْ يَأْتِي لِسائِرِ الآياتِ بِالتَّبْيِينِ الَّذِي سَبَقَ. وأنَّ التَّبْيِينَ هو لِرَجائِكم أنْ تَتَعَقَّلُوا عَنِ اللَّهِ أحْكامَهُ (p-٢٤٨)فَتَجْتَنِبُوا ما نَهى تَعالى عَنْهُ، وتَمْتَثِلُوا ما بِهِ أمَرَ تَعالى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب