الباحث القرآني

﴿ولَمّا جاءَهم رَسُولٌ﴾: الضَّمِيرُ في جاءَهم عائِدٌ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ، أوْ عَلى عُلَمائِهِمْ، والرَّسُولُ، مُحَمَّدٌ ﷺ أوْ عِيسى عَلى نَبِيِّنا وعَلَيْهِ أفْضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ، أوْ مَعْناهُ الرِّسالَةُ، فَيَكُونُ مَصْدَرًا، كَما فَسَّرُوا بِذَلِكَ قَوْلَهُ: ؎لَقَدْ كَذَبَ الواشُونَ ما بُحْتُ عِنْدَهُ بِلَيْلى ولا أرْسَلْتُهم بِرَسُولِ أيْ بِرِسالَةٍ، أقْوالٌ ثَلاثَةٌ. والظّاهِرُ الأوَّلُ؛ لِأنَّ الكَلامَ مَعَ اليَهُودِ إنَّما سِيقَ بِالنِّسْبَةِ إلى مُحَمَّدٍ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ (p-٣٢٥)وسَلَّمَ - ألا تَرى إلى قَوْلِهِ: (قُلْ) قُلْ، و﴿فَإنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ﴾ [البقرة: ٩٧]، ﴿ولَقَدْ أنْزَلْنا إلَيْكَ﴾ [البقرة: ٩٩]، فَصارَ ذَلِكَ كالِالتِفاتِ، إذْ هو خُرُوجٌ مِن خِطابٍ إلى اسْمٍ غائِبٍ، ووُصِفَ بِقَوْلِهِ: ﴿مِن عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ﴾: تَفْخِيمًا لِشَأْنِهِ، إذِ الرَّسُولُ عَلى قَدْرِ المُرْسَلِ. ثُمَّ وُصِفَ أيْضًا بِكَوْنِهِ مُصَدِّقًا لِما مَعَهم، قالُوا: وتَصْدِيقُهُ أنَّهُ خُلِقَ عَلى الوَصْفِ الَّذِي ذُكِرَ في التَّوْراةِ، أوْ تَصْدِيقُهُ عَلى قَواعِدِ التَّوْحِيدِ وأُصُولِ الدِّينِ وأخْبارِ الأُمَمِ والمَواعِظِ والحِكَمِ، أوْ تَصْدِيقُهُ: إخْبارُهُ بِأنَّ الَّذِي مَعَهم هو كَلامُ اللَّهِ، وأنَّهُ المُنَزَّلُ عَلى مُوسى، أوْ تَصْدِيقُهُ: إظْهارُ ما سَألُوا عَنْهُ مِن غَوامِضِ التَّوْراةِ، أقْوالٌ أرْبَعَةٌ. وإذا فُسِّرَ بِعِيسى، فَتَصْدِيقُهُ هو بِالتَّوْراةِ، وإذا فُسِّرَ بِالرِّسالَةِ، فَنِسْبَةُ المَجِيءِ والتَّصْدِيقِ إلى الرِّسالَةِ عَلى سَبِيلِ التَّوَسُّعِ والمَجازِ. وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ: مُصَدِّقًا بِالنَّصْبِ عَلى الحالِ، وحَسَّنَ مَجِيئَها مِنَ النَّكِرَةِ كَوْنُها قَدْ وُصِفَتْ بِقَوْلِهِ: ﴿مِن عِنْدِ اللَّهِ﴾ . ﴿لِما مَعَهُمْ﴾: هو التَّوْراةُ. وقِيلَ: جَمِيعُ ما أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِنَ الكُتُبِ، كَزَبُورِ داوُدَ، وصُحُفِ الأنْبِياءِ الَّتِي يُؤْمِنُونَ بِها. ﴿نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾: الكِتابُ الَّذِي أُوتُوهُ هو التَّوْراةُ، وهو مَفْعُولٌ ثانٍ لَأُوتُوا، عَلى مَذْهَبِ الجُمْهُورِ، ومَفْعُولٌ أوَّلٌ عَلى مَذْهَبِ السُّهَيْلِيِّ. وقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ في ذَلِكَ. ﴿كِتابَ اللَّهِ﴾: هو مَفْعُولٌ بِنَبَذَ. فَقِيلَ: كِتابُ اللَّهِ هو التَّوْراةُ. ومَعْنى نَبْذِهِمْ لَهُ: اطِّراحُ أحْكامِهِ، أوِ اطِّراحُ ما فِيهِ مِن صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إذِ الكُفْرُ بِبَعْضٍ، كُفْرٌ بِالجَمِيعِ. وقِيلَ: الإنْجِيلُ، ونَبْذُهم لَهُ: اطِّراحُهُ بِالكُلِّيَّةِ. وقِيلَ: القُرْآنُ، وهَذا أظْهَرُ، إذِ الكَلامُ مَعَ الرَّسُولِ. فَصارَ المَعْنى: أنَّهُ يُصَدِّقُ ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ مِنَ التَّوْراةِ، وهم بِالعَكْسِ، يُكَذِّبُونَ ما جاءَ بِهِ مِنَ القُرْآنِ ويَطْرَحُونَهُ. وأضافَ الكِتابَ إلى اللَّهِ تَعْظِيمًا لَهُ، كَما أضافَ الرَّسُولَ إلَيْهِ بِالوَصْفِ السّابِقِ، فَصارَ ذَلِكَ غايَةً في ذَمِّهِمْ، إذْ جاءَهم مِن عِنْدِ اللَّهِ بِكِتابِهِ المُصَدِّقِ لِكِتابِهِمْ، وهو شاهِدٌ بِالرَّسُولِ والكِتابِ، فَنَبَذُوهُ. ﴿وراءَ ظُهُورِهِمْ﴾، وهَذا مَثَلٌ يُضْرَبُ لِمَن أعْرَضَ عَنِ الشَّيْءِ جُمْلَةً. تَقُولُ العَرَبُ: جَعَلَ هَذا الأمْرَ وراءَ ظَهْرِهِ ودُبُرَ أُذُنِهِ، وقالَ الفَرَزْدَقُ: ؎تَمِيمُ بْنَ مُرٍّ لا تَكُونَنَّ حاجَتِي ∗∗∗ بِظَهْرٍ ولا يَعْيا عَلَيْكَ جَوابُها وقالَتِ العَرَبُ ذَلِكَ؛ لِأنَّ ما جُعِلَ وراءَ الظَّهْرِ فَلا يُمْكِنُ النَّظَرُ إلَيْهِ، ومِنهُ: ﴿واتَّخَذْتُمُوهُ وراءَكم ظِهْرِيًّا﴾ [هود: ٩٢] . وقالَ في المُنْتَخَبِ: النَّبْذُ والطَّرْحُ والإلْقاءُ مُتَقارِبَةٌ، لَكِنَّ النَّبْذَ أكْثَرُ ما يُقالُ فِيما يَئِسَ، والطَّرْحُ أكْثَرُ ما يُقالُ في المَبْسُوطِ وما يَجْرِي مَجْراهُ، والإلْقاءُ فِيما يُعْتَبَرُ فِيهِ مُلاقاةٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ. ﴿كَأنَّهم لا يَعْلَمُونَ﴾: جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ، وصاحِبُ الحالِ فَرِيقٌ، والعامِلُ في الحالِ نَبَذَ، وهو تَشْبِيهٌ لِمَن يَعْلَمُ بِمَن يَجْهَلُ؛ لِأنَّ الجاهِلَ بِالشَّيْءِ لا يَحْفُلُ بِهِ ولا يَعْتَدُّ بِهِ؛ لِأنَّهُ لا شُعُورَ لَهُ بِما فِيهِ مِنَ المَنفَعَةِ. ومُتَعَلِّقِ العِلْمِ مَحْذُوفٌ، أيْ كَأنَّهم لا يَعْلَمُونَ أنَّهُ كِتابُ اللَّهِ، لا يُداخِلُهم فِيهِ شَكٌّ لِثُبُوتِ ذَلِكَ عِنْدَهم وتَحَقُّقِهِ، وإنَّما نَبَذُوهُ عَلى سَبِيلِ المُكابَرَةِ والعِنادِ. وقالَ الشَّعْبِيُّ: هو بَيْنَ أيْدِيهِمْ يَقْرَءُونَهُ، ولَكِنَّهم نَبَذُوا العَمَلَ بِهِ. وعَنْ سُفْيانَ أدْرَجُوهُ في الدِّيباجِ والحَرِيرِ، وحَلَّوْهُ بِالذَّهَبِ، ولَمْ يُحِلُّوا حَلالَهُ، ولَمْ يُحَرِّمُوا حَرامَهُ. انْتَهى كَلامُهُ. وقَوْلُ الشَّعْبِيِّ وسُفْيانَ يَدُلُّ عَلى أنَّ كِتابَ اللَّهِ هو التَّوْراةُ. وقالَ الماوَرْدِيُّ: كَأنَّهم لا يَعْلَمُونَ ما أُمِرُوا بِهِ مِنِ اتِّباعِ مُحَمَّدٍ ﷺ وقِيلَ: مَعْناهُ كَأنَّهم لا يَعْلَمُونَ أنَّهُ نَبِيٌّ صادِقٌ. وقِيلَ: مَعْناهُ كَأنَّهم لا يَعْلَمُونَ أنَّ القُرْآنَ والتَّوْراةَ والإنْجِيلَ كُتُبُ اللَّهِ، وأنْ كُلَّ واحِدٍ مِنها حَقٌّ، والعَمَلَ بِهِ واجِبٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب