الباحث القرآني

(p-٧٩)الضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: إلَيْكَ لِلنَّبِيِّ ﷺ، أيْ أنْزَلَنا عَلاماتٍ واضِحاتٍ دالَّةً عَلى نُبُوَّتِكَ. وقَوْلُهُ: إلّا الفاسِقُونَ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ، والظّاهِرُ أنَّ المُرادَ جِنْسُ الفاسِقِينَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ اليَهُودُ لِأنَّ الكَلامَ مَعَهم. والواوُ في قَوْلِهِ: أوَكُلَّما لِلْعَطْفِ دَخَلَتْ عَلَيْها هَمْزَةُ الِاسْتِفْهامِ كَما تَدْخُلُ عَلى الفاءِ، ومِن ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أفَحُكْمَ الجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ﴾ ﴿أفَأنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ﴾ ﴿أفَتَتَّخِذُونَهُ وذُرِّيَّتَهُ﴾ وكَما تَدْخُلُ عَلى ثُمَّ، ومِن ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أثُمَّ إذا ما وقَعَ﴾ وهَذا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ. وقالَ الأخْفَشُ: الواوُ زائِدَةٌ. وقالَ الكِسائِيُّ: إنَّها " أوْ " حُرِّكَتِ الواوُ تَسْهِيلًا. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا كُلُّهُ مُتَكَلَّفٌ، والصَّحِيحُ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ والمَعْطُوفُ عَلَيْهِ المَحْذُوفُ، والتَّقْدِيرُ أكَفَرُوا بِالآياتِ البَيِّناتِ، وكُلَّما عاهَدُوا. قَوْلُهُ: نَبَذَ فَرِيقٌ قالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أصْلُ النَّبْذِ الطَّرْحُ والإلْقاءُ، ومِنهُ سُمِّيَ اللَّقِيطُ مَنبُوذًا، ومِنهُ سُمِّيَ النَّبِيذُ وهو التَّمْرُ والزَّبِيبُ إذا طُرِحا في الماءِ، قالَ أبُو الأسْوَدِ: ؎نَظَرْتَ إلى عُنْوانِهِ فَنَبَذْتَهُ كَنَبْذِكَ نَعْلًا أخْلَقَتْ مِن نِعالِكا وقالَ آخَرُ: ؎إنَّ الَّذِينَ أمَرْتَهم أنْ يَعْدِلُوا ∗∗∗ نَبَذُوا كِتابَكَ واسْتُحِلَّ المُحَرَّمُ وقَوْلُهُ: وراءَ ظُهُورِهِمْ أيْ خَلْفَ ظُهُورِهِمْ، وهو مَثَلٌ يُضْرَبُ لِمَن يَسْتَخِفُّ بِالشَّيْءِ فَلا يَعْمَلُ بِهِ تَقُولُ العَرَبُ: اجْعَلْ هَذا خَلْفَ ظَهْرِكَ، ودُبُرَ أُذُنِكَ، وتَحْتَ قَدَمِكَ: أيِ اتْرُكْهُ وأعْرِضْ عَنْهُ، ومِنهُ ما أنْشَدَهُ الفَرّاءُ: ؎تَمِيمُ بْنُ زَيْدٍ لا تَكُونَنَّ حاجَتِي ∗∗∗ بِظَهْرٍ فَلا يَعْيا عَلِيَّ جَوابُها وقَوْلُهُ: كِتابَ اللَّهِ أيِ التَّوْراةَ لِأنَّهم لَمّا كَفَرُوا بِالنَّبِيِّ ﷺ وبِما أُنْزِلَ عَلَيْهِ بَعْدَ أنْ أخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ في التَّوْراةِ الإيمانَ بِهِ وتَصْدِيقَهُ واتِّباعَهُ وبَيَّنَ لَهم صِفَتَهُ، كانَ ذَلِكَ مِنهم نَبْذًا لِلتَّوْراةِ ونَقْضًا لَها ورَفْضًا لِما فِيها، ويَجُوزُ أنْ يُرادَ بِالكِتابِ هُنا القُرْآنُ، أيْ لَمّا جاءَهم رَسُولُ اللَّهِ مِن عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهم مِنَ التَّوْراةِ نَبَذُوا كِتابَ اللَّهِ الَّذِي جاءَ بِهِ هَذا الرَّسُولُ، وهَذا أظْهَرُ مِنَ الوَجْهِ الأوَّلِ. وقَوْلُهُ: كَأنَّهم لا يَعْلَمُونَ تَشْبِيهٌ لَهم بِمَن لا يَعْلَمُ شَيْئًا مَعَ كَوْنِهِمْ يَعْلَمُونَ عِلْمًا يَقِينًا مِنَ التَّوْراةِ بِما يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنَ الإيمانِ بِهَذا النَّبِيِّ، ولَكِنَّهم لَمّا لَمْ يَعْمَلُوا بِالعِلْمِ بَلْ عَمِلُوا عَمَلَ مَن لا يَعْلَمُ مِن نَبْذِ كِتابِ اللَّهِ وراءَ ظُهُورِهِمْ كانُوا بِمَنزِلَةِ مَن لا يَعْلَمُ. قَوْلُهُ: واتَّبَعُوا ما تَتْلُو الشَّياطِينُ مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: نَبَذَ أيْ نَبَذُوا كِتابَ اللَّهِ واتَّبَعُوا ما تَتْلُو الشَّياطِينُ مِنَ السِّحْرِ ونَحْوِهِ. قالَ الطَّبَرِيُّ: ( اتَّبَعُوا ) بِمَعْنى فَعَلُوا. ومَعْنى تَتْلُو تَتَقَوَّلُهُ وتَقْرَؤُهُ وعَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ عَلى عَهْدِ مُلْكِ سُلَيْمانَ، قالَهُ الزَّجّاجُ، وقِيلَ: المَعْنى في مُلْكِ سُلَيْمانَ، يَعْنِي في قَصَصِهِ وصِفاتِهِ وأخْبارِهِ. قالَ الفَرّاءُ: تَصْلُحُ " عَلى " و" في " في هَذا المَوْضِعِ، والأوَّلُ أظْهَرُ. وقَدْ كانُوا يَظُنُّونَ أنَّ هَذا هو عِلْمُ سُلَيْمانَ وأنَّهُ يَسْتَجِيزُهُ ويَقُولُ بِهِ، فَرَدَّ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وقالَ: ﴿وما كَفَرَ سُلَيْمانُ ولَكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا﴾ ولَمْ يَتَقَدَّمْ أنَّ أحَدًا نَسَبَ سُلَيْمانَ إلى الكُفْرِ، ولَكِنْ لَمّا نَسَبَتْهُ اليَهُودُ إلى السِّحْرِ صارُوا بِمَنزِلَةِ مِن نَسَبَهُ إلى الكُفْرِ لِأنَّ السِّحْرَ يُوجِبُ ذَلِكَ، ولِهَذا أثْبَتَ اللَّهُ سُبْحانَهُ كُفْرَ الشَّياطِينِ فَقالَ: ﴿ولَكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا﴾ أيْ بِتَعْلِيمِهِمْ. وقَوْلُهُ: ﴿يُعَلِّمُونَ النّاسَ السِّحْرَ﴾ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ في مَحَلِّ رَفْعٍ عَلى أنَّهُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ. وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ والكُوفِيُّونَ سِوى عاصِمٍ " ولَكِنِ الشَّياطِينُ " بِتَخْفِيفِ " لَكِنْ " ورَفْعِ " الشَّياطِينِ "، والباقُونَ بِالتَّشْدِيدِ والنَّصْبِ. والسِّحْرُ: هو ما يَفْعَلُهُ السّاحِرُ مِنِ الحِيَلِ والتَّخْيِيلاتِ الَّتِي تَحْصُلُ بِسَبَبِها لِلْمَسْحُورِ ما يَحْصُلُ مِنَ الخَواطِرِ الفاسِدَةِ الشَّبِيهَةِ بِما يَقَعُ لِمَن يَرى السَّرابَ فَيَظُنُّهُ ماءً، وما يَظُنُّهُ راكِبُ السَّفِينَةِ أوِ الدّابَّةِ مِن أنَّ الجِبالَ تَسِيرُ، وهو مُشْتَقٌّ مِن سَحَرْتُ الصَّبِيَّ: إذا خَدَعْتَهُ، وقِيلَ: أصْلُهُ الخَفاءُ، فَإنَّ السّاحِرَ يَفْعَلُهُ خُفْيَةً، وقِيلَ: أصْلُهُ الصَّرْفُ لِأنَّ السِّحْرَ مَصْرُوفٌ عَنْ جِهَتِهِ، وقِيلَ: أصْلُهُ الِاسْتِمالَةُ لِأنَّ مَن سَحَرَكَ فَقَدِ اسْتَمالَكَ. وقالَ الجَوْهَرِيُّ: السِّحْرُ الأخْذَةُ، وكُلُّ ما لَطُفَ ودَقَّ فَهو سِحْرٌ. وقَدْ سَحَرَهُ يَسْحَرُهُ سِحْرًا، والسّاحِرُ: العالِمُ، وسَحَرَهُ أيْضًا بِمَعْنى خَدَعَهُ. وقَدِ اخْتُلِفَ هَلْ لَهُ حَقِيقَةٌ أمْ لا ؟ فَذَهَبَتِ المُعْتَزِلَةُ وأبُو حَنِيفَةَ إلى أنَّهُ خِداعٌ لا أصْلَ لَهُ ولا حَقِيقَةَ. وذَهَبَ مَن عَداهم إلى أنَّ لَهُ حَقِيقَةً مُؤَثِّرَةً. وقَدْ صَحَّ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ سُحِرَ، سَحَرَهُ لَبِيدُ بْنُ الأعْصَمِ اليَهُودِيُّ حَتّى كانَ يُخَيَّلُ إلَيْهِ أنَّهُ يَأْتِي الشَّيْءَ ولَمْ يَكُنْ قَدْ أتاهُ، ثُمَّ شَفاهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ، والكَلامُ في ذَلِكَ يَطُولُ. وقَوْلُهُ: وما أُنْزِلَ عَلى المَلَكَيْنِ أيْ ويُعَلِّمُونَ النّاسَ ما أُنْزِلَ عَلى المَلَكَيْنِ، فَهو مَعْطُوفٌ عَلى السِّحْرِ، وقِيلَ: هو مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: ما تَتْلُو الشَّياطِينُ أيْ واتَّبَعُوا ما أنْزَلَ اللَّهُ عَلى المَلَكَيْنِ. وقِيلَ: إنَّ " ما " في قَوْلِهِ: وما أُنْزِلَ عَلى المَلَكَيْنِ نافِيَةٌ، والواوُ عاطِفَةٌ عَلى قَوْلِهِ: وما كَفَرَ سُلَيْمانُ وفي الكَلامِ تَقْدِيمٌ وتَأْخِيرٌ، والتَّقْدِيرُ: وما كَفَرَ سُلَيْمانُ وما أُنْزِلَ عَلى المَلَكَيْنِ ولَكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعْلَمُونَ النّاسَ السِّحْرَ بِبابِلَ هارُوتَ ومارُوتَ، فَهارُوتُ ومارُوتُ بَدَلٌ مِنَ الشَّياطِينِ في قَوْلِهِ: ولَكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا ذَكَرَ هَذا ابْنُ جَرِيرٍ وقالَ: فَإنْ قالَ لَنا قائِلٌ: وكَيْفَ وجْهُ تَقْدِيمِ ذَلِكَ ؟ قِيلَ: وجْهُ تَقْدِيمِهِ أنْ يُقالَ: واتَّبَعُوا ما تَتْلُو الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وما كَفَرَ سُلَيْمانُ وما أنْزَلَ اللَّهُ عَلى المَلَكَيْنِ ولَكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا (p-٨٠)يُعَلِّمُونَ النّاسَ السِّحْرَ بِبابِلَ هارُوتَ ومارُوتَ، فَيَكُونُ مَعْنِيًّا بِالمَلَكَيْنِ جِبْرِيلُ ومِيكائِيلُ، لِأنَّ سَحَرَةَ اليَهُودِ فِيما ذُكِرَ كانَتْ تَزْعُمُ أنَّ اللَّهَ أنْزَلَ السِّحْرَ عَلى لِسانِ جِبْرِيلَ ومِيكائِيلَ إلى سُلَيْمانَ بْنِ داوُدَ، فَأكْذَبَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ وأخْبَرَ نَبِيَّهُ ﷺ أنَّ جِبْرِيلَ ومِيكائِيلَ لَمْ يَنْزِلا بِسِحْرٍ، وبَرَّأ سُلَيْمانَ مِمّا نَحَلُوهُ مِنَ السِّحْرِ، وأخْبَرَهم أنَّ السِّحْرَ مِن عَمَلِ الشَّياطِينِ، وأنَّها تُعَلِّمُ النّاسَ ذَلِكَ بِبابِلَ، وأنَّ الَّذِينَ يُعَلِّمُونَهم ذَلِكَ رَجُلانِ أحَدُهُما هارُوتُ والآخَرُ مارُوتُ فَيَكُونُ هارُوتُ ومارُوتُ عَلى هَذا التَّأْوِيلِ تَرْجَمَةً عَنِ النّاسِ ورَدًّا عَلَيْهِمْ. انْتَهى. وقالَ القُرْطُبِيُّ في تَفْسِيرِهِ بَعْدَ أنْ حَكى مَعْنى هَذا الكَلامِ ورَجَّحَ أنَّ هارُوتَ ومارُوتَ بَدَلٌ مِنَ الشَّياطِينِ ما لَفْظُهُ: هَذا أوْلى ما حُمِلَتْ عَلَيْهِ الآيَةُ وأصَحُّ ما قِيلَ فِيها ولا يُلْتَفَتُ إلى سِواهُ، فالسِّحْرُ مِنِ اسْتِخْراجِ الشَّياطِينِ لِلَطافَةِ جَوْهَرِهِمْ ودِقَّةِ أفْهامِهِمْ، وأكْثَرُ ما يَتَعاطاهُ مِنَ الإنْسِ النِّساءُ وخاصَّةً في حالِ طَمْثِهِنَّ، قالَ اللَّهُ: ﴿ومِن شَرِّ النَّفّاثاتِ في العُقَدِ﴾ ثُمَّ قالَ: إنْ قِيلَ كَيْفَ يَكُونُ اثْنانِ بَدَلًا مِن جَمْعٍ والبَدَلُ إنَّما يَكُونُ عَلى حَدِّ المُبْدَلِ ؟ ثُمَّ أجابَ عَنْ ذَلِكَ بِأنَّ الِاثْنَيْنِ قَدْ يُطْلَقُ عَلَيْهِما الجَمْعُ، أوْ أنَّهُما خُصّا بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهِما لِتَمَرُّدِهِما، ويُؤَيِّدُ هَذا أنَّهُ قَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ والضَّحّاكُ والحَسَنُ المَلِكَيْنِ بِكَسْرِ اللّامِ، ولَعَلَّ وجْهَ الجَزْمِ بِهَذا التَّأْوِيلِ مَعَ بُعْدِهِ وظُهُورِ تَكَلُّفِهِ تَنْزِيهُ اللَّهِ سُبْحانَهُ أنْ يُنْزِلَ السِّحْرَ إلى أرْضِهِ فِتْنَةً لِعِبادِهِ عَلى ألْسُنِ مَلائِكَتِهِ. وعِنْدِي أنَّهُ لا مُوجِبَ لِهَذا التَّعَسُّفِ المُخالِفِ لِما هو الظّاهِرُ، فَإنَّ لِلَّهِ سُبْحانَهُ أنْ يَمْتَحِنَ عِبادَهُ بِما شاءَ كَما امْتَحَنَ بِنَهَرٍ طالُوتَ، ولِهَذا يَقُولُ المَلَكانِ: إنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ قالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ إلى أنَّهُما كانا مَلَكَيْنِ مِنَ السَّماءِ، وأنَّهُما أُنْزِلا إلى الأرْضِ فَكانَ مِن أمْرِهِما ما كانَ وبابِلُ قِيلَ: هي العِراقُ، وقِيلَ: نَهاوَنْدُ، وقِيلَ: نَصِيبِينُ، وقِيلَ: المَغْرِبُ. وهارُوتُ ومارُوتُ اسْمانِ أعْجَمِيّانِ لا يَنْصَرِفانِ. وقَوْلُهُ: ﴿وما يُعَلِّمانِ مِن أحَدٍ حَتّى يَقُولا﴾ قالَ الزَّجّاجُ: تَعْلِيمُ إنْذارٍ مِنَ السِّحْرِ لا تَعْلِيمُ دُعاءٍ إلَيْهِ، قالَ: وهو الَّذِي عَلَيْهِ أكْثَرُ أهْلِ اللُّغَةِ والنَّظَرِ، ومَعْناهُ: أنَّهُما يُعَلِّمانِ عَلى النَّهْيِ فَيَقُولانِ لَهم: لا تَفْعَلُوا كَذا، ومِن في قَوْلِهِ: مِن أحَدٍ زائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ، وقَدْ قِيلَ: إنَّ قَوْلَهُ: ( يُعَلِّمانِ ) مِنَ الإعْلامِ لا مِنَ التَّعْلِيمِ، وقَدْ جاءَ في كَلامِ العَرَبِ تَعْلَمُ بِمَعْنى أعْلَمُ كَما حَكاهُ ابْنُ الأنْبارِيِّ وابْنُ الأعْرابِيِّ، وهو كَثِيرٌ في أشْعارِهِمْ كَقَوْلِ كَعْبِ بْنِ مالِكٍ: ؎تَعْلَمُ رَسُولَ اللَّهِ أنَّكَ مُدْرِكِي ∗∗∗ وأنَّ وعِيدًا مِنكَ كالأخْذِ بِاليَدِ وقالَ القَطامِيُّ: ؎تَعْلَمُ أنَّ بَعْدَ الغَيِّ رُشْدًا ∗∗∗ وأنَّ لِذَلِكَ الغَيِّ انْقِشاعًا وقَوْلُهُ: إنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ هو عَلى ظاهِرِهِ. أيْ إنَّما نَحْنُ ابْتِلاءٌ واخْتِبارٌ مِنَ اللَّهِ لِعِبادِهِ، وقِيلَ: إنَّهُ اسْتِهْزاءٌ مِنهُما لِأنَّهُما إنَّما يَقُولانِهِ لِمَن قَدْ تَحَقَّقا ضَلالُهُ وفي قَوْلِهِما: فَلا تَكْفُرْ أبْلَغُ إنْذارٍ وأعْظَمُ تَحْذِيرٍ، أيْ أنَّ هَذا ذَنْبٌ يَكُونُ مَن فَعَلَهُ كافِرًا فَلا تَكْفُرْ، وفِيهِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ تَعَلُّمَ السِّحْرِ كُفْرٌ وظاهِرُهُ عَدَمُ الفَرْقِ بَيْنَ المُعْتَقِدِ وغَيْرِ المُعْتَقِدِ، وبَيْنَ مَن تَعَلَّمَهُ لِيَكُونَ ساحِرًا ومَن تَعَلَّمَهُ لِيَقْدِرَ عَلى دَفْعِهِ. وقَوْلُهُ: فَيَتَعَلَّمُونَ فِيهِ ضَمِيرٌ يَرْجِعُ إلى قَوْلِهِ: مِن أحَدٍ قالَ سِيبَوَيْهِ: التَّقْدِيرُ فَهم يَتَعَلَّمُونَ، قالَ: ومِثْلُهُ كُنْ فَيَكُونُ وقِيلَ: هو مَعْطُوفٌ عَلى مَوْضِعِ ما يُعَلِّمانِ، لِأنَّهُ وإنْ كانَ مَنفِيًّا فَهو يَتَضَمَّنُ الإيجابُ. وقالَ الفَرّاءُ: هي مَرْدُودَةٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿يُعَلِّمُونَ النّاسَ السِّحْرَ﴾ أيْ يُعَلِّمُونَ النّاسَ فَيَتَعَلَّمُونَ، وقَوْلُهُ: ﴿ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وزَوْجِهِ﴾ في إسْنادِ التَّفْرِيقِ إلى السَّحَرَةِ وجَعْلِ السِّحْرِ سَبَبًا لِذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى أنَّ لِلسِّحْرِ تَأْثِيرًا في القُلُوبِ بِالحُبِّ والبُغْضِ والجَمْعِ والفُرْقَةِ والقُرْبِ والبُعْدِ. وقَدْ ذَهَبَتْ طائِفَةٌ مِنَ العُلَماءِ إلى أنَّ السّاحِرَ لا يَقْدِرُ عَلى أكْثَرِ مِمّا أخْبَرَ اللَّهُ بِهِ مِنَ التَّفْرِقَةِ، لِأنَّ اللَّهَ ذَكَرَ ذَلِكَ في مَعْرِضِ الذَّمِّ لِلسِّحْرِ وبَيَّنَ ما هو الغايَةُ في تَعْلِيمِهِ، فَلَوْ كانَ يَقْدِرُ عَلى أكْثَرِ مِن ذَلِكَ لَذَكَرَهُ. وقالَتْ طائِفَةٌ أُخْرى: إنَّ ذَلِكَ خَرَجَ مَخْرَجَ الأغْلَبِ، وأنَّ السّاحِرَ يَقْدِرُ عَلى غَيْرِ ذَلِكَ المَنصُوصِ عَلَيْهِ، وقِيلَ: لَيْسَ لِلسِّحْرِ تَأْثِيرٌ في نَفْسِهِ أصْلًا لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما هم بِضارِّينَ بِهِ مِن أحَدٍ إلّا بِإذْنِ اللَّهِ﴾ والحَقُّ أنَّهُ لا تَنافِيَ بَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وزَوْجِهِ﴾ وبَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿وما هم بِضارِّينَ بِهِ مِن أحَدٍ إلّا بِإذْنِ اللَّهِ﴾ فَإنَّ المُسْتَفادَ مِن جَمِيعِ ذَلِكَ أنَّ لِلسِّحْرِ تَأْثِيرًا في نَفْسِهِ، ولَكِنَّهُ لا يُؤَثِّرُ ضَرَرًا إلّا فِيمَن أذِنَ اللَّهُ بِتَأْثِيرِهِ فِيهِ. وقَدْ أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ عَلى أنَّ لَهُ تَأْثِيرًا في نَفْسِهِ وحَقِيقَةً ثابِتَةً، ولَمْ يُخالِفْ في ذَلِكَ إلّا المُعْتَزِلَةُ وأبُو حَنِيفَةَ كَما تَقَدَّمَ، وقَوْلُهُ: ﴿ويَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهم ولا يَنْفَعُهم﴾ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأنَّ السِّحْرَ لا يَعُودُ عَلى صاحِبِهِ بِفائِدَةٍ ولا يَجْلِبُ إلَيْهِ مَنفَعَةً بَلْ هو ضَرَرٌ مَحْضٌ وخُسْرانٌ بَحْتٌ، واللّامُ في قَوْلِهِ: ولَقَدْ جَوابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، وفي قَوْلِهِ: ﴿لَمَنِ اشْتَراهُ﴾ لِلتَّأْكِيدِ و( مَن ) مَوْصُولَةٌ وهي في مَحَلِّ رَفْعٍ عَلى الِابْتِداءِ، والخَبَرُ قَوْلُهُ: ﴿ما لَهُ في الآخِرَةِ مِن خَلاقٍ﴾ وقالَ الفَرّاءُ: إنَّها شَرْطِيَّةٌ لِلْمُجازاةِ. وقالَ الزَّجّاجُ: لَيْسَ هَذا بِمَوْضِعِ شَرْطٍ، ورَجَّحَ أنَّها مَوْصُولَةٌ كَما ذَكَرْنا. والمُرادُ بِالشِّراءِ هُنا الِاسْتِبْدالُ أيْ مَنِ اسْتَبْدَلَ ما تَتْلُو الشَّياطِينُ عَلى كِتابِ اللَّهِ. والخَلاقُ: النَّصِيبُ عِنْدَ أهْلِ اللُّغَةِ، كَذا قالَ الزَّجّاجُ. والمُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿ما شَرَوْا بِهِ أنْفُسَهم﴾ أيْ باعُوها. وقَدْ أثْبَتَ لَهُمُ العِلْمَ في قَوْلِهِ: ﴿ولَقَدْ عَلِمُوا﴾ ونَفاهُ عَنْهم في قَوْلِهِ: ﴿لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ واخْتَلَفُوا في تَوْجِيهِ ذَلِكَ فَقالَ قُطْرُبٌ والأخْفَشُ: إنَّ المُرادَ بِقَوْلِهِ: ﴿ولَقَدْ عَلِمُوا﴾ الشَّياطِينُ، والمُرادَ بِقَوْلِهِ: ﴿لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ الإنْسُ. وقالَ الزَّجّاجُ: إنَّ الأوَّلَ لِلْمَلَكَيْنِ وإنْ كانَ بِصِيغَةِ الجَمْعِ فَهو مِثْلُ قَوْلِهِمْ: الزَّيْدانِ قامُوا. والثّانِي المُرادُ بِهِ عُلَماءُ اليَهُودِ، وإنَّما قالَ: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ لِأنَّهم تَرَكُوا العَمَلَ بِعِلْمِهِمْ. وقَوْلُهُ: ﴿ولَوْ أنَّهم آمَنُوا﴾ أيْ بِالنَّبِيِّ ﷺ وما جاءَ بِهِ مِنَ القُرْآنِ واتَّقَوْا ما وقَعُوا فِيهِ مِنَ السِّحْرِ والكُفْرِ، واللّامُ في قَوْلِهِ: لَمَثُوبَةٌ جَوابُ " لَوْ "، والمَثُوبَةُ: الثَّوابُ. وقالَ الأخْفَشُ: إنَّ الجَوابَ مَحْذُوفٌ والتَّقْدِيرُ ولَوْ أنَّهم آمَنُوا واتَّقَوْا لَأُثِيبُوا، (p-٨١)فَحُذِفَ لِدَلالَةِ قَوْلِهِ: ( لَمَثُوبَةٌ ) عَلَيْهِ، وقَوْلُهُ: ﴿لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ هو إمّا لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّهُ لا عِلْمَ لَهم، أوْ لِتَنْزِيلِ عِلْمِهِمْ مَعَ عَدَمِ العَمَلِ مَنزِلَةَ العَدَمِ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ إسْحاقَ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ " «قالَ ابْنُ صُورِيا لِلنَّبِيِّ ﷺ: يا مُحَمَّدُ ما جِئْتَنا بِشَيْءٍ يُعْرَفُ، وما أنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ مِن آيَةٍ بَيِّنَةٍ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى في ذَلِكَ: ﴿ولَقَدْ أنْزَلْنا إلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وما يَكْفُرُ بِها إلّا الفاسِقُونَ﴾ "» وقالَ مالِكُ بْنُ الصَّيْفِ «حِينَ بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وذَكَّرَهم ما أُخِذَ عَلَيْهِمْ مِنَ المِيثاقِ وما عُهِدَ إلَيْهِمْ في مُحَمَّدٍ: واللَّهِ ما عُهِدَ إلَيْنا في مُحَمَّدٍ ولا أُخِذَ عَلَيْنا شَيْءٌ، فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿أوَكُلَّما عاهَدُوا﴾ الآيَةَ» . وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ في قَوْلِهِ: آياتٍ بَيِّناتٍ يَقُولُ: فَأنْتَ تَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ وتُخْبِرُهم بِهِ غُدْوَةً وعَشِيَّةً وبَيْنَ ذَلِكَ، وأنْتَ عِنْدَهم أُمِّيٌّ لَمْ تَقْرَأِ الكِتابَ، وأنْتَ تُخْبِرُهم بِما في أيْدِيهِمْ عَلى وجْهِهِ، فَفي ذَلِكَ عِبْرَةٌ لَهم وحُجَّةٌ عَلَيْهِمْ ﴿لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ . وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: نَبَذَهُ قالَ: نَقَضَهُ. وأخْرَجَ أيْضًا عَنِ السُّدِّيِّ في قَوْلِهِ: ﴿مُصَدِّقًا لِما مَعَهُمْ﴾ قالَ: لَمّا جاءَهم مُحَمَّدٌ عارَضُوهُ بِالتَّوْراةِ، واتَّفَقَتِ التَّوْراةُ والقُرْآنُ فَنَبَذُوا التَّوْراةَ وأخَذُوا بِكِتابِ آصِفَ وسِحْرِ هارُوتَ ومارُوتَ، كَأنَّهم لا يَعْلَمُونَ بِما في التَّوْراةِ مِنَ الأمْرِ بِاتِّباعِ مُحَمَّدٍ ﷺ وتَصْدِيقِهِ. وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: إنَّ الشَّياطِينَ كانُوا يَسْتَرِقُونَ السَّمْعَ مِنَ السَّماءِ، فَإذا سَمِعَ أحَدُهم بِكَلِمَةِ حَقٍّ كَذَبَ مَعَها ألْفَ كِذْبَةٍ، فَأُشْرِبَتْها قُلُوبُ النّاسِ واتَّخَذُوها دَواوِينَ، فَأطْلَعَ اللَّهُ عَلى ذَلِكَ سُلَيْمانَ بْنَ داوُدَ، فَأخَذَها فَدَفَنَها تَحْتَ الكُرْسِيِّ، فَلَمّا ماتَ سُلَيْمانُ قامَ شَيْطانٌ بِالطَّرِيقِ فَقالَ: ألا أدُلُّكم عَلى كَنْزِ سُلَيْمانَ الَّذِي لا كَنْزَ لِأحَدٍ مِثْلُ كَنْزِهِ المُمَنَّعِ ؟ قالُوا: نَعَمْ، فَأخْرَجُوهُ فَإذا هو سِحْرٌ، فَتَناسَخَتْها الأُمَمُ. ‌‌ وأنْزَلَ اللَّهُ عُذْرَ سُلَيْمانَ فِيما قالُوا مِنَ السِّحْرِ فَقالَ ﴿واتَّبَعُوا ما تَتْلُو الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ﴾ الآيَةَ. وأخْرَجَ النَّسائِيُّ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ قالَ: كانَ آصِفُ كاتِبَ سُلَيْمانَ، وكانَ يَعْلَمُ الِاسْمَ الأعْظَمَ، وكانَ يَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ بِأمْرِ سُلَيْمانَ ويَدْفِنُهُ تَحْتَ كُرْسِيِّهِ، فَلَمّا ماتَ سُلَيْمانُ أخْرَجَتْهُ الشَّياطِينُ، فَكَتَبُوا بَيْنَ كُلِّ سَطْرَيْنِ سِحْرًا وكُفْرًا، وقالُوا: هَذا الَّذِي كانَ سُلَيْمانُ يَعْمَلُ بِها، فَأكْفَرَهُ جُهّالُ النّاسِ وسَبُّوهُ ووَقَفَ عُلَماؤُهم، فَلَمْ يَزَلْ جُهّالُهم يَسُبُّونَهُ حَتّى أنْزَلَ اللَّهُ عَلى مُحَمَّدٍ ﴿واتَّبَعُوا ما تَتْلُو الشَّياطِينُ﴾ الآيَةَ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قالَ: كانَ سُلَيْمانُ إذا أرادَ أنْ يَدْخُلَ الخَلاءَ أوْ يَأْتِيَ شَيْئًا مِن شَأْنِهِ أعْطى الجَرادَةَ وهي امْرَأتُهُ خاتَمَهُ، فَلَمّا أرادَ اللَّهُ أنْ يَبْتَلِيَ سُلَيْمانَ بِالَّذِي ابْتَلاهُ بِهِ أعْطى الجَرادَةَ ذاتَ يَوْمٍ خاتَمَهُ، فَجاءَ الشَّيْطانُ في صُورَةِ سُلَيْمانَ فَقالَ لَها: هاتِي خاتَمِي، فَأخَذَهُ فَلَبِسَهُ، فَلَمّا لَبِسَهُ دانَتْ لَهُ الشَّياطِينُ والجِنُّ والإنْسُ، فَجاءَ سُلَيْمانُ فَقالَ: هاتِي خاتَمِي، فَقالَتْ: كَذَبْتَ لَسْتَ سُلَيْمانَ، فَعَرَفَ أنَّهُ بَلاءٌ ابْتُلِيَ بِهِ، فانْطَلَقَتِ الشَّياطِينُ فَكَتَبَتْ في تِلْكَ الأيّامِ كُتُبًا فِيها سِحْرٌ وكُفْرٌ، ثُمَّ دَفَنُوها تَحْتَ كُرْسِيِّ سُلَيْمانَ، ثُمَّ أخْرَجُوها فَقَرَءُوها عَلى النّاسِ وقالُوا: إنَّما كانَ سُلَيْمانُ يَغْلِبُ النّاسَ بِهَذِهِ الكُتُبِ، فَبَرِئَ النّاسُ مِن سُلَيْمانَ وأكْفَرُوهُ حَتّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا وأنْزَلَ عَلَيْهِ ﴿وما كَفَرَ سُلَيْمانُ ولَكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا﴾ وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ في قَوْلِهِ: وما تَتْلُو قالَ: ما تَتْبَعُ. وأخْرَجَ أيْضًا عَنْ عَطاءٍ في قَوْلِهِ: ما تَتْلُو قالَ: نَراهُ ما تُحْدِثُ. وأخْرَجَ أيْضًا عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ في قَوْلِهِ: ﴿عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ﴾ يَقُولُ: في مُلْكِ سُلَيْمانَ. وأخْرَجَ أيْضًا عَنِ السُّدِّيِّ في قَوْلِهِ: ﴿وما أُنْزِلَ عَلى المَلَكَيْنِ﴾ قالَ: هَذا سِحْرٌ آخَرُ خاصَمُوهُ بِهِ، فَإنَّ كَلامَ المَلائِكَةِ فِيما بَيْنَهم إذا عَلِمَتْهُ الإنْسُ فَصُنْعَ وعُمِلَ بِهِ كانَ سِحْرًا. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿وما أُنْزِلَ عَلى المَلَكَيْنِ﴾ قالَ: لَمْ يُنْزِلِ اللَّهُ السِّحْرَ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ عَلِيٍّ قالَ: هُما مَلَكانِ مِن مَلائِكَةِ السَّماءِ. وأخْرَجَ نَحْوَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِن وجْهٍ آخَرَ عَنْهُ مَرْفُوعًا. وأخْرَجَ البُخارِيُّ في تارِيخِهِ وابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿وما أُنْزِلَ عَلى المَلَكَيْنِ﴾ يَعْنِي جِبْرِيلَ ومِيكائِيلَ ﴿بِبابِلَ هارُوتَ ومارُوتَ﴾ يُعَلِّمانِ النّاسَ السِّحْرَ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبْزى أنَّهُ كانَ يَقْرَؤُها: " وما أُنْزِلَ عَلى المَلِكَيْنِ داوُدَ وسُلَيْمانَ " . وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ الضَّحّاكِ قالَ: هُما عِلْجانِ مِن أهْلِ بابِلَ: وأخْرَجَ البَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الإيمانِ مِن حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أشْرَفَتِ المَلائِكَةُ عَلى الدُّنْيا، فَرَأتْ بَنِي آدَمَ يَعْصُونَ، فَقالَتْ: يا رَبِّ ما أجْهَلَ هَؤُلاءِ، ما أقَلَّ مَعْرِفَةِ هَؤُلاءِ بِعَظَمَتِكَ، فَقالَ اللَّهُ: لَوْ كُنْتُمْ في مَحَلّاتِهِمْ لَعَصَيْتُمُونِي، قالُوا: كَيْفَ يَكُونُ هَذا ونَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لَكَ ؟ قالَ: فاخْتارُوا مِنكم مَلَكَيْنِ، فاخْتارُوا هارُوتَ ومارُوتَ، ثُمَّ أُهْبِطا إلى الأرْضِ ورُكِّبَتْ فِيهِما شَهَواتُ بَنِي آدَمَ، ومُثِّلَتْ لَهُما امْرَأةٌ فَما عُصِما حَتّى واقَعا المَعْصِيَةَ، فَقالَ اللَّهُ: اخْتارا عَذابَ الدُّنْيا أوْ عَذابَ الآخِرَةِ، فَنَظَرَ أحَدُهُما لِصاحِبِهِ قالَ: ما تَقَولُ ؟ قالَ: أقُولُ إنَّ عَذابَ الدُّنْيا يَنْقَطِعُ وإنَّ عَذابَ الآخِرَةِ لا يَنْقَطِعُ، فاخْتارا عَذابَ الدُّنْيا، فَهُما اللَّذانِ ذَكَرَ اللَّهُ في كِتابِهِ: ﴿وما أُنْزِلَ عَلى المَلَكَيْنِ﴾» الآيَةَ. وأخْرَجَ الحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أنَّهُ كانَ يَقُولُ: أطَلَعَتِ الحَمْراءُ بَعْدُ ؟ فَإذا رَآها قالَ: لا مَرْحَبًا، ثُمَّ قالَ: إنَّ مَلَكَيْنِ مِنَ المَلائِكَةِ هارُوتَ ومارُوتَ سَألا اللَّهَ أنْ يُهْبِطَهُما إلى الأرْضِ، فَأُهْبِطا إلى الأرْضِ فَكانا يَقْضِيانِ بَيْنَ النّاسِ، فَإذا أمْسَيا تَكَلَّما بِكَلِماتٍ فَعَرَجا بِها إلى السَّماءِ، فَقَيَّضَ لَهُما امْرَأةً مِن أحْسَنِ النِّساءِ وأُلْقِيَتْ عَلَيْهِما الشَّهْوَةُ فَجَعَلا يُؤَخِّرانِها وأُلْقِيَتْ في أنْفُسِهِما، فَلَمْ يَزالا يَفْعَلانِ حَتّى وعَدَتْهُما مِيعادًا، فَأتَتْهُما لِلْمِيعادِ فَقالَتْ: عَلِّمانِي الكَلِمَةَ الَّتِي تَعْرُجانِ بِها، فَعَلَّماها الكَلِمَةَ فَتَكَلَّمَتْ بِها فَعَرَجَتْ إلى السَّماءِ فَمُسِخَتْ فَجُعِلَتْ كَما تَرَوْنَ، فَلَمّا أمْسَيا تَكَلَّما بِالكَلِمَةِ فَلَمْ يَعْرُجا، فَبُعِثَ إلَيْهِما: إنْ شِئْتُما فَعَذابُ الآخِرَةِ وإنْ شِئْتُما فَعَذابُ الدُّنْيا إلى أنْ تَقُومَ السّاعَةُ عَلى أنْ تَلْقَيا اللَّهَ، فَإنْ شاءَ عَذَّبَكُما وإنْ شاءَ (p-٨٢)رَحَمَكُما، فَنَظَرَ أحَدُهُما إلى صاحِبِهِ فَقالَ: بَلْ نَخْتارُ عَذابَ الدُّنْيا ألْفَ ألْفِ ضِعْفٍ، فَهُما يُعَذَّبانِ إلى يَوْمِ القِيامَةِ. وقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ القِصَّةُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِألْفاظٍ، وفي بَعْضِها أنَّهُ يَرْوِي ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ كَعْبِ الأحْبارِ، كَما أخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزّاقِ وابْنُ أبِي شَيْبَةَ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ والبَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ مِن طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ عَنْ مُوسى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ سالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ كَعْبٍ قالَ: ذَكَرَتِ المَلائِكَةُ أعْمالَ بَنِي آدَمَ وما يَأْتُونَ مِنَ الذُّنُوبِ، فَقِيلَ: لَوْ كُنْتُمْ مَكانَهم لَأتَيْتُمْ مِثْلَ ما يَأْتُونَ، فاخْتارُوا مِنكُمُ اثْنَيْنِ، فاخْتارُوا هارُوتَ ومارُوتَ، فَقالَ لَهُما: إنِّي أُرْسِلُ إلى بَنِي آدَمَ رُسُلًا فَلَيْسَ بَيْنِي وبَيْنَكم رَسُولٌ، انْزِلا لا تُشْرِكا بِي شَيْئًا ولا تَزْنِيا ولا تَشْرَبا الخَمْرَ، قالَ كَعْبٌ: فَواللَّهِ ما أمْسَيا مِن يَوْمِهِما الَّذِي أُهْبِطا فِيهِ حَتّى اسْتَعْمَلا جَمِيعَ ما نُهِيا عَنْهُ. قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وهَذا أصَحُّ، يَعْنِي مِنَ الإسْنادَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُما قَبْلَهُ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وأبُو الشَّيْخِ في العَظَمَةِ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ قالَ: إنَّ هَذِهِ الزُّهْرَةَ تُسَمِّيها العَرَبُ الزُّهْرَةَ، والعَجَمُ أناهِيدَ، وذَكَرَ نَحْوَ الرِّوايَةِ السّابِقَةِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ الحاكِمِ. قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وهَذا الإسْنادُ رِجالُهُ ثِقاتٌ وهو غَرِيبٌ جِدًّا. وقَدْ أخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: كانَتِ الزُّهْرَةُ امْرَأةً. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ: أنَّ المَرْأةَ الَّتِي فُتِنَ بِها المَلِكانِ مُسِخَتْ، فَهي هَذِهِ الكَوْكَبَةُ الحَمْراءُ: يَعْنِي الزُّهْرَةَ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ والبَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ عَنْهُ فَذَكَرَ قِصَّةً طَوِيلَةً، وفِيها التَّصْرِيحُ بِأنَّ المَلَكَيْنِ شَرِبا الخَمْرَ وزَنَيا بِالمَرْأةِ وقَتَلاها. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وابْنِ عَبّاسٍ هَذِهِ القِصَّةَ وقالا: إنَّها أُنْزِلَتْ إلَيْهِما الزُّهْرَةُ في صُورَةِ امْرَأةٍ وأنَّهُما وقَعا في الخَطِيئَةِ. وقَدْ رُوِيَ في هَذا البابِ قِصَصٌ طَوِيلَةٌ ورِواياتٌ مُخْتَلِفَةٌ اسْتَوْفاها السُّيُوطِيُّ في الدُّرِّ المَنثُورِ، وذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ في تَفْسِيرِهِ بَعْضَها ثُمَّ قالَ: وقَدْ رُوِيَ في قِصَّةِ هارُوتَ ومارُوتَ عَنْ جَماعَةٍ مِنَ التّابِعِينَ كَمُجاهِدٍ والسُّدِّيِّ والحَسَنِ البَصْرِيِّ وقَتادَةَ وأبِي العالِيَةِ والزُّهْرِيِّ والرَّبِيعِ بْنِ أنَسٍ ومُقاتِلِ بْنِ حَيّانَ وغَيْرِهِمْ وقَصَّها خَلْقٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ مِنَ المُتَقَدِّمِينَ والمُتَأخِّرِينَ. وحاصِلُها راجِعٌ في تَفْصِيلِها إلى أخْبارِ بَنِي إسْرائِيلَ، إذْ لَيْسَ فِيها حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ صَحِيحٌ مُتَّصِلُ الإسْنادِ إلى الصّادِقِ المَصْدُوقِ المَعْصُومِ الَّذِي لا يَنْطِقُ عَنِ الهَوى وظاهِرُ سِياقِ القُرْآنِ إجْمالُ القِصَّةِ مِن غَيْرِ بَسْطٍ ولا إطْنابٍ فِيها، فَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِما ورَدَ في القُرْآنِ عَلى ما أرادَهُ اللَّهُ تَعالى، واللَّهُ أعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الحالِ. انْتَهى. وقالَ القُرْطُبِيُّ بَعْدَ سِياقِ بَعْضِ ذَلِكَ: قُلْنا: هَذا كُلُّهُ ضَعِيفٌ وبَعِيدٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وغَيْرِهِ، لا يَصِحُّ مِنهُ شَيْءٌ، فَإنَّهُ قَوْلٌ تَدْفَعُهُ الأُصُولُ في المَلائِكَةِ الَّذِينَ هم أُمَناءُ اللَّهِ عَلى وحْيِهِ وسُفَراؤُهُ إلى رُسُلِهِ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أمَرَهم ويَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ. ثُمَّ ذَكَرَ ما مَعْناهُ: أنَّ العَقْلَ يُجَوِّزُ وُقُوعَ ذَلِكَ مِنهم، لَكِنْ وُقُوعُ هَذا الجائِزِ لا يُدْرى إلّا بِالسَّمْعِ ولَمْ يَصِحَّ. انْتَهى. وأقُولُ: هَذا مُجَرَّدُ اسْتِبْعادٍ، وقَدْ ورَدَ الكِتابُ العَزِيزُ في هَذا المَوْضِعِ بِما تَراهُ، ولا وجْهَ لِإخْراجِهِ عَنْ ظاهِرِهِ بِهَذِهِ التَّكَلُّفاتِ، وما ذَكَرَهُ مِن أنَّ الأُصُولَ تَدْفَعُ ذَلِكَ، فَعَلى فَرْضِ وُجُودِ هَذِهِ الأُصُولِ فَهي مُخَصَّصَةٌ بِما وقَعَ في هَذِهِ القِصَّةِ ولا وجْهَ لِمَنعِ التَّخْصِيصِ، وقَدْ كانَ إبْلِيسُ يَمْلِكُ المَنزِلَةَ العَظِيمَةَ وصارَ أشَرَّ البَرِّيَّةِ وأكْفَرَ العالِمِينَ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾ قالَ: بَلاءٌ. وأخْرُجُ البَزّارُ بِإسْنادٍ صَحِيحٍ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: «مَن أتى كاهِنًا أوْ ساحِرًا وصَدَّقَهُ بِما يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِما أُنْزِلَ عَلى مُحَمَّدٍ» . وأخْرَجَ البَزّارُ عَنْ عِمْرانَ بْنِ حُصَيْنٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَن تَطَيَّرَ أوْ تُطُيِّرَ لَهُ، أوْ تَكَهَّنَ أوْ تُكُهِّنَ لَهُ، أوْ سَحَرَ أوْ سُحِرَ لَهُ، ومِن عَقَدَ عُقْدَةً، ومَن أتى كاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِما يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِما أُنْزِلَ عَلى مُحَمَّدٍ» . وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ عَنْ صَفْوانَ بْنِ سُلَيْمٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَن تَعَلَّمَ شَيْئًا مِنَ السِّحْرِ قَلِيلًا أوْ كَثِيرًا كانَ آخِرَ عَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ» . وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: مِن خَلاقٍ قالَ: قِوامٍ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ قالَ: مِن خَلاقٍ مِن نَصِيبٍ، وكَذا رَوى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجاهِدٍ. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الحَسَنِ: ﴿ما لَهُ في الآخِرَةِ مِن خَلاقٍ﴾ قالَ: لَيْسَ لَهُ دِينٌ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ في قَوْلِهِ: ﴿ولَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ﴾ قالَ: باعُوا. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: لَمَثُوبَةٌ قالَ: ثَوابٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب