الباحث القرآني

﴿وما مَنَعَ النّاسَ أنْ يُؤْمِنُوا إذْ جاءَهُمُ الهُدى إلّا أنْ قالُوا أبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا﴾ ﴿قُلْ لَوْ كانَ في الأرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكًا رَسُولًا﴾ ﴿قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وبَيْنَكم إنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾ ﴿ومَن يَهْدِ اللَّهُ فَهو المُهْتَدِي ومَن يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهم أوْلِياءَ مِن دُونِهِ ونَحْشُرُهم يَوْمَ القِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وبُكْمًا وصُمًّا مَأْواهم جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهم سَعِيرًا﴾ ﴿ذَلِكَ جَزاؤُهم بِأنَّهم كَفَرُوا بِآياتِنا وقالُوا أئِذا كُنّا عِظامًا ورُفاتًا أئِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا﴾ ﴿أوَلَمْ يَرَوْا أنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ قادِرٌ عَلى أنْ يَخْلُقَ مِثْلَهم وجَعَلَ لَهم أجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ فَأبى الظّالِمُونَ إلّا كُفُورًا﴾ . (p-٨١)الظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وما مَنَعَ النّاسَ﴾ إخْبارٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى عَنِ السَّبَبِ الضَّعِيفِ الَّذِي مَنَعَهم مِنَ الإيمانِ، إذْ ظَهَرَ لَهُمُ المُعْجِزُ وهو اسْتِبْعادٌ أنْ يَبْعَثَ اللَّهُ رَسُولًا إلى الخَلْقِ واحِدًا مِنهم ولَمْ يَكُنْ مَلَكًا، وبَعْدَ أنْ ظَهَرَ المُعْجِزُ فَيَجِبُ الإقْرارُ والِاعْتِرافُ بِرِسالَتِهِ، فَقَوْلُهم: لا بُدَّ أنْ يَكُونَ مِنَ المَلائِكَةِ تَحَكُّمٌ فاسِدٌ، ويَظْهَرُ مِن كَلامِ ابْنِ عَطِيَّةَ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وما مَنَعَ النّاسَ﴾ هو مِن قَوْلِ الرَّسُولِ ﷺ قالَ هَذِهِ الآيَةُ عَلى مَعْنى التَّوْبِيخِ والتَّلَهُّفِ مِنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، كَأنَّهُ يَقُولُ مُتَعَجِّبًا مِنهم: ما شاءَ اللَّهُ كانَ ﴿وما مَنَعَ النّاسَ أنْ يُؤْمِنُوا إذْ جاءَهُمُ الهُدى إلّا﴾ هَذِهِ العِلَّةُ النَّزِرَةُ والِاسْتِبْعادُ الَّذِي لا يُسْنَدُ إلى حُجَّةٍ، وبَعْثَةُ البَشَرِ رُسُلًا غَيْرُ بِدْعٍ، ولا غَرِيبَ فِيها يَقَعُ الإفْهامُ والتَّمَكُّنُ مِنَ النَّظَرِ كَما لَوْ كانَ في الأرْضِ مَلائِكَةٌ يَسْكُنُونَها مُطْمَئِنِّينَ لَكانَ الرَّسُولُ إلَيْهِمْ مِنَ المَلائِكَةِ لِيَقَعَ الإفْهامُ، وأمّا البَشَرُ فَلَوْ بُعِثَ إلَيْهِمْ مَلَكٌ لَنَفَرَتْ طَبائِعُهم مِن رُؤْيَتِهِ، ولَمْ تَحْتَمِلْهُ أبْصارُهم ولا تَجَلَّدَتْ لَهُ قُلُوبُهم، وإنَّما اللَّهُ أجْرى أحْوالَهم عَلى مُعْتادِها. انْتَهى. و(أنْ يُؤْمِنُوا) في مَوْضِعِ نَصْبٍ و(أنْ قالُوا) في مَوْضِعِ رَفْعٍ، و(إذْ) ظَرْفٌ العامِلُ فِيهِ مَنَعَ النّاسَ كَفّارُ قُرَيْشٍ القائِلُونَ تِلْكَ المَقالاتِ السّابِقَةَ و(الهُدى) هو القُرْآنُ ومَن جاءَ بِهِ، ولَيْسَ المُرادُ مُجَرَّدَ القَوْلِ، بَلْ قَوْلُهُمُ النّاشِئُ عَنِ اعْتِقادٍ والهَمْزَةُ في (أبَعَثَ) لِلْإنْكارِ و(رَسُولًا) ظاهِرُهُ أنَّهُ نَعْتٌ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ (رَسُولًا) مَفْعُولَ بَعَثَ، و(بَشَرًا) حالٌ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَيْهِ أيْ أبَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا في حالِ كَوْنِهِ بَشَرًا وكَذَلِكَ يَجُوزُ في قَوْلِهِ: ﴿مَلَكًا رَسُولًا﴾ أيْ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ رَسُولًا في حالِ كَوْنِهِ مَلَكًا. وقَوْلُهُ: (يَمْشُونَ) يَتَصَرَّفُونَ فِيها بِالمَشْيِ ولَيْسَ لَهم صُعُودٌ إلى السَّماءِ فَيَسْمَعُوا مِن أهْلِها ويَعْلَمُونَ ما يَجِبُ عِلْمُهُ، بَلْ هم مُقِيمُونَ في الأرْضِ يَلْزَمُهم ما يَلْزَمُ المُكَلَّفِينَ مِن عِباداتٍ مَخْصُوصَةٍ وأحْكامٍ لا يُدْرَكُ تَفْصِيلُها بِالعَقْلِ ﴿لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ﴾ مِن جِنْسِهِمْ مَن يُعَلِّمُهم ذَلِكَ ويُلْقِيهِ إلَيْهِمْ. ولَمّا دَعاهم ﷺ إلى الإيمانِ وتَحَدّى عَلى صِدْقِ نَبُّوتِهِ بِالمُعْجِزِ المُوافِقِ لِدَعْواهُ، أمَرَهُ تَعالى أنْ يُعْلِمَهم بِأنَّهُ تَعالى هو الشَّهِيدُ بَيْنَهُ وبَيْنَهم عَلى تَبْلِيغِهِ وما قامَ بِهِ مِن أعْباءِ الرِّسالَةِ وعَدَمِ قَبُولِهِمْ وكُفْرِهِمْ، وما اقْتَرَحُوا عَلَيْهِ مِنَ الآياتِ عَلى سَبِيلِ العِنادِ، وأرْدَفَ ذَلِكَ بِما فِيهِ تَهْدِيدٌ، وهو قَوْلُهُ: ﴿إنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيرًا﴾ بِخَفِيّاتِ أسْرارِهِمْ (بَصِيرًا) مُطْلَقًا عَلى ما يَظْهَرُ مِن أفْعالِهِمْ وأقْوالِهِمْ، والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: (ومَن يَهْدِ اللَّهُ) إخْبارٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى ولَيْسَ مُنْدَرِجًا تَحْتَ (قُلْ) لِقَوْلِهِ: ﴿ونَحْشُرُهُمْ﴾ ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مُنْدَرِجًا لِمَجِيءِ (ومِنَ) بِالواوِ، ويَكُونُ ﴿ونَحْشُرُهُمْ﴾ إخْبارًا مِنَ اللَّهِ تَعالى. وعَلى القَوْلِ الأوَّلِ يَكُونُ التِفاتًا إذْ خَرَجَ مِنَ الغَيْبَةِ لِلتَّكَلُّمِ، ولَمّا تَقَدَّمَ دَعْوَةُ الرَّسُولِ إلى الإيمانِ وتَحَدّى بِالمُعْجِزِ الَّذِي آتاهُ اللَّهُ، ولَجُّوا في كُفْرِهِمْ وعِنادِهِمْ ولَمْ يَجِدْ فِيهِمْ ما جاءَ بِهِ مِنَ الهُدى، أخْبَرَ بِأنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ راجِعٌ إلى مَشِيئَتِهِ تَعالى، وأنَّهُ هو الهادِي وهو المُفَضِّلُ، فَسَلّاهُ تَعالى بِذَلِكَ وأخْبَرَ تَعالى عَلى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ لَهم والوَعِيدِ الصِّدْقِ لِحالِهِمْ وقْتَ حَشْرِهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (ومَن يَهْدِ اللَّهُ) ومَن يُوَفِّقْهُ ويَلْطُفْ بِهِ (فَهو المُهْتَدِي) لِأنَّهُ لا يَلْطُفُ إلّا بِمَن عَرَفَ أنَّ اللُّطْفَ يَنْفَعُ فِيهِ (ومَن يُضْلِلِ) ومَن يَخْذُلْ ﴿فَلَنْ تَجِدَ لَهم أوْلِياءَ﴾ أنْصارًا. انْتَهى. وهو عَلى طَرِيقَةِ الِاعْتِزالِ ومَن مَفْعُولٌ بِيَهْدِ وبِيُضْلِلْ، وحُمِلَ عَلى اللَّفْظِ في قَوْلِهِ: (فَهو المُهْتَدِي) فَأُفْرِدَ مُلاحَظَةً لِسَبِيلِ الهُدى وهي واحِدَةٌ فَناسَبَ التَّوْحِيدُ التَّوْحِيدَ، وحُمِلَ عَلى المَعْنى في قَوْلِهِ: ﴿فَلَنْ تَجِدَ لَهم أوْلِياءَ﴾ لا عَلى اللَّفْظِ مُلاحَظَةً (p-٨٢)لِسَبِيلِ الضَّلالِ؛ فَإنَّها مُتَشَعِّبَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ فَناسَبَ التَّشْعِيبُ والتَّعْدِيدُ الجَمْعَ، وهَذا مِنَ المَواضِعِ الَّتِي جاءَ فِيها الحَمْلُ عَلى المَعْنى ابْتِداءً مِن غَيْرِ أنْ يَتَقَدَّمَ الحَمْلُ عَلى اللَّفْظِ وهي قَلِيلَةٌ في القُرْآنِ، والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: (عَلى وُجُوهِهِمْ) حَقِيقَةً، كَما قالَ تَعالى: ﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ في النّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ﴾ [القمر: ٤٨] الَّذِينَ يُحْشُرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إلى جَهَنَّمَ. وفي هَذا حَدِيثٌ «قِيلَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يَمْشِي الكافِرُ عَلى وجْهِهِ ؟ قالَ: (ألَيْسَ الَّذِي أمْشاهُ في الدُّنْيا عَلى رِجْلَيْنِ قادِرًا أنْ يُمْشِيَهُ في الآخِرَةِ عَلى وجْهِهِ») . قالَ قَتادَةُ: بَلى وعِزَّةِ رَبِّنا. وقِيلَ: (عَلى وُجُوهِهِمْ) مَجازٌ يُقالُ لِلْمُنْصَرِفِ عَنْ أمْرٍ خائِبًا مَهْمُومًا انْصَرَفَ عَلى وجْهِهِ، ويُقالُ لِلْبَعِيرِ: كَأنَّما يَمْشِي عَلى وجْهِهِ. وقِيلَ: هو مُجازٌ عَنْ سَحْبِهِمْ عَلى وُجُوهِهِمْ عَلى سُرْعَةٍ مِن قَوْلِ العَرَبِ قَدِمَ القَوْمُ عَلى وُجُوهِهِمْ إذا أسْرَعُوا. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿عُمْيًا وبُكْمًا وصُمًّا﴾ هو حَقِيقَةٌ وذَلِكَ عِنْدَ قِيامِهِمْ مِن قُبُورِهِمْ، ثُمَّ يَرُدُّ اللَّهُ إلَيْهِمْ أبْصارَهم وسَمْعَهم ونُطْقَهم فَيَرَوْنَ النّارَ ويَسْمَعُونَ زَفِيرَها ويَنْطِقُونَ بِما حَكى اللَّهُ عَنْهم. وقِيلَ: هي اسْتِعاراتٌ إمّا لِأنَّهم مِنَ الحَيْرَةِ والذُّهُولِ يُشْبِهُونَ أصْحابَ هَذِهِ الصِّفاتِ، وإمّا مِن حَيْثُ لا يَرَوْنَ ما يَسُرُّهم ولا يَسْمَعُونَهُ ولا يَنْطِقُونَ بِحُجَّةٍ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَما كانُوا في الدُّنْيا لا يَسْتَبْصِرُونَ، ولا يَنْطِقُونَ بِالحَقِّ ويَتَصامُّونَ عَنْ سَماعِهِ فَهم في الآخِرَةِ، كَذَلِكَ لا يُبْصِرُونَ ما يَقَرُّ أعْيُنَهم ولا يَسْمَعُونَ ما يَلَذُّ أسْماعَهم، ولا يَنْطِقُونَ بِما يُقْبَلُ مِنهم، ومَن كانَ في هَذِهِ أعْمى فَهو في الآخِرَةِ أعْمى. انْتَهى. وهَذا قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ والحَسَنِ قالا: المَعْنى ﴿عُمْيًا﴾ عَمّا يَسُرُّهم، (بُكْمًا) عَنِ التَّكَلُّمِ بِحُجَّةٍ ﴿صُمًّا﴾ [الفرقان: ٧٣] عَمّا يَنْفَعُهم. وقِيلَ: ﴿عُمْيًا﴾ عَنِ النَّظَرِ إلى ما جَعَلَ اللَّهُ لِأوْلِيائِهِ (بُكْمًا) عَنْ مُخاطَبَةِ اللَّهِ ﴿صُمًّا﴾ [الفرقان: ٧٣] عَمّا مَدَحَ اللَّهُ بِهِ أوْلِياءَهُ، وانْتَصَبَ ﴿عُمْيًا﴾ وما بَعْدَهُ عَلى الحالِ، والعامِلُ فِيها (نَحْشُرُهم) . وقِيلَ: يَحْصُلُ لَهم ذَلِكَ حَقِيقَةً عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿قالَ اخْسَئُوا فِيها ولا تُكَلِّمُونِ﴾ [المؤمنون: ١٠٨] فَعَلى هَذا تَكُونُ حالًا مُقَدَّرَةً؛ لِأنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُقارِنًا لَهم وقْتَ الحَشْرِ. ﴿كُلَّما خَبَتْ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كُلَّما فَرَغَتْ مِن إحْراقِهِمْ فَيَسْكُنُ اللَّهِيبُ القائِمُ عَلَيْهِمْ قَدْرَ ما يُعادُونَ، ثُمَّ يَثُورُ فَتِلْكَ زِيادَةُ السَّعِيرِ، فالزِّيادَةُ في حَيِّزِهِمْ، وأمّا جَهَنَّمُ فَعَلى حالِها مِنَ الشِّدَّةِ لا يُصِيبُها فُتُورٌ، فَعَلى هَذا يَكُونُ ﴿خَبَتْ﴾ مَجازًا عَنْ سُكُونِ لَهَبِها مِقْدارَ ما تَكُونُ إعادَتُهم، كَأنَّهم لَمّا كَذَّبُوا بِالإعادَةِ بَعْدَ الإفْناءِ جَعَلَ اللَّهُ جَزاءَهم أنْ سَلَّطَ النّارَ عَلى أجْزائِهِمْ تَأْكُلُها وتُفْنِيها ثُمَّ يُعِيدُها، لا يَزالُونَ عَلى الإفْناءِ والإعادَةِ لِيَزِيدَ ذَلِكَ في تَحْسِيرِهِمْ عَلى تَكْذِيبِهِمْ؛ ولِأنَّهُ أدْخَلُ في الِانْتِقامِ مِنَ الجاحِدِ، وقَدْ دَلَّ عَلى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (ذَلِكَ جَزاؤُهم) والإشارَةُ بِذَلِكَ إلى ما تَقَدَّمَ مِن حَشْرِهِمْ عَلى تِلْكَ الحالِ، وصَيْرُورَتِهِمْ إلى جَهَنَّمَ والعَذابِ فِيها، والآياتُ تَعُمُّ القُرْآنَ، والحُجَجَ الَّتِي جاءَ بِها الرَّسُولُ ﷺ ونَصَّ عَلى إنْكارِ البَعْثِ إذْ هو طَعْنٌ في القُدْرَةِ الإلَهِيَّةِ، وهَذا مَعَ اعْتِرافِهِمْ بِأنَّهُ تَعالى مُنْشِئُ العالَمِ ومُخْتَرِعُهُ، ثُمَّ إنَّهم يُنْكِرُونَ الإعادَةَ، فَصارَ ذَلِكَ تَعْجِيزًا لِقُدْرَتِهِ. وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى قَوْلِهِ: ﴿وقالُوا أئِذا كُنّا عِظامًا ورُفاتًا أئِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا﴾ في هَذِهِ السُّورَةِ فَأغْنى عَنْ إعادَتِهِ، ولَمّا أنْكَرُوا البَعْثَ نَبَّهَهم تَعالى عَلى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ وباهِرِ حِكْمَتِهِ، فَقالَ: (أوَلَمْ يَرَوْا) وهو اسْتِفْهامُ إنْكارٍ وتَوْبِيخٍ لَهم عَلى ما كانُوا يَسْتَبْعِدُونَهُ مِنَ الإعادَةِ، واحْتِجاجٌ عَلَيْهِمْ بِأنَّهم قَدْ رَأوْا قُدْرَةَ اللَّهِ عَلى خَلْقِ هَذِهِ الأجْرامِ العَظِيمَةِ الَّتِي بَعْضُ ما تَحْوِيهِ البَشَرُ، فَكَيْفَ يُقِرُّونَ بِخَلْقِ هَذا المَخْلُوقِ العَظِيمِ، ثُمَّ يُنْكِرُونَ إعادَةَ بَعْضٍ مِمّا خَلَقَ، وذَلِكَ مِمّا لا يُحِيلُهُ العَقْلُ بَلْ هو مِمّا يُجَوِّزُهُ، ثُمَّ أخْبَرَ الصّادِقُ بِوُقُوعِهِ فَوَجَبَ قَبُولُهُ، والرُّؤْيَةُ هُنا رُؤْيَةُ القَلْبِ وهي العِلْمُ، ومَعْنى (مِثْلُهم) مِنَ الإنْسِ؛ لِأنَّهم لَيْسُوا أشَدَّ خَلْقًا مِنهُنَّ، كَما قالَ: ﴿أأنْتُمْ أشَدُّ خَلْقًا أمِ السَّماءُ﴾ [النازعات: ٢٧] وإذا كانَ قادِرًا عَلى إنْشاءِ أمْثالِهِمْ مِنَ الإنْسِ مِنَ العَدَمِ الصِّرْفِ فَهو قادِرٌ عَلى أنْ يُعِيدَهم، كَما قالَ: ﴿وهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ [الروم: ٢٧] وهو أهْوَنُ عَلَيْهِ، وعَطَفَ قَوْلَهُ: ﴿وجَعَلَ لَهُمْ﴾ عَلى قَوْلِهِ: (أوَلَمْ يَرَوْا) لِأنَّهُ اسْتِفْهامٌ تَضَمَّنَ التَّقْرِيرَ (p-٨٣)والمَعْنى قَدْ عَلِمُوا بِدَلِيلِ العَقْلِ كَيْتَ وكَيْتَ ﴿وجَعَلَ لَهُمْ﴾ أيْ: لِلْعالَمِينَ ذَلِكَ ﴿أجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ﴾ وهو المَوْتُ أوِ القِيامَةُ، ولَيْسَ هَذا الجَعْلُ واحِدًا في الِاسْتِفْهامِ المُتَضَمِّنِ التَّقْرِيرَ، أوْ إنْ كانَ الأجَلُ القِيامَةَ لِأنَّهم مُنْكِرُوها، وإذا كانَ الأجَلُ المَوْتَ فَهو اسْمُ جِنْسٍ واقِعُ مَوْقِعَ آجالٍ: ﴿فَأبى الظّالِمُونَ﴾ وهُمُ الواضِعُونَ الشَّيْءَ غَيْرَ مَوْضِعِهِ عَلى سَبِيلِ الِاعْتِداءِ (إلّا كُفُورًا) حُجُودًا لِما أتى بِهِ الصّادِقُ مِن تَوْحِيدِ اللَّهِ، وإفْرادِهِ بِالعِبادَةِ، وبَعْثِهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ لِلْجَزاءِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب