الباحث القرآني

﴿قُلْ﴾ لَهم أوَّلًا مِن قِبَلِنا تَبْيِينًا لِلْحِكْمَةِ وتَحْقِيقًا لِلْحَقِّ المُزِيحِ لِلرَّيْبِ ﴿لَوْ كانَ﴾ أيْ: لَوْ وُجِدَ ﴿فِي الأرْضِ﴾ بَدَلَ البَشَرِ ﴿مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ﴾ كَما يَمْشِي البَشَرُ ولا يَطِيرُونَ إلى السَّماءِ فَيَسْمَعُوا مِن أهْلِها ويَعْلَمُوا ما يَجِبُ عِلْمُهُ ﴿مُطْمَئِنِّينَ﴾ ساكِنِينَ مُقِيمِينَ فِيها، وقالَ الجُبّائِيُّ: أيْ مُطْمَئِنِّينَ إلى الدُّنْيا ولَذّاتِها غَيْرَ خائِفِينَ ولا مُتَعَبِّدِينَ بِشَرْعٍ، لِأنَّ المُطْمَئِنَّ مَن زالَ الخَوْفُ عَنْهُ ﴿لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكًا رَسُولا﴾ يُعَلِّمُهم ما لا تَسْتَقِلُّ قُدُرُهم بِعِلْمِهِ لِيَسْهُلَ عَلَيْهِمُ الِاجْتِماعُ بِهِ والتَّلَقِّي مِنهُ، وأمّا عامَّةُ البَشَرِ فَلا يَسْهُلُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ لِبُعْدِ ما بَيْنَ المَلَكِ وبَيْنَهم فَلا يُبْعَثُ إلَيْهِمْ وإنَّما يُبْعَثُ إلى خَواصِّهِمْ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ وهَبَهم نُفُوسًا زَكِيَّةً وأيَّدَهم بِقُوًى قُدْسِيَّةٍ وجَعَلَ لَهم جِهَتَيْنِ جِهَةً مَلَكِيَّةً بِها مِنَ المَلَكِ يَسْتَفِيضُونَ وُجْهَةً بَشَرِيَّةً بِها عَلى البَشَرِ يُفِيضُونَ، وجَعْلُ كُلِّ البَشَرِ كَذَلِكَ مُخِلٌّ بِالحِكْمَةِ، وأنْزَلَ المَلَكَ عَلَيْهِمْ عَلى وجْهٍ يَسْهُلُ التَّلَقِّي مِنهُ بِأنْ يَظْهَرَ لَهم بِصُورَةِ بَشَرٍ كَما ظَهَرَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ مِرارًا في صُورَةِ دِحْيَةَ الكَلْبِيِّ. وقَدْ صَحَّ أنَّ أعْرابِيًّا جاءَ وعَلَيْهِ أثَرُ السَّفَرِ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَسَألَهُ عَنِ الإسْلامِ والإيمانِ والإحْسانِ وغَيْرِها فَأجابَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِما أجابَهُ ثُمَّ انْصَرَفَ ولَمْ يَعْرِفْهُ أحَدٌ مِنَ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُمْ، فَقالَ ﷺ: هَذا جِبْرِيلُ جاءَكم يُعَلِّمُكم أمْرَ دِينِكم مِمّا لا يُجْدِي نَفْعًا لِأُولَئِكَ الكَفَرَةِ كَما قالَ تَعالى جَدُّهُ: ﴿ولَوْ جَعَلْناهُ مَلَكًا لَجَعَلْناهُ رَجُلا ولَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ﴾ . وقِيلَ: عِلَّةُ تَنْزِيلِ المَلَكِ عَلَيْهِمْ أنِ الجِنْسَ إلى الجِنْسِ أمْيَلُ وهو بِهِ آنَسُ، ولَعَلَّ الأوَّلَ أوْلى وإنَّ زُعِمَ خِلافُهُ. وحَكى الطَّبَرْسِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أنَّهُ قالَ في الآيَةِ: إنَّ العَرَبَ قالُوا: كُنّا ساكِنِينَ مُطَمْئِنِينَ فَجاءَ مُحَمَّدٌ ﷺ فَأزْعَجَنا وشَوَّشَ عَلَيْنا أمْرَنا فَبَيَّنَ سُبْحانَهُ أنَّهُ لَوْ كانَ مَلائِكَةٌ مُطْمَئِنِّينَ لَأوْجَبَتِ الحِكْمَةُ إرْسالَ الرُّسُلِ إلَيْهِمْ ولَمْ يَمْنَعِ اطْمِئْنانُهُمُ الإرْسالَ فَكَذَلِكَ النّاسُ لا يَمْنَعُ كَوْنُهم مُطْمَئِنِّينَ إرْسالَ الرُّسُلِ إلَيْهِمْ، وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ هَذا بِمَراحِلَ عَنِ السِّياقِ ولا يَصِحُّ فِيهِ أثَرٌ كَما لا يَخْفى عَلى المُتَتَبِّعِ. ونَصْبُ ﴿مَلَكًا﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ عَلى الحالِيَّةِ مِن «رَسُولًا» الواقِعِ مَفْعُولًا لِنَزَّلْنا وسَوَّغَ ذَلِكَ التَّقَدُّمُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ عَلى المَفْعُولِيَّةِ لِنَزَّلْنا ورَسُولًا صِفَةٌ لَهُ، وكَذا الكَلامُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولا﴾، ورَجَّحَ غَيْرُ واحِدٍ الأوَّلَ بِأنَّهُ أكْثَرُ مُوافَقَةً لِلْمَقامِ وأنْسَبُ، ووَجَّهَ ذَلِكَ القُطْبُ وصاحِبُ التَّقْرِيبِ بِأنَّهُ عَلى الحالِيَّةِ يُفِيدُ المَقْصُودَ بِمَنطُوقِهِ وعَلى الوَصْفِيَّةِ يُفِيدُ خِلافَ المَقْصُودِ بِمَفْهُومِهِ، أمّا الأوَّلُ فَلِأنَّ مَنطُوقَهُ أبَعَثَ اللَّهُ تَعالى رَسُولًا حالَ كَوْنِهِ بَشَرًا لا مَلَكًا ولَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ رَسُولًا حالَ كَوْنِهِ مَلَكًا لا بَشَرًا وهو المَقْصُودُ، وأمّا الثّانِي فَلِأنَّ التَّقْيِيدَ بِالصِّفَةِ يُفِيدُ أبَعَثَ اللَّهُ تَعالى بَشَرًا مُرْسَلًا لا بَشَرًا غَيْرَ مُرْسَلٍ ولَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مَلَكًا مُرْسَلًا لا مَلَكًا غَيْرَ مُرْسَلٍ وهو خِلافُ المَقْصُودِ بَلْ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، وقالَ صاحِبُ الكَشْفِ تَبَعًا لِشَيْخِهِ العَلّامَةِ الطِّيبِيِّ في ذَلِكَ: لِأنَّ التَّقْدِيمَ إزالَةٌ عَنْ مَوْضِعِهِ الأصْلِيِّ دَلالَةً عَلى أنَّهُ مَصَبُّ الإنْكارِ في الأوَّلِ أعْنِي أبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا فَيَدُلُّ عَلى أنَّ البَشَرِيَّةَ مُنافِيَةٌ لِهَذا الثّابِتِ - أعْنِي الرِّسالَةَ - كَما تَقُولُ: أضَرَبْتَ قائِمًا زَيْدًا، ولَوْ قُلْتُ: أضَرَبْتَ زِيادًا قائِمًا، أوِ القائِمَ لَمْ يُفِدْ تِلْكَ الفائِدَةَ؛ لِأنَّ الأوَّلَ يُفِيدُ أنَّ المُنْكِرَ ضَرَبَهُ قائِمًا لا الضَّرْبَ مُطْلَقًا، والثّانِي يُفِيدُ أنَّ المُنْكِرَ ضَرْبُ زَيْدٍ لِاتِّصافِهِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ المانِعَةِ ولا يُفِيدُ أنَّ أصْلَ الضَّرْبِ حَسَنٌ ومُسَلَّمٌ، والجِهَةُ مُنْكِرَةٌ هَذا إنْ جُعِلَ التَّقْدِيمُ لِلْحَصْرِ (p-173)وإنْ جُعِلَ لِلِاهْتِمامِ دَلَّ عَلى كَوْنِهِ مَصَبَّ الإنْكارِ، وإنْ لَمْ يَدُلَّ عَلى ثُبُوتِ مُقابِلِهِ، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ فائِدَةُ التَّقْدِيمِ لائِحَةٌ اه، وهو أكْثَرُ تَحْقِيقًا. واسْتَشْكَلَ بَعْضُهم هَذِهِ الآيَةَ بِأنَّها ظاهِرَةٌ في أنَّهُ إنَّما يُرْسِلُ إلى كُلِّ قَبِيلٍ ما يُناسِبُهُ ويُجانِسُهُ كالبَشَرِ لِلْبَشَرِ والمَلَكِ لِلْمَلَكِ ولا يُرْسِلُ إلى قَبِيلٍ ما لا يُناسِبُهُ ولا يُجانِسُهُ وهو يُنافِي كَوْنَهُ ﷺ مُرْسَلًا إلى الجِنِّ كالإنْسِ إجْماعًا مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ فَيَكْفُرُ مُنْكِرُهُ، ومَن نازَعَ في ذَلِكَ وهِمَ وأُجِيبَ بِمَنعِ كَوْنِها ظاهِرَةً في ذَلِكَ بَلْ قُصارى ما تَدُلُّ عَلَيْهِ أنَّ القَوْلَ أنْكَرُوا أنْ يَبْعَثَ اللَّهُ تَعالى إلى البَشَرِ بَشَرًا وزَعَمُوا أنَّهُ يَجِبُ أنْ يَكُونَ المَبْعُوثُ إلَيْهِمْ مَلَكا ومَرامُهم نَفْيُ أنْ يَكُونَ النَّبِيُّ ﷺ مَبْعُوثًا إلَيْهِمْ فَأُجِيبُوا بِما حاصِلُهُ أنَّ الحِكْمَةَ تَقْتَضِي بَعْثَ المَلَكِ إلى المَلائِكَةِ لِوُجُودِ المُناسَبَةِ المُصَحِّحَةِ لِلتَّلَقِّي لا إلى عامَّةِ البَشَرِ لِانْتِفاءِ تِلْكَ المُناسَبَةِ فَأمْرُ الوُجُوبِ الَّذِي يَزْعُمُونَهُ بِالعَكْسِ ولَيْسَ في هَذا أكْثَرُ مِنَ الدَّلالَةِ عَلى أنَّ أمْرَ البَعْثِ مَنُوطٌ بِوُجُودِ المُناسَبَةِ فَمَتى وُجِدَتْ صَحَّ البَعْثُ ومَتى لَمْ تُوجَدْ لا يَصِحُّ البَعْثُ وأنَّها مَوْجُودَةٌ بَيْنَ المَلَكِ والمَلَكِ لا بَيْنَهُ وبَيْنَ عامَّةِ البَشَرِ كالمُنْكِرِينَ المَذْكُورِينَ وهَذا لا يُنافِي بِعْثَتَهُ ﷺ إلى الجِنِّ لِأنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مَتى صَحَّ فِيهِ المُناسِبَةُ المُصَحِّحَةُ لِلِاجْتِماعِ مَعَ المَلَكِ والتَّلَقِّي مِنهُ صَحَّ فِيهِ المُناسَبَةُ المُصَحِّحَةُ لِلِاجْتِماعِ مَعَ الجِنِّ والإلْقاءِ إلَيْهِمْ كَيْفَ لا وهو عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ نُسْخَةُ اللَّهِ تَعالى الجامِعَةُ وآيَتُهُ الكُبْرى السّاطِعَةُ، وإذا قُلْنا إنَّ اجْتِماعَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِالجِنِّ وإلْقاءَهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ تَشَكُّلِهِمْ لَهُ فَأمْرُ المُناسَبَةِ أظْهَرُ ولَيْسَ تَشَكُّلُ المَلَكِ لَوْ أُرْسِلَ إلى البَشَرِ بِمُجْدٍ لِما سَمِعْتَ آنِفًا، ويُقالُ نَحْوُ هَذا في إرْسالِهِ ﷺ إلى المَلائِكَةِ لِما فِيهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن قُوَّةِ الإلْقاءِ إلَيْهِمْ كالتَّلَقِّي مِنهُمْ، وإلى كَوْنِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مُرْسَلًا إلَيْهِمْ ذَهَبَ مِنَ الشّافِعِيَّةِ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ والبارِزِيُّ والجَلالُ المَحَلِّيُّ في خَصائِصِهِ، ومِنَ الحَنابِلَةِ ابْنُ تَيْمِيَةَ وابْنُ مُفْلِحٍ في كِتابِ الفُرُوعِ، ومِنَ المالِكِيَّةِ عَبْدُ الحَقِّ، وقالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ: لا نِزاعَ بَيْنَ العُلَماءِ في جِنْسِ تَكْلِيفِهِمْ بِالأمْرِ والنَّهْيِ. وقالَ إبْراهِيمُ اللَّقّانِيُّ: لا شَكَّ في ثُبُوتِ أصْلِ التَّكْلِيفِ بِالطّاعاتِ العَمَلِيَّةِ في حَقِّهِمْ، وأمّا نَحْوَ الإيمانِ فَهو فِيهِمْ ضَرُورِيٌّ فَيَسْتَحِيلُ تَكْلِيفُهم بِهِ، وقالَ السُّبْكِيُّ في فَتاوِيهِ: الجِنُّ مُكَلَّفُونَ بِكُلِّ شَيْءٍ مِن هَذِهِ الشَّرِيعَةِ لِأنَّهُ إذا ثَبَتَ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مُرْسَلٌ إلَيْهِمْ كَما هو مُرْسَلٌ إلى الإنْسِ وأنَّ الدَّعْوَةَ عامَّةٌ والشَّرِيعَةُ كَذَلِكَ لَزِمَتْهم جَمِيعُ التَّكالِيفِ الَّتِي تُوجَدُ فِيهِمْ أسْبابُها لا أنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلى تَخْصِيصِ بَعْضِها فَنَقُولُ: إنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والزَّكاةُ إنْ مَلَكُوا نِصابًا بِشَرْطِهِ والحَجُّ وصَوْمُ رَمَضانَ وغَيْرُها مِنَ الواجِباتِ ويَحْرُمُ عَلَيْهِمْ كُلُّ حَرامٍ في الشَّرِيعَةِ بِخِلافِ المَلائِكَةِ فَإنّا لا نَلْتَزِمُ أنَّ هَذِهِ التَّكالِيفَ كُلَّها ثابِتَةٌ في حَقِّهِمْ إذا قُلْنا بِعُمُومِ الرِّسالَةِ إلَيْهِمْ بَلْ يُحْتَمَلُ ذَلِكَ ويُحْتَمَلُ الرِّسالَةُ في شَيْءٍ خاصٍّ اه. ولا مانِعَ مِن أنْ يُكَلِّفَهم كُلَّهم بِما جاءَهُ مِن رَبِّهِ جَلَّ جَلالُهُ بِواسِطَةِ بَعْضِهِمْ عَلى أنَّهُ لَيْسَ كُلُّ ما جاءَ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ حاصِلًا بِوَساطَةِ المَلَكِ فَيُمْكِنُ أنْ يَكُونَ ما كُلِّفُوا بِهِ لَمْ يَكُنْ بِوَساطَةِ أحَدٍ مِنهُمْ، وأنْكَرَ بَعْضُهم إرْسالَهُ ﷺ إلَيْهِمْ وبِعَدَمِ الإرْسالِ إلَيْهِمْ جَزَمَ الحَلِيمِيُّ والبَيْهَقِيُّ مِنَ الشّافِعِيَّةِ ومَحْمُودُ بْنُ حَمْزَةَ الكَرْمائِيُّ في كِتابِهِ: «العَجائِبُ والغَرائِبُ» مِنَ الحَنَفِيَّةِ بَلْ نَقَلَ البُرْهانُ النَّسَفِيُّ والفَخْرُ الرّازِيُّ في تَفْسِيرَيْهِما الإجْماعَ عَلَيْهِ وجَزَمَ بِهِ مِنَ المُتَأخِّرِينَ زَيْنُ الدَّيْنِ العِراقِيُّ في نُكَتِهِ عَلى ابْنِ الصَّلاحِ والجَلالُ المَحَلِّيُّ في شَرْحِ جَمْعِ الجَوامِعِ، وصَرِيحُ آيَةِ: ﴿لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيرًا﴾ إذِ العالَمُ ما سِوى اللَّهِ تَعالى وصِفاتِهِ، وخَبَرُ مُسْلِمٍ: أُرْسِلْتُ إلى الخَلْقِ كافَّةً يُؤَيِّدُ المَذْهَبَ الأوَّلَ، نَعَمْ اسْتَدَلَّ أهْلُ هَذا المَذْهَبِ بِما اسْتَدَلُّوا بِهِ وفِيهِ ما فِيهِ، وقَدِ ادَّعى (p-174)بَعْضُ النّاسِ أنَّ الآيَةَ تُؤَيِّدُ مَذْهَبَهم لِأنَّهُ تَعالى خَصَّ فِيها المَلَكَ بِالإرْسالِ إلى المَلائِكَةِ فَيَتَعَيَّنُ أنْ يَكُونَ هو الرَّسُولَ إلَيْهِمْ لا البَشَرُ سَواءٌ كانَ بَيْنَهُ وبَيْنَهم مُناسَبَةٌ أمْ لا، وقَدْ سَمِعْتَ ما نُقِلَ عَنِ العَلّامَةِ القُطْبِ وصاحِبِ التَّقْرِيبِ مِن أنَّ المُرادَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ رَسُولًا حالَ كَوْنِهِ مَلَكًا لا بَشَرًا، وأُجِيبَ بِأنَّهُ بَعْدَ إرْخاءِ العِنانِ لا تَدُلُّ الآيَةُ إلّا عَلى تَعْيِينِ إرْسالِ المَلَكِ إلى المَلائِكَةِ إذا كانُوا في الأرْضِ يَمْشُونَ مُطَمْئِنِينَ بَدَلَ البَشَرِ، ولا يَلْزَمُ مِنهُ أنْ لا يَصِحَّ إرْسالُ البَشَرِ إلَيْهِمْ إذا لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ لِجَوازِ أنْ يَكُونَ حِكْمَةُ التَّعْيِينِ في الصُّورَةِ الأُولى سِوى المُناسَبَةِ المُتَرَتِّبِ عَلَيْها سُهُولَةُ الِاجْتِماعِ والتَّلَقِّي شَيْءٌ آخَرُ لا يُوجَدُ في الصُّورَةِ الثّانِيَةِ وذَلِكَ أنَّهُ إذا كانَ أهْلُ الأرْضِ مَلائِكَةً وأُرْسِلَ إلَيْهِمْ بَشَرٌ لَهُ قُوَّةُ الإلْقاءِ إلَيْهِمْ والإفاضَةُ عَلَيْهِمْ، نَحْوَ إرْسالِ رُسُلِ البَشَرِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ إلَيْهِمْ صَعُبَ بِحَسْبِ الطَّبْعِ عَلى ذَلِكَ الرَّسُولِ بَقاؤُهُ مَعَهم زَمَنًا يُعْتَدُّ بِهِمْ كَما يَبْقى رُسُلُ البَشَرِ مَعَ البَشَرِ كَذَلِكَ إلّا أنْ يُجْعَلَ مُشارِكًا لَهم فِيما جُبِلُوا عَلَيْهِ ويَلْحَقَ بِهِمْ وهو أشْبَهُ شَيْءٍ بِإخْراجِهِ عَنِ الطَّبِيعَةِ البَشَرِيَّةِ بِالمَرَّةِ فَيَكُونُ العُدُولُ عَنْ إرْسالِ مَلَكٍ إلى إرْسالِهِ أشْبَهَ شَيْءٍ بِالعَبَثِ المُنافِي لِلْحِكْمَةِ اه فَتَدَبَّرْ. فَلَعَلَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ يَمُنُّ عَلَيْكَ بِما يَرْوِي الغَلِيلَ وتَأمَّلْ في جَمِيعِ ما تَقَدَّمَ فَلَعَلَّكَ تُوَفَّقُ بِعَوْنِ اللَّهِ تَعالى إلى الجَرْحِ والتَّعْدِيلِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب