الباحث القرآني

. حَكى سُبْحانَهُ عَنْهم شُبْهَةً أُخْرى قَدْ تَكَرَّرَ في الكِتابِ العَزِيزِ التَّعَرُّضُ لِإيرادِها ورَدِّها في غَيْرِ مَوْضِعٍ فَقالَ: ﴿وما مَنَعَ النّاسَ أنْ يُؤْمِنُوا﴾ المُرادُ النّاسُ عَلى العُمُومِ، وقِيلَ: المُرادُ أهْلُ مَكَّةَ عَلى الخُصُوصِ: أيْ: ما مَنَعَهُمُ الإيمانَ بِالقُرْآنِ وبِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - وهو المَفْعُولُ الثّانِي لِمَنَعَ، ومَعْنى ﴿إذْ جاءَهُمُ الهُدى﴾ أنَّهُ جاءَهُمُ الوَحْيُ مِنَ اللَّهِ سُبْحانَهُ عَلى رَسُولِهِ، وبَيَّنَ ذَلِكَ لَهم وأرْشَدَهم إلَيْهِ، وهو ظَرْفٌ لِمَنَعَ أوْ يُؤْمِنُوا أيْ: ما مَنَعَهم وقْتَ مَجِيءِ الهُدى أنْ يُؤْمِنُوا بِالقُرْآنِ والنُّبُوَّةِ ( ﴿إلّا أنْ قالُوا﴾ ) أيْ: ما مَنَعَهم إلّا قَوْلُهم، فَهو في مَحَلِّ رَفْعٍ عَلى أنَّهُ فاعِلُ مَنَعَ، والهَمْزَةُ في ﴿أبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا﴾ لِلْإنْكارِ مِنهم أنْ يَكُونَ الرَّسُولُ بَشَرًا، والمَعْنى: أنَّ هَذا الِاعْتِقادَ الشّامِلَ لَهم، وهو إنْكارُ أنْ يَكُونَ الرَّسُولُ مِن جِنْسِ البَشَرِ، هو الَّذِي مَنَعَهم عَنِ الإيمانِ بِالكِتابِ وبِالرَّسُولِ، وعَبَّرَ عَنْهُ بِالقَوْلِ لِلْإشْعارِ بِأنَّهُ لَيْسَ إلّا مُجَرَّدُ قَوْلٍ قالُوهُ بِأفْواهِهِمْ. ثُمَّ أمَرَ رَسُولَهُ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - أنْ يُجِيبَ عَنْ شُبْهَتِهِمْ هَذِهِ فَقالَ: ﴿قُلْ لَوْ كانَ في الأرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ﴾ أيْ: لَوْ وُجِدَ وثَبَتَ أنَّ في الأرْضِ بَدَلُ مَن فِيها مِنَ البَشَرِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ عَلى الأقْدامِ كَما يَمْشِي الإنْسُ مُطَمْئِنِّينَ مُسْتَقِرِّينَ فِيها ساكِنِينَ بِها. قالَ الزَّجّاجُ: ( ﴿مُطْمَئِنِّينَ﴾ ) مُسْتَوْطِنِينَ في الأرْضِ، ومَعْنى الطُّمَأْنِينَةِ السُّكُونُ، فالمُرادُ هاهُنا المَقامُ والِاسْتِيطانُ، فَإنَّهُ يُقالُ: سَكَنَ البَلَدَ فُلانٌ: إذا أقامَ فِيها وإنْ كانَ ماشِيًا مُتَقَّلِبًا في حاجاتِهِ ﴿لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكًا رَسُولًا﴾ حَتّى يَكُونَ مِن جِنْسِهِمْ. وفِيهِ إعْلامٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحانَهُ بِأنَّ الرُّسُلَ يَنْبَغِي أنْ تَكُونَ مِن جِنْسِ المُرْسَلِ إلَيْهِمْ، فَكَأنَّهُ سُبْحانَهُ اعْتَبَرَ في تَنْزِيلِ الرَّسُولِ مِن (p-٨٤٤)جِنْسِ المَلائِكَةِ أمْرَيْنِ: الأوَّلُ: كَوْنُ سُكّانِ الأرْضِ مَلائِكَةً. والثّانِي: كَوْنُهم ماشِينَ عَلى الأقْدامِ غَيْرَ قادِرِينَ عَلى الطَّيَرانِ بِأجْنِحَتِهِمْ إلى السَّماءِ، إذْ لَوْ كانُوا قادِرِينَ عَلى ذَلِكَ لَطارُوا إلَيْها وسَمِعُوا مِن أهْلِها ما يَجِبُ مَعْرِفَتُهُ وسَماعُهُ فَلا يَكُونُ في بَعْثَةِ المَلائِكَةِ إلَيْهِمْ فائِدَةٌ. وانْتِصابُ ( بَشَرًا ومَلَكًا ) عَلى أنَّهُما مَفْعُولانِ لِلْفِعْلَيْنِ، و( رَسُولًا ) في المَوْضِعَيْنِ وصْفٌ لَهُما. وجَوَّزَ صاحِبُ الكَشّافِ أنْ يَكُونا حالَيْنِ في المَوْضِعَيْنِ مِن ( رَسُولًا ) فِيهِما، وقَوّاهُ صاحِبُ الكَشّافِ، ولَعَلَّ وجْهَ ذَلِكَ أنَّ الإنْكارَ يَتَوَجَّهُ إلى الرَّسُولِ المُتَّصِفِ بِالبَشَرِيَّةِ في المَوْضِعِ الأوَّلِ، فَيَلْزَمُ بِحُكْمِ التَّقابُلِ أنْ يَكُونَ الآخَرُ كَذَلِكَ. ثُمَّ خَتَمَ الكَلامَ بِما يَجْرِي مَجْرى التَّهْدِيدِ، فَقالَ: ﴿قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وبَيْنَكُمْ﴾ أيْ: قُلْ لَهم يا مُحَمَّدُ مِن جِهَتِكَ: كَفى بِاللَّهِ وحْدَهُ شَهِيدًا عَلى إبْلاغِي إلَيْكم ما أمَرَنِي بِهِ مِن أُمُورِ الرِّسالَةِ، وقالَ: بَيْنِي وبَيْنَكم ولَمْ يَقُلْ بَيْنَنا تَحْقِيقًا لِلْمُفارَقَةِ الكُلِّيَّةِ، وقِيلَ: إنَّ إظْهارَ المُعْجِزَةِ عَلى وفْقِ دَعْوى النَّبِيِّ شَهادَةٌ مِنَ اللَّهِ لَهُ عَلى الصِّدْقِ، ثُمَّ عَلَّلَ كَوْنَهُ سُبْحانَهُ شَهِيدًا كافِيًا بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾ أيْ: عالِمًا بِجَمِيعِ أحْوالِهِمْ مُحِيطًا بِظَواهِرِها وبَواطِنِها، بَصِيرًا بِما كانَ مِنها وما يَكُونُ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحانَهُ أنَّ الإقْرارَ والإنْكارَ مُسْتَنِدانِ إلى مَشِيئَتِهِ فَقالَ: ﴿ومَن يَهْدِ اللَّهُ فَهو المُهْتَدِي﴾ أيْ: مَن يُرِدِ اللَّهُ هِدايَتَهُ فَهو المُهْتَدِي إلى الحَقِّ أوْ إلى كُلِّ مَطْلُوبٍ ( ﴿ومَن يُضْلِلْ﴾ ) أيْ: يُرِدْ إضْلالَهُ ﴿فَلَنْ تَجِدَ لَهم أوْلِياءَ﴾ يَنْصُرُونَهم ( ﴿مِن دُونِهِ﴾ ) يَعْنِي اللَّهَ سُبْحانَهُ. ويَهْدُونَهم إلى الحَقِّ الَّذِي أضَلَّهُمُ اللَّهُ عَنْهُ أوْ إلى طَرِيقِ النَّجاةِ، وقَوْلُهُ: ( ﴿فَهُوَ المُهْتَدِي﴾ ) حَمْلًا عَلى لَفْظِ ( مَن )، وقَوْلُهُ: ( ﴿فَلَنْ تَجِدَ لَهم﴾ ) حَمْلًا عَلى المَعْنى، والخِطابُ في قَوْلِهِ: ( ﴿فَلَنْ تَجِدَ﴾ ) إمّا لِلنَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - أوْ لِكُلِّ مَن يَصْلُحُ لَهُ ﴿ونَحْشُرُهم يَوْمَ القِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ﴾ هَذا الحَشْرُ عَلى الوُجُوهِ فِيهِ وجْهانِ لِلْمُفَسِّرِينَ: الأوَّلُ: أنَّهُ عِبارَةٌ عَنِ الإسْراعِ بِهِمْ إلى جَهَنَّمَ، مِن قَوْلِ العَرَبِ: قَدْ مَرَّ القَوْمُ عَلى وُجُوهِهِمْ: إذا أسْرَعُوا. الثّانِي: أنَّهم يُسْحَبُونَ يَوْمَ القِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ حَقِيقَةً كَما يُفْعَلُ في الدُّنْيا بِمَن يُبالَغُ في إهانَتِهِ وتَعْذِيبِهِ، وهَذا هو الصَّحِيحُ، لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ في النّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ﴾ [القمر: ٤٨]، ولِما صَحَّ في السُّنَّةِ كَما سَيَأْتِي، ومَحَلُّ ( ﴿عَلى وُجُوهِهِمْ﴾ ) النَّصْبُ عَلى الحالِ مِن ضَمِيرِ المَفْعُولِ و( ﴿عُمْيًا﴾ ) مُنْتَصِبٌ عَلى الحالِ ( ﴿وبُكْمًا وصُمًّا﴾ ) مَعْطُوفانِ عَلَيْهِ، والأبْكَمُ: الَّذِي لا يَنْطِقُ، والأصَمُّ: الَّذِي لا يَسْمَعُ، وهَذِهِ هَيْئَةٌ يُبْعَثُونَ عَلَيْها في أقْبَحِ صُورَةٍ، وأشْنَعِ مَنظَرٍ، قَدْ جَمَعَ اللَّهُ لَهم بَيْنَ عَمى البَصَرِ وعَدَمِ النُّطْقِ وعَدَمِ السَّمْعِ مَعَ كَوْنِهِمْ مَسْحُوبِينَ عَلى وُجُوهِهِمْ، ثُمَّ مِن وراءِ ذَلِكَ ( ﴿مَأْواهم جَهَنَّمُ﴾ ) أيْ: المَكانُ الَّذِي يَأْوُونَ إلَيْهِ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ أوْ هي مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَها ﴿كُلَّما خَبَتْ زِدْناهم سَعِيرًا﴾ أيْ: كُلَّما سَكَنَ لَهَبُها، يُقالُ: خَبَتِ النّارُ تَخْبُو خَبْوًا: إذا خَمَدَتْ وسَكَنَ لَهَبُها. قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ ومَعْنى ( ﴿زِدْناهم سَعِيرًا﴾ ) تَسَعُّرًا، وهو التَّلَهُّبُ. وقَدْ قِيلَ: إنَّ في خَبْوِ النّارِ تَخْفِيفًا لِعَذابِ أهْلِها، فَكَيْفَ يُجْمَعُ بَيْنَهُ وبَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العَذابُ﴾ [البقرة: ١٦٢] ؟ وأُجِيبَ بِأنَّ المُرادَ بِعَدَمِ التَّخْفِيفِ أنَّهُ لا يَتَخَلَّلُ زَمانٌ مَحْسُوسٌ بَيْنَ الخَبْوِ والتَّسَعُّرِ، وقِيلَ: إنَّها تَخْبُو مِن غَيْرِ تَخْفِيفٍ عَنْهم مِن عَذابِها. ( ذَلِكَ ) أيْ: العَذابُ ( ﴿جَزاؤُهُمْ﴾ ) الَّذِي أوْجَبَهُ اللَّهُ لَهم واسْتَحَقُّوهُ عِنْدَهُ، والباءُ في قَوْلِهِ: ﴿بِأنَّهم كَفَرُوا بِآياتِنا﴾ لِلسَّبَبِيَّةِ أيْ: بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ بِها، فَلَمْ يُصَدِّقُوا بِالآياتِ التَّنْزِيلِيَّةِ ولا تَفَكَّرُوا في الآياتِ التَّكْوِينِيَّةِ، واسْمُ الإشارَةِ مُبْتَدَأٌ وخَبَرُهُ ( ﴿جَزاؤُهُمْ﴾ ) و( ﴿بِأنَّهم كَفَرُوا﴾ ) خَبَرٌ آخَرُ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ( ﴿جَزاؤُهُمْ﴾ ) مُبْتَدَأً ثانِيًا وخَبَرُهُ ما بَعْدَهُ، والجُمْلَةُ خَبَرُ المُبْتَدَأِ الأوَّلِ ﴿وقالُوا أئِذا كُنّا عِظامًا ورُفاتًا﴾ الهَمْزَةُ لِلْإنْكارِ، وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الآيَةِ في هَذِهِ السُّورَةِ، و( خَلْقًا ) في قَوْلِهِ: ﴿أئِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا﴾ مَصْدَرٌ مِن غَيْرِ لَفْظِهِ أوْ حالٌ، أيْ: مَخْلُوقِينَ. فَجاءَ سُبْحانَهُ بِحُجَّةٍ تَدْفَعُهم عَنِ الإنْكارِ وتَرُدُّهم عَنِ الجُحُودِ. فَقالَ: ﴿أوَلَمْ يَرَوْا أنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَواتِ والأرْضَ قادِرٌ عَلى أنْ يَخْلُقَ مِثْلَهم﴾ أيْ: مَن هو قادِرٌ عَلى خَلْقِ هَذا، فَهو عَلى إعادَةِ ما هو أدْوَنُ مِنهُ أقْدَرُ، وقِيلَ: المُرادُ أنَّهُ قادِرٌ عَلى إفْنائِهِمْ وإيجادِ غَيْرِهِمْ، وعَلى القَوْلِ الأوَّلِ يَكُونُ الخَلْقُ بِمَعْنى الإعادَةِ، وعَلى هَذا القَوْلِ هو عَلى حَقِيقَتِهِ، وجُمْلَةُ ﴿وجَعَلَ لَهم أجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ﴾ عَطْفٌ عَلى ( أوَلَمْ يَرَوْا ) والمَعْنى: قَدْ عَلِمُوا بِدَلِيلِ العَقْلِ أنَّ مَن قَدَرَ عَلى خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ فَهو قادِرٌ عَلى خَلْقِ أمْثالِهِمْ؛ لِأنَّهم لَيْسُوا بِأشَدِّ خَلْقًا مِنهُنَّ كَما قالَ: ﴿أأنْتُمْ أشَدُّ خَلْقًا أمِ السَّماءُ﴾ [النازعات: ٢٧] ﴿وجَعَلَ لَهم أجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ﴾ وهو المَوْتُ أوِ القِيامَةُ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ الواوُ لِلِاسْتِئْنافِ، وقِيلَ: في الكَلامِ تَقْدِيمٌ وتَأْخِيرٌ أيْ: أوَلَمْ يَرَوْا أنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ وجَعَلَ لَهم أجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ قادِرٌ عَلى أنْ يَخْلُقَ مِثْلَهم ﴿فَأبى الظّالِمُونَ إلّا كُفُورًا﴾ أيْ: أبى المُشْرِكُونَ إلّا جُحُودًا، وفِيهِ وُضِعَ الظّاهِرُ مَوْضِعَ المُضْمَرِ لِلْحُكْمِ عَلَيْهِمْ بِالظُّلْمِ ومُجاوَزَةِ الحَدِّ. ثُمَّ لَمّا وقَعَ مِن هَؤُلاءِ الكُفّارِ طَلَبُ إجْراءِ الأنْهارِ والعُيُونِ في أراضِيهِمْ لِتَتَّسِعَ مَعايِشُهم، بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحانَهُ أنَّهم لا يَقْنَعُونَ، بَلْ يَبْقُونَ عَلى بُخْلِهِمْ وشُحِّهِمْ فَقالَ: ١ ﴿قُلْ لَوْ أنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي﴾ ( أنْتُمْ ) مُرْتَفَعٌ عَلى أنَّهُ فاعِلُ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ ما بَعْدَهُ أيْ: لَوْ تَمْلِكُونَ أنْتُمْ تَمْلِكُونَ عَلى أنَّ الضَّمِيرَ المُنْفَصِلَ مُبْدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ المُتَّصِلِ وهو الواوُ، وخَزائِنُ رَحْمَتِهِ سُبْحانَهُ: هي خَزائِنُ الأرْزاقِ. قالَ الزَّجّاجُ: أعْلَمَهَمُ اللَّهُ أنَّهم لَوْ مَلَكُوا خَزائِنَ الأرْزاقِ لَأمْسَكُوا شُحًّا وبُخْلًا، وهو خَشْيَةُ الإنْفاقِ: أيْ: خَشْيَةُ أنْ يُنْفِقُوا فَيَفْتَقِرُوا، وفي حَذْفِ الفِعْلِ الَّذِي ارْتَفَعَ بِهِ ( أنْتُمْ ) وإيرادِ الكَلامِ في صُورَةِ المُبْتَدَأِ والخَبَرِ دَلالَةٌ عَلى أنَّهم هُمُ المُخْتَصُّونَ بِالشُّحِّ. قالَ أهْلُ اللُّغَةِ: أنْفَقَ وأصْرَمَ وأعْدَمَ وأقْتَرَ: بِمَعْنى قَلَّ مالُهُ، فَيَكُونُ المَعْنى: لَأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ قَلِّ المالِ ﴿وكانَ الإنْسانُ قَتُورًا﴾ أيْ: بَخِيلًا مُضَيِّقًا عَلَيْهِ. يُقالُ: قَتَرَ عَلى عِيالِهِ يَقْتُرُ ويُقَتِّرُ قَتْرًا وقُتُورًا: ضَيَّقَ عَلَيْهِمْ في النَّفَقَةِ، ويَجُوزُ أنْ يُرادَ وكانَ (p-٨٤٥)الإنْسانُ قَتُورًا، أيْ: قَلِيلَ المالِ، والظّاهِرُ أنَّ المُرادَ المُبالَغَةُ في وصْفِهِ بِالشُّحِّ؛ لِأنَّ الإنْسانَ لَيْسَ بِقَلِيلِ المالِ عَلى العُمُومِ. بَلْ بَعْضُهم كَثِيرُ المالِ، إلّا أنْ يُرادَ أنَّ جَمِيعَ النَّوْعِ الإنْسانِيِّ قَلِيلُ المالِ بِالنِّسْبَةِ إلى خَزائِنِ اللَّهِ وما عِنْدَهُ. وقَدِ اخْتُلِفَ في هَذِهِ الآيَةِ عَلى قَوْلَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّها نَزَلَتْ في المُشْرِكِينَ خاصَّةً، وبِهِ قالَ الحَسَنُ، والثّانِي: أنَّها عامَّةٌ وهو قَوْلُ الجُمْهُورِ حَكاهُ الماوَرْدِيُّ. وقَدْ أخْرَجَ البُخارِيُّ ومُسْلِمٌ وغَيْرُهُما «عَنْ أنَسٍ قالَ: قِيلَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يُحْشَرُ النّاسُ عَلى وُجُوهِهِمْ ؟ قالَ: الَّذِي أمْشاهم عَلى أرْجُلِهِمْ قادِرٌ أنْ يُمْشِيَهم عَلى وُجُوهِهِمْ» . وأخْرَجَ أبُو داوُدَ والتِّرْمِذِيُّ وحَسَّنَهُ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ والبَيْهَقِيُّ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ. قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: «يُحْشَرُ النّاسُ يَوْمَ القِيامَةِ عَلى ثَلاثَةِ أصْنافٍ: صِنْفٌ مُشاةً، وصِنْفٌ رُكْبانًا، وصِنْفٌ عَلى وُجُوهِهِمْ» ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ أنَسٍ. وفِي البابِ أحادِيثُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، في قَوْلِهِ: ﴿مَأْواهم جَهَنَّمُ﴾ قالَ: يَعْنِي أنَّهم وقُودُها. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ مِن طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أبِي طَلْحَةَ عَنْهُ في قَوْلِهِ: ( ﴿كُلَّما خَبَتْ﴾ ) قالَ: سَكَنَتْ. وأخْرَجَ هَؤُلاءِ عَنْهُ أيْضًا في الآيَةِ قالَ: كُلَّما أحْرَقَتْهم سَعَرَتْهم حَطَبًا، فَإذا أحْرَقَتْهم فَلَمْ يَبْقَ مِنهم شَيْءٌ صارَتْ جَمْرًا تَتَوَهَّجُ، فَذَلِكَ خَبْوُها، فَإذا بُدِّلُوا خَلْقًا جَدِيدًا عاوَدَتْهم. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ عَطاءٍ في قَوْلِهِ: ﴿خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي﴾ قالَ: الرِّزْقُ. وأخْرَجَ أيْضًا عَنْ عِكْرِمَةَ في قَوْلِهِ: ﴿إذًا لَأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنْفاقِ﴾ قالَ: إذًا ما أطْعَمْتُمْ أحَدًا شَيْئًا. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿خَشْيَةَ الإنْفاقِ﴾ قالَ: الفَقْرُ ﴿وكانَ الإنْسانُ قَتُورًا﴾ قالَ: بَخِيلًا. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ قَتادَةَ ﴿خَشْيَةَ الإنْفاقِ﴾ قالَ: خَشْيَةَ الفاقَةِ ﴿وكانَ الإنْسانُ قَتُورًا﴾ قالَ: بَخِيلًا مُمْسِكًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب