الباحث القرآني

﴿الر تِلْكَ آياتُ الكِتابِ وقُرْآنٍ مُبِينٍ﴾ ﴿رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ﴾ ﴿ذَرْهم يَأْكُلُوا ويَتَمَتَّعُوا ويُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ ﴿وما أهْلَكْنا مِن قَرْيَةٍ إلّا ولَها كِتابٌ مَعْلُومٌ﴾ ﴿ما تَسْبِقُ مِن أُمَّةٍ أجَلَها وما يَسْتَأْخِرُونَ﴾ ﴿وقالُوا ياأيُّها الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ ﴿لَوْ ما تَأْتِينا بِالمَلائِكَةِ إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ﴾ ﴿ما نُنَزِّلُ المَلائِكَةَ إلّا بِالحَقِّ وما كانُوا إذًا مُنْظَرِينَ﴾ ﴿إنّا نَحْنُ نَزَّلْنا الذِّكْرَ وإنّا لَهُ لَحافِظُونَ﴾ ﴿ولَقَدْ أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ في شِيَعِ الأوَّلِينَ﴾ ﴿وما يَأْتِيهِمْ مِن رَسُولٍ إلّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ ﴿كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ في قُلُوبِ المُجْرِمِينَ﴾ ﴿لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ﴾ ﴿ولَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بابًا مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ﴾ ﴿لَقالُوا إنَّما سُكِّرَتْ أبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ﴾ ﴿ولَقَدْ جَعَلْنا في السَّماءِ بُرُوجًا وزَيَّنّاها لِلنّاظِرِينَ﴾ ﴿وحَفِظْناها مِن كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ﴾ ﴿إلّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ﴾ ﴿والأرْضَ مَدَدْناها وألْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وأنْبَتْنا فِيها مِن كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ﴾ ﴿وجَعَلْنا لَكم فِيها مَعايِشَ ومَن لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ﴾ ﴿وإنْ مِن شَيْءٍ إلّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وما نُنَزِّلُهُ إلّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ ﴿وأرْسَلْنا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأسْقَيْناكُمُوهُ وما أنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ﴾ ﴿وإنّا لَنَحْنُ نُحْيِي ونُمِيتُ ونَحْنُ الوارِثُونَ﴾ ﴿ولَقَدْ عَلِمْنا المُسْتَقْدِمِينَ مِنكم ولَقَدْ عَلِمْنا المُسْتَأْخِرِينَ﴾ ﴿وإنَّ رَبَّكَ هو يَحْشُرُهم إنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ ﴿ولَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ مِن صَلْصالٍ مِن حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾ [الحجر: ٢٦] ﴿والجانَّ خَلَقْناهُ مِن قَبْلُ مِن نارِ السَّمُومِ﴾ [الحجر: ٢٧] (p-٤٤٢)رُبَّ: حَرْفُ جَرٍّ لا اسْمٌ خِلافًا لِلْكُوفِيِّينَ والأخْفَشِ في أحَدِ قَوْلَيْهِ، وابْنِ الطَّراوَةِ، ومَعْناها في المَشْهُورِ: التَّقْلِيلُ لا التَّكْثِيرُ، خِلافًا لِزاعِمِهِ وناسِبِهِ إلى سِيبَوَيْهِ، ولِمَن قالَ: لا تُفِيدُ تَقْلِيلًا ولا تَكْثِيرًا، بَلْ هي حَرْفُ إثْباتٍ. ودَعْوى أبِي عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيِّ الِاتِّفاقُ عَلى أنَّها مَوْضُوعَةٌ لِلتَّقْلِيلِ باطِلَةٌ، وقَوْلُ الزُّجاجِ: إنَّ ( رُبَّ لِلْكَثْرَةِ ضِدُّ ما يَعْرِفُهُ أهْلُ اللُّغَةِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وفِيها لُغاتٌ، وأحْكامُها كَثِيرَةٌ ذُكِرَتْ في النَّحْوِ، ولَمْ تَقَعْ في القُرْآنِ إلّا في هَذِهِ السُّورَةِ عَلى كَثْرَةِ وُقُوعِها في لِسانِ العَرَبِ. ذَرْ: أمْرٌ اسْتَغْنى غالِبًا عَنْ ماضِيهِ بِتَرْكٍ، وفي الحَدِيثِ: «ذَرُوا الحَبَشَةَ ما وذَرَتْكم» لَوْما: حَرْفُ تَحْضِيضٍ، فَيَلِيها الفِعْلُ ظاهِرًا أوْ مُضْمَرًا، وحَرْفُ امْتِناعٍ لِوُجُودٍ فِيلَيْها الِاسْمُ مُبْتَدَأً عَلى مَذْهَبِ البَصْرِيِّينَ ومِنهُ، قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎لَوْما الحَياءُ ولَوْ ما الدِّينُ عِبْتُكُما بِبَعْضِ ما فِيكُما إذْ عِبْتُما عَوَرِي وقالَ بَعْضُهم: المِيمُ في لَوْما بَدَلٌ مِنَ اللّامِ في لَوْلا، ومِثْلُهُ: اسْتَوْلى عَلى الشَّيْءِ واسْتَوْما. وخالَلْتُهُ وخالَمْتُهُ فَهو خِلِّي وخِلْمِي أيْ: صَدِيقِي. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَوْ رُكِّبَتْ مَعَ لا وما لِمَعْنَيَيْنِ، وأمّا هَلْ فَلَمْ تُرَكَّبْ إلّا مَعَ لا وحْدَها لِلتَّحْضِيضِ؛ انْتَهى. والَّذِي أخْتارُهُ البَساطَةَ فِيهِما لا التَّرْكِيبَ، وأنَّ ما لَيْسَتْ بَدَلًا مِن لا. سَلَكَ الخَيْطَ في الإبْرَةِ وأسْلَكَها أدْخَلَهُ فِيها ونَظَمَهُ. قالَ الشّاعِرُ: ؎حَتّى إذا سَلَكُوهم في قَتائِدَةٍ ∗∗∗ شَلًّا كَما تَطْرُدُ الحَمّالَةُ الشُّرَّدا وقالَ الآخَرُ: ؎وكُنْتُ لِزازِ خَصْمِكَ لَمْ أُعَوَّدْ ∗∗∗ وقَدْ سَلَكُوكَ في يَوْمٍ عَصِيبٍ الشِّهابُ: شُعْلَةُ النّارِ، ويُطْلَقُ عَلى الكَوْكَبِ لِبَرِيقِهِ شُبِّهَ بِالنّارِ. وقالَ أبُو تَمّامٍ: ؎والعَلَمُ في شُهُبِ الأرْماحِ لامِعَةٌ ∗∗∗ بَيْنَ الخَمِيسَيْنِ لا في السَّبْعَةِ الشُّهُبِ اللَّواقِحُ: الظّاهِرُ أنَّها جَمْعُ لاقِحٍ أيْ: ذَواتُ لِقاحٍ كَلابِنٍ وتامِرٍ، وذَلِكَ أنَّ الرِّيحَ تَمُرُّ عَلى الماءِ ثُمَّ تَمُرُّ عَلى السَّحابِ والشَّجَرِ فَيَكُونُ فِيها لِقاحٌ قالَهُ الفَرّاءُ. وقالَ الأزْهَرِيُّ: حَوامِلُ تَحْمِلُ السَّحابَ وتُصَرِّفُهُ، وناقَةٌ لاقِحٌ، ونُوقٌ لَواقِحُ إذا حَمَلَتِ الأجِنَّةَ في بُطُونِها. وقالَ زُهَيْرٌ: ؎إذا لُقِّحَتْ حَرْبٌ عَوانٌ مُضِرَّةٌ ∗∗∗ ضَرُوسٌ تَهُرُّ النّاسُ أنْيابَها عَصْلُ وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: أيْ مَلاقِحُ جَمْعُ مُلَقِّحَةٍ، لِأنَّها تُلَقِّحُ السَّحابِ بِإلْقاءِ الماءِ. وقالَ: ؎ومُخْتَبَطٍ مِمَّـا تَطِيـحُ الطَّوائِـحُ أيِ: المَطاوِحُ جَمْعُ مُطِيحَةٍ. الصَّلْصالُ: قالَ أبُو عُبَيْدَةَ الطِّينُ إذا خُلِطَ بِالرَّمْلِ وجَفَّ، وقالَ أبُو الهَيْثَمِ: الصَّلْصالُ صَوْتُ اللِّجام وما أشْبَهَهُ، وهو مِثْلُ القَعْقَعَةِ في الثَّوْبِ. وقِيلَ: التُّرابُ المُدَقِّقُ، وصَلْصَلَ الرَّمْلُ صَوَّتَ، وصَلْصالٌ بِمَعْنى مُصَلْصِلٍ كالقَضْقاضِ أيِ المُقَضْقِضِ، وهو فِيهِ كَثِيرٌ، ويَكُونُ هَذا النَّوْعُ مِنَ المُضَعَّفِ مَصْدَرًا فَتَقُولُ: زُلْزِلَ زَلْزالًا بِالفَتْحِ، وزِلْزالًا بِالكَسْرِ، ووَزْنُهُ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ فِعْلالٌ، وهَكَذا جَمِيعُ المُضاعَفِ حُرُوفُهُ كُلُّها أُصُولٌ لا قَعْقَعٌ، خِلافًا لِلْفَرّاءِ وكَثِيرٍ مِنَ النَّحْوِيِّينَ. ولا فَعْفَلَ خِلافًا لِبَعْضِ البَصْرِيِّينَ وبَعْضِ الكُوفِيِّينَ، ولا أنَّ أصْلَهُ فَعَّلَ بِتَشْدِيدِ العَيْنِ أُبْدِلَ مِنَ (p-٤٤٣)الثّانِي حَرْفٌ مِن جِنْسِ الحَرْفِ الأوَّلِ خِلافًا لِبَعْضِ الكُوفِيِّينَ. ويَنْبَنِي عَلى هَذِهِ الأقْوالِ: ورُبُّ صَلْصالٍ. الحَمَأُ: طِينٌ أسْوَدُ مُنْتِنٌ، واحِدَةٌ حَمَأةٌ بِتَحْرِيكِ المِيمِ قالَهُ اللَّيْثُ ووَهِمَ في ذَلِكَ، وقالُوا: لا نَعْرِفُ في كَلامِ العَرَبِ الحَمَأةُ إلّا ساكِنَةَ المِيمِ، قالَهُ أبُو عُبَيْدَةَ والأكْثَرُونَ، كَما قالَ أبُو الأسْوَدِ: ؎يَجِئْكَ بِمَلَئِها طَوْرًا وطَوْرًا ∗∗∗ يَجِيءُ بِحَماةٍ وقَلِيلِ ماءِ وعَلى هَذا لا يَكُونُ حَمَأٌ بَيْنَهُ وبَيْنَ مُفْرَدِهِ تاءُ التَّأْنِيثِ لِاخْتِلافِ الوَزْنِ. السَّمُومُ: إفْراطُ الحَرِّ، يَدْخُلُ في المَسامِّ حَتّى يَقْتُلَ مِن نارٍ أوْ شَمْسٍ أوْ رِيحٍ. وقِيلَ: السَّمُومُ بِاللَّيْلِ، والحَرُّ بِالنَّهارِ. ﴿الر تِلْكَ آياتُ الكِتابِ وقُرْآنٍ مُبِينٍ﴾ ﴿رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ﴾ ﴿ذَرْهم يَأْكُلُوا ويَتَمَتَّعُوا ويُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ ﴿وما أهْلَكْنا مِن قَرْيَةٍ إلّا ولَها كِتابٌ مَعْلُومٌ﴾ ﴿ما تَسْبِقُ مِن أُمَّةٍ أجَلَها وما يَسْتَأْخِرُونَ﴾: هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ بِلا خِلافٍ، ومُناسَبَتُها لِما قَبْلَها: أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ في (p-٤٤٤)آخِرِ السُّورَةِ قَبْلَها أشْياءَ مِن أحْوالِ القِيامَةِ مِن تَبْدِيلِ السَّماواتِ والأرْضِ، وأحْوالِ الكُفّارِ في ذَلِكَ اليَوْمِ، وأنَّ ما أتى بِهِ هو عَلى حَسَبِ التَّبْلِيغِ والإنْذارِ، ابْتَدَأ في هَذِهِ السُّورَةِ بِذِكْرِ القُرْآنِ الَّذِي هو بَلاغٌ لِلنّاسِ، وأحْوالُ الكَفَرَةِ، ووِدادَتُهم لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ. قالَ مُجاهِدٌ وقَتادَةُ: الكِتابُ هُنا ما نَزَلَ مِنَ الكُتُبِ قَبْلَ القُرْآنِ، فَعَلى قَوْلِهِما تَكُونُ تِلْكَ إشارَةً إلى آياتِ الكِتابِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِالكِتابِ القُرْآنُ، فَعَلى قَوْلِهِما تَكُونُ تِلْكَ إشارَةً إلى آياتِ الكِتابِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِالكِتابِ القُرْآنُ، وعُطِفَتِ الصِّفَةُ عَلَيْهِ، ولَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ إلّا أنَّ تِلْكَ الإشارَةَ لِما تَضَمَّنَتْهُ السُّورَةُ مِنَ الآياتِ قالَ: والكِتابُ والقُرْآنُ المُبِينُ السُّورَةُ، وتَنْكِيرُ القُرْآنِ لِلتَّفْخِيمِ، والمَعْنى: تِلْكَ آياتُ الكِتابِ الكامِلِ في كَوْنِهِ كِتابًا، وآيُ قُرْآنٍ مُبِينٍ كَأنَّهُ قِيلَ: والكِتابُ الجامِعُ لِلْكَمالِ والغَرابَةِ في الشَّأْنِ، والظّاهِرُ أنَّ ما في رُبَّما مُهَيِّئَةٌ، وذَلِكَ أنَّها مِن حَيْثُ هي حَرْفُ جَرٍّ لا يَلِيها إلّا الأسْماءُ، فَجِيءَ بِما مُهَيِّئَةٌ لِمَجِيءِ الفِعْلِ بَعْدَها. وجَوَّزُوا في ما أنْ تَكُونَ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً، ورُبَّ جارَّةٌ لَها، والعائِدُ مِن جُمْلَةِ الصِّفَةِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: رُبَّ شَيْءٍ يَوَدُّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا. و﴿لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ﴾ بَدَلٌ مِن ما عَلى أنَّ لَوْ مَصْدَرِيَّةٌ. وعَلى القَوْلِ الأوَّلِ تَكُونُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى المَفْعُولِ لِيَوَدُّ، ومَن لا يَرى أنَّ لَوْ تَأْتِي مَصْدَرِيَّةً جَعَلَ مَفْعُولَ يَوَدُّ مَحْذُوفًا. ولَوْ في لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ حَرْفٌ لَما كانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ، وجَوابُ لَوْ مَحْذُوفٌ أيْ: رُبَّما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا الإسْلامَ لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ لَسُرُّوا بِذَلِكَ وخَلَصُوا مِنَ العَذابِ، ولَمّا كانَتْ رُبَّ عِنْدَ الأكْثَرِينَ لا تَدْخُلُ عَلى مُسْتَقْبَلٍ تَأوَّلُوا يَوَدُّ في مَعْنى ودَّ، ولَمّا كانَ المُسْتَقْبَلُ في إخْبارِ اللَّهِ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ كالماضِي، فَكَأنَّهُ قِيلَ: ودَّ، ولَيْسَ ذَلِكَ بِلازِمٍ، بَلْ قَدْ تَدْخُلُ عَلى المُسْتَقْبَلِ لَكِنَّهُ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلى دُخُولِها عَلى الماضِي. ومِمّا ورَدَتْ فِيهِ لِلْمُسْتَقْبَلِ قَوْلُ سُلَيْمٍ القُشَيْرِيِّ: ؎ومُعْتَصِمٍ بِالجُبْنِ مِن خَشْيَةِ الرَّدى ∗∗∗ سَيَرْدى وغازٍ مُشْفِقٍ سَيَؤُبُ وقَوْلُ هِنْدٍ أُمِّ مُعاوِيَةَ: ؎يا رُبَّ قائِلَةٍ غَدًا ∗∗∗ يا لَهْفَ أُمِّ مُعاوِيَةَ وقَوْلُ جَحْدَرٍ: ؎فَإنْ أهْلِكْ فَرُبَّ فَتًى سَيَبْكِي ∗∗∗ عَلَيَّ مُهَذَّبٌ رَخْصُ البَنانِ فِي عِدَّةِ أبْياتٍ. وقَوْلُ أبِي عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيِّ: إنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلى أنَّ كَلِمَةَ (رُبَّ) مُخْتَصَّةٌ بِالدُّخُولِ عَلى الماضِي لا يَصِحُّ، فَعَلى هَذا لا يَكُونُ يَوَدُّ مُحْتاجًا إلى تَأْوِيلٍ. وأمّا مَن تَأوَّلَ ذَلِكَ عَلى إضْمارِ كانَ، أيْ: رُبَّما كانَ يَوَدُّ، فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ، ولَيْسَ هَذا مِن مَواضِعِ إضْمارِ كانَ. ولَمّا كانَ عِنْدَ الزَّمَخْشَرِيِّ وغَيْرِهِ أنَّ (رُبَّ) لِلتَّقْلِيلِ احْتاجُوا إلى تَأْوِيلِ مَجِيءِ (رُبَّ) هُنا، وطَوَّلَ الزَّمَخْشَرِيُّ في تَأْوِيلِ ذَلِكَ. ومَن قالَ: إنَّها لِلتَّكْثِيرِ، فالتَّكْثِيرُ فِيها هَنا ظاهِرٌ، لِأنَّ وِدادَتَهم ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. ومَن قالَ: إنَّ التَّقْلِيلَ والتَّكْثِيرَ إنَّما يُفْهَمُ مِن سِياقِ الكَلامِ لا مِن مَوْضُوعِ رُبَّ، قالَ: دَلَّ سِياقُ الكَلامِ عَلى الكَثْرَةِ. وقِيلَ: تُدْهِشُهم أهْوالُ ذَلِكَ اليَوْمِ فَيَبْقُونَ مَبْهُوتِينَ، فَإنْ كانَتْ مِنهم إفاقَةً في بَعْضِ الأوْقاتِ مِن سَكْرَتِهِمْ تَمَنَّوْا، فَلِذَلِكَ قَلَّلَ. وقَرَأ عاصِمٌ، ونافِعٌ: رُبَّما، بِتَخْفِيفِ الباءِ، وباقِي السَّبْعَةِ بِتَشْدِيدِها. وعَنْ أبِي عَمْرٍو: الوَجْهانِ. وقَرَأ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، رُبَّتَما، بِزِيادَةِ تاءٍ. ومَتى يَوَدُّونَ ذَلِكَ ؟ قِيلَ: في الدُّنْيا. فَقالَ الضَّحّاكُ: عِنْدَ مُعايَنَةِ المَوْتِ. وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هم كُفّارُ قُرَيْشٍ، ودُّوا ذَلِكَ في يَوْمِ بَدْرٍ حِينَ رَأوُا الغَلَبَة لِلْمُسْلِمِينَ. وقِيلَ: حِينَ حَلَّ بِهِمْ ما حَلَّ مِن تَمَلُّكِ المُسْلِمِينَ أرْضَهم وأمْوالَهم ونِساءَهم، ودُّوا ذَلِكَ قَبْل أنْ يَحِلَّ بِهِمْ ما حَلَّ. وقِيلَ: ودُّوا ذَلِكَ في الآخِرَةِ إذا أُخْرِجَ عُصاةُ المُسْلِمِينَ مِنَ النّارِ؛ قالَهُ: ابْنُ عَبّاسٍ، وأنَسُ بْنُ مالِكٍ (p-٤٤٥)ومُجاهِدٌ، وعَطاءٌ، وأبُو العالِيَةِ، وإبْراهِيمُ، ورَواهُ أبُو مُوسى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وقَرَأ الرَّسُولُ هَذِهِ الآيَةَ، وقِيلَ: حِينَ يَشْفَعُ الرَّسُولُ، ويُشَفَّعُ حَتّى يَقُولَ: مَن كانَ مِنَ المُسْلِمِينَ فَلْيَدْخُلِ الجَنَّةَ، ورَواهُ مُجاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. وقِيلَ: إذا عايَنُوا القِيامَةَ؛ ذَكَرَهُ الزَّجّاجُ. وقِيلَ: عِنْدَ كُلِّ حالَةٍ يُعَذَّبُ فِيها الكافِرُ ويَسْلَمُ المُؤْمِنُ، ذَكَرَهُ ابْنُ الأنْبارِيِّ. ثُمَّ أمَرَ تَعالى نَبِيَّهُ بِأنْ يُنْذِرَهم، وهو أمْرُ وعِيدٍ لَهم وتَهْدِيدٍ؛ أيْ: لَيْسُوا مِمَّنْ يَرْعَوِي عَنْ ما هو فِيهِ مِنَ الكُفْرِ والتَّكْذِيبِ، ولا مِمَّنْ تَنْفَعُهُ النَّصِيحَةُ والتَّذْكِيرُ، فَهم إنَّما حَظُّهم حَظُّ البَهائِمِ مِنَ الأكْلِ والتَّمَتُّعِ بِالحَياةِ الدُّنْيا والأمَلِ في تَحْصِيلِها، هو الَّذِي يُلْهِيهِمْ ويَشْغَلُهم عَنِ الإيمانِ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ. وفي قَوْلِهِ: يَأْكُلُوا ويَتَمَتَّعُوا، إشارَةٌ إلى أنَّ التَّلَذُّذَ والتَّنَعُّمَ وعَدَمَ الِاسْتِعْدادِ لِلْمَوْتِ والتَّأهُّبِ لَهُ لَيْسَ مِن أخْلاقِ مَن يَطْلُبُ النَّجاةَ مِن عَذابِ اللَّهِ في الآخِرَةِ، وعَنْ بَعْضِ العُلَماءِ: التَّمَتُّعُ في الدُّنْيا مِن أخْلاقِ الهالِكِينَ. وقالَ الحَسَنُ: ما أطالَ عَبْدٌ الأمَلَ إلّا أساءَ العَمَلَ. وانْجَزَمَ يَأْكُلُوا، وما عُطِفَ عَلَيْهِ جَوابًا لِلْأمْرِ. ويَظْهَرُ أنَّهُ أمَرَ بِتَرْكِ قِتالِهِمْ وتَخْلِيَةِ سَبِيلِهِمْ وبِمُهادَنَتِهِمْ ومُوادَعَتِهِمْ، ولِذَلِكَ تَرَتَّبَ أنْ يَكُونَ جَوابًا، لِأنَّهُ لَوْ شَغَلَهم بِالقِتالِ ومُصالَتَةِ السُّيُوفِ، وإيقاعِ الحَرْبِ ما هَنّاهم أكْلٌ ولا تَمَتُّعٌ، ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ أنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وإذا جَعَلْتَ (ذَرْهم) أمْرًا بِتَرْكِ نَصِيحَتِهِمْ وشَغْلِ بالِهِ بِهِمْ، فَلا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الجَوابُ، لِأنَّهم يَأْكُلُونَ ويَتَمَتَّعُونَ سَواءٌ تَرَكَ نَصِيحَتَهم، أمْ لَمْ يَتْرُكْها. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ: تَهْدِيدٌ ووَعِيدٌ، أيْ: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقِبَةَ أمْرِهِمْ وما يَئُولُونَ إلَيْهِ في الدُّنْيا مِنَ الذُّلِّ والقَتْلِ والسَّبْيِ، وفي الآخِرَةِ مِنَ العَذابِ السَّرْمَدِيِّ. ولَمّا تَوَعَّدَهم بِما يَحِلُّ بِهِمْ أرْدَفَ ذَلِكَ بِما يُشْعِرُ بِهَلاكِهِمْ، وأنَّهُ لا يُسْتَبْطَأُ، فَإنَّ لَهُ أجَلًا لا يَتَعَدّاهُ، والمَعْنى: مِن أهْلِ قَرْيَةٍ كافِرِينَ. والظّاهِرُ أنَّ المُرادَ بِالهَلاكِ هَلاكُ الِاسْتِئْصالُ لِمُكَذِّبِي الرُّسُلِ، وهو أبْلَغُ في الزَّجْرِ. وقِيلَ: المُرادُ: الإهْلاكُ بِالمَوْتِ، والواوُ في قَوْلِهِ: ولَها، واوُ الحالِ. وقالَ بَعْضُهم: مُقْحَمَةٌ، أيْ زائِدَةٌ، ولَيْسَ بِشَيْءٍ. وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ: بِإسْقاطِها وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الجُمْلَةُ واقِعَةٌ صِفَةً لِقَرْيَةٍ، والقِياسُ أنَّ (لا) تَتَوَسَّطُ الواوَ بَيْنَهُما، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما أهْلَكْنا مِن قَرْيَةٍ إلّا لَها مُنْذِرُونَ﴾ [الشعراء: ٢٠٨] وإنَّما تَوَسَّطَتْ لِتَأْكِيدِ لُصُوقِ الصِّفَةِ بِالمَوْصُوفِ، كَما يُقالُ في الحالِ: جاءَنِي زَيْدٌ عَلَيْهِ ثَوْبٌ، وجاءَنِي وعَلَيْهِ ثَوْبٌ؛ انْتَهى. ووافَقَهُ عَلى ذَلِكَ أبُو البَقاءِ فَقالَ: الجُمْلَةُ نَعْتٌ لِقَرْيَةٍ، كَقَوْلِكَ: ما لَقِيتُ رَجُلًا إلّا عالِمًا؛ قالَ: وقَدْ ذَكَرْنا حالَ الواوِ في مِثْلِ هَذا في البَقَرَةِ في قَوْلِهِ: ﴿وعَسى أنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وهو خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١٦]؛ انْتَهى. وهَذا الَّذِي قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وتَبِعَهُ فِيهِ أبُو البَقاءِ لا نَعْلَمُ أحَدًا قالَهُ مِنَ النَّحْوِيِّينَ، وهو مَبْنِيٌّ عَلى أنَّ ما بَعْدَ (إلّا) يَجُوزُ أنْ يَكُونَ صِفَةً، وقَدْ مَنَعُوا ذَلِكَ. قالَ:الأخْفَشُ لا يُفْصَلُ بَيْنَ الصِّفَةِ والمَوْصُوفِ بِالإثْمِ، قالَ: ونَحْوُ ما جاءَنِي رَجُلٌ إلّا راكِبٌ، تَقْدِيرُهُ: إلّا رَجُلٌ راكِبٌ، وفِيهِ قُبْحٌ بِجَعْلِكَ الصِّفَةَ كالِاسْمِ. وقالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: تَقُولُ ما مَرَرْتُ بِأحَدٍ إلّا قائِمًا، فَقائِمًا حالٌ مِن أحَدٍ، ولا يَجُوزُ إلّا قائِمٌ، لِأنَّ (إلّا) لا تَعْتَرِضُ بَيْنَ الصِّفَةِ والمَوْصُوفِ. وقالَ ابْنُ مالِكٍ: وقَدْ ذَكَرَ ما ذَهَبَ إلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ مِن قَوْلِهِ: في نَحْوِ: ما مَرَرْتُ بِأحَدٍ إلّا زَيْدٌ خَيْرٌ مِنهُ، أنَّ الجُمْلَةَ بَعْدَ (إلّا) صِفَةٌ لِأحَدٍ، أنَّهُ مَذْهَبُ لَمْ يُعْرَفْ لِبَصْرِيٍّ ولا كُوفِيٍّ، فَلا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ. وأبْطَلَ ابْنُ مالِكٍ قَوْلَ الزَّمَخْشَرِيِّ أنَّ الواوَ تَوَسَّطَتْ لِتَأْكِيدِ لُصُوقِ الصِّفَةِ بِالمَوْصُوفِ. وقالَ القاضِي مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: هَذِهِ الواوُ هي الَّتِي تُعْطِي (أنَّ) الحالَةَ الَّتِي بَعْدَها في اللَّفْظِ هي في الزَّمَنِ قَبْلَ الحالَةِ الَّتِي قَبْلَ الواوِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿حَتّى إذا جاءُوها وفُتِحَتْ أبْوابُها﴾ [الزمر: ٧٣]؛ انْتَهى. والظّاهِرُ أنَّ الكِتابَ المَعْلُومَ هو الأجَلُ الَّذِي كُتِبَ في اللَّوْحِ وبُيِّنَ، ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ ما بَعْدَهُ. وقِيلَ: مَكْتُوبٌ فِيهِ أعْمالُهم وأعْمارُهم وآجالُ هَلاكِهِمْ. وذَكَرَ الماوَرْدِيُّ: ﴿كِتابٌ مَعْلُومٌ﴾، أيْ: (p-٤٤٦)فَرْضٌ مَحْتُومٌ، و(مِن) زائِدَةٌ تُفِيدُ اسْتِغْراقَ الجِنْسِ، أيْ: ما تَسْبِقُ أُمَّةٌ، وأنَّثَ (أجَلَها) عَلى لَفْظِ (أُمَّةٍ)، وجَمَعَ وذَكَرَ في ﴿وما يَسْتَأْخِرُونَ﴾ حَمْلًا عَلى المَعْنى، وحَذَفَ عَنْهُ لِدَلالَةِ الكَلامِ عَلَيْهِ. ﴿وقالُوا ياأيُّها الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ ﴿لَوْ ما تَأْتِينا بِالمَلائِكَةِ إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ﴾ ﴿ما نُنَزِّلُ المَلائِكَةَ إلّا بِالحَقِّ وما كانُوا إذًا مُنْظَرِينَ﴾ ﴿إنّا نَحْنُ نَزَّلْنا الذِّكْرَ وإنّا لَهُ لَحافِظُونَ﴾: قالَ مُقاتِلٌ: نَزَلَتْ في عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمَيَّةَ، والنَّضْرِ بْنِ الحارِثِ، ونَوْفَلِ بْنِ خُوَيْلِدٍ، والوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: نَزَلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ ماضِيًا مُخَفَّفًا مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ. وقَرَأ: (يا أيُّها الَّذِي أُلْقِيَ إلَيْهِ الذِّكْرُ)، ويَنْبَغِي أنْ تُجْعَلَ هَذِهِ القِراءَةُ تَفْسِيرًا، لِأنَّها مُخالِفَةٌ لِسَوادِ المُصْحَفِ. وهَذا الوَصْفُ بِأنَّهُ الَّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ، قالُوهُ عَلى جِهَةِ الِاسْتِهْزاءِ والِاسْتِخْفافِ، لِأنَّهم لا يُقِرُّونَ بِتَنْزِيلِ الذِّكْرِ عَلَيْهِ، ويَنْسُبُونَهُ إلى الجُنُونِ، إذْ لَوْ كانَ مُؤْمِنًا بِرِسالَةِ مُوسى وما أخْبَرَ عَنْهُ بِالجُنُونِ. ثُمَّ اقْتَرَحُوا عَلَيْهِ أنْ يَأْتِيَهم بِالمَلائِكَةِ شاهِدِينَ لِصِدْقِكَ وبِصِحَّةِ دَعْواكَ وإنْذارِكَ، كَما قالَ: ﴿لَوْلا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا﴾ [الفرقان: ٧] أوْ مُعاقِبِينَ عَلى تَكْذِيبِكَ، كَما كانَتْ تَأْتِي الأُمَمَ المُكَذِّبَةَ. وقَرَأ الحَرَمِيّانِ والعَرَبِيّانِ: ما تَنَزَّلُ: مُضارِعُ تَنَزَّلَ، أيْ: ما تَتَنَزَّلُ المَلائِكَةُ، بِالرَّفْعِ. وقَرَأ أبُو بَكْرٍ، ويَحْيَـى بْنُ وثّابٍ: ما تُنَزَّلُ بِضَمِّ التّاءِ وفَتْحِ النُّونِ والزّايِ المَلائِكَةُ بِالرَّفْعِ. وقَرَأ الأخَوانِ، وحَفْصٌ، وابْنُ مُصَرِّفٍ: ما نُنَزِّلُ بِضَمِّ النُّونِ الأوْلى، وفَتْحِ الثّانِيَةِ، وكَسْرِ الزّايِ المَلائِكَةَ بِالنَّصْبِ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: ما نَزَلَ، ماضِيًا مُخَفَّفًا مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ المَلائِكَةُ بِالرَّفْعِ. والحَقُّ هُنا العَذابُ؛ قالَهُ الحَسَنُ، أوِ الرِّسالَةُ؛ قالَهُ مُجاهِدٌ، أوْ قَبْضُ الأرْواحِ عِنْدَ المَوْتِ؛ قالَهُ ابْنُ السّائِبِ، أوِ القُرْآنُ؛ ذَكَرَهُ الماوَرْدِيُّ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ألّا تَنْزِلا مُلْتَبِسًا بِالحِكْمَةِ والمَصْلَحَةِ، ولا حِكْمَةَ في أنْ تَأْتِيَكم عِيانًا تُشاهِدُونَهم ويَشْهَدُونَ لَكم بِصِدْقِ النَّبِيِّ ﷺ لِأنَّكم حِينَئِذٍ مُصَدِّقُونَ عَنِ اضْطِرارٍ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والظّاهِرُ أنَّ مَعْناها: كَما يَجِبُ ويَحِقُّ مِنَ الوَحْيِ والمَنافِعِ الَّتِي أرادَها اللَّهُ تَعالى لِعِبادِهِ، لا عَلى اقْتِراحِ كافِرٍ، ولا بِاخْتِيارِ مُعْتَرِضٍ. ثُمَّ ذَكَرَ عادَةَ اللَّهِ في الأُمَمِ مِن أنَّهُ لَمْ يَأْتِهِمْ بِآيَةِ اقْتِراحٍ إلّا ومَعَها العَذابُ في إثْرِها ﴿إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا﴾ [الكهف: ٦]، فَكانَ الكَلامُ ما نُنَزِّلُ المَلائِكَةَ إلّا بِحَقٍّ واجِبٍ لا بِاقْتِراحِكم. وأيْضًا فَلَوْ نَزَلَتْ لَمْ تَنْظُرُوا بَعْدَ ذَلِكَ بِالعَذابِ؛ أيْ: تُؤَخِّرُوا، والمَعْنى، وهَذا لا يَكُونُ إذْ كانَ في عِلْمِ اللَّهِ أنَّ مِنهم مَن يُؤْمِنُ، أوْ يَلِدُ مَن يُؤْمِنُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وإذَنْ: جَوابٌ وجَزاءٌ، لِأنَّهُ جَوابٌ لَهم، وجَزاءٌ بِالشَّرْطِ مُقَدَّرٌ، تَقْدِيرُهُ: ولَوْ نَزَّلْنا المَلائِكَةَ ما كانُوا مُنْظَرِينَ، وما أخَّرَ عَذابَهم. ولَمّا قالُوا عَلى سَبِيلِ الِاسْتِهْزاءِ: ﴿يا أيُّها الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ﴾ رَدَّ عَلَيْهِمْ بِأنَّهُ هو المُنَزِّلُ عَلَيْهِ، فَلَيْسَ مِن قِبَلِهِ ولا قِبَلِ أحَدٍ، بَلْ هو اللَّهُ تَعالى الَّذِي بَعَثَ بِهِ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - إلى رَسُولِهِ، وأكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿إنّا نَحْنُ﴾، بِدُخُولِ (إنَّ) وبِلَفْظِ (نَحْنُ) . ونَحْنُ: مُبْتَدَأٌ، أوْ تَأْكِيدٌ لِاسْمٍ إنَّ، ثُمَّ قالَ: ﴿وإنّا لَهُ لَحافِظُونَ﴾ أيْ: حافِظُونَ لَهُ مِنَ الشَّياطِينِ. وفي كُلِّ وقْتٍ تَكَفَّلَ تَعالى بِحِفْظِهِ، فَلا يَعْتَرِيهِ زِيادَةٌ ولا نُقْصانٌ، ولا تَحْرِيفٌ ولا تَبْدِيلٌ، بِخِلافِ غَيْرِهِ مِنَ الكُتُبِ المُتَقَدِّمَةِ، فَإنَّهُ تَعالى لَمْ يَتَكَفَّلْ حِفْظَها بَلْ قالَ تَعالى: إنَّ الرَّبّانِيِّينَ والأحْبارَ اسْتَحْفَظُوها، ولِذَلِكَ وقَعَ فِيها الِاخْتِلافُ. وحِفْظُهُ إيّاهُ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ مِن عِنْدِهِ تَعالى، إذْ لَوْ كانَ مِن قَوْلِ البَشَرِ لَتَطَرَّقَ (p-٤٤٧)إلَيْهِ ما تَطَرَّقَ لِكَلامِ البَشَرِ. وقالَ الحَسَنُ: حَفِظَهُ بِإبْقاءِ شَرِيعَتِهِ إلى يَوْمِ القِيامَةِ. وقِيلَ: يَحْفَظُهُ في قُلُوبِ مَن أرادَ بِهِمْ خَيْرًا حَتّى لَوْ غَيَّرَ أحَدٌ نُقْطَةً لَقالَ لَهُ الصِّبْيانُ: كَذَبْتَ، وصَوابُهُ كَذا، ولَمْ يَتَّفِقْ هَذا لِشَيْءٍ مِنَ الكُتُبِ سِواهُ. وعَلى هَذا فالظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في (لَهُ) عائِدٌ عَلى الذِّكْرِ، لِأنَّهُ المُصَرَّحُ بِهِ في الآيَةِ، وهو قَوْلُ الأكْثَرِ: مُجاهِدٍ، وقَتادَةَ، وغَيْرِهِما. وقالَتْ فِرْقَةٌ: الضَّمِيرُ في (لَهُ) عائِدٌ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أيْ: يَحْفَظُهُ مِن أذاكم، ويَحُوطُهُ مِن مَكْرِكم، كَما قالَ تَعالى: ﴿واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ﴾ [المائدة: ٦٧] وفي ضِمْنِ هَذِهِ الآيَةِ التَّبْشِيرُ بِحَياةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَتّى يُظْهِرَ اللَّهُ بِهِ الدِّينَ. ﴿ولَقَدْ أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ في شِيَعِ الأوَّلِينَ﴾ ﴿وما يَأْتِيهِمْ مِن رَسُولٍ إلّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ ﴿كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ في قُلُوبِ المُجْرِمِينَ﴾ ﴿لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ﴾ ﴿ولَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بابًا مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ﴾ ﴿لَقالُوا إنَّما سُكِّرَتْ أبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ﴾: لَمّا ذَكَرَ تَعالى اسْتِهْزاءَ الكُفّارِ بِهِ - عَلَيْهِ السَّلامُ - ونِسْبَتَهُ إلى الجُنُونِ، واقْتِراحَ نُزُولِ المَلائِكَةِ، سَلّاهُ تَعالى بِأنَّ مَن أُرْسِلَ مِن قَبْلِكَ كانَ دَيْدَنَ الرُّسُلِ إلَيْهِمْ مِثْلَ دَيْدَنِ هَؤُلاءِ مَعَكَ. وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الشِّيَعِ في أواخِرِ الأنْعامِ. ومَفْعُولُ أرْسَلْنا مَحْذُوفٌ، أيْ: رَسُلًا مِن قَبْلِكَ. وقالَ الفَرّاءُ: في شِيَعِ الأوَّلِينَ: هو مِن إضافَةِ الشَّيْءِ إلى صِفَتِهِ، كَقَوْلِهِ: حَقُّ اليَقِينِ، وبِجانِبِ الغَرْبِيِّ، أيِ الشِّيَعُ المَوْصُوفُ، أيْ: في شِيَعِ الأُمَمِ الأوَّلِينَ، والأوَّلُونَ هُمُ الأقْدَمُونَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿وما يَأْتِيهِمْ﴾ حِكايَةٌ ماضِيَةٌ، لِأنَّ (ما) لا تَدْخُلُ عَلى مُضارِعٍ، إلّا وهو في مَوْضِعِ الحالِ، ولا عَلى ماضٍ إلّا وهو قَرِيبٌ مِنَ الحالِ؛ انْتَهى. وهَذا الَّذِي ذَكَرَهُ هو قَوْلُ الأكْثَرِ مِن (أنَّ) ما تُخَلِّصُ المُضارِعَ لِلْحالِ وتُعَيِّنُهُ لَهُ، وذَهَبَ غَيْرُهُ إلى أنَّ (ما) يَكْثُرُ دُخُولُها عَلى المُضارِعِ مُرادًا بِهِ الحالُ، وتَدْخُلُ عَلَيْهِ مُرادًا بِهِ الِاسْتِقْبالُ، وأنْشَدَ عَلى ذَلِكَ قَوْلَ أبِي ذُؤَيْبٍ: ؎أوْدى بَنِيَّ وأوْدَعُونِي حَسْرَةً ∗∗∗ عِنْدَ الرُّقادِ وعَبْرَةً ما تُقْلِعُ وقَوْلَ الأعْشى يَمْدَحُ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ؎لَهُ نافِلاتٌ ما يَغِبُّ نَوالَها ∗∗∗ ولَيْسَ عَطاءُ اليَوْمِ مانِعَهُ غَدًا وقالَ تَعالى: ﴿ما يَكُونُ لِي أنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقاءِ نَفْسِي إنْ أتَّبِعْ إلّا ما يُوحى إلَيَّ﴾ [يونس: ١٥] والضَّمِيرُ في نَسْلُكُهُ عائِدٌ عَلى (p-٤٤٨)الذِّكْرِ، قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، قالَ: والضَّمِيرُ لِلذِّكْرِ، أيْ: مِثْلَ ذَلِكَ السِّلْكِ. ونَحْوُهُ: نَسْلُكُ الذِّكْرَ في قُلُوبِ المُجْرِمِينَ، عَلى مَعْنى: أنَّهُ يُلْقِيهِ في قُلُوبِهِمْ مُكَذَّبًا مُسْتَهْزَأً بِهِ غَيْرَ مَقْبُولٍ، كَما لَوْ أنْزَلْتَ بِلَئِيمٍ حاجَةً فَلَمْ يُجِبْكَ إلَيْها فَقُلْتَ: كَذَلِكَ أُنْزِلُها بِاللِّئامِ، يَعْنِي: مِثْلَ هَذا الإنْزالِ أُنْزِلُها بِهِمْ، مَرْدُودَةً غَيْرَ مُقْصِيَةٍ. ومَحَلُّ قَوْلِهِ: ﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾ النَّصْبُ عَلى الحالِ، أيْ: غَيْرَ مُؤْمِنٍ بِهِ، أوْ هو بَيانٌ لِقَوْلِهِ: ﴿كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ﴾؛ انْتَهى. وما ذَهَبَ إلَيْهِ مِن أنَّ الضَّمِيرَ عائِدٌ عَلى الذِّكْرِ، ذَكَرَهُ الغَرْنَوِيُّ عَنِ الحَسَنِ. قالَ الحَسَنُ: مَعْناهُ نَسْلُكُ الذِّكْرَ إلْزامًا لِلْحُجَّةِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الضَّمِيرُ في (نَسْلُكُهُ) عائِدٌ عَلى الِاسْتِهْزاءِ والشِّرْكِ ونَحْوِهِ، وهو قَوْلُ الحَسَنِ، وقَتادَةَ، وابْنِ جُرَيْجٍ، وابْنِ زَيْدٍ. ويَكُونُ الضَّمِيرُ في (بِهِ) يَعُودُ أيْضًا عَلى ذَلِكَ نَفْسِهِ، وتَكُونُ باءَ السَّبَبِ، أيْ: لا يُؤْمِنُونَ بِسَبَبِ شِرْكِهِمْ واسْتِهْزائِهِمْ، ويَكُونُ قَوْلِهِ: ﴿لا يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ في مَوْضِعِ الحالِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ في نَسْلُكُهُ عائِدًا عَلى الذِّكْرِ المَحْفُوظِ المُتَقَدِّمِ الذِّكْرِ وهو القُرْآنُ، أيْ: مُكَذَّبًا بِهِ مَرْدُودًا مُسْتَهْزَأً بِهِ، يُدْخِلُهُ في قُلُوبِ المُجْرِمِينَ. ويَكُونُ الضَّمِيرُ في (بِهِ) عائِدًا عَلَيْهِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ في نَسْلُكُهُ عائِدًا عَلى الِاسْتِهْزاءِ والشِّرْكِ، والضَّمِيرُ في (بِهِ) يَعُودُ عَلى القُرْآنِ، فَيَخْتَلِفُ عَلى هَذا عَوْدُ الضَّمِيرَيْنِ؛ انْتَهى. ورَوى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجاهِدٍ، نَسْلُكُ التَّكْذِيبَ، فَعَلى هَذا تَكُونُ الباءُ في بِهِ لِلسَّبَبِ. والَّذِي يَظْهَرُ عَوْدُهُ عَلى الِاسْتِهْزاءِ المَفْهُومِ مِن قَوْلِهِ: يَسْتَهْزِئُونَ، والباءُ في بِهِ لِلسَّبَبِ. والمُجْرِمُونَ هُنا كُفّارُ قُرَيْشٍ، ومَن دَعاهُمُ الرَّسُولُ إلى الإيمانِ. ولا يُؤْمِنُونَ إنْ كانَ إخْبارًا مُسْتَأْنَفًا فَهو مِنَ العامِّ المُرادِ بِهِ الخُصُوصُ فِيمَن خَتَمَ عَلَيْهِ، إذْ قَدْ آمَنَ عالَمٌ مِمَّنْ كَذَّبَ الرَّسُولَ. وقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ في تَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهم، أوْ في إهْلاكِهِمْ حِينَ كَذَّبُوا رُسُلَهم، واسْتَهْزَءُوا بِهِمْ، وهو تَهْدِيدٌ لِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ. والضَّمِيرُ في عَلَيْهِمْ عائِدٌ عَلى المُشْرِكِينَ، وذَلِكَ لِفَرْطِ تَكْذِيبِهِمْ وبُعْدِهِمْ عَنِ الإيمانِ حَتّى يُنْكِرُوا ما هو مَحْسُوسٌ مُشاهَدٌ بِالأعْيُنِ مُماسٌّ بِالأجْسادِ بِالحَرَكَةِ والِانْتِقالِ، وهَذا بِحَسَبِ المُبالَغَةِ التّامَّةِ في إنْكارِ الحَقِّ. والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في (فَظَلُّوا) عائِدٌ عَلى مَن عادَ عَلَيْهِ في قَوْلِهِ: عَلَيْهِمْ، أيْ: لَوْ فُتِحَ لَهم بابٌ مِنَ السَّماءِ، وجُعِلَ لَهم مِعْراجٌ يَصْعَدُونَ فِيهِ لَقالُوا: هو شَيْءٌ نَتَخَيَّلُهُ لا حَقِيقَةَ لَهُ، وقَدْ سُحِرْنا بِذَلِكَ. وجاءَ لَفْظُ (فَظَلُّوا) مُشْعِرًا بِحُصُولِ ذَلِكَ في النَّهارِ لِيَكُونُوا مُسْتَوْضِحِينَ لِما عايَنُوا، عَلى أنَّ (ظَلَّ) يَأْتِي بِمَعْنى (صارَ) أيْضًا. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ الضَّمِيرَ في (فَظَلُّوا) يَعُودُ عَلى المَلائِكَةِ لِقَوْلِهِمْ: ﴿لَوْ ما تَأْتِينا بِالمَلائِكَةِ﴾ أيْ: ولَوْ رَأوُا المَلائِكَةَ تَصْعَدُ وتَنْصَرِفُ في بابٍ مَفْتُوحٍ في السَّماءِ لَما آمَنُوا. وقَرَأ الأعْمَشُ، وأبُو حَيْوَةَ: يَعْرِجُونَ، بِكَسْرِ الرّاءِ، وهي لُغَةُ هُذَيْلٍ في العُرُوجِ، بِمَعْنى الصُّعُودِ. وجاءَ لَفْظُ (إنَّما) مُشْعِرًا بِالحَصْرِ، كَأنَّهُ قالَ: لَيْسَ ذَلِكَ إلّا تَسْكِيرًا لِلْأبْصارِ. وقَرَأ الحَسَنُ، ومُجاهِدٌ، وابْنُ كَثِيرٍ: سُكِرَتْ، بِتَخْفِيفِ الكافِ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ: بِشَدِّها مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وقَرَأ الزُّهْرِيُّ: بِفَتْحِ السِّينِ وكَسْرِ الكافِ مُخَفَّفَةً مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، شَبَّهُوا رُؤْيَةَ أبْصارِهِمْ بِرُؤْيَةِ السَّكْرانِ لِقِلَّةِ تَصَوُّرِهِ ما يَراهُ. فَأمّا قِراءَةُ التَّشْدِيدِ، فَعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وقَتادَةَ: مُنِعْتُ عَنْ رُؤْيَةِ الحَقِيقَةِ مِنَ السِّكْرِ، بِكَسْرِ السِّينِ، وهو الشَّدُّ والحَبْسُ. وعَنِ الضَّحّاكِ شُدَّتْ، وعَنْ جَوْهَرٍ: جُدِعَتْ، وعَنْ مُجاهِدٍ: حُبِسَتْ، وعَنِ الكَلْبِيِّ: عَمِيَتْ، وعَنْ أبِي عَمْرٍو: غُطِّيَتْ، وعَنْ قَتادَةَ أيْضًا: أُخِذَتْ، وعَنْ أبِي عُبَيْدٍ: غُشِيَتْ. وأمّا قِراءَةُ التَّخْفِيفِ، فَقِيلَ: بِالتَّشْدِيدِ، إلّا أنَّهُ لِلتَّكْثِيرِ، والتَّخْفِيفُ يُؤَدِّي عَنْ مَعْناهُ. وقِيلَ: مَعْنى التَّشْدِيدِ أُخِذَتْ، ومَعْنى التَّخْفِيف: سُحِرَتْ. والمَشْهُورُ أنَّ سَكِرَ لا يَتَعَدّى. قالَ أبُو عَلِيٍّ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ سُمِعَ مُتَعَدِّيًا في البَصْرَةِ. وحَكى أبُو عُبَيْدٍ عَنْ أبِي عُبَيْدَةَ أنَّهُ يُقالُ: سُكِّرَتْ أبْصارُهم إذا غَشِيَها سُهادٌ حَتّى لا يُبْصِرُوا. وقِيلَ: التَّشْدِيدُ مِن سُكِّرَ الماءُ، والتَّخْفِيفُ مِن سُكِرَ الشَّرابُ، وتَقُولُ العَرَبُ: سَكَرَتِ الرِّيحُ تَسْكُرُ سَكَرًا إذا رَكَدَتْ ولَمْ تَنْفَذْ لِما كانَتْ بِسَبِيلِهِ أوَّلًا، وسَكِرَ الرَّجُلُ مِنَ الشَّرابِ سُكْرًا إذا تَغَيَّرَتْ (p-٤٤٩)حالُهُ ورَكَدَ ولَمْ يَنْفُذْ فِيما كانَ لِلْإنْسانِ أنْ يَنْفُذَ فِيهِ. ومِن هَذا المَعْنى سَكْرانُ يَبِتُّ، أيْ: لا يَقْطَعُ أمْرًا. وتَقُولُ العَرَبُ: سُكِرَتْ في مَجارِي الماءِ إذا طُمِسَتْ، وصَرَفَتِ الماءَ فَلَمْ يَنْفُذْ لِوَجْهِهِ. فَإنْ كانَ مِن سُكِّرَ الشَّرابُ، أوْ مِن سُكِّرَ الرِّيحُ، فالتَّضْعِيفُ لِلتَّعْدِيَةِ. أوْ مِن سَكَّرَ مَجارِيَ الماءِ فَلِلتَّكْثِيرِ، لِأنَّ مُخَفَّفَهُ مُتَعَدٍّ. وأمّا سَكَرَتْ، بِالتَّخْفِيفِ، فَإنْ كانَ مِن سَكَرَ الماءُ فَفِعْلُهُ مُتَعَدٍّ، أوْ مِن سَكَرَ الشَّرابُ أوِ الرِّيحُ فَيَكُونُ مِن بابِ وجَعَ زَيْدٌ ووَجَّعَهُ غَيْرُهُ، فَتَقُولُ: سَكِرَ الرَّجُلُ وسَكَّرَهُ غَيْرُهُ، وسَكَرَتِ الرِّيحُ وسَكَّرَها غَيْرُها، كَما جاءَ سَعِدَ زَيْدٌ وسَعَّدَهُ غَيْرُهُ. ولَخَّصَ الزَّمَخْشَرِيُّ في هَذا فَقالَ: وسُكِّرَتْ: حُيِّرَتْ أوْ حُبِسَتْ مِنَ السُّكْرِ، أوِ السَّكَرِ. وقُرِئَ بِالتَّخْفِيفِ، أيْ: حُبِسَتْ كَما يُحْبَسُ النَّهْرُ عَنِ الجَرْيِ؛ انْتَهى. وقَرَأ أبانُ بْنُ ثَعْلَبٍ: سُحِرَتْ أبْصارُنا. ويَجِيءُ قَوْلُهُ: ﴿بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ﴾، انْتِقالًا إلى دَرَجَةٍ عُظْمى مِن سِحْرِ العَقْلِ. ويَنْبَغِي أنْ تُجْعَلَ هَذِهِ القِراءَةُ تَفْسِيرَ مَعْنًى لا تِلاوَةٍ، لِمُخالَفَتِها سَوادَ المُصْحَفِ. وجاءَ جَوابُ ولَوْ، قَوْلُهُ: لَقالُوا، أيْ أنَّهم يُشاهِدُونَ ما يُشاهِدُونَ، ولا يَشُكُّونَ في رُؤْيَةِ المَحْسُوسِ، ولَكِنَّهم يَقُولُونَ ما لا يَعْتَقِدُونَ مُواطَأةً عَلى العِنادِ، ودَفْعِ الحُجَّةِ، ومُكابَرَةً وإيثارًا لِلْغَلَبَةِ كَما قالَ تَعالى: ﴿وجَحَدُوا بِها واسْتَيْقَنَتْها أنْفُسُهم ظُلْمًا وعُلُوًّا﴾ [النمل: ١٤] . ﴿ولَقَدْ جَعَلْنا في السَّماءِ بُرُوجًا وزَيَّنّاها لِلنّاظِرِينَ﴾ ﴿وحَفِظْناها مِن كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ﴾ ﴿إلّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ﴾: لَمّا ذَكَرَ حالَ مُنْكِرِي النُّبُوَّةِ وكانَتْ مُفَرَّعَةً عَلى التَّوْحِيدِ، ذَكَرَ دَلائِلَهُ السَّماوِيَّةَ، وبَدَأ بِها ثُمَّ أتْبَعَها بِالدَّلائِلِ الأرْضِيَّةِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَمّا ذَكَرَ تَعالى أنَّهم لَوْ رَأوُا الآيَةَ المَذْكُورَةَ في السَّماءِ لَعانَدُوا فِيها، عَقِبَ ذَلِكَ بِهَذِهِ الآيَةِ، كَأنَّهُ قالَ: وإنَّ في السَّماءِ لِعِبَرًا، مَنصُوبَةً، عَبَّرَ عَنْ هَذِهِ المَذْكُورَةِ، وكُفْرِهِمْ بِها، وإعْراضِهِمْ عَنْها إصْرارٌ مِنهم وعُتُوٌّ؛ انْتَهى. والظّاهِرُ أنَّ (جَعَلْنا) بِمَعْنى خَلَقْنا، و﴿فِي السَّماءِ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِجَعَلْنا. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى صَيَّرْنا، و﴿فِي السَّماءِ﴾ المَفْعُولُ الثّانِي، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ. والبُرُوجُ جَمْعُ بُرْجٍ، وتَقَدَّمَ شَرْحُهُ لُغَةً. قالَ الحَسَنُ وقَتادَةُ: هي النُّجُومُ. وقالَ أبُو صالِحٍ: الكَواكِبُ السَّيّارَةُ. وقالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسى: اثْنا عَشَرَ بُرْجًا (الحَمَلُ، والثَّوْرُ، والجَوْزاءُ، والسَّرَطانُ، والأسَدُ، والسُّنْبُلَةُ، والمِيزانُ، والعَقْرَبُ، والقَوْسُ، والجَدْيُ، والدَّلْوُ، والحُوتُ)، وهي مَنازِلُ الشَّمْسِ والقَمَرِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قُصُورٌ في السَّماءِ فِيها الحَرَسُ، وهي المَذْكُورَةُ في قَوْلِهِ: ﴿مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وشُهُبًا﴾ [الجن: ٨] وقِيلَ: الفَلَكُ اثْنا عَشَرَ بُرْجًا، كُلُّ بُرْجٍ مِيلانِ ونِصْفٌ. والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في (وزَيَّنّاها) عائِدٌ عَلى البُرُوجِ لِأنَّها المُحَدَّثُ عَنْها، والأقْرَبُ في اللَّفْظِ. وقِيلَ: عَلى السَّماءِ، وهو قَوْلُ الجُمْهُورِ. وخُصَّ بِالنّاظِرِينَ لِأنَّها مِنَ المَحْسُوساتِ الَّتِي لا تُدْرَكُ إلّا بِنَظَرِ العَيْنِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مِن نَظَرِ القَلْبِ لِما فِيها مِنَ الزِّينَةِ المَعْنَوِيَّةِ، وهو ما فِيها مَن حُسْنِ الحُكْمِ وبَدائِعِ الصُّنْعِ وغَرائِبِ القُدْرَةِ. والضَّمِيرُ في حَفِظْناها عائِدٌ عَلى السَّماءِ، ولِذَلِكَ قالَ الجُمْهُورُ: إنَّ الضَّمِيرَ في (وزَيَّنّاها) عائِدٌ عَلى السَّماءِ حَتّى لا تَخْتَلِفَ الضَّمائِرُ، وحِفْظُ السَّماءِ هو بِالرَّجْمِ بِالشُّهُبِ عَلى ما تَضَمَّنَتْهُ الأحادِيثُ الصِّحاحُ؛ قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إنَّ الشَّياطِينَ تَقْرُبُ مِنَ السَّماءِ أفْواجًا فَيَنْفَرِدُ المارِدُ مِنها فَيَسْتَمِعُ، فَيَرْمِي بِالشِّهابِ فَيَقُولُ لِأصْحابِهِ. وهو يَلْتَهِبُ: إنَّهُ الأمْرُ كَذا وكَذا، فَتَزِيدُ الشَّياطِينُ في ذَلِكَ، ويُلْقُونَ إلى الكَهَنَةِ فَيَزِيدُونَ عَلى الكَلِمَةِ مِائَةَ كَلِمَةٍ» ونَحْوَ هَذا الحَدِيثِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: إنَّ الشُّهُبَ تَخْرُجُ وتُؤْذِي، ولا تَقْتُلُ. وقالَ الحَسَنُ: تَقْتُلُ. وفي الأحادِيثِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّ الرَّجْمَ كانَ في الجاهِلِيَّةِ ولَكِنَّهُ اشْتَدَّ في وقْتِ الإسْلامِ. وحُفِظَتِ السَّماءُ حِفْظًا تامًّا. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: كانُوا لا يُحْجَبُونَ عَنِ السَّماواتِ، فَلَمّا وُلِدَ عِيسى مُنِعُوا مِن ثَلاثِ سَماواتٍ، فَلَمّا وُلِدَ مُحَمَّدٌ ﷺ مُنِعُوا مِنَ السَّماواتِ كُلِّها. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿إلّا مَنِ اسْتَرَقَ﴾، اسْتِثْناءٌ مُتَّصِلٌ، والمَعْنى: فَإنَّها لَمْ تُحْفَظْ مِنهُ، ذَكَرَهُ الزَّهْراوِيُّ وغَيْرُهُ (p-٤٥٠)والمَعْنى: أنَّهُ سَمِعَ مِن خَبَرِها شَيْئًا وألْقاهُ إلى الشَّياطِينِ. وقِيلَ: هو اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ، والمَعْنى: أنَّها حُفِظَتْ مِنهُ، وعَلى كِلا التَّقْدِيرَيْنِ فَـ (مَن) في مَوْضِعِ نَصْبٍ. وقالَ الحَوْفِيُّ: (مَن) بَدَلٌ مِن كُلِّ شَيْطانٍ، وكَذا قالَ أبُو البَقاءِ: جُرَّ عَلى البَدَلِ، أيْ: إلّا مِمَّنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ. وهَذا الإعْرابُ غَيْرُ سائِغٍ، لِأنَّ ما قَبْلَهُ مُوجَبٌ، فَلا يُمْكِنُ التَّفْرِيغُ، فَلا يَكُونُ بَدَلًا، لَكِنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ﴿إلّا مَنِ اسْتَرَقَ﴾ نَعْتًا عَلى خِلافٍ في ذَلِكَ. وقالَ أبُو البَقاءِ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ (مَن) في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى الِابْتِداءِ، وفَأتْبَعَهُ الخَبَرُ. وجازَ دُخُولُ الفاءِ مِن أجْلِ أنَّ (مَن) بِمَعْنى الَّذِي، أوْ شَرْطٌ؛ انْتَهى. والِاسْتِراقُ افْتِعالٌ مِنَ السَّرِقَةِ، وهي أخْذُ الشَّيْءِ بِخُفْيَةٍ، وهو أنْ يَخْطِفَ الكَلامَ خَطْفَةً يَسِيرَةً. والسَّمْعُ: المَسْمُوعُ، ومَعْنى مُبِينٍ: ظاهِرٌ لِلْمُبْصِرِينَ. ﴿والأرْضَ مَدَدْناها وألْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وأنْبَتْنا فِيها مِن كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ﴾ ﴿وجَعَلْنا لَكم فِيها مَعايِشَ ومَن لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ﴾ ﴿وإنْ مِن شَيْءٍ إلّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وما نُنَزِّلُهُ إلّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ ﴿وأرْسَلْنا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأسْقَيْناكُمُوهُ وما أنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ﴾ ﴿وإنّا لَنَحْنُ نُحْيِي ونُمِيتُ ونَحْنُ الوارِثُونَ﴾ ﴿ولَقَدْ عَلِمْنا المُسْتَقْدِمِينَ مِنكم ولَقَدْ عَلِمْنا المُسْتَأْخِرِينَ﴾ ﴿وإنَّ رَبَّكَ هو يَحْشُرُهم إنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾: مَدَدْناها: بَسَطْناها، لِيَحْصُلَ بِها الِانْتِفاعُ لِمَن حَلَّها. قالَ الحَسَنُ: أخَذَ اللَّهُ طِينَةً فَقالَ لَها: انْبَسِطِي فانْبَسَطَتْ. وقِيلَ: بُسِطَتْ مِن تَحْتِ الكَعْبَةِ. ولَمّا كانَتْ هَذِهِ الجُمْلَةُ بَعْدَها جُمْلَةً فِعْلِيَّةً، كانَ النَّصْبُ عَلى الِاشْتِغالِ أرْجَحَ مِنَ الرَّفْعِ عَلى الِابْتِداءِ، فَلِذَلِكَ نَصَبَ (والأرْضَ) . والرَّواسِي: الجِبالُ، وفي الحَدِيثِ: «إنَّ الأرْضَ كانَتْ تَتَكَفَّأُ بِأهْلِها كَما تَتَكَفَّأُ السَّفِينَةُ فَثَبَّتَها اللَّهُ بِالجِبالِ» و(مِن) في ﴿مِن كُلِّ﴾ لِلتَّبْعِيضِ، وعِنْدَ الأخْفَشِ: هي زائِدَةٌ، أيْ كُلِّ شَيْءٍ. والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في (فِيها) يَعُودُ عَلى الأرْضِ المَمْدُودَةِ، وقِيلَ: يَعُودُ عَلى الجِبالِ، وقِيلَ: عَلَيْها وعَلى الأرْضِ مَعًا. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ جُبَيْرٍ: مَوْزُونٍ مُقَدَّرٌ بِقَدْرٍ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَرِيبًا مِنهُ، قالَ: وُزِنَ بِمِيزانِ الحِكْمَةِ، وقُدِّرَ بِمِقْدارٍ يَقْتَضِيهِ لا يَصْلُحُ فِيهِ زِيادَةٌ ولا نُقْصانٌ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قالَ الجُمْهُورُ: مَعْناهُ مُقَدَّرٌ مُحَرَّرٌ بِقَصْدٍ وإرادَةٍ، فالوَزْنُ عَلى هَذا مُسْتَعارٌ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: المُرادُ ما يُوزَنُ حَقِيقَةً كالذَّهَبِ والفِضَّةِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِمّا يُوزَنُ. وقالَ قَتادَةُ: مَوْزُونٍ مَقْسُومٌ. وقالَ مُجاهِدٌ: مَعْدُودٌ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أوْ لَهُ وزْنٌ وقَدْرٌ في أبْوابِ النِّعْمَةِ والمَنفَعَةِ. وبَسَطَهُ غَيْرُهُ فَقالَ: ما لَهُ مَنزِلَةٌ، كَما تَقُولُ: لَيْسَ لَهُ وزْنٌ، أيْ: قَدْرٌ ومَنزِلَةٌ. ويُقالُ: هَذا كَلامٌ مَوْزُونٌ، أيْ مَنظُومٌ غَيْرُ مُنْتَثِرٍ. فَعَلى هَذا، أيْ: أنْبَتْنا فِيها، ما يُوزَنُ مِنَ الجَواهِرِ والمَعادِنِ والحَيَوانِ. وقالَ تَعالى: ﴿وأنْبَتَها نَباتًا حَسَنًا﴾ [آل عمران: ٣٧] والمَقْصُودُ بِالإنْباتِ الإنْشاءُ والإيجادُ. وقَرَأ الأعْرَجُ وخارِجَةُ عَنْ نافِعٍ: مَعائِشَ، بِالهَمْزِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والوَجْهُ تَرْكُ الهَمْزِ، وعَلَّلَ ذَلِكَ بِما هو مَعْرُوفٌ في النَّحْوِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعايِشُ، بِياءٍ صَرِيحَةٍ، بِخِلافِ الشَّمائِلِ والخَبائِثِ، فَإنَّ تَصْرِيحَ الياءِ فِيها خَطَأٌ، والصَّوابُ الهَمْزَةُ، أوْ إخْراجُ الياءِ بَيْنَ بَيْنَ. وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ المَعايِشِ أوَّلَ الأعْرافِ، والظّاهِرُ أنَّ مَن لِمَن يَعْقِلُ، ويُرادُ بِهِ العِيالُ والمَمالِيكُ والخَدَمُ الَّذِينَ يَحْسَبُونَ أنَّهم يَرْزُقُونَهم ويُخْطِئُونَ، فَإنَّ اللَّهَ هو الرَّزّاقُ يَرْزُقُكم وإيّاهم. وقالَ مَعْناهُ الفَرّاءُ، ويَدْخُلُ مَعَهم ما لا يَعْقِلُ بِحُكْمِ التَّغْلِيبِ كالأنْعامِ والدَّوابِّ، و(ما) بِتِلْكَ المَثابَةِ مِمّا اللَّهُ رازِقُهُ، وقَدْ سَبَقَ إلى ظَنِّهِمْ أنَّهُمُ الرّازِقُونَ، وقالَ مَعْناهُ الزَّجّاجُ. وقالَ مُجاهِدٌ: الدَّوابُّ والأنْعامُ والبَهائِمُ. وقِيلَ: الوُحُوشُ والسِّباعُ والطَّيْرُ. فَعَلى هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ يَكُونُ (مَن) لِما لا يَعْقِلُ. والظّاهِرُ أنَّ (مَن) في مَوْضِعِ جَرٍّ (p-٤٥١)عَطْفًا عَلى الضَّمِيرِ المَجْرُورِ في لَكم، وهو مَذْهَبُ الكُوفِيِّينَ ويُونُسَ والأخْفَشِ. وقَدِ اسْتَدَلَّ القائِلُ عَلى صِحَّةِ هَذا المَذْهَبِ في البَقَرَةِ في قَوْلِهِ: ﴿وكُفْرٌ بِهِ والمَسْجِدِ الحَرامِ﴾ [البقرة: ٢١٧] وقالَ الزَّجّاجُ: (مَن) مَنصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وأعَشْنا مَن لَسْتُمْ، أيْ: أُمَمًا غَيْرَكم، لِأنَّ المَعْنى أعَشْناكم. وقِيلَ: عَطْفًا عَلى مَعايِشَ، أيْ: وجَعَلْنا لَكم مَن لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ مِنَ العَبِيدِ والصُّنّاعِ. وقِيلَ: والحَيَوانُ. وقِيلَ: عَطْفًا عَلى مَحَلِّ لَكم. وقِيلَ: (مَن) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ لِدَلالَةِ المَعْنى عَلَيْهِ، أيْ: ومَن لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ جَعَلْنا لَهُ فِيها مَعايِشَ. وهَذا لا بَأْسَ بِهِ، فَقَدْ أجازُوا: ضَرَبْتُ زَيْدًا وعَمْرٌو بِالرَّفْعِ عَلى الِابْتِداءِ، أيْ: وعَمْرٌو ضَرَبْتُهُ، فَحَذَفَ الخَبَرَ لِدَلالَةِ ما قَبْلَهُ عَلَيْهِ. وتَقَدَّمَ شَرْحُ الخَزائِنِ. وإنْ نافِيَةٌ، ومِن زائِدَةٌ، والظّاهِرُ أنَّ المَعْنى: وما مِن شَيْءٍ يَنْتَفِعُ بِهِ العِبادُ إلّا ونَحْنُ قادِرُونَ عَلى إيجادِهِ وتَكْوِينِهِ والإنْعامِ بِهِ، فَتَكُونُ الخَزائِنُ - وهي ما يُحْفَظُ فِيهِ الأشْياءُ - مُسْتَعارَةً مِنَ المَحْسُوسِ الَّذِي هو الجِسْمُ إلى المَعْقُولِ. وقالَ قَوْمٌ: المُرادُ: الخَزائِنُ حَقِيقَةً، وهي الَّتِي تُحْفَظُ فِيها الأشْياءُ، وأنَّ لِلرِّيحِ مَكانًا، ولِلْمَطَرِ مَكانًا، ولِكُلِّ مَكانٍ مَلَكٌ وحَفَظَةٌ، فَإذا أمَرَ اللَّهُ بِإخْراجِ شَيْءٍ مِنهُ أخْرَجَتْهُ الحَفَظَةُ. وقِيلَ: المُرادُ بِالشَّيْءِ هُنا المَطَرُ، قالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ. وقَرَأ الأعْمَشُ: (وما نُرْسِلُهُ) مَكانَ ﴿وما نَنَزِّلُهُ﴾، والإرْسالُ أعَمُّ، وهي قِراءَةُ تَفْسِيرِ مَعْنًى لا أنَّها لَفْظُ قُرْآنٍ، لِمُخالَفَتِها سَوادَ المُصْحَفِ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، والحَكَمِ بْنِ عُيَيْنَةَ: أنَّهُ لَيْسَ عامٌ أكْثَرَ مَطَرًا مِن عامٍ، ولَكِنَّ اللَّهَ تَعالى يُنَزِّلُهُ في مَواضِعَ دُونَ مَواضِعَ. ولَواقِحُ جَمْعُ لاقِحٍ، يُقالُ: رِيحٌ لاقِحٌ: جائِياتٌ بِخَيْرٍ مِن إنْشاءِ سَحابٍ ماطِرٍ، كَما قِيلَ لِلَّتِي لا تَأْتِي بِخَيْرٍ بَلْ بِشَرٍّ: رِيحٌ عَقِيمٌ، أوْ مَلاقِحُ؛ أيْ: حامِلاتٌ لِلْمَطَرِ. وفي صَحِيحِ البُخارِيِّ: لَواقِحُ: مَلاقِحُ مُلَقَّحَةٌ. وقالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: يُرْسِلُ اللَّهُ المُبَشِّرَةَ تَقُمُّ الأرْضَ قَمًّا، ثُمَّ المُثِيرَةَ، فَتُثِيرُ السَّحابَ. ثُمَّ المُؤَلَّفَةَ فَتُؤَلِّفُهُ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ اللَّواقِحَ فَتُلَقِّحُ الشَّجَرَ. ومَن قَرَأ بِإفْرادِ الرِّيحِ فَعَلى تَأْوِيلِ الجِنْسِ كَما قالُوا: أهْلَكَ النّاسَ الدِّينارُ الصُّفْرُ والدِّرْهَمُ البِيضُ، وسَقى وأسْقى قَدْ يَكُونانِ بِمَعْنًى واحِدٍ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: مَن سَقى الشَّفَةَ سَقى فَقَطْ، أوِ الأرْضَ والثِّمارَ أسْقى، ولِلدّاعِي لِأرْضٍ وغَيْرِها بِالسُّقْيا أسْقى فَقَطْ. وقالَ الأزْهَرِيُّ: العَرَبُ تَقُولُ لِكُلِّ ما كانَ مِن بُطُونِ الأنْعامِ، ومِنَ السَّماءِ، أوْ نَهْرٍ يَجْرِي: أسْقَيْتُهُ، أيْ: جَعَلْتُهُ شُرْبًا لَهُ، وجَعَلْتُ لَهُ مِنهُ مَسْقًى. فَإذا كانَ لِلشَّفَةِ قالُوا: سَقى، ولَمْ يَقُولُوا أسْقى. وقالَ أبُو عَلِيٍّ: سَقَيْتُهُ حَتّى رُوِيَ، وأسْقَيْتُهُ نَهْرًا جَعَلْتُهُ شُرْبًا لَهُ. وجاءَ الضَّمِيرُ هُنا مُتَّصِلًا بَعْدَ ضَمِيرٍ مُتَّصِلٍ كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ: ﴿أنُلْزِمُكُمُوها﴾ [هود: ٢٨] وتَقَدَّمَ أنَّ مَذْهَبَ سِيبَوَيْهِ فِيهِ وُجُوبُ الِاتِّصالِ. وما أنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ؛ أيْ: بِقادِرِينَ عَلى إيجادِهِ، تَنْبِيهًا عَلى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ، وإظْهارِ العَجْزِ. هم؛ أيْ: لَسْتُمْ بِقادِرِينَ عَلَيْهِ حِينَ احْتِياجِكم إلَيْهِ وقالَ سُفْيانُ: بِخازِنِينَ؛ أيْ: بِمانِعِينَ المَطَرَ. نُحْيِـي: نُخْرِجُهُ مِنَ العَدَمِ الصِّرْفِ إلى الحَياةِ. ونُمِيتُ: نُزِيلُ حَياتَهُ. ونَحْنُ الوارِثُونَ: الباقُونَ بَعْدَ فَناءِ الخَلْقِ. والمُسْتَقْدِمِينَ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ والضَّحّاكُ: الأمْواتُ، والمُسْتَأْخِرِينَ: الأحْياءُ. وقالَ قَتادَةُ وعِكْرِمَةُ وغَيْرُهُما: المُسْتَقْدِمِينَ في الخَلْقِ والمُسْتَأْخِرِينَ الَّذِينَ لَمْ يُخْلَقُوا بَعْدُ. وقالَ مُجاهِدٌ: المُسْتَقْدِمِينَ مِنَ الأُمَمِ والمُسْتَأْخِرِينَ: أُمَّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ . وقالَ الحَسَنُ وقَتادَةُ أيْضًا: في الطّاعَةِ والخَبَرِ، والمُسْتَأْخِرِينَ بِالمَعْصِيَةِ والشَّرِّ. وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: في صُفُوفِ الحَرْبِ، والمُسْتَأْخِرِينَ فِيهِ. وقِيلَ: مَن قُتِلَ في الجِهادِ، والمُسْتَأْخِرِينَ: مَن لَمْ يُقْتَلْ. وقِيلَ: في صُفُوفِ الصَّلاةِ، والمُسْتَأْخِرِينَ بِسَبَبِ النِّساءِ لِيَنْظُرُوا إلَيْهِنَّ. وقالَ قَتادَةُ أيْضًا: السّابِقِينَ إلى الإسْلامِ والمُتَقاعِسِينَ عَنْهُ. والأوْلى حَمْلُ هَذِهِ الأقْوالِ عَلى التَّمْثِيلِ لا عَلى الحَصْرِ، والمَعْنى: أنَّهُ تَعالى مُحِيطٌ عِلْمُهُ بِمَن تَقَدَّمَ وبِمَن تَأخَّرَ وبِأحْوالِهِمْ، ثُمَّ أعْلَمَ تَعالى أنَّهُ يَحْشُرُهم. وقَرَأ الأعْمَشُ: يَحْشِرُهم، بِكَسْرِ الشِّينِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ ومَرْوانُ بْنُ الحَكَمِ، وأبُو الحَوْراءِ: كانَتْ تُصَلِّي وراءَ الرَّسُولِ امْرَأةٌ جَمِيلَةٌ، فَبَعْضٌ يَتَقَدَّمُ لِئَلّا تَفْتِنَهُ (p-٤٥٢)وبَعْضٌ يَتَأخَّرُ لِيَسْرِقَ النَّظَرَ إلَيْها في الصَّلاةِ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ فِيهِمْ. وفَصَلَ هَذِهِ الآيَةَ بِهاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ مِنَ الحِكْمَةِ والعِلْمِ في غايَةِ المُناسَبَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب