الباحث القرآني

﴿مالِكِ﴾ قَرَأ مالِكِ عَلى وزْنِ فاعِلٍ بِالخَفْضِ عاصِمٌ والكِسائِيُّ، وخَلَفٌ في اخْتِيارِهِ، ويَعْقُوبُ، وهي قِراءَةُ العَشَرَةِ إلّا طَلْحَةَ والزُّبَيْرَ، وقِراءَةُ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحابَةِ مِنهم أُبَيٌّ وابْنُ مَسْعُودٍ ومُعاذٌ وابْنُ عَبّاسٍ، والتّابِعِينَ مِنهم قَتادَةُ والأعْمَشُ. وقَرَأ مَلِكِ عَلى وزْنِ فَعِلٍ بِالخَفْضِ باقِي السَّبْعَةِ وزَيْدٌ وأبُو الدَّرْداءِ وابْنُ عُمَرَ والمِسْوَرُ وكَثِيرٌ مِنَ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ. وقَرَأ مَلْكِ عَلى وزْنِ سَهْلٍ أبُو هُرَيْرَةَ وعاصِمٌ الجَحْدَرِيُّ، ورَواها الجُعْفِيُّ وعَبْدُ الوارِثِ عَنْ أبِي عَمْرٍو، وهي لُغَةُ بَكْرِ بْنِ وائِلٍ. وقَرَأ مَلِكِي بِإشْباعِ كَسْرَةِ الكافِ أحْمَدُ بْنُ صالِحٍ عَنْ ورْشٍ عَنْ نافِعٍ. وقَرَأ مِلْكِ عَلى وزْنِ عِجْلٍ أبُو عُثْمانَ النَّهْدِيُّ والشَّعْبِيُّ وعَطِيَّةُ، ونَسَبَها ابْنُ عَطِيَّةَ إلى أبِي حَياةَ. وقالَ صاحِبُ اللَّوامِحِ: قَرَأ أنَسُ بْنُ مالِكٍ وأبُو نَوْفَلٍ عُمَرُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ أبِي عَدِيٍّ مَلِكَ يَوْمَ الدِّينِ، بِنَصْبِ الكافِ مِن غَيْرِ ألِفٍ، وجاءَ كَذَلِكَ عَنْ أبِي حَياةَ، انْتَهى. وقَرَأ كَذَلِكَ إلّا أنَّهُ رَفَعَ الكافَ سَعْدُ بْنُ أبِي وقّاصٍ وعائِشَةُ ومُورِقٌ العِجْلِيِّ. وقَرَأ مَلَكَ فِعْلًا ماضِيًا أبُو حَياةَ وأبُو حَنِيفَةَ وجُبَيْرُ بْنُ مَطْعِمٍ وأبُو عاصِمٍ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيُّ وأبُو المَحْشَرِ عاصِمُ بْنُ مَيْمُونٍ الجَحْدَرِيُّ، فَيَنْصِبُونَ اليَوْمَ. وذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ أنَّ هَذِهِ قِراءَةُ يَحْيى بْنِ يَعْمَرَ والحَسَنِ وعَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ. وقَرَأ مالِكَ بِنَصْبِ الكافِ الأعْمَشُ وابْنُ السَّمَيْفَعِ وعُثْمانُ بْنُ أبِي سُلَيْمانَ وعَبْدُ المَلِكِ قاضِي الهِنْدِ. وذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ أنَّها قِراءَةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ وأبِي صالِحٍ السَّمّانِ وأبِي عَبْدِ المَلِكِ الشّامِيِّ. ورَوى ابْنُ أبِي عاصِمٍ عَنِ اليَمانِ مَلِكًا بِالنَّصْبِ والتَّنْوِينِ. وقَرَأ مالِكٌ بِرَفْعِ الكافِ والتَّنْوِينِ عَوْنٌ العُقَيلِيِّ، ورُوِيَتْ عَنْ خَلَفِ بْنِ هِشامٍ وأبِي عُبَيْدٍ وأبِي حاتِمٍ، وبِنَصْبِ اليَوْمِ. وقَرَأ مالِكُ يَوْمِ بِالرَّفْعِ والإضافَةِ أبُو هُرَيْرَةَ وأبُو حَياةَ وعُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ بِخِلافٍ عَنْهُ، ونَسَبَها صاحِبُ اللَّوامِحِ إلى أبِي رَوْحٍ عَوْنِ بْنِ أبِي شَدّادٍ العُقَيلِيِّ ساكِنِ البَصْرَةِ. وقَرَأ مَلِيكِ عَلى وزْنِ فَعِيلٍ أُبَيٌّ وأبُو هُرَيْرَةَ وأبُو رَجاءَ العُطارِدِيُّ. وقَرَأ مالِكِ بِالإمالَةِ البَلِيغَةِ يَحْيى بْنُ يَعْمَرَ وأيُّوبُ السِّخْتِيانِيُّ، وبَيْنَ بَيْنَ قُتَيْبَةُ بْنُ مِهْرانَ عَنِ الكِسائِيِّ. وجَهِلَ النَّقْلَ، أعْنِي في قِراءَةِ الإمالَةِ، أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ فَقالَ: لَمْ يُمِلْ أحَدٌ مِنَ القِراءَةِ ألِفَ مالِكٍ، وذَلِكَ جائِزٌ، إلّا أنَّهُ لا يُقْرَأُ بِما يَجُوزُ إلّا أنْ يَأْتِيَ بِذَلِكَ أثَرٌ مُسْتَفِيضٌ. وذَكَرَ أيْضًا أنَّهُ قُرِئَ في الشّاذِّ مَلّاكِ بِالألِفِ والتَّشْدِيدِ لِلّامِ وكَسْرِ الكافِ. فَهَذِهِ ثَلاثَ عَشْرَةَ قِراءَةً، بَعْضُها راجِعٌ إلى المَلْكِ، وبَعْضُها إلى المِلْكِ، قالَ اللُّغَوِيُّونَ: وهُما راجِعانِ إلى المَلْكِ، وهو الرَّبْطُ، ومِنهُ مَلْكُ العَجِينِ. وقالَ قَيْسُ بْنُ الخَطِيمِ: ؎مَلَكْتُ بِها كَفِّي فأنْهَرْتُ فَتْقَها يَرى قائِمٌ مِن دُونِها ما وراءَها. والإمْلاكُ رَبْطُ عَقْدِ النِّكاحِ، ومِن مُلَحِ هَذِهِ المادَّةِ أنَّ جَمِيعَ تَقالِيبِها السِّتَّةِ مُسْتَعْمَلَةٌ في اللِّسانِ، وكُلُّها راجِعٌ إلى مَعْنى القُوَّةِ والشِّدَّةِ، فَبَيْنَها كُلِّها قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ، وهَذا يُسَمّى بِالِاشْتِقاقِ الأكْبَرِ، ولَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ غَيْرُ أبِي الفَتْحِ. وكانَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ يَأْنَسُ بِهِ في بَعْضِ المَواضِعِ، وتِلْكَ التَّقالِيبُ: مَلَكَ، مَكَلَ، كَمْكَلَ، لَكَمَ، كَمُلَ، كَلَمَ. وزَعَمَ الفَخْرُ الرّازِيُّ أنَّ تَقْلِيبَ كَمْكَلَ مُهْمَلٌ ولَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلْ هو مُسْتَعْمَلٌ بِدَلِيلِ ما أنْشَدَ (p-٢١)الفَرّاءُ مِن قَوْلِ الشّاعِرِ: ؎فَلَمّا رَآنِي قَدْ حَمَمْتُ ارْتِحالَهُ ∗∗∗ تَمَلَّكَ لَوْ يُجْدِي عَلَيْهِ التَّمَلُّكُ. والمُلْكُ هو القَهْرُ والتَّسْلِيطُ عَلى مَن تَتَأتّى مِنهُ الطّاعَةُ، ويَكُونُ ذَلِكَ بِاسْتِحْقاقٍ وبِغَيْرِ اسْتِحْقاقٍ. والمَلْكُ هو القَهْرُ عَلى مَن تَتَأتّى مِنهُ الطّاعَةُ ومَن لا تَتَأتّى مِنهُ، ويَكُونُ ذَلِكَ مِنهُ بِاسْتِحْقاقٍ، فَبَيْنَهُما عُمُومٌ وخُصُوصٌ مِن وجْهٍ. وقالَ الأخْفَشُ: يُقالُ مَلَكَ مِنَ المُلْكِ بِضَمِّ المِيمِ، ومالِكِ مِنَ المِلْكِ بِكَسْرِ المِيمِ وفَتْحِها، وزَعَمُوا أنَّ ضَمَّ المِيمِ لُغَةٌ في هَذا المَعْنى. ورُوِيَ عَنْ بَعْضِ البَغْدادِيِّينَ لِي في هَذا الوادِي مُلْكٌ ومِلْكٌ بِمَعْنًى واحِدٍ. ﴿يَوْمِ﴾ اليَوْمُ هو المُدَّةُ مِن طُلُوعِ الفَجْرِ إلى غُرُوبِ الشَّمْسِ، ويُطْلَقُ عَلى مُطْلَقِ الوَقْتِ، وتَرْكِيبُهُ غَرِيبٌ، أعْنِي وُجُودَ مادَّةٍ تَكُونُ فاءُ الكَلِمَةِ فِيها ياءً وعَيْنُها واوًا لَمْ يَأْتِ مِن ذَلِكَ سِوى يَوْمٍ وتَصارِيفِهِ ويُوحُ اسْمٌ لِلشَّمْسِ، وبَعْضُهم زَعَمَ أنَّهُ بُوجٌ بِالباءِ والمُعْجَمَةِ بِواحِدَةٍ مِن أسْفَلَ. ﴿الدِّينِ﴾ الجَزاءُ، دَناهم كَما دانُوا، قالَهُ قَتادَةُ، والحِسابُ ﴿ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ﴾ [التوبة: ٣٦]، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، والقَضاءُ ﴿ولا تَأْخُذْكم بِهِما رَأْفَةٌ في دِينِ اللَّهِ﴾ [النور: ٢]، والطّاعَةُ في دِينِ عَمْرٍو، وحالَتْ بَيْنَنا وبَيْنَكَ فَدَكٌ، قالَهُ أبُو الفَضْلِ، والعادَةُ، كَدِينِكَ مِن أُمِّ الحُوَيْرِثِ قَبْلَها، وكَنّى بِها هُنا عَنِ العَمَلِ، قالَهُ الفَرّاءُ، والمِلَّةُ ﴿ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا﴾ [المائدة: ٣] ﴿إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ﴾ [آل عمران: ١٩]، والقَهْرُ ومِنهُ المَدِينُ لِلْعَبْدِ والمَدِينَةُ لِلْأُمَّةِ، قالَهُ يَمانُ بْنُ رِئابٍ. وقالَ أبُو عَمْرٍو الزّاهِدُ: وإنْ أطاعَ وعَصى وذَلَّ وعَزَّ وقَهَرَ وجارَ ومَلَكَ. وحَكى أهْلُ اللُّغَةِ: دِنْتُهُ بِفِعْلِهِ دَيْنًا بِفَتْحِ الدّالِ وكَسْرِها جازَيْتُهُ. وقِيلَ: الدَّينُ المَصْدَرُ، والدِّينُ بِالكَسْرِ الِاسْمُ، والدِّينُ السِّياسَةُ، والدَّيّانُ السّايَسُ. قالَ ذُو الإصْبَعِ عَنْهُ: ولا أنْتَ دَيّانِي فَتَخْزُوَنِي، والدِّينُ الحالُ. قالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: سَألْتُ أعْرابِيًّا عَنْ شَيْءٍ فَقالَ: لَوْ لَقِيتَنِي عَلى دِينٍ غَيْرَ هَذا لَأخْبَرْتُكَ، والدِّينُ الدّاءُ، عَنِ اللِّحْيانِي، وأنْشَدَ: ؎يا دِينُ قَلْبِكَ مِن سَلْمى وقَدْ دِينا ومَن قَرَأ بِجَرِّ الكافِ فَعَلى مَعْنى الصِّفَةِ، فَإنْ كانَ بِلَفْظِ مِلْكٍ عَلى فِعْلٍ بِكَسْرِ العَيْنِ أوْ إسْكانِها، أوْ مَلِيكٌ بِمَعْناهُ فَظاهِرٌ لِأنَّهُ وصَفَ مَعْرِفَةً بِمَعْرِفَةٍ، وإنْ كانَ بِلَفْظِ مالِكِ أوْ مَلّاكِ أوْ مَلِيكِ مُحَوَّلَيْنِ مِن مالِكٍ لِلْمُبالَغَةِ بِالمَعْرِفَةِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ قِراءَةُ مَن قَرَأ مَلَكَ يَوْمَ الدِّينِ فِعْلًا ماضِيًا، وإنْ كانَ بِمَعْنى الِاسْتِقْبالِ، وهو الظّاهِرُ لِأنَّ اليَوْمَ لَمْ يُوجَدْ فَهو مُشْكِلٌ؛ لِأنَّ اسْمَ الفاعِلِ إذا كانَ بِمَعْنى الحالِ أوِ الِاسْتِقْبالِ فَإنَّهُ تَكُونُ إضافَتُهُ غَيْرَ مَحْضَةٍ فَلا يَتَعَرَّفُ بِالإضافَةِ، وإنْ أُضِيفَ إلى مَعْرِفَةٍ فَلا يَكُونُ إذْ ذاكَ صِفَةً لِأنَّ المَعْرِفَةَ لا تُوصَفُ بِالنَّكِرَةِ ولا بَدَلَ نَكِرَةٍ مِن مَعْرِفَةٍ؛ لِأنَّ البَدَلَ بِالصِّفاتِ ضَعِيفٌ. (وحَلُّ هَذا الإشْكالِ) هو أنَّ اسْمَ الفاعِلِ إنْ كانَ بِمَعْنى الحالِ أوِ الِاسْتِقْبالِ جازَ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: ما قَدَّمْناهُ مِن أنَّهُ لا يَتَعَرَّفُ بِما أُضِيفَ إلَيْهِ، إذْ يَكُونُ مَنوِيًّا فِيهِ الِانْفِصالُ مِنَ الإضافَةِ، ولِأنَّهُ عَمِلَ النَّصْبَ لَفْظًا. الثّانِي: أنْ يَتَعَرَّفَ بِهِ إذا كانَ مَعْرِفَةً، فَيَلْحَظُ فِيهِ أنَّ المَوْصُوفَ صارَ مَعْرُوفًا بِهَذا الوَصْفِ، وكانَ تَقْيِيدُهُ بِالزَّمانِ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ، وهَذا الوَجْهُ غَرِيبُ النَّقْلِ، لا يَعْرِفُهُ إلّا مَن لَهُ اطِّلاعٌ عَلى كِتابِ سِيبَوَيْهِ وتَنْقِيبٌ عَنْ لَطائِفِهِ. قالَ سِيبَوَيْهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى -: وزَعَمَ يُونُسُ والخَلِيلُ أنَّ الصِّفاتِ المُضافَةَ الَّتِي صارَتْ صِفَةً لِلنَّكِرَةِ قَدْ يَجُوزُ فِيهِنَّ كُلِّهِنَّ أنْ يَكُنَّ مَعْرِفَةً، وذَلِكَ مَعْرُوفٌ في كَلامِ العَرَبِ، انْتَهى. واسْتَثْنى مِن ذَلِكَ بابَ الصِّفَةِ المُشَبَّهَةِ فَقَطْ، فَإنَّهُ لا يَتَعَرَّفُ بِالإضافَةِ نَحْوَ حَسَنِ الوَجْهِ. ومَن رَفَعَ الكافَ ونَوَّنَ أوْ لَمْ يُنَوِّنْ فَعَلى القَطْعِ إلى الرَّفْعِ، ومَن نَصَبَ فَعَلى القَطْعِ إلى النَّصْبِ، أوْ عَلى النِّداءِ، والقَطْعُ أغْرَبُ لِتَناسُقِ الصِّفاتِ، إذْ لَمْ يَخْرُجْ بِالقَطْعِ عَنْها. ومَن قَرَأ مَلَكَ فِعْلًا ماضِيًا فَجُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ لا مَوْضِعَ لَها مِنَ الإعْرابِ، ومَن أشْبَعَ كَسْرَةَ الكافِ فَقَدْ قَرَأ بِنادِرٍ أوْ بِما ذُكِرَ أنَّهُ لا يَجُوزُ إلّا في الشِّعْرِ، وإضافَةُ المِلْكِ أوِ المُلْكِ إلى يَوْمِ الدِّينِ إنَّما هو مِن بابِ الِاتِّساعِ، إذْ مُتَعَلِّقُهُما غَيْرَ اليَوْمِ، والإضافَةُ عَلى مَعْنى اللّامِ لا عَلى مَعْنى في، خِلافًا لِمَن أثْبَتَ الإضافَةَ بِمَعْنى في، ويُبْحَثُ في تَقْرِيرِ هَذا في النَّحْوِ، (p-٢٢)وإذا كانَ مِنَ المِلْكِ كانَ مِن بابِ: ؎طَبّاخِ ساعاتِ الكَرى زادَ الكَسِلْ . وظاهِرُ اللُّغَةِ تَغايُرُ المَلِكِ والمالِكِ كَما تَقَدَّمَ، وقِيلَ: هَمّا بِمَعْنًى واحِدٍ كالفَرِهِ والفارِهِ، فَإذا قُلْنا بِالتَّغايُرِ فَقِيلَ مالِكٌ أمْدَحُ لِحُسْنِ إضافَتِهِ إلى مَن لا تَحْسُنُ إضافَةُ المَلِكِ إلَيْهِ، نَحْوَ مالِكِ الجِنِّ والإنْسِ والمَلائِكَةِ والطَّيْرِ، فَهو أوْسَعُ لِشُمُولِ العُقَلاءِ وغَيْرِهِمْ، قالَ الشّاعِرُ: ؎سُبْحانَ مَن عَنَتِ الوُجُوهُ لِوَجْهِهِ ∗∗∗ مَلِكِ المُلُوكِ ومالِكِ العَفْرِ. قالَ الأخْفَشُ: ولا يُقالُ هُنا مِلْكُ، ولِقَوْلِهِمْ مالِكُ الشَّيْءِ لِمَن يَمْلِكُهُ، وقَدْ يَكُونُ مَلِكًا لا مالِكًا نَحْوَ مِلِكِ العَرَبِ والعَجَمِ، قالَهُ أبُو حاتِمٍ، ولِزِيادَتِهِ في البِناءِ، والعَرَبُ تُعَظِّمُ بِالزِّيادَةِ في البِناءِ، ولِلزِّيادَةِ في أجْزاءِ الثّانِي لِزِيادَةِ الحُرُوفِ، ولِكَثْرَةِ مَن عَلَيْها مِنَ القُرّاءِ، ولِتُمَكِّنَ التَّصَرُّفَ بِبَيْعٍ وهِبَةٍ وتَمْلِيكٍ، ولِإبْقاءِ المِلْكِ في يَدِ المالِكِ إذا تَصَرَّفَ بِجَوْرٍ أوِ اعْتِداءٍ أوْ سَرَفٍ، ولِتَعَيُّنِهِ في يَوْمِ القِيامَةِ، ولِعَدَمِ قُدْرَةِ المُلُوكِ عَلى انْتِزاعِهِ مِنَ المَلِكِ، ولِكَثْرَةِ رَجائِهِ في سَيِّدِهِ بِطَلَبِ ما يَحْتاجُ إلَيْهِ ولِوُجُوبِ خِدْمَتِهِ عَلَيْهِ، ولِأنَّ المالِكَ يَطْمَعُ فِيهِ، والمَلِكَ يَطْمَعُ فِيكَ، ولِأنَّ لَهُ رَأْفَةً ورَحْمَةً، والمَلِكُ لَهُ هَيْبَةً وسِياسَةً. وقِيلَ: مَلِكٌ أمْدَحُ وألْيَقُ إنْ لَمْ يُوصَفْ بِهِ اللَّهُ - تَعالى - لِإشْعارِهِ بِالكَثْرَةِ ولِتَمَدُّحِهِ بِمالِكِ المُلْكِ، ولَمْ يَقُلْ مالِكُ المُلْكِ، ولِتُوافِقَ الِابْتِداءَ والِاخْتِتامَ في قَوْلِهِ ﴿مَلِكِ النّاسِ﴾ [الناس: ٢]، والِاخْتِتامُ لا يَكُونُ إلّا بِأشْرَفِ الأسْماءِ، ولِدُخُولِ المالِكِ تَحْتَ حُكْمِ المِلْكِ، ولِوَصْفِهِ نَفْسَهُ بِالمُلْكِ في مَواضِعَ، ولِعُمُومِ تَصَرُّفِهِ فِيمَن حَوَتْهُ مَمْلَكَتُهُ، وقَصْرِ المُلْكِ عَلى مِلْكِهِ، قالَهُ أبُو عُبَيْدَةَ، ولِعَدَمِ احْتِياجِ المِلْكِ إلى الإضافَةِ، أوْ مالِكٌ لا بُدَّ لَهُ مِنَ الإضافَةِ إلى مَمْلُوكٍ، ولَكِنَّهُ أعْظَمُ النّاسِ، فَكانَ أشْرَفُ مِنَ المالِكِ. قالَ أبُو عَلِيٍّ: حَكى ابْنُ السَّرّاجِ عَمَّنِ اخْتارَ قِراءَةَ مَلِكِ كُلِّ شَيْءٍ بِقَوْلِهِ ﴿رَبِّ العالَمِينَ﴾ [الفاتحة: ٢]، فَقِراءَةُ مالِكِ تَقْرِيرٌ، قالَ أبُو عَلِيٍّ: ولا حُجَّةَ في هَذا، لِأنَّ في التَّنْزِيلِ تَقَدَّمَ العامُّ، ثُمَّ ذُكِرَ الخاصُّ مِنهُ ﴿الخالِقُ البارِئُ المُصَوِّرُ﴾ [الحشر: ٢٤]، فالخالِقُ يَعُمُّ، وذُكِرَ المُصَوِّرُ لِما في ذَلِكَ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلى الصَّنْعَةِ ووُجُوهِ الحِكْمَةِ، ومِنهُ ﴿وبِالآخِرَةِ هم يُوقِنُونَ﴾ [البقرة: ٤] بَعْدَ قَوْلِهِ ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ﴾ [البقرة: ٣]، وإنَّما كَرَّرَها تَعْظِيمًا لَها، وتَنْبِيهًا عَلى وُجُوبِ اعْتِقادِها، والرَّدِّ عَلى الكَفَرَةِ المُلْحِدِينَ، ومِنهُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، ذِكْرُ الرَّحْمَنِ الَّذِي هو عامٌّ، وذِكْرُ الرَّحِيمِ بَعْدَهُ لِتَخْصِيصِ الرَّحْمَةِ بِالمُؤْمِنِينَ في قَوْلِهِ ﴿وكانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: ٤٣]، انْتَهى. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وأيْضًا فَإنَّ الرَّبَّ يَتَصَرَّفُ في كَلامِ العَرَبِ بِمَعْنى المِلْكِ، كَقَوْلِهِ: ؎ومِن قَبْلُ رَبَّيْتِنِي فَصَفَتْ رُبُوبُ وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشَّواهِدِ، فَتَنْعَكِسُ الحُجَّةُ عَلى مَن قَرَأ مَلَكَ. والمُرادُ بِاليَوْمِ الَّذِي أُضِيفَ إلَيْهِ مالِكُ أوْ مَلِكُ زَمانٍ مُمْتَدٍّ إلى أنْ يَنْقَضِيَ الحِسابُ ويَسْتَقِرَّ أهْلُ الجَنَّةِ فِيها وأهْلُ النّارِ فِيها، ومُتَعَلَّقُ المُضافِ إلَيْهِ في الحَقِيقَةِ هو الأمْرُ، كَأنَّهُ قالَ مالِكُ أوْ مَلِكُ الأمْرِ في يَوْمِ الدِّينِ. لَكِنَّهُ لَمّا كانَ اليَوْمُ ظَرْفًا لِلْأمْرِ جازَ أنْ يَتَّسِعَ فَيَتَسَلَّطَ عَلَيْهِ المَلِكُ أوِ المالِكُ؛ لِأنَّ الِاسْتِيلاءَ عَلى الظَّرْفِ اسْتِيلاءٌ عَلى المَظْرُوفِ. وفائِدَةُ تَخْصِيصِ هَذِهِ الإضافَةِ، وإنْ كانَ اللَّهُ - تَعالى - مالِكَ الأزْمِنَةِ كُلِّها والأمْكِنَةِ ومَن حَلَّها والمِلْكُ فِيها التَّنْبِيهُ عَلى عِظَمِ هَذا اليَوْمِ بِما يَقَعُ فِيهِ مِنَ الأُمُورِ العِظامِ والأهْوالِ الجِسامِ مِن قِيامِهِمْ فِيهِ لِلَّهِ - تَعالى - والِاسْتِشْفاعِ لِتَعْجِيلِ الحِسابِ والفَصْلِ بَيْنَ المُحْسِنِ والمُسِيءِ واسْتِقْرارِهِما فِيما وعَدَهُما اللَّهُ - تَعالى - بِهِ، أوْ عَلى أنَّهُ يَوْمٌ يُرْجَعُ فِيهِ إلى اللَّهِ جَمِيعُ ما مَلَّكَهُ لِعِبادِهِ وخَوَّلَهم فِيهِ ويَزُولُ فِيهِ مِلْكُ كُلِّ مالِكٍ، قالَ - تَعالى -: ﴿وكُلُّهم آتِيهِ يَوْمَ القِيامَةِ فَرْدًا﴾ [مريم: ٩٥]، ﴿ولَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكم أوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الأنعام: ٩٤] . قالَ ابْنُ السَّرّاجِ: إنْ مَعْنى ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ إنَّهُ يَمْلِكُ مَجِيئَهُ ووُقُوعَهُ، فالإضافَةُ إلى اليَوْمِ عَلى قَوْلِهِ إضافَةٌ إلى المَفْعُولِ بِهِ عَلى الحَقِيقَةِ، ولَيْسَ ظَرْفًا اتَّسَعَ فِيهِ، وما فُسِّرَ بِهِ الدِّينُ مِنَ المَعانِي يَصِحُّ إضافَةُ اليَوْمِ إلَيْهِ إلى مَعْنى كُلٍّ مِنها إلّا المِلَّةَ، قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وابْنُ عَبّاسٍ وقَتادَةُ وابْنُ جُرَيْجٍ وغَيْرُهم: يَوْمُ الدِّينِ يَوْمُ الجَزاءِ عَلى الأعْمالِ والحِسابِ. قالَ أبُو عَلِيٍّ: ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ ﴿اليَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ﴾ [غافر: ١٧]، و﴿اليَوْمَ تُجْزَوْنَ (p-٢٣)ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الجاثية: ٢٨] . وقالَ مُجاهِدٌ: يَوْمُ الدِّينِ يَوْمُ الحِسابِ مَدِينِينَ مُحاسَبِينَ، وفي قَوْلِهِ: ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ دَلالَةٌ عَلى إثْباتِ المَعادِ والحَشْرِ والحِسابِ، ولَمّا اتَّصَفَ - تَعالى - بِالرَّحْمَةِ انْبَسَطَ العَبْدُ وغَلَبَ عَلَيْهِ الرَّجاءُ، فَنَبَّهْ بِصِفَةِ المَلِكِ أوِ المالِكِ لِيَكُونَ مِن عَمَلِهِ عَلى وجَلٍ، وأنَّ لِعَمَلِهِ يَوْمًا تَظْهَرُ لَهُ فِيهِ ثَمَرَتُهُ مِن خَيْرٍ وشَرٍّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب