الباحث القرآني
سُورَةُ الصّافّاتِ
مَكِّيَّةٌ ولَمْ يَحْكُوا في ذَلِكَ خِلافًا وهي مِائَةٌ وإحْدى وثَمانُونَ آيَةً عِنْدَ البَصْرِيِّينَ ومِائَةٌ واثْنَتانِ وثَمانُونَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، وفِيها تَفْصِيلُ أحْوالِ القُرُونِ المُشارِ إلى إهْلاكِها في قَوْلِهِ تَعالى في السُّورَةِ المُتَقَدِّمَةِ ﴿ألَمْ يَرَوْا كَمْ أهْلَكْنا قَبْلَهم مِنَ القُرُونِ أنَّهم إلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ﴾، وفِيها مِن تَفْصِيلِ أحْوالِ المُؤْمِنِينَ وأحْوالِ أعْدائِهِمُ الكافِرِينَ يَوْمَ القِيامَةِ ما هو كالإيضاحِ لِما في تِلْكَ السُّورَةِ مِن ذَلِكَ، وذُكِرَ فِيها شَيْءٌ مِمّا يَتَعَلَّقُ بِالكَواكِبِ لَمْ يُذْكَرْ فِيما تَقَدَّمَ، ولِمَجْمُوعِ ما ذُكِرَ ذُكِرَتْ بَعْدَها. وفي البَحْرِ مُناسِبَةُ أوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ لِآخِرِ سُورَةِ يس أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ المَعادَ وقُدْرَتَهُ سُبْحانَهُ عَلى إحْياءِ المَوْتى، وأنَّهُ هو مُنْشِئُهُمْ، وأنَّهُ إذا تَعَلَّقَتْ إرادَتُهُ بِشَيْءٍ كانَ، ذَكَرَ - عَزَّ وجَلَّ - هُنا وحْدانِيَّتَهُ سُبْحانَهُ إذْ لا يَتِمُّ ما تَعَلَّقَتْ بِهِ الإرادَةُ إيجادًا وإعْدامًا إلّا بِكَوْنِ المُرِيدِ واحِدًا كَما يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ - تَعالى -: ﴿لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إلا اللَّهُ لَفَسَدَتا﴾ .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿والصّافّاتِ صَفًّا﴾ إقْسامٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى بِالمَلائِكَةِ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ - كَما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وابْنِ مَسْعُودٍ ومَسْرُوقٍ ومُجاهِدٍ وعِكْرِمَةَ وقَتادَةَ والسُّدِّيِّ، وأبى أبُو مُسْلِمٍ ذَلِكَ وقالَ: لا يَجُوزُ حَمْلُ هَذا اللَّفْظِ - وكَذا ما بَعْدُ - عَلى المَلائِكَةِ؛ لِأنَّ اللَّفْظَ مُشْعِرٌ بِالتَّأْنِيثِ والمَلائِكَةُ مُبَرَّأُونَ عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ، وفِيهِ أنَّ هَذا في مَعْنى جَمْعِ الجَمْعِ فَهو جَمْعُ صافَّةٍ أيْ طائِفَةٍ أوْ جَماعَةٍ صافَّةٍ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ تَأْنِيثَ المُفْرَدِ بِاعْتِبارِ أنَّهُ ذاتٌ ونَفْسٌ، والتَّأْنِيثُ المَعْنَوِيُّ هو الَّذِي لا يَحْسُنُ أنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِمْ، وأمّا اللَّفْظِيُّ فَلا مانِعَ مِنهُ، كَيْفَ وهُمُ المُسَمَّوْنَ بِالمَلائِكَةِ! والوَصْفُ المَذْكُورُ مُنَزَّلٌ مُنَزَّلَةَ اللّازِمِ عَلى أنَّ المُرادَ إيقاعُ نَفْسِ الفِعْلِ مِن غَيْرِ قَصْدٍ إلى المَفْعُولِ أيِ الفاعِلاتِ لِلصُّفُوفِ أوِ المَفْعُولُ مَحْذُوفٌ أيِ الصّافّاتِ أنْفُسَها أيِ النّاظِماتِ لَها في سَلْكِ الصُّفُوفِ بِقِيامِها في مَقاماتِها المَعْلُومَةِ حَسَبَما يَنْطِقُ بِهِ قَوْلُهُ - تَعالى -: ﴿وما مِنّا إلا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ﴾ وذَلِكَ بِاعْتِبارِ تُقَدُّمِ الرُّتْبَةِ والقُرْبِ (p-65)مِن حَظِيرَةِ القُدْسِ، أوِ الصّافّاتِ أنْفُسَها القائِماتِ صُفُوفًا لِلْعِبادَةِ، وقِيلَ: الصّافّاتِ أقْدامَها لِلصَّلاةِ، وقِيلَ: الصّافّاتِ أجْنِحَتَها في الهَواءِ مُنْتَظَراتٍ أمْرَ اللَّهِ تَعالى، وقِيلَ: المُرادُ بِالصّافّاتِ الطَّيْرُ مِن قَوْلِهِ تَعالى ﴿والطَّيْرُ صافّاتٍ﴾ ولا يُعَوَّلُ عَلى ذَلِكَ، و﴿صَفًّا﴾ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ، وكَذا ﴿زَجْرًا﴾ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿فالزّاجِراتِ زَجْرًا﴾ وقِيلَ: صَفًّا مَفْعُولٌ بِهِ وهو مُفْرَدٌ أُرِيدَ بِهِ الجَمْعُ أيِ الصّافّاتِ صُفُوفَها ولَيْسَ بِذاكَ، والمُرادُ بِالزّاجِراتِ المَلائِكَةُ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ - أيْضًا عِنْدَ الجُمْهُورِ، والزَّجْرُ في الأصْلِ الدَّفْعُ عَنِ الشَّيْءِ بِتَسَلُّطٍ وصِياحٍ وأنْشَدُوا:
؎زَجَرَ أبِي عُرْوَةَ السُّباعَ إذا أشْفَقَ أنْ يَخْتَلِطْنَ بِالغَنَمِ
ويُسْتَعْمَلُ بِمَعْنى السَّوْقُ والحَثِّ وبِمَعْنى المَنعِ والنَّهْيِ وإنْ لَمْ يَكُنْ صِياحٌ، والوَصْفُ مُنَزَّلٌ مَنزِلَةَ اللّازِمِ أوْ مَفْعُولُهُ مَحْذُوفٌ أيِ الفاعِلاتِ لِلزَّجْرِ، أوِ الزّاجِراتِ ما نِيطَ بِها زَجْرُهُ مِنَ الأجْرامِ العُلْوِيَّةِ والسُّفْلِيَّةِ وغَيْرِها عَلى وجْهٍ يَلِيقُ بِالمَزْجُورِ، ومِن جُمْلَةِ ذَلِكَ زَجْرُ العِبادِ عَنِ المَعاصِي بِإلْهامِ الخَيْرِ وزَجْرِ الشَّياطِينِ عَنِ الوَسْوَسَةِ والإغْواءِ وعَنِ اسْتِراقِ السَّمْعِ كَما سَيَأْتِي قَرِيبًا إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى، وعَنْ قَتادَةَ المُرادُ بِالزّاجِراتِ آياتُ القُرْآنِ لِتَضَمُّنِها النَّواهِيَ الشَّرْعِيَّةَ، وقِيلَ: كُلُّ ما زَجَرَ عَنْ مَعاصِي اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، والمَعُوَّلُ عَلَيْهِ ما تَقَدَّمَ، وكَذا المُرادُ كَما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وابْنِ مَسْعُودٍ وغَيْرِهِما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فالتّالِياتِ ذِكْرًا﴾ المَلائِكَةُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ.
و(ذِكْرًا) نُصِبَ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ وتَنْوِينُهُ لِلتَّفْخِيمِ، وهو بِمَعْنى المَذْكُورِ المَتْلُوِّ، وفُسِّرَ بِكِتابِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ.
قالَ أبُو صالِحٍ: هُمُ المَلائِكَةُ يَجِيئُونَ بِالكِتابِ والقُرْآنِ مِن عِنْدِ اللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ - إلى النّاسِ فالمُرادُ بِتِلاوَتِهِ تِلاوَتُهُ عَلى الغَيْرِ، وفَسَّرَهُ بَعْضُهم بِالآياتِ والمَعارِفِ الإلَهِيَّةِ، والمَلائِكَةُ يَتْلُونَهُما عَلى الأنْبِياءِ والأوْلِياءِ، وسَيَأْتِي - إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى - في بابِ الإشارَةِ ما يَتَعَلَّقُ بِتِلاوَةِ المَلائِكَةِ ذَلِكَ عَلى الأوْلِياءِ قَدَّسَ اللَّهُ تَعالى أسْرارَهُمْ، وقالَ بَعْضٌ: أيْ فالتّالِياتِ آياتِ اللَّهِ تَعالى وكُتُبَهُ المُنَزَّلَةَ عَلى الأنْبِياءِ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ - وغَيْرَها مِنَ التَّسْبِيحِ والتَّقْدِيسِ والتَّحْمِيدِ والتَّمْجِيدِ، ولَعَلَّ التِّلاوَةَ عَلى هَذا أعَمُّ مِنَ التِّلاوَةِ عَلى الغَيْرِ وغَيْرِها، وقِيلَ (ذِكْرًا) نُصِبَ عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ عَلى غَيْرِ اللَّفْظِ لِتَكُونَ المَنصُوباتُ عَلى نَسَقٍ واحِدٍ، وقالَ قَتادَةُ: ﴿فالتّالِياتِ ذِكْرًا﴾ بَنُو آدَمَ يَتْلُونَ كِتابَهُ تَعالى المُنَزَّلَ وتَسْبِيحَهُ وتَكْبِيرَهُ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعالى أقْسَمَ بِنُفُوسِ العُلَماءِ العُمّالِ الصّافّاتِ أنْفُسَها في صُفُوفِ الجَماعاتِ أوْ أقْدامَها في الصَّلَواتِ، الزّاجِراتِ بِالمَواعِظِ والنَّصائِحِ، التّالِياتِ آياتِ اللَّهِ تَعالى، الدّارِساتِ شَرائِعَهُ وأحْكامَهُ، أوْ بِطَوائِفِ قُوّادِ الغُزاةِ في سَبِيلِ اللَّهِ تَعالى الَّتِي تَصُفُّ الصُّفُوفَ في مُواطِنِ الحُرُوبِ، الزّاجِراتِ الخَيْلَ لِلْجِهادِ سَوْقًا أوِ العَدُوَّ في المَعارِكِ طَرْدًا، التّالِياتِ آياتِ اللَّهِ سُبْحانَهُ وذِكْرَهُ وتَسْبِيحَهُ في تَضاعِيفِ ذَلِكَ.
وجُوِّزَ أيْضًا أنْ يَكُونَ أقْسَمَ سُبْحانَهُ بِطَوائِفِ الأجْرامِ الفَلَكِيَّةِ المُرَتَّبَةِ كالصُّفُوفِ المَرْصُوصَةِ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ، والنُّفُوسِ المُدَبِّرَةِ لِتِلْكَ الأجْرامِ بِالتَّحْرِيكِ ونَحْوِهِ، والجَواهِرِ القُدْسِيَّةِ المُسْتَغْرِقَةِ في بِحارِ القُدْسِ يَسْبَحُونَ اللَّيْلَ والنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ وهُمُ المَلائِكَةُ الكَرُوبِيُّونَ ونَحْوُهُمْ، وهَذا بَعِيدٌ بِمَراحِلَ عَنْ مَذْهَبِ السَّلَفِ الصّالِحِ بَلْ عَنْ مَذْهَبِ أهْلِ السُّنَّةِ مُطْلَقًا كَما لا يَخْفى، والفاءُ العاطِفَةُ لِلصِّفاتِ قَدْ تَكُونُ لِتَرْتِيبِ مَعانِيها الوَصْفِيَّةِ في الوُجُودِ الخارِجِيِّ إذا كانَتِ الذّاتُ المُتَّصِفَةُ بِها واحِدَةً كَما في قَوْلِهِ:
؎يا لَهَفَ زَيابَةَ لِلْحادِثِ السْـ ∗∗∗ سابِحِ فالغانِمِ فالآيِبِ
(p-66)أيِ الَّذِي سَبَحَ فَغَنِمَ فَآبَ ورَجَعَ، أوْ لِتَرْتِيبِ مَعانِيها في الرُّتْبَةِ إذا كانَتِ الذّاتُ واحِدَةً أيْضًا كَما في قَوْلِكَ: أتَمُّ العَقْلِ فِيكَ إذا كُنْتَ شابًّا فَكَهْلًا، أوْ لِتَرْتِيبِ المَوْصُوفاتِ بِها في الوُجُودِ كَما في قَوْلِكَ: وقَفْتُ كَذا عَلى بَنِيَّ بَطْنًا فَبَطْنًا، أوْ في الرُّتْبَةِ نَحْوُ رَحِمَ اللَّهُ تَعالى المُحَلِّقِينَ فالمُقَصِّرِينَ، وكِلاهُما مَعَ تَعَدُّدِ المَوْصُوفِ، والتَّرْتِيبُ الرُّتْبِيُّ إمّا بِاعْتِبارِ التَّرَقِّي أوْ بِاعْتِبارِ التَّدَلِّي، وهي إذا كانَتِ الذّاتُ المُتَّصِفَةُ بِالصِّفاتِ هُنا واحِدَةً وهُمُ المَلائِكَةُ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ - بِأسْرِهِمْ تَحْتَمِلُ أنْ تَكُونَ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ بِاعْتِبارِ التَّرَقِّي؛ فالصَّفُّ في الرُّتْبَةِ الأُولى لِأنَّهُ عَمَلٌ قاصِرٌ، والزَّجْرُ أعْلى مِنهُ لِما فِيهِ مِن نَفْعِ الغَيْرِ، والتِّلاوَةِ أعْلى وأعْلى لِما فِيها مِن نَفْعِ الخاصَّةِ السّارِي إلى نَفْعِ العامَّةِ بِما فِيهِ صَلاحُ المَعاشِ والمَعادِ، أوْ لِلتَّرْتِيبِ الخارِجِيِّ مِن حَيْثُ وُجُودُ ذَواتِ الصِّفاتِ؛ فالصَّفُّ يُوجَدُ أوَّلًا؛ لِأنَّهُ كَمالٌ لِلْمَلائِكَةِ في نَفْسِها، ثُمَّ يُوجَدُ بَعْدَهُ الزَّجْرُ لِلْغَيْرِ لِأنَّهُ تَكْمِيلٌ لِلْغَيْرِ يَسْتَعِدُّ بِهِ الشَّخْصُ ما لَمْ يَكْمُلْ في نَفْسِهِ لا يَتَأهَّلُ لِأنْ يُكْمِلَ غَيْرَهُ، ثُمَّ تُوجَدُ التِّلاوَةُ بِناءً عَلى أنَّها إفاضَةٌ عَلى الغَيْرِ المُسْتَعِدِّ لَها وذا لا يَتَحَقَّقُ إلّا بَعْدَ حُصُولِ الِاسْتِعْدادِ الَّذِي هو مِن آثارِ الزَّجْرِ، وإذا كانَتِ الذّاتُ المُتَّصِفَةُ بِها مِنَ المَلائِكَةِ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ - مُتَعَدِّدَةً بِمَعْنى أنَّ صِنْفًا مِنهم كَذا وصِنْفًا آخَرَ كَذا، فالظّاهِرُ أنَّها لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ بِاعْتِبارِ التَّرَقِّي كَما في الشِّقِّ الأوَّلِ، فالجَماعاتُ الصّافّاتُ كامِلُونَ، والزّاجِراتُ أكْمَلُ مِنها، والتّالِياتُ أكْمَلُ وأكْمَلُ كَما يُعْلَمُ مِمّا سَبَقَ، وقِيلَ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ بِعَكْسِ ذَلِكَ بِأنْ يُرادَ بِالصّافّاتِ جَماعاتٌ مِنَ المَلائِكَةِ صافّاتٌ مِن حَوْلِ العَرْشِ قائِماتٌ في مَقامِ العُبُودِيَّةِ وهُمُ الكُرُوبِيُّونَ المُقَرَّبُونَ أوْ مَلائِكَةٌ آخَرُونَ يُقالُ لَهم كَما ذَكَرَ الشَّيْخُ الأكْبَرُ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ المُهَيَّمُونَ مُسْتَغْرِقُونَ بِحُبِّهِ تَعالى لا يَدْرِي أحَدُهم أنَّ اللَّهَ - عَزَّ وجَلَّ - خَلَقَ غَيْرَهُ، وذَكَرَ أنَّهم لَمْ يُؤْمَرُوا بِالسُّجُودِ لِآدَمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - لِعَدَمِ شُعُورِهِمْ بِاسْتِغْراقِهِمْ بِهِ تَعالى وأنَّهُمُ المَعْنِيُّونَ بِالعالِينَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أسْتَكْبَرْتَ أمْ كُنْتَ مِنَ العالِينَ﴾، وبِالزّاجِراتِ جَماعاتٌ أُخَرُ أُمِرَتْ بِتَسْخِيرِ العُلْوِيّاتِ والسُّفْلِياتِ وتَدْبِيرِها لِما خُلِقَتْ لَهُ وهي في الفَضْلِ عَلى ما لَها مِنَ النَّفْعِ لِلْعِبادِ دُونَ الصّافّاتِ، وبِالتّالِياتِ ذِكْرًا جَماعاتٌ أُخَرُ أُمِرَتْ بِتِلاوَةِ المَعارِفِ عَلى خَواصِّ الخَلْقِ وهي لِخُصُوصِ نَفْعِها دُونَ الزّاجِراتِ، أوِ المُرادُ بِالزّاجِراتِ الزّاجِراتُ النّاسَ عَنِ القَبِيحِ بِإلْهامِ جِهَةِ قُبْحِهِ وما يُنَفِّرُ عَنِ ارْتِكابِهِ وبِالتّالِياتِ ذِكْرًا المُلْهِماتِ لِلْخَيْرِ والجِهاتِ المُرَغِّبَةِ فِيهِ، ولِكَوْنَ دَفْعِ الضُّرِّ أوْلى مِن جَلْبِ الخَيْرِ ودَرْأِ المَفاسِدِ أهَمَّ مِن جَلْبِ المَصالِحِ؛ ولِذا قِيلَ التَّخْلِيَةُ بِالخاءِ مُقَدَّمَةٌ عَلى التَّحْلِيَةِ - كانَتِ التّالِياتُ دُونَ الزّاجِراتِ، وحالُ الفاءِ عَلى سائِرِ الأقْوالِ السّابِقَةِ في الصِّفاتِ لا يَخْفى عَلى مَن لَهُ أدْنى تَأمُّلٍ، ويَجُوزُ عِنْدِي - واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ - أنْ يُرادَ بِالصّافّاتِ المُصْطَفُّونَ لِلْعِبادَةِ مِن صَلاةٍ ومُحارَبَةِ كَفَرَةٍ - مَثَلًا - مَلائِكَةً كانُوا أمْ أناسِيَّ أمْ غَيْرَهُما، وبِالزّاجِراتِ الزّاجِرُونَ عَنِ ارْتِكابِ المَعاصِي بِأقْوالِهِمْ أوْ أفْعالِهِمْ كائِنِينَ مَن كانُوا، وبِالتّالِياتِ ذِكْرًا التّالُونَ لِآياتِ اللَّهِ تَعالى عَلى الغَيْرِ لِلتَّعْلِيمِ أوْ نَحْوِهِ كَذَلِكَ، ولا عِنادَ بَيْنَ هَذِهِ الصِّفاتِ فَتَجْتَمِعُ في بَعْضِ الأشْخاصِ، ولَعَلَّ التَّرْتِيبَ عَلى سَبِيلِ التَّرَقِّي بِاعْتِبارِ نَفْسِ الصِّفاتِ فالِاصْطِفافُ لِلْعِبادَةِ كَمالٌ، والزَّجْرُ عَنِ ارْتِكابِ المَعاصِي أكْمَلُ، والتِّلاوَةُ لِآياتِ اللَّهِ تَعالى لِلتَّعْلِيمِ لِتَضَمُّنِهِ الأمْرَ بِالطّاعاتِ والنَّهْيِ عَنِ المَعاصِي والتَّخَلِّي عَنِ الرَّذائِلِ والتَّحَلِّي بِالمَعارِفِ إلى أُمُورٍ أُخَرَ أكْمَلُ وأكْمَلُ، وجَعْلُ الصِّفاتِ المَذْكُورَةِ لِمَوْصُوفٍ واحِدٍ مِنَ المَلائِكَةِ عَلى ما مَرَّ بِأنَّ تَكُونَ جَماعاتٌ مِنهم صافّاتٍ بِمَعْنى صافّاتٍ أنْفُسَها في سِلْكِ الصُّفُوفِ بِالقِيامِ في مَقاماتِها المَعْلُومَةِ أوِ القائِماتِ صُفُوفًا لِلْعِبادَةِ وتالِياتٍ ذِكْرًا بِمَعْنى تالِياتٍ الآياتِ بِطَرِيقِ الوَحْيِ عَلى الأنْبِياءِ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ - لا يَخْلُو عَنْ بُعْدٍ فِيما أرى، عَلى (p-67)أنَّ تَعَدُّدَ المَلائِكَةِ التّالِينَ لِلْوَحْيِ سَواءٌ كانَ صِنْفًا مُسْتَقِلًّا أمْ لا مِمّا يُشْكِلُ عَلَيْهِ ما ذَكَرَهُ غَيْرُ واحِدٍ أنَّ الأمِينَ عَلى الوَحْيِ التّالِي لِلذِّكْرِ عَلى الأنْبِياءِ هو جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - لا غَيْرَ، نَعَمْ مِنَ الآياتِ ما يَنْزِلُ مُشَيَّعًا بِجَمْعٍ مِنَ المَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، ونَطَقَ الكِتابُ الكَرِيمُ بِالرَّصْدِ عِنْدَ إبْلاغِ الوَحْيِ، وهَذا أمْرٌ والتِّلاوَةُ عَلى الأنْبِياءِ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ - أمْرٌ آخَرُ فَتَأمَّلْ جَمِيعَ ذَلِكَ، وفي المُرادِ بِالصِّفاتِ المُتَناسِقَةِ احْتِمالاتٌ غَيْرُ ما ذُكِرَ فَلا تَغْفُلْ. وأيًّا ما كانَ فالقَسَمُ بِتِلْكَ الجَماعاتِ أنْفُسِها ولا حَجْرَ عَلى اللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ - فَلَهُ سُبْحانَهُ أنْ يُقْسِمَ بِما شاءَ، فَلا حاجَةَ إلى القَوْلِ بِأنَّ الكَلامَ عَلى حَذْفِ مُضافٍ أيْ ورَبِّ الصّافّاتِ مَثَلًا، والآيَةُ ظاهِرَةُ الدَّلالَةِ عَلى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ والخَلِيلِ في مِثْلِ ﴿واللَّيْلِ إذا يَغْشى﴾ ﴿والنَّهارِ إذا تَجَلّى﴾ مِن أنَّ الواوَ الثّانِيَةَ وما بَعْدَها لِلْعِطْفِ خِلافًا لِمَذْهَبِ غَيْرِهِما مِن أنَّها لِلْقَسَمِ لِوُقُوعِ الفاءِ فِيها مَوْقِعَ الواوِ إلّا أنَّها تُفِيدُ التَّرْتِيبَ. وأدْغَمَ ابْنُ مَسْعُودٍ ومَسْرُوقٌ والأعْمَشُ وأبُو عَمْرٍو وحَمْزَةُ التّاءاتِ الثَّلاثَ فِيما يَلِيها لِلتَّقارُبِ فَإنَّها مِن طَرَفِ اللِّسانِ وأُصُولِ الثَّنايا.
{"ayahs_start":1,"ayahs":["وَٱلصَّـٰۤفَّـٰتِ صَفࣰّا","فَٱلزَّ ٰجِرَ ٰتِ زَجۡرࣰا","فَٱلتَّـٰلِیَـٰتِ ذِكۡرًا"],"ayah":"فَٱلتَّـٰلِیَـٰتِ ذِكۡرًا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق