الباحث القرآني

﴿قُلْ لَوْ أنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إذًا لأمْسَكْتُمْ﴾ أيْ خَزائِنَ نِعَمِهِ الَّتِي أفاضَها عَلى كافَّةِ المَوْجُوداتِ فالرَّحْمَةُ مَجازٌ عَنِ النِّعَمِ والخَزائِنُ اسْتِعارَةٌ تَحْقِيقِيَّةٌ أوْ تَخْيِيلِيَّةٌ، و«أنْتُمْ» عَلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ الحُوفِيُّ والزَّمَخْشَرِيُّ وأبُو البَقاءِ وابْنُ عَطِيَّةَ وغَيْرُهم فاعِلٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ المَذْكُورُ؛ لِأنَّ «لَوْ» يَمْتَنِعُ أنْ يَلِيَها الِاسْمُ والأصْلُ: لَوْ تَمْلِكُونَ تَمْلِكُونَ فَلَمّا حُذِفَ الفِعْلُ انْفَصَلَ الضَّمِيرُ، ومِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُ حاتِمٍ وقَدْ أُسِرَ فَلَطَمَتْهُ جارِيَةٌ: لَوْ ذاتُ سِوارٍ لَطَمَتْنِي، وقَوْلُ المُتَلَمِّسِ: ؎ولَوْ غَيْرُ أخْوالِي أرادُوا نَقِيصَتِي جَعَلْتُ لَهم فَوْقَ العِرانِينِ مِيسَما وفائِدَةُ الحَذْفِ والتَّفْسِيرِ عَلى ما قِيلَ الإيجازُ فَإنَّهُ بَعْدَ قَصْدِ التَّوْكِيدِ لَوْ قِيلَ: تَمْلِكُونَ تَمْلِكُونَ لَكانَ إطْنابًا وتَكْرارًا بِحَسَبِ الظّاهِرِ، والمُبالَغَةُ لِتَكْرِيرِ الإسْنادِ أوْ لِتَكْرِيرِ الشَّرْطِ فَإنَّهُ يَقْتَضِي تَكَرُّرَ تَرَتُّبِ الجَزاءِ عَلَيْهِ والدَّلالَةَ عَلى الِاخْتِصاصِ وذَلِكَ بِناءً عَلى أنَّ «أنْتُمْ» بِعَيْنِهِ ضَمِيرُ «تَمْلِكُونَ» المُؤَخَّرِ فَهو في المَعْنى فاعِلٌ مُقَدَّمٌ وتَقْدِيمُ الفاعِلِ المَعْنَوِيِّ يُفِيدُ الِاخْتِصاصَ إذا ناسَبَ المَقامَ فَيُفِيدُ الكَلامُ حِينَئِذٍ تَرَتُّبَ الإمْساكِ، وسَيَأْتِي قَرِيبًا إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى المُرادُ مِنهُ عَلى تَفَرُّدِهِمْ بِمِلْكِ الخَزائِنِ ويُعْلَمُ مِنهُ تَرَتُّبُهُ عَلى مِلْكِها بِالِاشْتِراكِ بِالطَّرِيقِ الأوْلى، وإلى تَخْرِيجِ مِثْلِ هَذا التَّرْكِيبِ عَلى هَذا الطَّرْزِ ذَهَبَ البَصْرِيُّونَ بَيْدَ أنَّ أبا الحَسَنِ بْنَ الصّائِغِ وغَيْرَهُ صَرَّحُوا بِأنَّهم يَمْنَعُونَ إيلاءَ لَوْ فِعْلًا مُضْمَرًا في الفَصِيحِ ويُجِيزُونَهُ في الضَّرُورَةِ وفي نادِرِ كَلامٍ، ولَعَلَّ شِعْرَ المُتَلَمِّسِ ومَثَلِ حاتِمٍ عِنْدَهم مِن ذَلِكَ، والحَقُّ خِلافُ ذَلِكَ. وقالَ أبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ فَضالَةَ المُجاشِعِيُّ: إنَّ التَّقْدِيرَ: لَوْ كُنْتُمْ أنْتُمْ تَمْلِكُونَ، وظاهِرُهُ أنَّ أنْتُمْ عِنْدَهُ تَوْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ المَحْذُوفِ مَعَ الفِعْلِ ولَيْسَ بِشَيْءٍ، وقالَ أبُو الحَسَنِ بْنُ الصّائِغِ: إنَّ الأصْلَ: لَوْ كُنْتُمْ تَمْلِكُونَ فَحُذِفَتْ كانَ وحْدَها وانْفَصَلَ الضَّمِيرُ فَهو عِنْدُهُ اسْمٌ لِكانَ مَحْذُوفَةً وجُمْلَةُ: «تَمْلِكُونَ» خَبَرُها وعَلى هَذا تُخَرَّجُ نَظائِرُهُ. قالَ أبُو حَيّانَ بَعْدَ نَقْلِ ما تَقَدَّمَ: وهَذا التَّخْرِيجُ أحْسَنُ لِأنَّ حَذْفَ كانَ بَعْدَ لَوْ مَعْهُودٌ في لِسانِ العَرَبِ، ولا يَخْفى أنَّ الكَلامَ عَلى ما سَمِعْتَ أوَّلًا أفْيَدُ وإنْ كانَ الظّاهِرُ أنَّ الإمْساكَ عَلى هَذا يَكُونُ عَلى اسْتِمْرارِ المِلْكِ، والمُرادُ مِنَ الإمْساكِ البُخْلُ؛ وذَلِكَ لِأنَّ البُخْلَ إمْساكٌ خاصٌّ، فَلَمّا حُذِفَ المَفْعُولُ ووُجِّهَ إلى نَفْسِ الفِعْلِ بِمَعْنى لَفَعَلْتُمُ الإمْساكَ جُعِلَ كِنايَةً عَنْ أبْلَغِ أنْواعِهِ وأقْبَحِها، وإلى كَوْنِهِ كِنايَةً عَمّا ذُكِرَ ذَهَبَ صاحِبُ الفَرائِدِ وغَيْرُهُ. وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ مُضَمَّنًا مَعْنى البُخْلِ وتُعُقِّبَ بِأنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ لَفْظًا ومَعْنًى، وعَلى ما ذَكَرْنا يَتَخَرَّجُ قَوْلُهم لِلْبَخِيلِ مُمْسِكٌ ﴿خَشْيَةَ الإنْفاقِ﴾ أيْ: مَخافَةَ الفَقْرِ كَما أخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ورُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ قَتادَةَ وإلَيْهِ ذَهَبَ الرّاغِبُ قالَ: يُقالُ: أنْفَقَ فُلانٌ إذا افْتَقَرَ، وأبُو عُبَيْدَةَ قالَ: أنْفَقَ وأمْلَقَ وأعْدَمَ وأصْرَمَ بِمَعْنًى واحِدٍ، وقالَ بَعْضُهُمُ: الإنْفاقُ بِمَعْناهُ المَعْرُوفِ وهو صَرْفُ المالِ، وفي الكَلامِ مُقَدَّرٌ أيْ: خَشْيَةَ عاقِبَةِ الإنْفاقِ. (p-181)وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ مَجازًا عَنْ لازِمِهِ وهو النَّفادُ، ونُصِبَ ﴿خَشْيَةَ﴾ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، وجَعْلُهُ مَصْدَرًا في مَوْضِعِ الحالِ كَما جَوَّزَهُ أبُو البَقاءِ خِلافُ الظّاهِرِ، وقَدْ بَلَغَتْ هَذِهِ الآيَةُ في الوَصْفِ بِالشُّحِّ الغايَةَ القُصْوى الَّتِي لا يَبْلُغُها الوَهْمُ حَيْثُ أفادَتْ أنَّهم لَوْ مَلَكُوا خَزائِنَ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعالى الَّتِي لا تَتَناهى وانْفَرَدُوا بِمِلْكِها مِن غَيْرِ مُزاحِمٍ أمْسَكُوها مِن غَيْرِ مُقْتَضٍ إلّا خَشْيَةَ الفَقْرِ، وإنْ شِئْتَ فَوازِنْ بِقَوْلِ الشّاعِرِ: ؎ولَوَ انَّ دارَكَ أنْبَتَتْ لَكَ أرْضُها ∗∗∗ إبَرًا يَضِيقُ بِها فِناءُ المَنزِلِ ؎وأتاكَ يُوسُفُ يَسْتَعِيرُكَ إبْرَةً ∗∗∗ لِيَخِيطَ قَدَّ قَمِيصَهُ لَمْ تَفْعَلِ مَعَ أنَّ فِيهِ مِنَ المُبالَغاتِ ما يَزِيدُ عَلى العَشَرَةِ؛ تَرى التَّفاوُتَ الَّذِي لا يُحْصَرُ، وجَعَلَ غَيْرُ واحِدٍ الخِطابَ فِيها عامًّا فَيَقْتَضِي أنْ يَكُونَ كُلُّ واحِدٍ مِنَ النّاسِ بَخِيلًا كَما هو ظاهِرٌ ما بَعْدُ مَعَ أنَّهُ أثْبَتَ لِبَعْضِهِمُ الإيثارَ مَعَ الحاجَةِ. وأُجِيبَ بِأنَّ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلى الجَوادِ الحَقِيقِيِّ والفَيّاضِ المُطْلَقِ عَزَّ مَجْدُهُ فَإنَّ الإنْسانَ إمّا مُمْسِكٌ أوْ مُنْفِقٌ، والإنْفاقُ لا يَكُونُ إلّا لِغَرَضٍ لِلْعاقِلِ كَعِوَضٍ مالِيٍّ أوْ مَعْنَوِيٍّ كَثَناءٍ جَمِيلٍ أوْ خِدْمَةٍ واسْتِمْتاعٍ كَما في النَّفَقَةِ عَلى الأهْلِ أوْ نَحْوِ ذَلِكَ وما كانَ لِعِوَضٍ كانَ مُبادَلَةً لا مُباذَلَةً، أوْ هو بِالنَّظَرِ إلى الأغْلَبِ وتَنْزِيلِ غَيْرِهِ مَنزِلَةَ العَدَمِ كَما قِيلَ: ؎عُدْنا في زَمانِنا ∗∗∗ عَنْ حَدِيثِ المَكارِمِ ؎مَن كَفى النّاسَ شَرَّهُ ∗∗∗ فَهْوَ في جُودِ حاتِمِ وهَذا الجَوابُ عِنْدِي أوْلى مِنَ الأوَّلِ وعَلى ذَلِكَ يُحْمَلُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكانَ الإنْسانُ قَتُورًا﴾ مُبالِغًا في البُخْلِ، وجاءَ القَتْرُ بِمَعْنى تَقْلِيلِ النَّفَقَةِ وهو بِإزاءِ الإسْرافِ وكِلاهُما مَذْمُومٌ، ويُقالُ: قَتَّرْتُ الشَّيْءَ واقْتَرْتُهُ وقَتَّرْتُهُ أيْ: قَلَّلْتُهُ وفُلانٌ مُقَتِّرٌ فَقِيرٌ، وأصْلُ ذَلِكَ كَما قالَ الرّاغِبُ مِنَ القُتارِ والقَتْرِ وهو الدُّخانُ السّاطِعُ مِنَ الشِّواءِ والعُودِ ونَحْوِهِما فَكَأنَّ المُقَتِّرَ والمُقَتَّرَ هو الَّذِي يُتَناوَلُ مِنَ الشَّيْءِ قُتارَهُ، وقِيلَ: الخِطابُ لِأهْلِ مَكَّةَ الَّذِينَ اقْتَرَحُوا ما اقْتَرَحُوا مِنَ اليَنْبُوعِ والأنْهارِ وغَيْرِها، والمُرادُ مِنَ الإنْسانِ كَما في القَوْلِ الأوَّلِ الجِنْسُ ولا شَكَّ في أنَّ جِنْسَ الإنْسانِ مَجْبُولٌ عَلى البُخْلِ لِأنَّ مَبْنى أمْرِهِ الحاجَةُ، وقِيلَ: الإنْسانُ وعَلَيْهِ الإمامُ، ووَجْهُ ارْتِباطِ الآيَةِ بِما قَبْلَها عَلى تَخْصِيصِ الخِطابِ أنَّ أهْلَ مَكَّةَ طَلَبُوا ما طَلَبُوا مِنَ اليَنْبُوعِ والأنْهارِ لِتَكْثُرَ أقْواتُهم وتَتَّسِعَ عَلَيْهِمْ فَبَيَّنَ سُبْحانَهُ أنَّهم لَوْ مَلَكُوا خَزائِنَ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعالى لَبَخِلُوا وشَحُّوا ولَما قَدِمُوا عَلى إيصالِ النَّفْعِ لِأحَدٍ، والمُرادُ التَّشْنِيعُ عَلَيْهِمْ بِأنَّهم في غايَةِ الشُّحِّ ويَقْتَرِحُونَ ما يَقْتَرِحُونَ أوِ المُرادُ أنَّ صِفَتَهم هَذِهِ فَلا فائِدَةَ في إسْعافِهِمْ بِما طَلَبُوا كَذا قالَ العَسْكَرِيُّ وغَيْرُهُ فالآيَةُ عِنْدَهم مُرْتَبِطَةٌ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا﴾ ويَكْفِي عَلى العُمُومِ انْدِراجُ أهْلِ مَكَّةَ فِيهِ. وقالَ أبُو حَيّانَ: المُناسِبُ في وجْهِ الِارْتِباطِ أنْ يُقالَ: إنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قَدْ مَنَحَهُ اللَّهُ تَعالى ما لَمْ يَمْنَحْهُ لِأحَدٍ مِنَ النُّبُوَّةِ والرِّسالَةِ إلى الإنْسِ والجِنِّ فَهو ﷺ أحْرَصُ النّاسِ عَلى إيصالِ الخَيْرِ إلَيْهِمْ وإنْقاذِهِمْ مِنَ الضَّلالِ، يُثابِرُ عَلى ذَلِكَ ويُخاطِرُ بِنَفْسِهِ في دُعائِهِمْ إلى اللَّهِ تَعالى، ويَعْرِضُ ذَلِكَ عَلى القَبائِلِ وأحْياءِ العَرَبِ سَمْحًا بِذَلِكَ لا يَطْلُبُ مِنهم أجْرًا وهَؤُلاءِ أقْرِباؤُهُ لا يَكادُ يُجِيبُ مِنهم أحَدٌ إلّا الواحِدُ بَعْدَ الواحِدِ قَدْ لَجُّوا في عِنادِهِ وبَغْضائِهِ فَلا يَصِلُ مِنهم إلّا الأذى فَنَبَّهَ تَعالى شَأْنُهُ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى سَماحَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وبَذْلِ (p-182)ما آتاهُ اللَّهُ تَعالى وعَلى امْتِناعِ هَؤُلاءِ أنْ يَصِلَ مِنهم شَيْءٌ مِنَ الخَيْرِ إلَيْهِ ﷺ فَهي قَدْ جاءَتْ مُبَيِّنَةً تَبايُنَ ما بَيْنَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وبَيْنَهم مِن حِرْصِهِ عَلى نَفْعِهِمْ وعَدَمِ إيصالِ شَيْءٍ مِنَ الخَيْرِ مِنهم إلَيْهِ اه. فالِارْتِباطُ بَيْنَ الآيَةِ وبَيْنَ مَجْمُوعِ الآياتِ السّابِقَةِ مِن حَيْثُ إنَّها تُشْعِرُ بِحِرْصِهِ ﷺ عَلى هِدايَتِهِمْ، ولَعَمْرِي إنَّ هَذا مِمّا يَأْباهُ الذَّوْقُ السَّلِيمُ والذِّهْنُ المُسْتَقِيمُ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ وجْهُ الِارْتِباطِ اشْتِمالَها عَلى ذَمِّهِمْ بِالشُّحِّ المُفْرِطِ كَما أنَّ ما قَبْلَها مُشْتَمِلٌ عَلى ذَمِّهِمْ بِالكُفْرِ كَذَلِكَ وهُما صِفَتانِ سَيِّئَتانِ، ضَرَرُ إحْداهُما قاصِرٌ، وضَرَرُ الأُخْرى مُتَعَدٍّ، فَتَأمَّلْ؛ فَلِمَسْلَكِ الذِّهْنِ اتِّساعٌ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ بِمُرادِهِ، ولَمّا حَكى سُبْحانَهُ عَنْ قُرَيْشٍ ما حَكى مِنَ العَنَتِ والعِنادِ مَعَ رَسُولِهِ ﷺ سَلّاهُ تَعالى جَدُّهُ بِما جَرى لِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ مَعَ فِرْعَوْنَ وما صَنَعَ سُبْحانَهُ بِفِرْعَوْنِ وقَوْمِهِ فَقالَ عَزَّ قائِلًا:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب