الباحث القرآني

﴿قُلْ لَوْ أنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إذًا لَأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنْفاقِ وكانَ الإنْسانُ قَتُورًا﴾ ﴿ولَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فاسْألْ بَنِي إسْرائِيلَ إذْ جاءَهم فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إنِّي لَأظُنُّكَ يامُوسى مَسْحُورًا﴾ ﴿قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أنْزَلَ هَؤُلاءِ إلّا رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ بَصائِرَ وإنِّي لَأظُنُّكَ يافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا﴾ ﴿فَأرادَ أنْ يَسْتَفِزَّهم مِنَ الأرْضِ فَأغْرَقْناهُ ومَن مَعَهُ جَمِيعًا وقُلْنا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إسْرائِيلَ اسْكُنُوا الأرْضَ فَإذا جاءَ وعْدُ الآخِرَةِ جِئْنا بِكم لَفِيفًا﴾ . مُناسَبَةُ قَوْلِهِ: ﴿قُلْ لَوْ أنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ﴾ الآيَةَ، أنَّ المُشْرِكِينَ قالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا. فَطَلَبُوا إجْراءَ الأنْهارِ والعُيُونِ في بَلَدِهِمْ؛ لِتَكْثُرَ أقْواتُهم وتَتَّسِعَ عَلَيْهِمْ، فَبَيَّنَ تَعالى أنَّهم لَوْ مَلَكُوا خَزائِنَ رَحْمَةِ اللَّهِ لَبَقَوْا عَلى بُخْلِهِمْ وشُحِّهِمْ، ولَما قَدِمُوا عَلى إيصالِ النَّفْعِ لِأحَدٍ، وعَلى هَذا فَلا فائِدَةَ في إسْعافِهِمْ بِما طَلَبُوا هَذا ما قِيلَ في ارْتِباطِ هَذِهِ الآيَةِ، وقالَهُ العَسْكَرِيُّ: والَّذِي يَظْهَرُ لِي أنَّ المُناسِبَ هو أنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - قَدْ مَنَحَهُ اللَّهُ ما لَمْ يَمْنَحْهُ لِأحَدٍ مِنَ النُّبُوَّةِ والرِّسالَةِ إلى الإنْسِ والجِنِّ، فَهو أحْرَصُ النّاسِ عَلى إيصالِ الخَيْرِ وإنْقاذِهِمْ مِنَ الضَّلالِ يُثابِرُ عَلى ذَلِكَ، ويُخاطِرُ بِنَفْسِهِ في دُعائِهِمْ إلى اللَّهِ، ويَعْرِضُ ذَلِكَ عَلى القَبائِلِ وأحْياءِ العَرَبِ سَمْحًا بِذَلِكَ لا يَطْلُبُ مِنهم أجْرًا، وهَؤُلاءِ أقْرِباؤُهُ لا يَكادُ يُجِيبُ مِنهم أحَدٌ إلّا (p-٨٤)الواحِدَ بَعْدَ الواحِدِ قَدْ لَجُّوا في عِنادِهِ وبَغْضائِهِ، فَلا يَصِلُ مِنهم إلَيْهِ إلّا الأذى، فَنَبَّهَ تَعالى بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى سَماحَتِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ، وبَذْلِهِ ما آتاهُ اللَّهُ، وعَلى امْتِناعِ هَؤُلاءِ أنْ يَصِلَ مِنهم شَيْءٌ مِنَ الخَيْرِ إلَيْهِ فَقالَ: لَوْ مَلَكُوا التَّصَرُّفَ في (خَزائِنَ رَحْمَةِ) اللَّهِ الَّتِي هي وسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ كانُوا أبْخَلَ مِن كُلِّ أحَدٍ بِما أُوتُوهُ مِن ذَلِكَ، بِحَيْثُ لا يَصِلُ مِنهم لِأحَدٍ شَيْءٌ مِنَ النَّفْعِ؛ إذْ طَبِيعَتُهُمُ الإقْتارُ وهو الإمْساكُ عَنِ التَّوَسُّعِ في النَّفَقَةِ، هَذا مَعَ ما أُوتُوهُ مِنَ الخَزائِنِ، فَهَذِهِ الآيَةُ جاءَتْ مُبَيِّنَةً تُبَيِّنُ ما بَيْنَهم وبَيْنَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن حِرْصِهِ عَلى نَفْعِهِمْ وعَدَمِ إيصالِ شَيْءٍ مِنَ الخَيْرِ مِنهم إلَيْهِ، والمُسْتَقْرَأُ في (لَوْ) الَّتِي هي حَرْفٌ لِما كانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ أنْ يَلِيَها الفِعْلُ إمّا ماضِيًا وإمّا مُضارِعًا، كَقَوْلِهِ: ﴿لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطامًا﴾ [الواقعة: ٦٥] أوْ مَنفِيًّا بِلَمْ أوْ إنْ وهُنا في قَوْلِهِ: ﴿قُلْ لَوْ أنْتُمْ تَمْلِكُونَ﴾ ولِيَها الِاسْمُ فاخْتَلَفُوا في تَخْرِيجِهِ، فَذَهَبَ الحَوْفِيُّ والزَّمَخْشَرِيُّ وابْنُ عَطِيَّةَ وأبُو البَقاءِ وغَيْرُهم إلى أنَّهُ مَرْفُوعٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ الفِعْلُ بَعْدَهُ، ولَمّا حُذِفَ ذَلِكَ الفِعْلُ وهو تَمْلِكُ انْفَصَلَ الضَّمِيرُ وهو الفاعِلُ بِتَمْلِكُ كَقَوْلِهِ: وإنْ هو لَمْ يَحْمِلْ عَلى النَّفْسِ ضَيْمَها. التَّقْدِيرُ وإنْ لَمْ يَحْمِلْ فَحُذِفَ لَمْ يَحْمِلْ وانْفَصَلَ الضَّمِيرُ المُسْتَكِنُّ في يَحْمِلُ فَصارَ هو، وهُنا انْفَصَلَ الضَّمِيرُ المُتَّصِلُ البارِزُ وهو الواوُ، فَصارَ (أنْتُمْ) وهَذا التَّخْرِيجُ بِناءً عَلى أنَّ (لَوْ) يَلِيها الفِعْلُ ظاهِرًا ومُضْمَرًا في فَصِيحِ الكَلامِ، وهَذا لَيْسَ بِمَذْهَبِ البَصْرِيِّينَ. قالَ الأُسْتاذُ أبُو الحَسَنِ بْنُ عُصْفُورٍ: لا تَلِي (لَوْ) إلّا الفِعْلَ ظاهِرًا ولا يَلِيها مُضْمَرًا إلّا في ضَرُورَةٍ أوْ نادِرِ كَلامٍ مِثْلَ: ما جاءَ في المَثَلِ مِن قَوْلِهِمْ: لَوْ ذاتُ سِوارٍ لَطَمَتْنِي وقالَ شَيْخُنا الأُسْتاذُ أبُو الحَسَنِ بْنُ الصّائِغِ: البَصْرِيُّونَ يُصَرِّحُونَ بِامْتِناعِ لَوْ زَيْدٌ قامَ لَأكْرَمْتُهُ عَلى الفَصِيحِ، ويُجِيزُونَهُ شاذًّا كَقَوْلِهِمْ: ؎لَوْ ذاتُ سُوارٍ لَطَمَتْنِي وهُوَ عِنْدُهم عَلى فِعْلٍ مُضْمَرٍ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإنْ أحَدٌ مِنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأجِرْهُ﴾ [التوبة: ٦] فَهو مِن بابِ الِاشْتِغالِ. انْتَهى. وخَرَّجَ ذَلِكَ أبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ فَضالٍ المُجاشَعِيُّ عَلى إضْمارِ كانَ، والتَّقْدِيرُ (قُلْ لَوْ) كُنْتُمْ (أنْتُمْ) تَمْلِكُونَ فَظاهَرُ هَذا التَّخْرِيجِ أنَّهُ حُذِفَ كُنْتُمْ بِرُمَّتِهِ وبَقِيَ (أنْتُمْ) تَوْكِيدًا لِذَلِكَ الضَّمِيرِ المَحْذُوفِ مَعَ الفِعْلِ، وذَهَبَ شَيْخُنا الأُسْتاذُ أبُو الحَسَنِ الصّائِغُ إلى حَذْفِ كانَ فانْفَصَلَ اسْمُها الَّذِي كانَ مُتَّصِلًا بِها، والتَّقْدِيرُ (قُلْ لَوْ) كُنْتُمْ (تَمْلِكُونَ) فَلَمّا حُذِفَ الفِعْلُ انْفَصَلَ المَرْفُوعُ، وهَذا التَّخْرِيجُ أحْسَنُ؛ لِأنَّ حَذْفَ كانَ بَعْدَ (لَوْ) مَعْهُودٌ في لِسانِ العَرَبِ، والرَّحْمَةُ هُنا الرِّزْقُ وسائِرُ نِعَمِهِ عَلى خَلْقِهِ. والكَلامُ عَلى ﴿إذًا لَأمْسَكْتُمْ﴾ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ في قَوْلِهِ: ﴿إذًا لَأذَقْناكَ﴾ [الإسراء: ٧٥] و(خَشْيَةَ) مَفْعُولٌ مِن أجْلِهِ، والظّاهِرُ أنَّ ﴿الإنْفاقِ﴾ عَلى مَشْهُورِ مَدْلُولِهِ فَيَكُونُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ خَشْيَةَ عاقِبَةِ الإنْفاقِ وهو النَّفادُ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: أنْفَقَ وأمْلَقَ وأعْدَمَ وأصْرَمَ بِمَعْنًى واحِدٍ، فَيَكُونُ المَعْنى خَشْيَةَ الِافْتِقارِ. والقَتُورُ المُمْسِكُ البَخِيلُ (الإنْسانُ) هُنا لِلْجِنْسِ. ولَمّا حَكى اللَّهُ تَعالى عَنْ قُرَيْشٍ ما حَكى مِن تَعَنُّتِهِمْ في اقْتِراحِهِمْ وعِنادِهِمْ لِلرَّسُولِ ﷺ سَلّاهُ تَعالى بِما جَرى لِمُوسى مَعَ فِرْعَوْنَ ومَعَ قَوْمِهِ مِن قَوْلِهِمْ ﴿أرِنا اللَّهَ جَهْرَةً﴾ [النساء: ١٥٣] إذْ قالَتْ قُرَيْشٌ: (p-٨٥)﴿أوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ﴾ [الإسراء: ٩٢] وقالَتْ: ﴿أوْ نَرى رَبَّنا﴾ [الفرقان: ٢١] وسَكَّنَ قَلَبَهُ ونَبَّهَ عَلى أنَّ عاقِبَتَهم لِلدَّمارِ والهَلاكِ كَما جَرى لِ فِرْعَوْنَ إذْ أهْلَكَهُ اللَّهُ ومَن مَعَهُ. و(تِسْعَ آياتٍ) قالَ ابْنُ عَبّاسٍ وجَماعَةٌ مِنَ الصَّحابَةِ: هي اليَدُ البَيْضاءُ، والعَصا، والطُّوفانُ، والجَرادُ، والقُمَّلُ، والضَّفادِعُ، والدَّمُ هَذِهِ سَبْعٌ بِاتِّفاقٍ، وأمّا الثِّنْتانِ فَعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ لِسانُهُ كانَ بِهِ عُقْدَةٌ فَحَلَّها اللَّهُ، والبَحْرُ الَّذِي فُلِقَ لَهُ، وعَنْهُ أيْضًا البَحْرُ والجَبَلُ الَّذِي نُتِقَ عَلَيْهِمْ، وعَنْهُ أيْضًا السُّنُونَ ونَقْصٌ مِنَ الثَّمَراتِ، وقالَهُ مُجاهِدٌ والشَّعْبِيُّ وعِكْرِمَةُ وقَتادَةُ. وقالَ الحَسَنُ: السُّنُونَ ونَقْصُ الثَّمَراتِ آيَةٌ واحِدَةٌ، وعَنِ الحَسَنِ ووَهْبٍ: البَحْرُ والمَوْتُ أُرْسِلَ عَلَيْهِمْ. وعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ: الحَجَرُ والبَحْرُ، وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ: البَحْرُ والسُّنُونَ. وقِيلَ: (تِسْعَ آياتٍ) هي مِنَ الكِتابِ، وذَلِكَ أنْ يَهُودِيًّا قالَ لِصاحِبِهِ: تَعالَ حَتّى نَسْألَ هَذا النَّبِيَّ فَقالَ الآخَرُ: لا تَقُلْ إنَّهُ نَبِيٌّ؛ فَإنَّهُ لَوْ سَمِعَ كَلامَكَ صارَتْ لَهُ أرْبَعَةُ أعْيُنٍ، فَأتَياهُ وسَألاهُ عَنْ ﴿تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ﴾ فَقالَ: لا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، ولا تَأْكُلُوا الرِّبا، ولا تَمْشُوا بِبَرِيءٍ إلى سُلْطانٍ لِيَقْتُلَهُ، ولا تَسْخَرُوا، ولا تَقْذِفُوا المُحْصَناتِ، ولا تَفِرُّوا مِنَ الزَّحْفِ، وعَلَيْكم خاصَّةَ يَهُودُ أنْ لا تَعْتَدُوا في السَّبْتِ، قالَ: فَقَبَّلا يَدَهُ وقالا: نَشْهَدُ أنَّكَ نَبِيٌّ فَقالَ: ما مَنَعَكُما أنْ تُسْلِما ؟ قالا: إنَّ داوُدَ دَعا اللَّهَ أنْ لا يَزالَ في ذُرِّيَّتِهِ نَبِيٌّ وإنّا نَخافُ إنْ أسْلَمْنا تَقْتُلُنا اليَهُودُ. قالَ أبُو عِيسى: هَذا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: فَسَلْ (بَنِي إسْرائِيلَ) وبَنُو إسْرائِيلَ مُعاصِرُوهُ، وفَسَلْ مَعْمُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ أيْ: فَقُلْنا سَلْ، والظّاهِرُ أنَّهُ خِطابٌ لِلرَّسُولِ مُحَمَّدٍ ﷺ أمَرَهُ أنْ يَسْألَهم عَمّا أعْلَمَهُ بِهِ مِن غَيْبِ القِصَّةِ، ثُمَّ قالَ: (إذْ جاءَهم) يُرِيدُ آباءَهم وأدْخَلَهم في الضَّمِيرِ إذْ هم مِنهم. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سَلْهم عَنْ إيمانِهِمْ وعَنْ حالِ دِينِهِمْ، أوْ سَلْهم أنْ يُعاضِدُوكَ وتَكُونَ قُلُوبُهم وأيْدِيهِمْ مَعَكَ. ويَدُلُّ عَلَيْهِ قِراءَةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَسَألَ (بَنِي إسْرائِيلَ) عَلى لَفْظِ الماضِي بِغَيْرِ هَمْزٍ وهي لُغَةُ قُرَيْشٍ. وقِيلَ: فَسَلْ يا رَسُولَ اللَّهِ المُؤْمِنِينَ مِن بَنِي إسْرائِيلَ، وهم عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ وأصْحابُهُ عَنِ الآياتِ لِتَزْدادَ يَقِينًا وطُمَأْنِينَةَ قَلْبٍ؛ لِأنَّ الدَّلالَةَ إذا تَظافَرَتْ كانَ ذَلِكَ أقْوى وأثْبَتَ كَقَوْلِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ ﴿ولَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: ٢٦٠] . انْتَهى. وهَذا القَوْلُ هو الأوَّلُ وهو ما أعْلَمَهُ بِهِ مِن غَيْبِ القِصَّةِ، ولَمّا كانَ مُتَعَلِّقُ السُّؤالِ مَحْذُوفًا احْتَمَلَ هَذِهِ التَّقْدِيراتِ، والظّاهِرُ أنَّ الأمْرَ بِالسُّؤالِ لِبَنِي إسْرائِيلَ هو حَقِيقَةٌ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ ما مَعْناهُ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ السُّؤالُ عِبارَةً عَنْ تَطَلُّبِ أخْبارِهِمْ والنَّظَرِ في أحْوالِهِمْ وما في كُتُبِهِمْ نَحْوُ قَوْلِهِ: (وسَلْ مَن أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ مِن رُسُلِنا) جُعِلَ النَّظَرُ والتَّطَلُّبُ مُعَبَّرًا عَنْهُ بِالسُّؤالِ، ولِذَلِكَ قالَ الحَسَنُ: سُؤالُكَ إيّاهم نَظَرُكَ في القُرْآنِ، والظّاهِرُ أنَّ (إذْ) مَعْمُولَةٌ لَآتَيْنا أيْ آتَيْنا حِينَ جاءَ أتاهم. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: بِمَ تَعَلَّقَ (إذْ جاءَهم) قُلْتُ: أمّا عَلى الوَجْهِ الأوَّلِ فَبِالقَوْلِ المَحْذُوفِ أيْ: فَقُلْنا لَهُ: سَلْهم حِينَ جاءَهم، وإمّا عَلى الآخَرِ فَبِآتَيْنا أوْ بِإضْمارِ اذْكُرْ أوْ يُخْبِرُونَكَ. انْتَهى. ولا يَتَأتّى تَعَلُّقُهُ بِاذْكُرْ ولا بِيُخْبِرُونَكَ؛ لِأنَّهُ ظَرْفٌ ماضٍ. وقِراءَةُ فَسَألَ مَرْوِيَّةٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كَلامٌ مَحْذُوفٌ وتَقْدِيرُهُ فَسَألَ مُوسى فِرْعَوْنَ بَنِي إسْرائِيلَ أيْ: طَلَبَهم؛ لِيُنْجِيَهم مِنَ العَذابِ. انْتَهى. وعَلى قِراءَةِ فَسَلْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ فَقُلْنا لَهُ: سَلْ (بَنِي إسْرائِيلَ) أيْ: سَلْ فِرْعَوْنَ إطْلاقَ بَنِي إسْرائِيلَ. وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: فَسَلْ (بَنِي إسْرائِيلَ) اعْتِراضٌ في الكَلامِ، والتَّقْدِيرُ ﴿ولَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ﴾ إذْ جاءَ (بَنِي إسْرائِيلَ) فَسَلْهم ولَيْسَ المَطْلُوبُ مِن سُؤالِ بَنِي إسْرائِيلَ أنْ يَسْتَفِيدَ هَذا العِلْمَ مِنهم، بَلِ المَقْصُودُ أنْ يَظْهَرَ لِعامَّةِ اليَهُودِ صِدْقُ ما ذَكَرَهُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَيَكُونُ هَذا السُّؤالُ سُؤالَ اسْتِشْهادٍ. انْتَهى. وعَلى قِراءَةِ فَسَألَ ماضِيًا وقَدَّرَهُ فَسَألَ فِرْعَوْنُ (بَنِي إسْرائِيلَ) يَكُونُ المَفْعُولُ الأوَّلُ لَسَألَ مَحْذُوفًا، والثّانِي هو (بَنِي إسْرائِيلَ) وجازَ أنْ يَكُونَ مِنَ الأعْمالِ؛ لِأنَّهُ تَوارَدَ عَلى فِرْعَوْنَ سَألَ وفَقالَ (p-٨٦)فَأُعْمِلَ الثّانِي عَلى ما هو أرْجَحُ. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: (مَسْحُورًا) اسْمُ مَفْعُولٍ أيْ: قَدْ سَحَرْتَ بِكَلامِكَ هَذا مُخْتَلٌّ، وما يَأْتِي بِهِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ وهَذا خِطابٌ بِنَقِيضٍ. وقالَ الفَرّاءُ والطَّبَرِيُّ: مَفْعُولٌ بِمَعْنى فاعِلٍ أيْ: ساحِرًا، فَهَذِهِ العَجائِبُ الَّتِي يَأْتِي بِها مِن أمْرِ السِّحْرِ، وقالُوا: مَفْعُولٌ بِمَعْنى فاعِلٍ مَشْئُومٌ ومَيْمُونٌ وإنَّما هو شائِمٌ ويامِنٌ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (لَقَدْ عَلِمْتَ) بِفَتْحِ التّاءِ عَلى خِطابِ مُوسى لِفِرْعَوْنَ، وتَبْكِيتُهُ في قَوْلِهِ عَنْهُ أنَّهُ مَسْحُورٌ أيْ: لَقَدْ عَلِمْتَ أنَّ ما جِئْتَ بِهِ لَيْسَ مِن بابِ السِّحْرِ، ولا أنِّي خُدِعْتُ في عَقْلِي، بَلْ عَلِمْتَ أنَّهُ ما أنْزَلَها إلّا اللَّهُ، وما أحْسَنَ ما جاءَ بِهِ مِن إسْنادِ إنْزالِها إلى لَفْظِ ﴿رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ إذْ هو لَمّا سَألَهُ فِرْعَوْنُ في أوَّلِ مُحاوَرَتِهِ، فَقالَ لَهُ: وما رَبُّ العالَمِينَ قالَ: ﴿رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ يُنَبِّهُهُ عَلى نَقْصِهِ وأنَّهُ لا تَصَرُّفَ لَهُ في الوُجُودِ فَدَعْواهُ الرُّبُوبِيَّةَ دَعْوى اسْتِحالَةٍ، فَبَكَّتَهُ وأعْلَمَهُ أنَّهُ يَعْلَمُ آياتِ اللَّهِ ومَن أنْزَلَها ولَكِنَّهُ مُكابِرٌ مُعانِدٌ، كَقَوْلِهِ: ﴿وجَحَدُوا بِها واسْتَيْقَنَتْها أنْفُسُهم ظُلْمًا وعُلُوًّا﴾ [النمل: ١٤] وخاطَبَهُ بِذَلِكَ عَلى سَبِيلِ التَّوْبِيخِ أيْ: أنْتَ بِحالِ مَن يَعْلَمُ هَذا، وهي مِنَ الوُضُوحِ بِحَيْثُ تَعْلَمُها ولَيْسَ خِطابُهُ عَلى جِهَةِ إخْبارِهِ عَنْ عِلْمِهِ. وقَرَأ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ والكِسائِيُّ (عَلِمْتُ) بِضَمِّ التّاءِ أخْبَرَ مُوسى عَنْ نَفْسِهِ أنَّهُ لَيْسَ بِمَسْحُورٍ كَما وصَفَهُ فِرْعَوْنُ، بَلْ هو يَعْلَمُ أنَّ ﴿ما أنْزَلَ هَؤُلاءِ﴾ الآياتِ إلّا اللَّهُ. ورُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أنَّهُ قالَ: ما عَلِمَ عَدُوُّ اللَّهِ قَطُّ وإنَّما عَلِمَ مُوسى، وهَذا القَوْلُ عَنْ عَلِيٍّ لا يَصِحُّ؛ لِأنَّهُ رَواهُ كُلْثُومٌ المُرادِيُّ وهو مَجْهُولٌ، وكَيْفَ يَصِحُّ هَذا القَوْلُ وقِراءَةُ الجَماعَةِ بِالفَتْحِ عَلى خِطابِ فِرْعَوْنَ. و(ما أنْزَلَ) جُمْلَةٌ في مَوْضِعِ نَصْبٍ عُلِّقَ عَنْها (عَلِمْتَ) ومَعْنى (بَصائِرَ) دَلالاتٌ عَلى وحْدانِيَّةِ اللَّهِ وصِدْقِ رَسُولِهِ، والإشارَةُ بِهَؤُلاءِ إلى الآياتِ التِّسْعِ. وانْتَصَبَ (بَصائِرَ) عَلى الحالِ في قَوْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ والحَوْفِيِّ وأبِي البَقاءِ، وقالا: حالٌ مِن (هَؤُلاءِ) وهَذا لا يَصِحُّ إلّا عَلى مَذْهَبِ الكِسائِيِّ والأخْفَشِ؛ لِأنَّهُما يُجِيزانِ ما ضَرَبَ هِنْدًا هَذا إلّا زَيْدٌ ضاحِكَةً. ومَذْهَبُ الجُمْهُورِ: أنَّهُ لا يَجُوزُ فَإنْ ورَدَ ما ظاهِرُهُ ذَلِكَ أُوِّلَ عَلى إضْمارِ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ ما قَبْلَهُ، التَّقْدِيرُ ضَرَبَها ضاحِكَةً، وكَذَلِكَ يُقَدِّرُونَ هُنا أنْزَلَها (بَصائِرَ) وعِنْدَ هَؤُلاءِ لا يَعْمَلُ ما قَبْلَ إلّا فِيما بَعْدَها، إلّا أنْ يَكُونَ مُسْتَثْنًى مِنهُ أوْ تابِعًا لَهُ. وقابَلَ مُوسى ظَنَّهُ بِظَنِّ فِرْعَوْنَ فَقالَ: ﴿وإنِّي لَأظُنُّكَ يافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا﴾ وشَتّانَ ما بَيْنَ الظَّنَّيْنِ ظَنُّ فِرْعَوْنَ ظَنٌّ باطِلٌ، وظَنُّ مُوسى ظَنُّ صِدْقٍ، ولِذَلِكَ آلَ أمْرُ فِرْعَوْنَ إلى الهَلاكِ كانَ أوَّلًا مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ يَتَوَقَّعُ مِن فِرْعَوْنَ أذًى، كَما قالَ: (إنّا نَخافُ أنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أوْ أنْ يَطْغى) فَأُمِرَ أنْ يَقُولَ لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا، فَلَمّا قالَ لَهُ اللَّهُ: لا تَخَفْ وثِقَ بِحِمايَةِ اللَّهِ، فَصالَ عَلى فِرْعَوْنَ صَوْلَةَ المَحْمِيِّ، وقابَلَهُ مِنَ الكَلامِ بِما لَمْ يَكُنْ لِيُقابِلَهُ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ. ومَثْبُورٌ مُهْلَكٌ في قَوْلِ الحَسَنِ ومُجاهِدٍ، ومَلْعُونٌ في قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ، وناقِصُ العَقْلِ فِيما رَوى مَيْمُونُ بْنُ مِهْرانَ، ومَسْحُورٌ في قَوْلِ الضَّحّاكِ قالَ: رَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ ما قالَ لَهُ فِرْعَوْنُ مَعَ اخْتِلافِ اللَّفْظِ، وعَنِ الفَرّاءِ مَثْبُورٌ مَصْرُوفٌ عَنِ الخَيْرِ مَطْبُوعٌ عَلى قَلْبِكَ مِن قَوْلِهِمْ: ما ثَبَرَكَ عَنْ هَذا ؟ أيْ: ما مَنَعَكَ وصَرَفَكَ. وقَرَأ أُبَيٌّ وإنْ أخالُكَ يا فِرْعَوْنُ لَمَثْبُورًا وهي إنِ الخَفِيفَةُ، واللّامُ الفارِقَةُ، واسْتِفْزازُهُ إيّاهم هو اسْتِخْفافُهُ لِمُوسى ولِقَوْمِهِ بِأنْ يَقْلَعَهم مِن أرْضِ مِصْرَ بِقَتْلٍ أوْ جَلاءٍ، فَحاقَ بِهِ مَكْرُهُ وأغْرَقَهُ اللَّهُ وقِبْطَهُ أرادَ أنْ تَخْلُوَ أرْضُ مِصْرَ مِنهم فَأخْلاها اللَّهُ مِنهُ. ومِن قَوْمِهِ والضَّمِيرُ في (مِن بَعْدِهِ) عائِدٌ عَلى فِرْعَوْنَ أيْ: مِن بَعْدِ إغْراقِهِ، و(الأرْضَ) المَأْمُورَ بِسُكْناها أرْضَ الشّامِ، والظّاهِرُ أنْ يَكُونَ الأمْرُ بِذَلِكَ حَقِيقَةً عَلى لِسانِ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - ووَعْدُ الآخِرَةِ قِيامُ السّاعَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب