الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿وما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ البَيْتِ إلاَّ مُكاءً وتَصْدِيَةً فَذُوقُوا العَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾ [الأنفال: ٣٥].
كانتْ قريشٌ تتعبَّدُ بالتصفيرِ والتصفيقِ عندَ البيتِ، والمُكاءُ هو صفيرُ الطائرِ، فيقالُ: مَكا الطيرُ يَمْكُو مُكاءً ومَكْوًا: صَفَرَ، والطائرُ يُسمّى المَكّاءَ.
والتَّصْدِيَةُ مِن الصَّدى، وهو ما يَسمَعُهُ الخالي بينَ جبالٍ أو في كُهُوفٍ أو عُمْرانٍ خاليةٍ، وأُرِيدَ به هنا التصفيقُ.
وقد كانتْ قريشٌ تُريدُ صَدَّ النبيِّ ﷺ عن قراءةِ القرآنِ، حتى لا يَفتِنَهم ولا يَفتِنَ قَوْمَهم، فيُصفِّقونَ ويُصفِّرونَ ويَتمازَحُونَ باللَّغْوِ ورفعِ الصوتِ به، كما قال تعالى: ﴿وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذا القُرْآنِ والغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ [فصلت: ٢٦]، فهم يُريدونَ الغَلَبَةَ لآلهتِهم، والهزيمةَ لمحمدٍ ﷺ ورسالتِه.
وقد ذكَرَ غيرُ واحدٍ أنّ قريشًا كانتْ تتعبَّدُ بالمُكاءِ والتَّصْدِيَةِ في الجاهليَّةِ، فيَقِفُ الواحدُ منهم على الصَّفا فيَمْكُو ليسمَعَ صَدى صوتِهِ في جبالِ مَكَّةَ.
وقد بيَّنَ اللهُ أنّ غايةَ تعبُّدِهم للهِ هو هذا اللَّعِبُ واللَّهْوُ الذي بدَّلُوهُ عن الحنيفيَّةِ، ومنَعَهُمْ مِنَ الاستسلامِ للهِ، والانقيادِ والاتِّباعِ لنبيِّه ﷺ.
حُكْمُ التصفيرِ والتصفيقِ:
وأمّا حُكْمُ التصفيرِ والتصفيقِ، فعلى حالَيْنِ:
الأُولـى: إذا أُرِيدَ به التعبُّدُ والتديُّنُ، فذلك محرَّمٌ، وليسا هما عبادةً في ذاتِهما في الإسلامِ، ولا يجوزُ التديُّنُ بهما بالاتِّفاقِ، إلاَّ في حالةٍ واحدةٍ للمرأةِ، وهي عندَ إرادةِ فَتْحِها على الإمامِ عندَ سَهْوِهِ وغَلَطِهِ في الصلاةِ، ولم يُوجَدْ رجالٌ يَفْتَحُونَ، فيُستحَبُّ لها التصفيقُ، كما قال ﷺ: (التَّسْبِيحُ لِلرِّجالِ، والتَّصْفِيقُ لِلنِّساءِ)، وهو في الصحيحِ، مِن حديثِ أبي هريرةَ[[أخرجه البخاري (١٢٠٣)، ومسلم (٤٢٢).]] وسَهْلٍ[[أخرجه البخاري (١٢٠٤).]].
الثانيةُ: إذا لم يُرَدْ به التعبُّدُ والتديُّنُ، وإنّما يُفعَلُ في العاداتِ والمناسباتِ، فمنه ما يجوزُ: كتصفيرِ صاحِبِ البهائمِ لبهائمِه، فمنها ما تستجيبُ للتصفيرِ كبعضِ الطيورِ وشِبْهِها مِن غيرِها، وكتصفيقِ مَن يُريدُ تنبيهَ غافلٍ أو وسْنانٍ، وذلك بضربِ اليدِ أو القضيبِ على خشبٍ أو مَعدِنٍ، فلم يَرِدْ شيءٌ مِن منعِ هذا النوعِ في السُّنَّةِ وكلامِ الصحابةِ مع احتمالِ ورودِه.
ومنه: تصفيقُ المرأةِ في النِّكاحِ، فذلك جائزٌ، لأنّ النبيَّ ﷺ لمّا أجازَ التصفيقَ للمرأةِ في الصلاةِ، ففي غيرِها مِن بابِ أولى، سواءٌ كان ذلك في نكاحٍ أو أعيادٍ أو غيرِ ذلك مِن الأفراحِ.
ومنه: ما يُكرَهُ، وهو تصفيرُ الرِّجالِ وتصفيقُهم في الأفراحِ وعندَ سماعِ ما يُعجِبُهم ويَسُرُّهم، وذلك لأنّه قد دلَّ الدليلُ على مشروعيَّةِ التكبيرِ والتسبيحِ، وقد ثبَتَ في «الصحيحِ»، مِن حديثِ أمِّ سلمةَ، عن النبيِّ ﷺ، قال: (سُبْحانَ اللهِ! ماذا أُنْزِلَ مِنَ الخَزائِنِ، وماذا أُنْزِلَ مِنَ الفِتَنِ؟!)، وفيه عن عمرَ أنّه قال للنبيِّ ﷺ: طَلَّقْتَ نِساءَكَ؟ قال: لا، فقال عمرُ: اللهُ أكْبَرُ[[أخرجه البخاري (٦٢١٨).]].
وقد ترجَمَ البخاريُّ على ذلك بقولِه: (بابُ التكبيرِ والتسبيحِ عندَ التعجُّبِ).
وإبدالُ المشروعِ بغيرِهِ مكروهٌ، وليس التصفيرُ والتصفيقُ مِن مروءةِ رجالِ العربِ، وإنّما قلْنا بالكراهةِ، ولم نقُلْ بالتحريمِ، لأنّه لا دليلَ على تحريمِه، والآيةُ في التعبُّدِ به عندَ البيتِ، وأفعالُ العباداتِ إنْ شابَهَتِ العاداتِ، جازَ فِعْلُها عادةً لا تعبُّدًا، ولو كانتْ ممنوعةً بعَينِها، لَما جازَ للمرأةِ التصفيقُ، لأنّ المشابَهةَ للعبادةِ يُنهى عنها الرجلُ والمرأةُ، والآيةُ عامَّةٌ بحكايةِ حالِ المشرِكينَ، لم تُخصِّصْ رجلًا ولا امرأةً منهم، ولأنّ المرأةَ لو سبَّحَتْ وصفَّقَ الرجُلُ في الصلاةِ، لم تَبطُلْ صلاتُهما، وإنّما فعَلا مكروهًا غيرَ مستحَبٍّ، وإنّما كانتِ الكراهةُ، لأنّه ثبَتَ في الشرعِ سُنِّيَّةُ التكبيرِ والتسبيحِ عندَ سماعِ ما يُفرِحُ ويُعجَبُ منه، ولأنّه مِن خصائصِ النِّساءِ، كما في ظاهرِ الحديثِ: (التَّصْفِيقُ لِلنِّساءِ)، يعني: خارجَ الصلاةِ، فكان لهنَّ داخِلَها، فلم يكنْ في عُرْفِ الرِّجالِ إلاَّ في الزمنِ المتأخِّرِ، وإنْ فعَلَهُ ونُسِبَ لآحادٍ وعوامَّ مِن السابقِينَ.
وقد كان ابنُ عمرَ وأبو سلمةَ بنُ عبدِ الرحمنِ يُسألانِ عن التصفيرِ والتصفيقِ، فيَفْعَلانِ ذلك لبيانِه، ولو كان محرَّمًا بعَيْنِهِ، لَما جازَ فعلُهُ ولو لبيانِه، لأنّ بيانَهُ بالكلامِ ممكِنٌ لكلِّ أحدٍ، كما رَوى ابنُ جريرٍ، عن قُرَّةَ، عن عطيَّةَ، عن ابنِ عمرَ، في قولِه: ﴿وما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ البَيْتِ إلاَّ مُكاءً وتَصْدِيَةً﴾، قالَ: «المُكاءُ: الصَّفِيرُ، والتَّصْدِيَةُ: التَّصْفِيقُ. وقالَ قُرَّةُ: وحَكى لَنا عَطِيَّةُ فِعْلَ ابْنِ عُمَرَ، فَصَفَّرَ، وأَمالَ خَدَّهُ، وصَفَّقَ بِيَدَيْهِ»[[«تفسير الطبري» (١١ /١٦٣).]].
وأمّا ما رواهُ ابنُ عساكرَ في «تاريخِه»، عن الحسنِ البصريِّ مرسلًا، أنّ رسولَ اللهِ ﷺ قال: (عَشْرُ خِصالٍ عَمِلَها قَوْمُ لُوطٍ، بِها هَلَكُوا، وتَزِيدُها أُمَّتِي بِخَلَّةٍ)، فذكَرَ الخِصالَ، ومنها التصفيقُ[[«تاريخ دمشق» (٥٠ /٣٢٢).]]، فلا يَثبُتُ، وهو مُنكَرٌ.
ويجوزُ للمرأةِ الزَّغْرَدَةُ والتصفيرُ، لجوازِ التصفيقِ لها، وجعَلَهُ بعضُ فُقهاءِ المالكيَّةِ في حُكْمِ ضربِ الدُّفِّ في إظهارِ النِّكاحِ.
التعبُّدُ للهِ بالألحانِ والآهاتِ:
أمّا التعبُّدُ بالآهاتِ والألحانِ، وذِكْرُ اللهِ بها: فلا يُعرَفُ في القُرونِ المفضَّلةِ التعبُّدُ للهِ بالأذكارِ والأدعيةِ باللُّحونِ والآهاتِ، وهذا ممّا حدَثَ في أوائلِ المئةِ الثالثةِ واشتهَرَ بعدَها، ولم يكنْ معروفًا في بُلْدانِ الإسلامِ التعبُّدُ به، ولا بالتصفيقِ والتصفيرِ، ولا بالدُّفِّ، ولا بضربِ القضيبِ.
ولمّا ظهَرَ، أنكَرَهُ الأئمَّةُ مِن السلفِ، ولم يكنْ منهم مَن يعملُهُ، حتى كَثُرَ في الزُّهّادِ المتصوِّفةِ، ثمَّ كان في الصالحينَ، ثمَّ اعتادَهُ بعضُ المتعلِّمِينَ، وقد أسنَدَ البيهقيُّ في «مناقبِ الشافعيِّ» قولَهُ: «خَلَّفْتُ ببغدادَ شيئًا أحدَثَتْهُ الزَّنادقةُ يُسَمُّونَهُ التغبيرَ، يَصُدُّونَ به الناسَ عن القرآنِ»[[«مناقب الشافعي» (١ /٢٨٣).]].
وتوسَّعَ الناسُ اليومَ في إنشادِ الأشعارِ حتى شابَهُوا أهلَ المعازفِ والطَّرَبِ، فيُسمُّونَها إنشادًا وحُداءً، وليستْ بحُداءٍ ولا إنشادٍ، وغرَّهُم في ذلك أنّ الآلاتِ التي تُستعمَلُ فيها ليستْ معازفَ، وإنّما مِن الأصواتِ الطبيعيَّةِ والتقنيةِ الحديثةِ، وهذا جهلٌ بأصولِ الشريعةِ التي لا تُفرِّقُ بينَ المُتماثِلاتِ، والمعازفُ مِن الطبيعةِ، فهي مِن أغصانِ الشجرِ وأعوادِها، ومِن شَعَرِ بعضِ البهائمِ وجِلْدِها، وإنّما اختلَفَتْ في طريقةِ إخراجِ الصوتِ، وأكثَرَ الناسُ منها حتى بلَغُوا حَدَّ التديُّنِ بها، واتُّخِذَتْ دعوةً للفُسّاقِ والغافِلِينَ بها، وهذا مِن الصدِّ عن كلامِ اللهِ والتغنِّي به، وعن الوعظِ المشروعِ، ولا يُعلَمُ أنّ فاسقًا وغافلًا صلَحَتْ حالُه بأناشيدِ الإطرابِ وآهاتِ الأحزانِ والأفراحِ، بل هي حرَفَتِ الصالحينَ إلى الغَفْلةِ، ولم تَجلِبِ الغافلينَ إلى الصلاحِ.
ومَن صلَحَتْ حالُهُ في الظاهرِ بتلك الأسبابِ، فغالبًا أنّ باطنَهُ أجوَفُ مِن الإيمانِ، وقلَّما يثبُتُ، وربَّما يُظهِرُ مِن الصلاحِ ويُبطِنُ مِن ذنوبِ السَّرائرِ أشياءَ عظيمةً، لأنّه لا يُثبِّتُ الإيمانَ في القلبِ إلاَّ الوحيُ قرآنًا وسُنَّةً والوعظُ بهما، وبمِقْدارِ ما لدى الإنسانِ منهما يكونُ صلاحُهُ باطنًا، وبمِقْدارِ نُقْصانِهما فما زاد مِن صلاحِ الإنسانِ الظاهرِ عليهما هو تكلُّفٌ وتصنُّعٌ لا بُدَّ أنْ يَزُولَ عندَ أدنى شِدَّةٍ ومِحْنةٍ أو تغيُّرِ حالٍ.
{"ayah":"وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمۡ عِندَ ٱلۡبَیۡتِ إِلَّا مُكَاۤءࣰ وَتَصۡدِیَةࣰۚ فَذُوقُوا۟ ٱلۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق