الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَما كانَ صَلاتُهم عِنْدَ البَيْتِ إلا مُكاءً وتَصْدِيَةً فَذُوقُوا العَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ "وَما كانَ صَلاتُهُمْ" بِالرَفْعِ، "عِنْدَ البَيْتِ إلّا مُكاءً" بِالنَصْبِ، "وَتَصْدِيَةً" كَذَلِكَ، ورُوِيَ عن عاصِمٍ أنَّهُ قَرَأ: "صَلاتَهُمْ" بِالنَصْبِ، "إلّا مُكاءٌ وتَصْدِيَةٌ" بِالرَفْعِ، ورُوِيَتْ عن سُلَيْمانَ الأعْمَشِ بِخِلافٍ عنهُ فِيما حَكى أبُو حاتِمٍ، وذَكَرَ أبُو عَلِيٍّ عَنِ الأعْمَشِ أنَّهُ قالَ في قِراءَةِ عاصِمٍ: أفَإنْ لَحَنَ عاصِمٌ تَلْحَنُ أنْتَ؟ قالَ أبُو الفَتْحِ: وقَدْ رُوِيَ الحَرْفُ كَذَلِكَ عن أبانَ بْنِ تَغْلِبَ، قالَ قَوْمٌ: وهَذِهِ القِراءَةُ خَطَأٌ لِأنَّهُ جَعَلَ الِاسْمَ نَكِرَةً والخَبَرَ مَعْرِفَةً، قالَ أبُو حاتِمٍ: فَإنْ قِيلَ: "إنَّ (المُكاءَ والتَصْدِيَةَ) (p-١٨١)اسْمُ جِنْسٍ واسْمُ الجِنْسِ مُعَرَّفًا ومُنَكَّرًا واحِدٌ في التَعْرِيفِ"، قِيلَ: إنَّ اسْتِعْمالَهُ هَكَذا لا يَجُوزُ إلّا في ضَرُورَةِ الشِعْرِ، كَما قالَ حَسّانُ:. ؎ كَأنَّ سَبِيئَةً مِن بَيْتِ رَأسٍ ∗∗∗ يَكُونُ مِزاجَها عَسَلٌ وماءُ ولا يُقاسُ عَلى ذَلِكَ. فَأمّا أبُو الفَتْحِ فَوَجَّهَ هَذِهِ القِراءَةَ بِما ذَكَرْناهُ مِن تَعْرِيفِ اسْمِ الجِنْسِ، وبَعْدَ ذَلِكَ يُرَجِّحُ قِراءَةَ الناسِ. قالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: وإنَّما ذَهَبَ مَن ذَهَبَ إلى هَذِهِ القِراءَةِ لَمّا رَأى الفِعْلَ أنَّ "الصَلاةَ" مُؤَنَّثَةٌ، ورَأى المُسْنَدَ إلَيْها لَيْسَ فِيهِ عَلامَةُ تَأْنِيثٍ فَأرادَ تَعْلِيقَهُ بِمُذَكَّرٍ وهو "المُكاءُ"، وأخْطَأ في ذَلِكَ، فَإنَّ العَرَبَ تُعَلِّقُ الفِعْلَ لا عَلامَةَ فِيهِ بِالمُؤَنَّثِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَأخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَيْحَةُ﴾ [هود: ٦٧]، وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿فانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ﴾ [النمل: ٥١]، و( كَيْفَ كانَ عاقِبَةَ المُفْسِدِينَ ) ونَحْوُ هَذا مِمّا أُسْنِدَ فِيهِ الفِعْلُ دُونَ عَلامَةٍ إلى المُؤَنَّثِ. والمُكاءُ عَلى وزْنِ الفِعالِ: الصَفِيرُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما والجُمْهُورُ، (p-١٨٢)فَقَدْ يَكُونُ بِالفَمِ، وقَدْ يَكُونُ بِالأصابِعِ والكَفِّ في الفَمِ، قالَ مُجاهِدٌ، وأبُو سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَحْمَنِ: وقَدْ يُشارِكُ الأنْفُ، يُقالُ: مَكا يَمْكُو إذا صَفَّرَ، ومِنهُ قَوْلُ عنتَرَةَ: ؎ وحَلِيلِ غانِيَّةٍ تَرَكْتُ مُجَدَّلًا ∗∗∗ ∗∗∗ تَمْكُو فَرِيصَتُهُ كَشِدْقِ الأعْلَمِ ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ فَكَأنَّما يَمْكُو بِأعْصَمَ عاقِلِ ∗∗∗ ∗∗∗................... يَصِفُ رَجُلًا فَرَّ لَهُ حَيَوانٌ، ومِنهُ قَوْلُ الطِرِمّاحِ: ؎ فَنَحا لِأُولاها بِطَعْنَةِ مُحْفَظٍ ∗∗∗ ∗∗∗ تَمْكُو جَوانِبُها مِنَ الإنْهارِ ومَكَتِ اسْتُ الدابَّةِ إذا صَفَّرَتْ، يُقالُ: ولا تَمْكُو إلّا اسْتٌ مَكْشُوفَةٌ، ومِن هَذا قِيلَ لِلِاسْتِ: مَكْوَةٌ، قالَ أبُو عَلِيٍّ: فالهَمْزَةُ في مُكاءٍ مُنْقَلِبَةٌ عن واوٍ. (p-١٨٣)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ومِن هَذا قِيلَ لِلطّائِرِ: المُكّاءُ، لِأنَّهُ يَمْكُو أيْ يُصَفِّرُ في تَغْرِيدِهِ، ووَزْنُهُ فُعّالٌ بِشَدِّ العَيْنِ كَخُطّافِ، والأصْواتُ في الأكْثَرِ تَجِيءُ عَلى فُعالٍ بِتَخْفِيفِ العَيْنِ كالبُكاءِ والصُراخِ والدُعاءِ والجُؤارِ والنُباحِ ونَحْوِهِ. ورُوِيَ عن قَتادَةَ أنَّ المُكاءَ صَوْتُ الأيْدِي، وذَلِكَ ضَعِيفٌ. ورُوِيَ عن أبِي عَمْرٍو أنَّهُ قَرَأ "إلّا مَكا" بِالقَصْرِ. و"التَصْدِيَةُ" عَبَّرَ عنها أكْثَرُ الناسِ بِأنَّها التَصْفِيقُ. وقَتادَةُ بِأنَّها الضَجِيجُ والصِياحُ، وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ بِأنَّها الصَدُّ والمَنعُ، ومَن قالَ "إنَّها التَصْفِيقُ" قالَ: "إنَّما كانَ لِلْمَنعِ عن ذِكْرِ اللهِ ومُعارَضَةً لِقِراءَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ لِلْقُرْآنِ"، والتَصْدِيَةُ يُمْكِنُ أنْ تَكُونَ مِن صَدى يَصْدى إذا صَوَّتَ، والصَدى: الصَوْتُ، ومِنهُ قَوْلُ الطِرِمّاحِ يَصِفُ الأرْوِيَةَ: ؎ لَها كُلَّما رِيعَتْ صَداةٌ ورَكْدَةٌ ∗∗∗ ∗∗∗ بِمِصْرانَ أعْلى ابْنَيْ شَمامِ البَوائِنِ فَيَلْتَئِمُ -عَلى هَذا الِاشْتِقاقِ- قَوْلُ مَن قالَ: هو التَصْفِيقُ، وقَوْلُ مَن قالَ: الضَجِيجُ، ولا يَلْتَئِمُ عَلَيْهِ قَوْلُ مَن قالَ: هو الصَدُّ والمَنعُ إلّا أنْ يُجْعَلَ التَصْوِيتُ إنَّما يُقْصَدُ بِهِ المَنعُ، فَفُسِّرَ اللَفْظُ بِالمَقْصُودِ لا بِما يَخُصُّهُ مِن مَعْناهُ. ويُمْكِنُ أنْ تَكُونَ "التَصْدِيَةُ" مِن صَدَّ يَصُدُّ، اسْتُعْمِلَ الفِعْلُ مُضَعَّفًا لِلْمُبالَغَةِ والتَكْثِيرِ لا لِيُعَدّى فَقِيلَ: صَدَّدَ، وذَلِكَ أنَّ الفِعْلَ الَّذِي يَتَعَدّى إذا ضُعِّفَ فَإنَّما يُضَعَّفُ لِلتَّكْثِيرِ، إذِ التَعَدِّي حاصِلٌ قَبْلَ التَضْعِيفِ، وذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَغَلَّقَتِ الأبْوابَ﴾ [يوسف: ٢٣]، والَّذِي يُضَعَّفُ لِيُعَدّى هو كَقَوْلِهِمْ عَلَّمَ وغَرَّمَ، فَإذا قُلْنا في صَدَّ: صَدَّدَ، فَفِعْلٌ في الصَحِيحِ (p-١٨٤)يَجِيءُ مَصْدَرُهُ في الأكْثَرِ عَلى تَفْعِيلٍ، وفي الأقَلِّ عَلى تَفْعِلَةٍ، مِثْلُ كَمَّلَ تَكْمِيلًا وتَكْمِلَةً وغَيْرَ ذَلِكَ، بِخِلافِ المُعْتَلِّ فَإنَّهُ يَجِيءُ في الأكْثَرِ عَلى تَفْعِلَةٍ، مِثْلُ عَزّى وتَعْزِيَةً، وفي الشاذِّ عَلى تَفْعِيلٍ مِثْلُ قَوْلِ الشاعِرِ: ؎ باتَ يُنْزِي دَلْوَهُ تَنَزِّيًا ∗∗∗ ∗∗∗............... وإذا كانَ فِعْلٌ في الصَحِيحِ يَتَّسِقُ فِيهِ المَثَلانِ رُفِضَ فِيهِ تَفْعِلَةٌ مِثْلُ قَوْلِنا: تَصْدِيَةٌ، وصُيِّرَ إلى تَفْعِيلٍ لِتَحُولَ الياءُ بَيْنَ المِثْلَيْنِ كَتَخْفِيفٍ وتَشْدِيدٍ، فَلَمّا سَلَكُوا مَصْدَرَ صَدَّدَ المَسْلَكَ المَرْفُوضَ أُصْلِحَ ذَلِكَ بِأنْ أُبْدِلَ أحَدُ المِثْلَيْنِ ياءً كَبَدَلِهِمْ فِي: تَظَنَّنْتُ ونَحْوِهِ، فَجاءَ: تَصْدِيَةً، فَعَلى هَذا الِاشْتِقاقِ يَلْتَئِمُ قَوْلُ مَن قالَ: التَصْدِيَةُ: الصَدُّ عَنِ البَيْتِ والمَنعُ. ويُمْكِنُ أنْ تَكُونَ التَصْدِيَةُ مِن صَدَّ يَصِدُّ -بِكَسْرِ الصادِ في المُسْتَقْبَلِ- إذا ضَجَّ، ويُبَدِّلُ أيْضًا عَلى هَذا أحَدِ المِثْلَيْنِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذا قَوْمُكَ مِنهُ يَصِدُّونَ﴾ [الزخرف: ٥٧] بِكَسْرِ الصادِ، ذَكَرَهُ النَحّاسُ. وذَهَبَ أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ إلى أنَّ المُكاءَ والتَصْدِيَةَ إنَّما أحْدَثَها الكُفّارُ عِنْدَ مَبْعَثِ رَسُولِ اللهِ ﷺ لِتَقْطَعَ عَلَيْهِ وعَلى المُؤْمِنِينَ قِراءَتَهم وصَلاتَهُمْ، ويُخَلَّطَ عَلَيْهِمْ، فَكانَ (p-١٨٥)المُصَلِّي إذا قامَ يَقْرَأُ مِنَ المُؤْمِنِينَ اكْتَنَفَهُ مِنَ الكُفّارِ عن يَمِينِهِ وشِمالِهِ مَن يَمْكُو ويُصَدِّي حَتّى تَخْتَلِطَ عَلَيْهِ قِراءَتُهُ، فَلَمّا نَفى اللهُ وِلايَتَهم لِلْبَيْتِ أمْكَنَ أنْ يَعْتَرِضَ مُعْتَرِضٌ بِأنْ يَقُولَ: وكَيْفَ لا نَكُونُ أولِياءَهُ ونَحْنُ نَسْكُنُهُ ونُصَلِّي عِنْدَهُ؟ فَقَطَعَ اللهُ هَذا الِاعْتِراضَ بِأنْ قالَ: "وَما كانَ صَلاتُهم إلّا المُكاءَ والتَصْدِيَةَ"، وهَذا كَما يَقُولُ الرَجُلُ: أنا أفْعَلُ الخَيْرَ، فَيُقالُ لَهُ: ما فِعْلُكَ الخَيْرَ إلّا أنْ تَشَرَبَ الخَمْرَ وتَقْتُلَ، أيْ هَذِهِ عادَتُكَ وغايَتُكَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: والَّذِي مَرَّ بِي مِن أمْرِ العَرَبِ في غَيْرِ ما يُدَوَّنُ أنَّ المُكاءَ والتَصْدِيَةَ كانَ مِن فِعْلِ العَرَبِ قَدِيمًا قَبْلَ الإسْلامِ عَلى جِهَةِ التَقَرُّبِ بِهِ والتَشَرُّعِ، ورَأيْتُ عن بَعْضِ أقْوِياءِ العَرَبِ أنَّهُ كانَ يَمْكُو عَلى الصَفا فَيُسْمَعُ مِن جَبَلِ حِراءَ، وبَيْنَهُما أرْبَعَةُ أمْيالٍ، وعَلى هَذا يَسْتَقِيمُ تَعْيِيرُهم وتَنَقُّصُهم بِأنَّ شَرْعَهم وصَلاتَهم وعِبادَتَهم لَمْ تَكُنْ رَهْبَةً ولا رَغْبَةً، إنَّما كانَتْ مُكاءً وتَصْدِيَةً مِن نَوْعِ اللَعِبِ، ولَكِنَّهم كانُوا يَتَزايَدُونَ فِيها وقْتَ النَبِيِّ ﷺ لِيَشْغَلُوهُ وأُمَّتَهُ عَنِ القِراءَةِ والصَلاةِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَذُوقُوا العَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ إشارَةٌ إلى عَذابِهِمْ بِبَدْرٍ بِالسَيْفِ، قالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، والحَسَنُ، والضَحّاكُ، فَيَلْزَمُ مِن هَذا أنَّ هَذِهِ الآيَةَ الأخِيرَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ بَدْرٍ ولابُدَّ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: والأشْبَهُ أنَّ الكُلَّ نَزَلَ بَعْدَ بَدْرٍ حِكايَةً عَمّا مَضى. واللهُ ولِيُّ التَوْفِيقِ بِرَحْمَتِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب