الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَرَأيْتَ النّاسَ يَدْخُلُونَ في دِينِ اللَّهِ أفْواجًا﴾ . فَكَأنَّ النّاسَ يَأْتُونَ مِن كُلِّ جِهَةٍ حَتّى مِنَ اليَمَنِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى كَمالِ الدَّعْوَةِ ونَجاحِ الرِّسالَةِ.
وَيَدُلُّ لِهَذا مَجِيءُ آيَةِ: ﴿اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكم دِينَكم وأتْمَمْتُ عَلَيْكم نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا﴾ [المائدة: ٣]، وكانَ نُزُولُها في حَجِّ تِلْكَ السَّنَةِ.
وَيُلاحَظُ أنَّ النَّصْرَ هُنا جاءَ بِلَفْظِ نَصْرِ اللَّهِ، وفي غَيْرِ هَذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ، ﴿وَما النَّصْرُ إلّا مِن عِنْدِ اللَّهِ﴾ [الأنفال: ١٠] .
وَمَعْلُومٌ أنَّ هَذِهِ الإضافَةَ هُنا لَها دَلالَةُ تَمامٍ وكَمالٍ، كَما في بَيْتِ اللَّهِ. مَعَ أنَّ المَساجِدَ كُلَّها بُيُوتٌ لِلَّهِ، فَهو مُشْعِرٌ بِالنَّصْرِ كُلَّ النَّصْرِ، أوْ بِتَمامِ النَّصْرِ كُلِّهِ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ .
والفَتْحُ، هُنا قِيلَ: هو فَتْحُ مَكَّةَ، وقِيلَ فَتْحُ المَدائِنِ وغَيْرِها.
وَتَقَدَّمَتِ الإشارَةُ إلى فُتُوحاتٍ عَدِيدَةٍ قَبْلَ مَكَّةَ.
وَهُناكَ فُتُوحاتٌ مَوْعُودٌ بِها بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ نَصَّ ﷺ عَلَيْها مِنها في غَزْوَةِ الأحْزابِ وهم يَحْفِرُونَ الخَنْدَقَ، لَمّا اعْتَرَضَتْهم كُدْيَةٌ وأعْجَزَتْهم، ودُعِيَ إلَيْها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: فَأخْذَ ماءً وتَمَضْمَضَ ودَعا ما شاءَ اللَّهُ أنْ يَدْعُوَ ثُمَّ ضَرَبَ، فَكانَتْ كالكَثِيبِ.
(p-١٣٩)وَقَدْ جاءَ فِيها ابْنُ كَثِيرٍ بِعِدَّةِ رِواياتٍ وطُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ، وكُلُّها تَذْكُرُ أنَّهُ ﷺ ضَرَبَ ثَلاثَ ضَرَباتٍ، فَأبْرَقَتْ تَحْتَ كُلِّ ضَرْبَةٍ بَرْقَةً، وكَبَّرَ ﷺ عِنْدَ كُلِّ واحِدَةٍ مِنها، فَسَألُوهُ فَقالَ ”في الأُولى: «أُعْطِيتُ مَفاتِيحَ فارِسَ»“ وذَكَرَ اليَمَنَ والشّامَ، وكُلُّها رِواياتٌ لا تَخْلُو مِن نِقاشٍ، ولَكِنْ لِكَثْرَتِها يُقَوِّي بَعْضُها بَعْضًا.
وَأقْواها رِوايَةُ النَّسائِيِّ بِسَنَدِهِ قالَ: «لَمّا أمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِحَفْرِ الخَنْدَقِ، عَرَضَتْ لَهم صَخْرَةٌ حالَتْ بَيْنَهم وبَيْنَ الحَفْرِ، فَقامَ النَّبِيُّ ﷺ وأخَذَ المِعْوَلَ ووَضَعَ رِداءَهُ ناحِيَةَ الخَنْدَقِ، وقالَ: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وهو السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾ [الأنعام: ١١٥]، فَنَدَرَ ثُلُثُ الحَجَرِ وسَلْمانُ الفارِسِيُّ قائِمٌ يَنْظُرُ، فَبَرَقَ مَعَ ضَرْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بَرْقَةٌ ثُمَّ ضَرَبَ الثّانِيَةَ، وقَرَأ ما قَرَأهُ أوَّلًا، وبَرَقَتْ أيْضًا. ثُمَّ الثّالِثَةَ، وخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وقَدْ تَكَسَّرَتْ، فَأخَذَ رِداءَهُ ﷺ وجَلَسَ، فَسَألَهُ سَلْمانُ لَمّا رَأى مِنَ البِرْقاتِ الثَّلاثِ: فَقالَ لَهُ: أرَأيْتَ ذَلِكَ ؟ قالَ: أِي والَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ يا رَسُولَ اللَّهِ، فَأخْبَرَهم أنَّهُ رُفِعَتْ لَهُ في الأُولى مَدائِنُ كِسْرى وما حَوْلَها ومَدائِنُ كَثِيرَةٌ حَتّى رَآها بِعَيْنِهِ، فَقالُوا: ادْعُ اللَّهَ لَنا أنْ يَفْتَحَ عَلَيْنا. فَدَعا لَهم، وفي الثّانِيَةِ: رُفِعَتْ لَهُ مَدائِنُ قَيْصَرَ وما حَوْلَها، وفي الثّالِثَةِ مَدائِنُ الحَبَشَةِ، وكُلُّها يَطْلُبُونَ مِنهُ ﷺ أنْ يَدْعُوَ لَهم فَتُفْتَحَ عَلَيْهِمْ، فَدَعا لَهم إلّا في الحَبَشَةِ، فَقالَ ﷺ: " دَعُوا الحَبَشَةَ ما ودَعُوكم، واتْرُكُوا التُّرْكَ ما تَرَكُوكم» انْتَهى مُلَخَّصًا.
وَقَدْ رَواهُ كُلٌّ مِنِ ابْنِ كَثِيرٍ والنَّسائِيِّ مُطَوَّلًا، فَهَذِهِ الرِّواياتُ وإنْ كانَتْ تَحْتَمِلُ مَقالًا فَقَدْ جاءَ في المُوَطَّأِ ما لا يَحْتَمِلُ مَقالًا، ولا شَكَّ في صِحَّتِهِ، ولا في دَلالَتِهِ، وهو ما رَواهُ مالِكٌ عَنْ هِشامٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ أبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ سُفْيانَ بْنِ أبِي زُهَيْرٍ أنَّهُ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «يُفْتَحُ اليَمَنُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبُسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأهْلِيهِمْ ومَن أطاعَهم، والمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهم لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ، وتُفْتَحُ الشّامُ، فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبُسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأهْلِيهِمْ ومَن أطاعَهم، والمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهم لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ، ويُفْتَحُ العِراقُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبُسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأهْلِيهِمْ ومَن أطاعَهم، والمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهم لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» .
فَهَذا نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ مِنهُ ﷺ في حَياتِهِ بِفَتْحِ اليَمَنِ والشّامِ والعِراقِ، وما فُتِحَتْ كُلُّها إلّا مِن بَعْدِهِ ﷺ إلّا اليَمَنُ.
(p-١٤٠)وَيُؤَيِّدُ هَذا القَوْلَ ما أخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: ”«بَيْنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالمَدِينَةِ، إذْ قالَ: اللَّهُ أكْبَرُ، اللَّهُ أكْبَرُ، جاءَ نَصْرُ اللَّهِ والفَتْحُ، جاءَ أهْلُ اليَمَنِ»، قِيلَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، وما أهْلُ اليَمَنِ ؟ قالَ: قَوْمٌ رَقِيقَةٌ قُلُوبُهم، لَيِّنَةٌ طِباعُهم، الإيمانُ يَمانٍ، والفِقْهُ يَمانٍ، والحِكْمَةُ يَمانِيَةٌ“ رَواهُ ابْنُ كَثِيرٍ عَنْهُ.
وَقَدْ كانَ فَتْحُ مَكَّةَ عامَ ثَمانٍ مِنَ الهِجْرَةِ، وجاءَتِ الوُفُودُ في دِينِ اللَّهِ أفْواجًا عامَ تِسْعٍ مِنها، وجاءَ وفْدُ اليَمَنِ وأرْسَلَ ﷺ عُمّالَهُ إلى اليَمَنِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وقِدَمِ عَلَيْهِ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ اليَمَنِ في العامِ العاشِرِ في مَوْسِمِ الحَجِّ، فَفُتِحَتِ اليَمَنُ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ في حَياتِهِ ﷺ .
وَعَلَيْهِ: تَكُونُ فُتُوحاتٌ قَدْ وقَعَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، يُمْكِنُ أنْ يَشْمَلَها هُنا قَوْلُهُ تَعالى: والفَتْحُ، ولَيْسَ مَقْصُورًا عَلى فَتْحِ مَكَّةَ كَما قالُوا.
وَقَدْ يُؤْخَذُ بِدَلالَةِ الإيماءِ: الوَعْدُ بِفُتُوحاتٍ شامِلَةٍ، لِمَناطِقَ شاسِعَةٍ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَأذِّنْ في النّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ [الحج: ٢٧]؛ لِأنَّ الإتْيانَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، يَدُلُّ عَلى الإتْيانِ إلى الحَجِّ مِن بَعِيدٍ، والإتْيانَ إلى الحَجِّ يَدُلُّ عَلى الإسْلامِ، وبِالتّالِي يَدُلُّ عَلى مَجِيءِ المُسْلِمِينَ مِن بَعِيدٍ، وهو مَحَلُّ الِاسْتِدْلالِ واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
{"ayah":"وَرَأَیۡتَ ٱلنَّاسَ یَدۡخُلُونَ فِی دِینِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق