الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ورَأيْتَ النّاسَ يَدْخُلُونَ في دِينِ اللَّهِ أفْواجًا﴾ فِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: رَأيْتَ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَعْناهُ أبْصَرْتَ، وأنْ يَكُونَ مَعْناهُ عَلِمْتَ، فَإنْ كانَ مَعْناهُ أبْصَرْتَ كانَ يَدْخُلُونَ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى الحالِ، والتَّقْدِيرُ: ورَأيْتَ النّاسَ حالَ دُخُولِهِمْ في دِينِ اللَّهِ أفْواجًا، وإنْ كانَ مَعْناهُ عَلِمْتَ كانَ يَدْخُلُونَ في دِينِ اللَّهِ مَفْعُولًا ثانِيًا لَعَلِمْتَ، والتَّقْدِيرُ: عَلِمْتَ النّاسَ داخِلِينَ في دِينِ اللَّهِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: ظاهِرُ لَفْظِ النّاسِ لِلْعُمُومِ، فَيَقْتَضِي أنْ يَكُونَ كُلُّ النّاسِ كانُوا قَدْ دَخَلُوا في الوُجُودِ مَعَ أنَّ الأمْرَ ما كانَ كَذَلِكَ ؟ الجَوابُ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ المَقْصُودَ مِنَ الإنْسانِيَّةِ والعَقْلِ، إنَّما هو الدِّينُ والطّاعَةُ، عَلى ما قالَ: ﴿وما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلّا لِيَعْبُدُونِ﴾ فَمَن أعْرَضَ عَنِ الدِّينِ الحَقِّ وبَقِيَ عَلى الكُفْرِ، فَكَأنَّهُ لَيْسَ بِإنْسانٍ، وهَذا المَعْنى هو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ كالأنْعامِ بَلْ هم أضَلُّ﴾ [الأعراف: ١٧٩] وقالَ: ﴿وإذا قِيلَ لَهم آمِنُوا﴾ [البقرة: ١٣] وسُئِلَ الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ: مَنِ النّاسُ ؟ فَقالَ: نَحْنُ النّاسُ، وأشْياعُنا أشْباهُ النّاسِ، وأعْداؤُنا النَّسْناسُ، فَقَبَّلَهُ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وقالَ: اللَّهُ أعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ، فَإنْ قِيلَ: إنَّهم إنَّما دَخَلُوا في الإسْلامِ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ وتَقْصِيرٍ كَثِيرٍ، فَكَيْفَ اسْتَحَقُّوا هَذا المَدْحَ العَظِيمَ ؟ قُلْنا: هَذا فِيهِ إشارَةٌ إلى سِعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ، فَإنَّ العَبْدَ بَعْدَ أنْ أتى بِالكُفْرِ والمَعْصِيَةِ طُولَ عُمْرِهِ، فَإذا أتى بِالإيمانِ في آخِرِ عُمْرِهِ يَقْبَلُ إيمانَهُ، ويَمْدَحُهُ هَذا المَدْحَ العَظِيمَ، ويُرْوى أنَّ المَلائِكَةَ يَقُولُونَ لِمِثْلِ هَذا الإنْسانِ: أتَيْتَ وإنْ كُنْتَ قَدْ أبَيْتَ، ويُرْوى أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ: ”«لَلَّهُ أفْرَحُ بِتَوْبَةِ أحَدِكم مِنَ الضّالِّ الواجِدِ، والظَّمْآنِ الوارِدِ» “ والمَعْنى كانَ الرَّبُّ تَعالى يَقُولُ: رَبَّيْتُهُ سَبْعِينَ سَنَةً، فَإنْ ماتَ عَلى كُفْرِهِ فَلا بُدَّ وأنْ أبْعَثَهُ إلى النّارِ، فَحِينَئِذٍ يَضِيعُ إحْسانِي إلَيْهِ في سَبْعِينَ سَنَةً، فَكُلَّما كانَتْ مُدَّةُ الكُفْرِ والعِصْيانِ أكْثَرَ كانَتِ التَّوْبَةُ عَنْها أشَدَّ قَبُولًا. الوَجْهُ الثّانِي في الجَوابِ: رُوِيَ أنَّ المُرادَ بِالنّاسِ أهْلُ اليَمَنِ، قالَ أبُو هُرَيْرَةَ: لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ، قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «اللَّهُ أكْبَرُ جاءَ نَصْرُ اللَّهِ والفَتْحُ، وجاءَ أهْلُ اليَمَنِ قَوْمٌ رَقِيقَةٌ قُلُوبُهُمُ الإيمانُ يَمانٍ والفِقْهُ يَمانٍ والحِكْمَةُ يَمانِيَّةٌ»، وقالَ: «أجِدُ نَفَسَ رَبِّكم مِن قِبَلِ اليَمَنِ» . المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ جُمْهُورُ الفُقَهاءِ وكَثِيرٌ مِنَ المُتَكَلِّمِينَ: إنَّ إيمانَ المُقَلِّدِ صَحِيحٌ، واحْتَجُّوا بِهَذِهِ الآيَةِ، قالُوا: إنَّهُ تَعالى حَكَمَ بِصِحَّةِ إيمانِ أُولَئِكَ الأفْواجِ وجَعَلَهُ مِن أعْظَمِ المِنَنِ عَلى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، ولَوْ لَمْ يَكُنْ إيمانُهم صَحِيحًا لَما ذَكَرَهُ في هَذا المَعْرِضِ، ثُمَّ إنّا نَعْلَمُ قَطْعًا أنَّهم ما كانُوا عالِمِينَ حُدُوثَ الأجْسادِ بِالدَّلِيلِ ولا إثْباتَ كَوْنِهِ تَعالى مُنَزَّهًا عَنِ الجِسْمِيَّةِ والمَكانِ والحَيِّزِ ولا إثْباتَ كَوْنِهِ تَعالى عالِمًا بِجَمِيعِ المَعْلُوماتِ الَّتِي لا نِهايَةَ لَها ولا إثْباتَ قِيامِ المُعْجِزِ التّامِّ عَلى يَدِ مُحَمَّدٍ ﷺ، ولا إثْباتَ أنَّ قِيامَ المُعْجِزِ كَيْفَ يَدُلُّ عَلى الصِّدْقِ، والعِلْمُ بِأنَّ أُولَئِكَ الأعْرابَ ما كانُوا عالِمِينَ بِهَذِهِ الدَّقائِقِ ضَرُورِيٌّ، فَعَلِمْنا أنَّ إيمانَ المُقَلِّدِ (p-١٤٥)صَحِيحٌ، ولا يُقالُ: إنَّهم كانُوا عالِمِينَ بِأُصُولِ دَلائِلِ هَذِهِ المَسائِلِ؛ لِأنَّ أُصُولَ هَذِهِ الدَّلائِلِ ظاهِرَةٌ، بَلْ إنَّما كانُوا جاهِلِينَ بِالتَّفاصِيلِ إلّا أنَّهُ لَيْسَ مِن شَرْطِ كَوْنِ الإنْسانِ مُسْتَدِلًّا كَوْنُهُ عالِمًا بِهَذِهِ التَّفاصِيلِ؛ لِأنّا نَقُولُ: إنَّ الدَّلِيلَ لا يَقْبَلُ الزِّيادَةَ والنُّقْصانَ، فَإنَّ الدَّلِيلَ إذا كانَ مَثَلًا مُرَكَّبًا مِن عَشْرِ مُقَدِّماتٍ، فَمَن عَلِمَ تِسْعَةً مِنها، وكانَ في المُقَدِّمَةِ العاشِرَةِ مُقَلِّدًا كانَ في النَّتِيجَةِ مُقَلِّدًا لا مَحالَةَ؛ لِأنَّ فَرْعَ التَّقْلِيدِ أوْلى أنْ يَكُونَ تَقْلِيدًا، وإنْ كانَ عالِمًا بِمَجْمُوعِ تِلْكَ المُقَدِّماتِ العَشْرَةِ اسْتَحالَ كَوْنُ غَيْرِهِ أعْرَفَ مِنهُ بِذَلِكَ الدَّلِيلِ لِأنَّ تِلْكَ الزِّيادَةَ إنْ كانَتْ جُزْءًا مُعْتَبَرًا في دَلالَةِ هَذا الدَّلِيلِ لَمْ تَكُنِ المُقْدِماتُ العَشَرَةُ الأُولى تَمامَ الدَّلِيلِ، فَإنَّهُ لا بُدَّ مَعَها مِن هَذِهِ المُقَدِّمَةِ الزّائِدَةِ، وقَدْ كُنّا فَرَضْنا تِلْكَ العَشَرَةَ كافِيَةً، وإنْ لَمْ تَكُنِ الزِّيادَةُ مُعْتَبَرَةً في دَلالَةِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ كانَ ذَلِكَ أمْرًا مُنْفَصِلًا عَنْ ذَلِكَ الدَّلِيلِ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ في كَوْنِهِ دَلِيلًا عَلى ذَلِكَ المَدْلُولِ، فَثَبَتَ أنَّ العِلْمَ بِكَوْنِ الدَّلِيلِ دَلِيلًا لا يَقْبَلُ الزِّيادَةَ والنُّقْصانَ، فَأمّا أنْ يُقالَ: إنَّ أُولَئِكَ الأعْرابَ كانُوا عالِمِينَ بِجَمِيعِ مُقَدِّماتِ دَلائِلِ هَذِهِ المَسائِلِ بِحَيْثُ ما شَذَّ عَنْهم مِن تِلْكَ المُقَدِّماتِ واحِدَةٌ، وذَلِكَ مُكابَرَةٌ أوْ ما كانُوا كَذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ ثَبَتَ أنَّهم كانُوا مُقَلِّدِينَ، ومِمّا يُؤَكِّدُ ما ذَكَرْنا ما رُوِيَ عَنِ الحَسَنِ أنَّهُ قالَ: لَمّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ مَكَّةَ أقْبَلَتِ العَرَبُ بَعْضُها عَلى بَعْضٍ فَقالُوا: إذا ظَفِرَ بِأهْلِ الحَرَمِ وجَبَ أنْ يَكُونَ عَلى الحَقِّ، وقَدْ كانَ اللَّهُ أجارَهم مِن أصْحابِ الفِيلِ، وكُلِّ مَن أرادَهم بِسُوءٍ ثُمَّ أخَذُوا يَدْخُلُونَ في الإسْلامِ أفْواجًا مِن غَيْرِ قِتالٍ، هَذا ما رَواهُ الحَسَنُ، ومَعْلُومٌ أنَّ الِاسْتِدْلالَ بِأنَّهُ لَمّا ظَفِرَ بِأهْلِ مَكَّةَ وجَبَ أنْ يَكُونَ عَلى الحَقِّ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، فَعَلِمْنا أنَّهم ما كانُوا مُسْتَدِلِّينَ بَلْ مُقَلِّدِينَ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: دِينُ اللَّهِ هو الإسْلامُ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ﴾ [آل عمران: ١٩] ولِقَوْلِهِ: ﴿ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنهُ﴾ [آل عمران: ٨٥] ولِلدِّينِ أسْماءٌ أُخْرى، مِنها الإيمانُ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَأخْرَجْنا مَن كانَ فِيها مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ ﴿فَما وجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ المُسْلِمِينَ﴾ [الذاريات: ٣٥] ومِنها الصِّراطُ قالَ تَعالى: ﴿صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ [الشورى: ٥٣] ومِنها كَلِمَةُ اللَّهِ، ومِنها النُّورُ: ﴿لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ﴾ [الصف: ٨] ومِنها الهُدى لِقَوْلِهِ: ﴿يَهْدِي مَن يَشاءُ﴾ [النحل: ٩٣] ومِنها العُرْوَةُ: ﴿فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقى﴾ [لقمان: ٢٢] ومِنها الحَبْلُ: ﴿واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ١٠٣] ومِنها صِبْغَةُ اللَّهِ، وفِطْرَةُ اللَّهِ، وإنَّما قالَ: ﴿فِي دِينِ اللَّهِ﴾ ولَمْ يَقُلْ: في دِينِ الرَّبِّ، ولا سائِرَ الأسْماءِ لِوَجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ هَذا الِاسْمَ أعْظَمُ الأسْماءِ لِدَلالَتِهِ عَلى الذّاتِ والصِّفاتِ، فَكَأنَّهُ يَقُولُ: هَذا الدِّينُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَصْلَةٌ سِوى أنَّهُ دِينُ اللَّهِ فَإنَّهُ يَكُونُ واجِبَ القَبُولِ. والثّانِي: لَوْ قالَ: دِينُ الرَّبِّ لَكانَ يُشْعِرُ ذَلِكَ بِأنَّ هَذا الدِّينَ إنَّما يَجِبُ عَلَيْكَ قَبُولُهُ لِأنَّهُ رَبّاكَ، وأحْسَنَ إلَيْكَ وحِينَئِذٍ تَكُنْ طاعَتُكَ لَهُ مُعَلَّلَةً بِطَلَبِ النَّفْعِ، فَلا يَكُونُ الإخْلاصُ حاصِلًا، فَكَأنَّهُ يَقُولُ أخْلِصِ الخِدْمَةَ بِمُجَرَّدِ أنِّي إلَهٌ لا لِنَفْعٍ يَعُودُ إلَيْكَ. المَسْألَةُ الخامِسَةُ: الفَوْجُ: الجَماعَةُ الكَثِيرَةُ كانَتْ تَدْخُلُ فِيهِ القَبِيلَةُ بِأسْرِها بَعْدَما كانُوا يَدْخُلُونَ فِيهِ واحِدًا واحِدًا واثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، «وعَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أنَّهُ بَكى ذاتَ يَوْمٍ فَقِيلَ لَهُ: ما يُبْكِيكَ ؟ فَقالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: دَخَلَ النّاسُ في دِينِ اللَّهِ أفْواجًا، وسَيَخْرُجُونَ مِنهُ أفْواجًا، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ السَّلْبِ بَعْدَ العَطاءِ» .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب