الباحث القرآني

فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ أَيْ خَافَتْ وَحَذِرَتْ مُخَالَفَتَهُ. فَوَصَفَهُمْ بِالْخَوْفِ وَالْوَجَلِ عِنْدَ ذِكْرِهِ، وَذَلِكَ لِقُوَّةِ يَقِينِهِمْ وَمُرَاعَاتِهِمْ لِرَبِّهِمْ، وَكَأَنَّهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَوَصَفَهُمْ بِالصَّبْرِ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِدَامَتِهَا. وَرُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قَوْلُهُ: "وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ" نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: "الصَّلاةِ" بِالْخَفْضِ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: "الصَّلَاةَ" بِالنَّصْبِ عَلَى تَوَهُّمِ النُّونِ، وَأَنَّ حَذْفَهَا لِلتَّخْفِيفِ لِطُولِ الِاسْمِ. وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ: الْحَافِظُو عَوْرَةَ الْعَشِيرَةِ [[البيت بتمامه: الحافظو عورة العشيرة لا ... يأتيهم من ورا انا نطف]] ... الثَّانِيَةُ- هَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾[[راجع ج ٧ ص ٣٦٥.]] [الأنفال: ٢]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ﴾[[راجع ج ١٥ ص ٢٤٨.]] [الزمر: ٢٣]. هَذِهِ حَالَةُ الْعَارِفِينَ بِاللَّهِ، الْخَائِفِينَ مِنْ سَطْوَتِهِ وَعُقُوبَتِهِ، لَا كَمَا يَفْعَلُهُ جُهَّالُ الْعَوَامِّ وَالْمُبْتَدِعَةُ الطَّغَامُ مِنَ الزَّعِيقِ وَالزَّئِيرِ، وَمِنَ النِّهَاقِ الَّذِي يُشْبِهُ نِهَاقَ الْحَمِيرِ، فَيُقَالُ لِمَنْ تَعَاطَى ذَلِكَ وَزَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ وَجْدٌ وَخُشُوعٌ: إِنَّكَ لَمْ تَبْلُغْ أَنْ تُسَاوِيَ حَالَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَلَا حَالَ أَصْحَابِهِ فِي الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ تَعَالَى وَالْخَوْفِ مِنْهُ وَالتَّعْظِيمِ لِجَلَالِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَكَانَتْ حَالُهُمْ عِنْدَ الْمَوَاعِظِ الْفَهْمُ عَنِ اللَّهِ وَالْبُكَاءُ خَوْفًا مِنَ اللَّهِ. وَكَذَلِكَ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى أَحْوَالَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ عِنْدَ سَمَاعِ ذِكْرِهِ وَتِلَاوَةِ كِتَابِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَى هَدْيِهِمْ وَلَا عَلَى طَرِيقَتِهِمْ، قال الله تعالى: " وَإِذا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ [[راجع ج ٦ ص ٢٥٨.]] " [المائدة: ٨٣]. فَهَذَا وَصْفُ حَالِهِمْ وَحِكَايَةُ مَقَالِهِمْ، فَمَنْ كَانَ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ، وَمَنْ تَعَاطَى أَحْوَالَ الْمَجَانِينِ وَالْجُنُونِ فَهُوَ مِنْ أَخَسِّهِمْ حَالًا، وَالْجُنُونُ فُنُونٌ. رَوَى الصَّحِيحُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّاسَ سَأَلُوا النَّبِيَّ ﷺ حَتَّى أَحْفَوْهُ [[أي أكثروا عليه. وأحفى في السؤال وألحف بمعنى ألح.]] فِي الْمَسْأَلَةِ، فَخَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فقال: (سلوني لا تسألوني عن شي إِلَّا بَيَّنْتُهُ لَكُمْ مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي هَذَا) فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ الْقَوْمُ أَرَمُّوا [[أرم الرجل: سكت، فهو مرم.]] وَرَهِبُوا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ [يَدَيْ [[الزيادة عن صحيح مسلم.]]] أَمْرٍ قَدْ حَضَرَ. قَالَ أَنَسٌ: فَجَعَلْتُ أَلْتَفِتُ يَمِينًا وَشِمَالًا فَإِذَا كُلُّ إِنْسَانٍ لَافٌّ رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ يَبْكِي. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِأَشْبَعَ مِنْ هَذَا في سورة "الأنفال" [[راجع ج ٧ ص ٣٦٦.]] والحمد لله.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب