الباحث القرآني
القلب المخبت هو الذي ينتفع بالقرآن ويزكو به.
قال الكلبي: "فتخبت له قلوبهم فترق للقرآن قلوبهم"
وقد بين سبحانه حقيقة الإخبات ووصف المخبتين في قوله: ﴿وَبَشِّرِ المُخْبِتِينَ الَّذِينَ إذا ذُكِرَ اللَّهُ وجِلَتْ قُلُوبُهم والصّابِرِينَ عَلى ما أصابَهم والمُقِيمِي الصَّلاةِ ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾
فذكر للمخبتين أربع علامات وجل قلوبهم عند ذكره والوجل خوف مقرون بهيبة ومحبة وصبرهم على أقداره وإتيانهم بالصلاة قائمة الأركان ظاهرا وباطنا وإحسانهم إلى عباده بالإنفاق مما آتاهم وهذا إنما يتأتى للقلب المخبت قال ابن عباس: "المخبتين المتواضعين"
وقال مجاهد: "المطمئنين إلى الله"
وقال الأخفش: "الخاشعين"
وقال ابن جرير: "الخاضعين" قال الزجاج: "اشتقاقه من الخبت وهو المنخفض من الأرض وكل مخبت متواضع فالإخبات سكون الجوارح على وجه التواضع والخشوع لله".
فإن قيل كان معناه التواضع والخشوع فكيف عدي بـ إلى في قوله: ﴿وَأخْبَتُوا إلى رَبِّهِم﴾؟
قيل ضمن معنى أنابوا واطمأنوا وتابوا وهذه عبارات السلف في هذا الموضع والمقصود أن القلب المخبت ضد القاسي والمريض وهو سبحانه الذي جعل بعض القلوب مخبتا إليه وبعضها قاسيا وجعل للقسوة آثارا وللإخبات آثارا فمن آثاره القسوة تحريف الكلم عن مواضعه وذلك من سوء الفهم وسوء القصد وكلاهما ناشئ عن قسوة القلب ومنها نسيان ما ذكر به وهو ترك ما أمر به علما وعملا ومن آثار الإخبات وجل القلوب لذكره سبحانه والصبر على أقداره والإخلاص في عبوديته والإحسان إلى خلقه.
* [فَصْلٌ مَنزِلَةُ الإخْباتِ]
وَمِن مَنازِلِ: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ مَنزِلَةُ الإخْباتِ.
قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وَبَشِّرِ المُخْبِتِينَ﴾ [الحج: ٣٤] ثُمَّ كَشَفَ عَنْ مَعْناهم فَقالَ: ﴿الَّذِينَ إذا ذُكِرَ اللَّهُ وجِلَتْ قُلُوبُهم والصّابِرِينَ عَلى ما أصابَهم والمُقِيمِي الصَّلاةِ ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾ [الحج: ٣٥] وقالَ: ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ وأخْبَتُوا إلى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أصْحابُ الجَنَّةِ هم فِيها خالِدُونَ﴾ [هود: ٢٣].
و" الخَبْتُ " في أصْلِ اللُّغَةِ: المَكانُ المُنْخَفِضُ مِنَ الأرْضِ.
وَبِهِ فَسَّرَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما وقَتادَةُ لَفَظَ المُخْبِتَيْنِ وقالا: هُمُ المُتَواضِعُونَ.
وَقالَ مُجاهِدٌ: المُخْبِتُ: المُطْمَئِنُّ إلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ. قالَ: والخَبْتُ: المَكانُ المُطَمْئِنُّ مِنَ الأرْضِ.
وَقالَ الأخْفَشُ: الخاشِعُونَ.
وَقالَ إبْراهِيمُ النَّخَعِيُّ: المُصَلُّونَ المُخْلِصُونَ. وقالَ الكَلْبِيُّ: هُمُ الرَّقِيقَةُ قُلُوبُهم. وقالَ عَمْرُو بْنُ أوْسٍ: هُمُ الَّذِينَ لا يَظْلِمُونَ، وإذا ظَلَمُوا لَمْ يَنْتَصِرُوا.
وَهَذِهِ الأقْوالُ تَدُورُ عَلى مَعْنَيَيْنِ: التَّواضُعِ، والسُّكُونِ إلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، ولِذَلِكَ عُدِّي بِ " إلى " تَضْمِينًا لِمَعْنى الطُّمَأْنِينَةِ، والإنابَةِ والسُّكُونِ إلى اللَّهِ.
قالَ صاحِبُ " المَنازِلِ ":
" هو مِن أوَّلِ مَقاماتِ الطُّمَأْنِينَةِ ".
كالسَّكِينَةِ، واليَقِينِ، والثِّقَةِ بِاللَّهِ ونَحْوِها. فالإخْباتُ مُقَدِّمَتُها ومَبْدَؤُها.
قالَ: وهو وُرُودُ المَأْمَنِ مِنَ الرُّجُوعِ والتَّرَدُّدِ.
لَمّا كانَ الإخْباتُ أوَّلَ مَقامٍ يَتَخَلَّصُ فِيهِ السّالِكُ مِنَ التَّرَدُّدِ - الَّذِي هو نَوْعُ غَفْلَةٍ وإعْراضٍ - والسّالِكُ مُسافِرٌ إلى رَبِّهِ، سائِرٌ إلَيْهِ عَلى مَدى أنْفاسِهِ. لا يَنْتَهِي مَسِيرُهُ إلَيْهِ ما دامَ نَفَسُهُ يَصْحَبُهُ - شَبَّهَ حُصُولَ الإخْباتِ لَهُ بِالماءِ العَذْبِ الَّذِي يَرُدُّهُ المُسافِرُ عَلى ظَمَأٍ وحاجَةٍ في أوَّلِ مَناهِلِهِ. فَيَرْوِيهِ مَوْرِدَهُ، ويُزِيلُ عَنْهُ خَواطِرَ تَرَدُّدَهُ في إتْمامِ سَفَرِهِ، أوْ رُجُوعِهِ إلى وطَنِهِ لِمَشَقَّةِ السَّفَرِ. فَإذا ورَدَ ذَلِكَ الماءَ زالَ عَنْهُ التَّرَدُّدُ وخاطِرُ الرُّجُوعِ.
كَذَلِكَ السّالِكُ إذا ورَدَ مَوْرِدَ الإخْباتِ تَخَلَّصَ مِنَ التَّرَدُّدِ والرُّجُوعِ، ونَزَلَ أوَّلَ مَنازِلِ الطُّمَأْنِينَةِ بِسِفْرِهِ، وجَدَّ في السَّيْرِ.
قالَ: وهو عَلى ثَلاثِ دَرَجاتٍ. الدَّرَجَةُ الأُولى: أنْ تَسْتَغْرِقَ العِصْمَةُ الشَّهْوَةَ وتَسْتَدْرِكَ الإرادَةُ الغَفْلَةَ. ويَسْتَهْوِي الطَّلَبُ السَّلْوَةَ.
المُرِيدُ السّالِكُ: تَعْرِضُ لَهُ غَفْلَةٌ عَنْ مُرادِهِ، تُضْعِفُ إرادَتَهُ. وشَهْوَةٌ تَعارُضُ إرادَتَهُ فَتَصُدُّهُ عَنْ مُرادِهِ. ورُجُوعٌ عَنْ مُرادِهِ، وسَلْوَةٌ عَنْهُ.
فَهَذِهِ الدَّرَجَةُ مِنَ الإخْباتِ تَحْمِيهِ عَنْ هَذِهِ الثَّلاثَةِ. فَتَسْتَغْرِقُ عِصْمَتُهُ شَهْوَتَهُ.
والعِصْمَةُ هي الحِمايَةُ والحِفْظُ. والشَّهْوَةُ المَيْلُ إلى مَطالِبِ النَّفْسِ. والِاسْتِغْراقُ لِلشَّيْءِ الِاحْتِواءُ عَلَيْهِ والإحاطَةُ بِهِ.
يَقُولُ: تَغْلِبُ عِصْمَتُهُ شَهْوَتَهُ وتَقْهَرُها، وتَسْتَوْفِي جَمِيعَ أجْزائِها. فَإذا اسْتَوْفَتِ العِصْمَةُ جَمِيعَ أجْزاءِ الشَّهْوَةِ فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى إخْباتِهِ ودُخُولِهِ في مَقامِ الطُّمَأْنِينَةِ، ونُزُولِهِ أوَّلَ مَنازِلِها، وخَلاصِهِ في هَذا المَنزِلِ مِن تَرَدُّدِ الخَواطِرِ بَيْنَ الإقْبالِ والإدْبارِ، والرُّجُوعِ والعَزْمِ، إلى الِاسْتِقامَةِ والعَزْمِ الجازِمِ، والجِدِّ في السَّيْرِ. وذَلِكَ عَلامَةُ السَّكِينَةِ.
وَتَسْتَدْرِكُ إرادَتُهُ غَفْلَتَهُ. والإرادَةُ عِنْدَ القَوْمِ هي اسْمٌ لِأوَّلِ مَنازِلِ القاصِدِينَ إلى اللَّهِ. والمُرِيدُ هو الَّذِي خَرَجَ مِن وطَنِ طَبْعِهِ ونَفْسِهِ. وأخَذَ في السَّفَرِ إلى اللَّهِ، والدّارِ الآخِرَةِ، فَإذا نَزَلَ في مَنزِلِ الإخْباتِ أحاطَتْ إرادَتُهُ بِغَفْلَتِهِ. فاسْتَدْرَكَها، واسْتَدْرَكَ بِها فارِطَها.
وَأمّا اسْتِهْواءُ طَلَبِهِ لِسَلْوَتِهِ فَهو قَهْرُ مَحَبَّتِهِ لِسَلْوَتِهِ، وغَلَبَتُها لَهُ. بِحَيْثُ تَهْوِي السَّلْوَةُ وتَسْقُطُ، كالَّذِي يَهْوِي في بِئْرٍ. وهَذا عَلامَةُ المَحَبَّةِ الصّادِقَةِ أنْ تَقْهَرَ فِيهِ وارِدَ السَّلْوَةِ، وتَدْفِنَها في هُوَّةٍ لا تَحْيا بَعْدَها أبَدًا.
فالحاصِلُ: أنَّ عِصْمَتَهُ وحِمايَتَهُ تَقْهَرُ شَهْوَتَهُ. وإرادَتُهُ تَقْهَرُ غَفْلَتَهُ. ومَحَبَّتُهُ تَقْهَرُ سَلْوَتَهُ.
قالَ: الدَّرَجَةُ الثّانِيَةُ: أنْ لا يَنْقَضُّ إرادَتَهُ سَبَبٌ. ولا يُوحِشُ قَلْبَهُ عارِضٌ. ولا يَقْطَعُ عَلَيْهِ الطَّرِيقَ فِتْنَةٌ.
هَذِهِ ثَلاثَةُ أُمُورٍ أُخْرى. تَعْرِضُ لِصادِقِ الإرادَةِ: سَبَبٌ يَعْرِضُ لَهُ يَنْقُضُ عَزْمَهُ وإرادَتَهُ. ووَحْشَةٌ تَعْرِضُ لَهُ في طَرِيقِ طَلَبِهِ، ولا سِيَّما عِنْدَ تَفَرُّدِهِ. وفِتْنَةٌ تَخْرُجُ عَلَيْهِ، تَقْصِدُ قَطْعَ الطَّرِيقِ عَلَيْهِ.
فَإذا تَمَكَّنَ مِن مَنزِلِ الإخْباتِ انْدَفَعَتْ عَنْهُ هَذِهِ الآفاتُ؛ لِأنَّ إرادَتَهُ إذا قَوِيَتْ، وجَدَّ بِهِ المَسِيرُ لَمْ يَنْقُضْها سَبَبٌ مِن أسْبابِ التَّخَلُّفِ.
والنَّقْضُ هو الرُّجُوعُ عَنْ إرادَتِهِ، والعُدُولُ عَنْ جِهَةِ سَفَرِهِ.
وَلا يُوحِشُ أُنْسَهُ بِاللَّهِ في طَرِيقِهِ عارِضٌ مِنَ العَوارِضِ الشَّواغِلِ لِلْقَلْبِ، والجَواذِبِ لَهُ عَمَّنْ هو مُتَوَجِّهٌ إلَيْهِ.
والعارِضُ هو المُخالِفُ. كالشَّيْءِ الَّذِي يَعْتَرِضُكَ في طَرِيقِكَ. فَيَجِيءُ في عَرْضِها. ومِن أقْوى هَذِهِ العَوارِضِ عارِضُ وحْشَةِ التَّفَرُّدِ. فَلا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ، كَما قالَ بَعْضُ الصّادِقِينَ: انْفِرادُكَ في طَرِيقِ طَلَبِكَ دَلِيلٌ عَلى صِدْقِ الطَّلَبِ. وقالَ آخَرُ: لا تَسْتَوْحِشْ في طَرِيقِكَ مِن قِلَّةِ السّالِكِينَ. ولا تَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ الهالِكِينَ.
وَأمّا الفِتْنَةُ الَّتِي تَقْطَعُ عَلَيْهِ الطَّرِيقَ فَهي الوارِداتُ الَّتِي تَرِدُ عَلى القُلُوبِ، تَمْنَعُها مِن مُطالَعَةِ الحَقِّ وقَصْدِهِ. فَإذا تَمَكَّنَ مِن مَنزِلِ الإخْباتِ وصِحَّةِ الإرادَةِ والطَّلَبِ لَمْ يَطْمَعْ فِيهِ عارِضُ الفِتْنَةِ.
وَهَذِهِ العَزائِمُ لا تَصِحُّ إلّا لِمَن أشْرَقَ عَلى قَلْبِهِ أنْوارُ آثارِ الأسْماءِ والصِّفاتِ. وتَجَلَّتْ عَلَيْهِ مَعانِيها. وكافَحَ قَلْبَهُ حَقِيقَةُ اليَقِينِ بِها.
وَقَدْ قِيلَ: مَن أخَذَ العِلْمَ مِن عَيْنِ العِلْمِ ثَبَتَ. ومَن أخَذَهُ مِن جَرَيانِهِ أخَذَتْهُ أمْواجُ الشُّبَهِ. ومالَتْ بِهِ العِباراتُ، واخْتَلَفَتْ عَلَيْهِ الأقْوالُ.
قالَ: الدَّرَجَةُ الثّالِثَةُ: أنْ يَسْتَوِيَ عِنْدَهُ المَدْحُ والذَّمُّ، وتَدُومَ لائِمَتُهُ لِنَفْسِهِ. ويَعْمى عَنْ نُقْصانِ الخَلْقِ عَنْ دَرَجَتِهِ.
اعْلَمْ أنَّهُ مَتى اسْتَقَرَّتْ قَدَمُ العَبْدِ في مَنزِلَةِ الإخْباتِ وتَمَكَّنَ فِيها ارْتَفَعَتْ هِمَّتُهُ، وعَلَتْ نَفْسُهُ عَنْ خَطْفاتِ المَدْحِ والذَّمِّ. فَلا يَفْرَحُ بِمَدْحِ النّاسِ. ولا يَحْزَنُ لِذَمِّهِمْ. هَذا وصْفُ مَن خَرَجَ عَنْ حَظِّ نَفْسِهِ، وتَأهَّلَ لِلْفَناءِ في عُبُودِيَّةِ رَبِّهِ. وصارَ قَلْبُهُ مُطَّرِحًا لِأشِعَّةِ أنْوارِ الأسْماءِ والصِّفاتِ. وباشَرَ حَلاوَةَ الإيمانِ واليَقِينِ قَلْبُهُ.
والوُقُوفُ عِنْدَ مَدْحِ النّاسِ وذَمِّهِمْ عَلامَةُ انْقِطاعِ القَلْبِ، وخُلُوِّهِ مِنَ اللَّهِ، وأنَّهُ لَمْ تُباشِرْهُ رُوحُ مَحَبَّتِهِ ومَعْرِفَتِهِ، ولَمْ يَذُقْ حَلاوَةَ التَّعَلُّقِ بِهِ والطُّمَأْنِينَةِ إلَيْهِ.
وَأمّا قَوْلُهُ: وأنْ تَدُومَ لائِمَتُهُ لِنَفْسِهِ فَهو أنَّ صاحِبُ هَذا المَنزِلِ لا يَرْضى عَنْ نَفْسِهِ، وهو مُبْغِضٌ لَها مُتَمَنٍّ لِمُفارَقَتِها.
والمُرادُ بِالنَّفْسِ، عِنْدَ القَوْمِ: ما كانَ مَعْلُومًا مِن أوْصافِ العَبْدِ، مَذْمُومًا مِن أخْلاقِهِ وأفْعالِهِ، سَواءٌ كانَ ذَلِكَ كَسْبِيًّا، أوْ خَلْقِيًّا. فَهو شَدِيدُ اللّائِمَةِ لَها. وهَذا أحَدُ التَّأْوِيلَيْنِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوّامَةِ﴾ [القيامة: ٢] قالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وعِكْرِمَةُ: تَلُومُ عَلى الخَيْرِ والشَّرِّ. ولا تَصْبِرُ عَلى السَّرّاءِ. ولا عَلى الضَّرّاءِ.
وَقالَ قَتادَةُ: اللَّوّامَةُ هي الفاجِرَةُ.
وَقالَ مُجاهِدٌ: تَنْدَمُ عَلى ما فاتَ، وتَقُولُ: لَوْ فَعَلْتُ؟ ولَوْ لَمْ أفْعَلْ؟
وَقالَ الفَرّاءُ: لَيْسَ مِن نَفْسٍ بَرَّةٍ ولا فاجِرَةٍ إلّا وهي تَلُومُ نَفْسَها إنْ كانَتْ عَمِلَتْ خَيْرًا قالَتْ: هَلّا زِدْتُ؟ وإنْ عَمِلَتْ شَرًّا قالَتْ: لَيْتَنِي لَمْ أفْعَلْ.
وَقالَ الحَسَنُ: هي النَّفْسُ المُؤْمِنَةُ. إنَّ المُؤْمِنَ - واللَّهِ - ما تَراهُ إلّا يَلُومُ نَفْسَهُ: ما أرَدْتِ بِكَلِمَةِ كَذا؟ ما أرَدْتِ بِأكْلَةِ كَذا؟ ما أرَدْتِ بِكَذا؟ ما أرَدْتِ بِكَذا؟ وإنَّ الفاجِرَ يَمْضِي قُدُمًا قُدُمًا، ولا يُحاسِبُ نَفْسَهُ ولا يُعاتِبُها.
وَقالَ مُقاتِلٌ: هي النَّفْسُ الكافِرَةُ، تَلُومُ نَفْسَها في الآخِرَةِ عَلى ما فَرَّطَتْ في أمْرِ اللَّهِ في الدُّنْيا.
والقَصْدُ: أنَّ مَن بَذَلَ نَفْسَهُ لِلَّهِ بِصِدْقٍ كَرِهَ بَقاءَهُ مَعَها؛ لِأنَّهُ يُرِيدُ أنْ يَتَقَبَّلَها مَن بُذِلَتْ لَهُ. ولِأنَّهُ قَدْ قَرَّبَها لَهُ قُرْبانًا. ومَن قَرَّبَ قُرْبانًا فَتُقُبِّلَ مِنهُ لَيْسَ كَمَن رُدَّ عَلَيْهِ قُرْبانُهُ. فَبَقاءُ نَفْسِهِ مَعَهُ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ لَمْ يُتَقَبَّلْ قُرْبانُهُ.
وَأيْضًا فَإنَّهُ مِن قَواعِدِ القَوْمِ المُجْمَعِ عَلَيْها بَيْنَهُمْ، الَّتِي اتَّفَقَتْ كَلِمَةُ أوَّلِهِمْ وآخِرِهِمْ، ومُحِقِّهِمْ ومُبْطِلِهِمْ عَلَيْها أنَّ النَّفْسَ حِجابٌ بَيْنَ العَبْدِ وبَيْنَ اللَّهِ، وأنَّهُ لا يَصِلُ إلى اللَّهِ حَتّى يَقْطَعَ هَذا الحِجابَ. كَما قالَ أبُو يَزِيدٍ: رَأيْتُ رَبَّ العِزَّةِ في المَنامِ. فَقُلْتُ: يا رَبِّ، كَيْفَ الطَّرِيقُ إلَيْكَ؟ فَقالَ: خَلِّ نَفْسَكَ وتَعالَ.
فالنَّفْسُ جَبَلٌ عَظِيمٌ شاقٌّ في طَرِيقِ السَّيْرِ إلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ. وكُلُّ سائِرٍ لا طَرِيقَ لَهُ إلّا عَلى ذَلِكَ الجَبَلِ. فَلابُدَّ أنْ يَنْتَهِيَ إلَيْهِ، ولَكِنَّ مِنهم مَن هو شاقٌّ عَلَيْهِ ومِنهم مَن هو سَهْلٌ عَلَيْهِ. وإنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلى مَن يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ.
وَفِي ذَلِكَ الجَبَلِ أوْدِيَةٌ وشُعُوبٌ، وعَقَباتٌ ووُهُودٌ، وشَوْكٌ وعَوْسَجٌ، وعَلِيقٌ وشَبْرَقٌ، ولُصُوصٌ يَقْتَطِعُونَ الطَّرِيقَ عَلى السّائِرِينَ. ولا سِيَّما أهْلَ اللَّيْلِ المُدْلِجِينَ. فَإذا لَمْ يَكُنْ مَعَهم عُدَدُ الإيمانِ، ومَصابِيحُ اليَقِينِ تَتَّقِدُ بِزَيْتِ الإخْباتِ، وإلّا تَعَلَّقَتْ بِهِمْ تِلْكَ المَوانِعُ. وتَشَبَّثَتْ بِهِمْ تِلْكَ القَواطِعُ وحالَتْ بَيْنَهم وبَيْنَ السَّيْرِ.
فَإنَّ أكْثَرَ السّائِرِينَ فِيهِ رَجَعُوا عَلى أعْقابِهِمْ لَمّا عَجَزُوا عَنْ قَطْعِهِ واقْتِحامِ عَقَباتِهِ. والشَّيْطانُ عَلى قُلَّةِ ذَلِكَ الجَبَلِ يُحَذِّرُ النّاسَ مِن صُعُودِهِ وارْتِفاعِهِ، ويُخَوِّفُهم مِنهُ. فَيَتَّفِقُ مَشَقَّةُ الصُّعُودِ وقُعُودُ ذَلِكَ المُخَوِّفِ عَلى قُلَّتِهِ، وضَعْفُ عَزِيمَةِ السّائِرِ ونِيَّتِهِ. فَيَتَوَلَّدُ مِن ذَلِكَ الِانْقِطاعُ والرُّجُوعُ. والمَعْصُومُ مَن عَصَمَهُ اللَّهُ.
وَكُلَّما رَقى السّائِرُ في ذَلِكَ الجَبَلِ اشْتَدَّ بِهِ صِياحُ القاطِعِ، وتَحْذِيرُهُ وتَخْوِيفُهُ، فَإذا قَطَعَهُ وبَلَغَ قُلَّتَهُ: انْقَلَبَتْ تِلْكَ المَخاوِفُ كُلُّهُنَّ أمانًا. وحِينَئِذٍ يَسْهُلُ السَّيْرُ، وتَزُولُ عَنْهُ عَوارِضُ الطَّرِيقِ، ومَشَقَّةُ عَقَباتِها، ويَرى طَرِيقًا واسِعًا آمِنًا. يُفْضِي بِهِ إلى المَنازِلِ والمَناهِلِ. وعَلَيْهِ الأعْلامُ. وفِيهِ الإقاماتُ، قَدْ أُعِدَّتْ لِرَكْبِ الرَّحْمَنِ.
فَبَيْنَ العَبْدِ وبَيْنَ السَّعادَةِ والفَلاحِ قُوَّةُ عَزِيمَةٍ، وصَبْرُ ساعَةٍ، وشَجاعَةُ نَفْسٍ، وثَباتُ قَلْبٍ.
والفَضْلُ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ. واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ.
* (فَصْلٌ)
وَقَوْلُهُ: ويَعْمى عَنْ نُقْصانِ الخَلْقِ عَنْ دَرَجَتِهِ.
يَعْنِي أنَّهُ - وإنْ كانَ أعْلى مِمَّنْ هو دُونَهُ مِنَ النّاقِصِينَ عَنْ دَرَجَتِهِ - إلّا أنَّهُ لِاشْتِغالِهِ بِاللَّهِ وامْتِلاءِ قَلْبِهِ مِن مَحَبَّتِهِ ومَعْرِفَتِهِ، والإقْبالِ عَلَيْهِ يَشْتَغِلُ بِهِ عَنْ مُلاحَظَةِ حالِ غَيْرِهِ، وعَنْ شُهُودِ النِّسْبَةِ بَيْنَ حالِهِ وأحْوالِ النّاسِ.
وَيَرى اشْتِغالَهُ بِذَلِكَ والتِفاتَهُ إلَيْهِ نُزُولًا عَنْ مَقامِهِ، وانْحِطاطًا عَنْ دَرَجَتِهِ، ورُجُوعًا عَلى عَقِبَيْهِ.
فَإنْ هَجَمَ عَلَيْهِ ذَلِكَ - بِغَيْرِ اسْتِدْعاءٍ واخْتِيارٍ - فَلْيُداوِهِ بِشُهُودِ المِنَّةِ، وخَوْفِ المَكْرِ، وعَدَمِ عِلْمِهِ بِالعاقِبَةِ الَّتِي يُوافى عَلَيْها.
واللَّهُ المُسْتَعانُ.
{"ayahs_start":34,"ayahs":["وَلِكُلِّ أُمَّةࣲ جَعَلۡنَا مَنسَكࣰا لِّیَذۡكُرُوا۟ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّنۢ بَهِیمَةِ ٱلۡأَنۡعَـٰمِۗ فَإِلَـٰهُكُمۡ إِلَـٰهࣱ وَ ٰحِدࣱ فَلَهُۥۤ أَسۡلِمُوا۟ۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُخۡبِتِینَ","ٱلَّذِینَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتۡ قُلُوبُهُمۡ وَٱلصَّـٰبِرِینَ عَلَىٰ مَاۤ أَصَابَهُمۡ وَٱلۡمُقِیمِی ٱلصَّلَوٰةِ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ"],"ayah":"ٱلَّذِینَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتۡ قُلُوبُهُمۡ وَٱلصَّـٰبِرِینَ عَلَىٰ مَاۤ أَصَابَهُمۡ وَٱلۡمُقِیمِی ٱلصَّلَوٰةِ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق