﴿ذَ ٰلِكَ لِیَعۡلَمَ أَنِّی لَمۡ أَخُنۡهُ بِٱلۡغَیۡبِ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی كَیۡدَ ٱلۡخَاۤىِٕنِینَ ٥٢ وَمَاۤ أُبَرِّئُ نَفۡسِیۤۚ﴾ - تفسير
٣٧٥٧٣- عن أنس، أنّ رسول الله ﷺ قرأ هذه الآية: ﴿ذلك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب﴾. قال: «لَمّا قالها يوسفُ ﵇ قال له جبريل ﵇: يا يوسف، اذكر همَّك. قال: ﴿وما أبرئ نفسى﴾»[[أخرجه البيهقي في الزهد الكبير ص١٥٠ (٣١٥). وأورده الديلمى في الفردوس ٢/٢٤٤ (٣١٤٧).
وقال الألباني في الضعيفة ٤/٤٥٥ (١٩٩١): «منكر».]]. (٨/٢٧٢)
٣٧٥٧٤- عن عبد الله بن عباس -من طريق عكرمة- قال: لَمّا جمع الملِكُ النِّسوة قال لَهُنَّ: أنتُنَّ راودتُنَّ يوسفَ عن نفسه؟ ﴿قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين﴾. قال يوسف: ﴿ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب﴾. فغَمَزَه جبريل ﵇، فقال: ولا حين هممتَ بها؟! فقال: ﴿وما أبرئ نفسى إن النفس لأمارة بالسوء﴾[[أخرجه ابن جرير ١٣/٢١٠-٢١١، وابن أبي حاتم ٧/٢١٥٧-٢١٥٨، والبيهقي في شعب الإيمان (٧٢٩٠). وعزاه السيوطي إلى الفريابي، وأبي الشيخ.]]. (٨/٢٧٢)
٣٧٥٧٥- عن عبد الله بن عباس -من طريق العوفي- في قوله: ﴿ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب﴾. قال: هو قول يوسف لمليكه حين أراه اللهُ عذرَه، فذكَّره أنّه قد همَّ بها وهمَّت به، فقال يوسف: ﴿وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء﴾[[أخرجه ابن جرير ١٣/٢١٥، وابن أبي حاتم ٧/٢١٥٧.]]. (٨/٢٧٣)
٣٧٥٧٦- عن عبد الله بن عباس -من طريق عكرمة- قال: عثَر يوسفُ ﵇ ثلاث عثرات: قوله: ﴿اذكرني عند ربك﴾ [٤٢]. وقوله لإخوته: ﴿إنكم لسارقون﴾ [٧٠]. وقوله: ﴿ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب﴾. فقال له جبريل ﵇: ولا حين هممتَ؟ فقال: ﴿وما أبرئ نفسى﴾[[أخرجه ابن جرير ١٣/١٤٩ بنحوه. وعزاه السيوطي إلى ابن مردويه.]]. (٨/٢٦٢)
٣٧٥٧٧- عن عبد الله بن أبى الهُذيل -من طريق أبي سنان- قال: لَمّا قال يوسفُ ﵇: ﴿ذلك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب﴾. قال له جبريل ﵇: ولا يوم هممتَ بما هممتَ به؟! فقال: ﴿وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء﴾[[أخرجه ابن جرير ١٣/٢١٢.]]. (٨/٢٧٣)
٣٧٥٧٨- عن حكيم بن جابر -من طريق بيان- في قوله: ﴿ذلك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب﴾. قال: قال له جبريل: ولا حين حللتَ السراويلَ؟! فقال عند ذلك: ﴿وما أبرئ نفسى إن النفس لأمارة بالسوء﴾[[أخرجه سعيد بن منصور (١١٢٨ - تفسير)، وابن أبي حاتم ٧/٢١٥٨.]]. (٨/٢٧٣)
٣٧٥٧٩- عن سعيد بن جبير -من طريق أبي حصين- ﴿ذلك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب﴾ قال: فقال له الملَكُ أو جبريل: ولا حين هممتَ بها؟! فقال يوسف ﵇: ﴿وما أبرئ نفسى إن النفس لأمارة بالسوء﴾[[أخرجه ابن جرير ١٣/٢١١-٢١٢. وعزاه السيوطي إلى ابن المنذر.]]. (٨/٢٧٥)
٣٧٥٨٠- عن مجاهد بن جبر -من طريق ابن أبي نجيح- في قوله: ﴿ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب﴾، قال: يوسف يقولُه؛ لم أخن سيِّدي[[أخرجه ابن جرير ١٣/٢٠٨. وعزاه السيوطي إلى أبي عبيد، وابن المنذر.]]. (٨/٢٧٤)
٣٧٥٨١- عن مجاهد بن جبر، في قوله: ﴿ذلك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب﴾. فقال له الملَك أو جبريل: ولا حين هَمَمْتَ بها؟! فقال يوسف ﵇: ﴿وما أبرئ نفسى إن النفس لأمارة بالسوء﴾[[عزاه السيوطي إلى عبد بن حميد، وابن المنذر.]]. (٨/٢٧٥)
٣٧٥٨٢- عن مجاهد بن جبر، في قوله: ﴿ذلك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب﴾. قال: فقال له الملَك: ولا حين هَمَمْتَ؟! فقال: ﴿وما أبرئ نفسى﴾[[أخرجه سفيان الثوري ص١٤٣. وعزاه السيوطي إلى عبد بن حميد، وابن المنذر.]]. (٨/٢٧٥)
٣٧٥٨٣- عن الضحاك بن مُزاحِم -من طريق عبيد- قال في قوله: ﴿ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب﴾: هو يوسف، يقول: لم أخُنِ الملكَ بالغيب[[أخرجه ابن جرير ١٣/٢٠٨.]]. (ز)
٣٧٥٨٤- عن عكرمة مولى ابن عباس -من طريق ابن جريج- قال: لَمّا قال يوسف ﵇: ﴿ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب﴾. قال الملَك-وطَعَن في جنبه-: يا يوسفُ، ولا حين هَمَمْتَ؟! قال: ﴿وما أبرئ نفسى﴾[[أخرجه ابن جرير ١٣/٢١٤.]]. (٨/٢٧٣)
٣٧٥٨٥- عن الحسن البصري -من طريق ثابت- في قوله: ﴿ذلك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب﴾. قال: قال له جبريل ﵇: اذكر هَمَّك. قال: ﴿وما أبرئ نفسى إن النفس لأمارة بالسوء﴾[[أخرجه ابن جرير ١٣/٢١٣. وعزاه السيوطي إلى ابن المنذر.]]. (٨/٢٧٤)
٣٧٥٨٦- عن الحسن البصري -من طريق السري بن يحيى- في قوله: ﴿ذلك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب﴾، قال: خشِي نبيُّ الله أن يكون زكّى نفسه، فقال: ﴿وما أبرئ نفسى﴾ الآية[[أخرجه ابن أبي حاتم ٧/٢١٥٨. وعزاه السيوطي إلى أبي الشيخ.]]. (٨/٢٧٥)
٣٧٥٨٧- عن الحسن البصري -من طريق مبارك- في قوله: ﴿وما أبرئ نفسى﴾، قال: يعني: هَمَّتَه التي همَّ بها[[أخرجه ابن أبي حاتم ٧/٢١٥٨.]]. (٨/٢٧٥)
٣٧٥٨٨- عن أبي صالح باذام -من طريق إسماعيل بن سالم- في قوله: ﴿ذلك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب﴾، قال: هذا قولُ يوسف ﵇، لم يَخُنِ العزيزَ في امرأته، قال: فقال له جبريل ﵇: ولا حين حللت السراويل؟! فقال يوسف ﵇: ﴿وما أبرئ نفسى﴾ إلى آخر الآية[[أخرجه ابن جرير ١٣/٢٠٨، ٢١٣. وعزاه السيوطي إلى ابن المنذر، وأبي الشيخ.]]. (٨/٢٧٤)
٣٧٥٨٩- عن قتادة بن دعامة -من طريق معمر- ﴿ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب﴾، قال: هذا قول يوسف[[أخرجه ابن جرير ١٣/٢٠٨.]]. (ز)
٣٧٥٩٠- عن قتادة بن دعامة -من طريق سعيد- قال: ذُكِر لنا: أنّ الملَك الذي كان مع يوسف ﵇ قال: اذكُرْ ما هممتَ به. قال: ﴿وما أبرئ نفسي﴾[[أخرجه ابن جرير ١٣/٢١٤، وابن أبي حاتم ٧/٢١٥٨. كما أخرجه عبد الرزاق في تفسيره ١/٣٢٥ من طريق معمر.]]. (٨/٢٧٥)
٣٧٥٩١- عن إسماعيل السُّدِّيّ -من طريق أسباط- قال: قال يوسف وقد جيء به: ﴿ذلك لِيَعْلَمَ﴾ العزيزُ ﴿أني لم أخنه بالغيب﴾ في أهله، ﴿وأن الله لا يهدى كيد الخائنين﴾. فقالت امرأة العزيز: يا يوسف، ولا حين حللتَ السراويل؟! قال يوسف: ﴿وما أُبَرِئُ نفسى﴾[[أخرجه ابن جرير ١٣/٢١٤، وابن أبي حاتم ٧/٢١٥٧-٢١٥٨.]]. (٨/١٩٣)
٣٧٥٩٢- قال إسماعيل السُّدِّيّ: ﴿وأن الله لا يهدي كيد الخائنين﴾، يعني: لا يُصْلِح عملَ الزُّناة[[ذكره يحيى بن سلام -كما في تفسير ابن أبي زمنين ٢/٣٣٠-.]]. (ز)
٣٧٥٩٣- قال مقاتل بن سليمان: فأتاه الرسولُ في السِّجن، فأخبره بقول النسوة عند الملك، قال يوسف: ﴿ذلك ليعلم﴾ يقول: هذا لِيَعْلَم سيِّدُه ﴿أني لم أخنه بالغيب﴾ في أهله، ولم أخالفه فيهِنَّ، ﴿وأن الله لا يهدي كيد الخائنين﴾ يعني: لا يُصْلِح عَمَل الزُّناة. يقول: يخذلهم، فلا يعصمهم مِن الزنا. فأتاه الملَك -وهو جبريل- بالبُرْهان الذي رأى، فقال ليوسف: أين ما هممتَ به أوَّلًا حين حللتَ سراويلَك، وجلستَ بين رجليها؟ فلمّا ذكر الملَكُ ذلك قال عند ذلك: ﴿وما أبرئ نفسي﴾ يعني: قلبي مِن الهَمِّ، لقد هممتُ بها[[تفسير مقاتل بن سليمان ٢/٣٣٩-٣٤٠.]]. (ز)
٣٧٥٩٤- عن عبد الملك ابن جُرَيْج -من طريق حجّاج- قال: أراد يوسفُ ﵇ العُذْرَ قبل أن يخرج من السجن، فقال: ﴿ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم﴾، ﴿ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب﴾. قال ابن جريج: وبين هذا وبين ذلك ما بينه. قال: وهذا من تقديم القرآن وتأخيره[[عزاه السيوطي إلى أبي عبيد، وابن جرير، وابن المنذر. وأخرج ابن جرير ١٣/٢٠٢ أوله.]]. (٨/٢٧٤)
٣٧٥٩٥- عن محمد بن إسحاق -من طريق سلمة- قال: يقول يوسف: ﴿ذلك ليعلم﴾ إطفيرُ سَيِّدُه، ﴿أني لم أخنه بالغيب﴾: أنِّي لم أكن لِأُخالفه إلى أهله مِن حيث لا يعلمه[[أخرجه ابن جرير ١٣/٢٠٧، وابن أبي حاتم ٧/٢١٥٧.]]. (ز)
اختُلِف في قوله: ﴿ذلك ليعلم أني لم اخنه بالغيب﴾ على قولين: الأول: أنّه مِن قول يوسف. واختُلِف القائلون بهذا القول على وجهين: الوجه الأول: أنّ هذه المقالة مِن يوسف هي مُتَّصِلة بقوله للرسول: ﴿إن ربي بكيدهن عليم﴾، وفي الكلام تقديم وتأخير وهو قول ابن جريج.
و عليه ابنُ عطية (٥/١٠٤) بقوله: «فالإشارة بقوله: ﴿ذلك﴾ -على هذا التأويل- هي إلى بقائه في السجن، والتماسه البراءة، أي: هذا ليعلم سيدي أنِّي لم أخنه. الوجه الثاني: أنّ يوسف قال هذه المقالة حين قالت امرأة العزيز كلامها، إلى قولها: ﴿وإنه لمن الصادقين﴾، وهو قول ابن عباس. ولم يذكر ابنُ جرير غيرَ هذا القولَ، واستشهد له باللغة، والنظائر، وأقوال السلف، فقال:»واتَّصَلَ قوله: ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أنِّي لَمْ أخُنْهُ بِالغَيْبِ﴾ بقول امرأة العزيز: ﴿أنا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وإنَّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ﴾ المعَرِّفَة السّامِعِين لمعناه، كاتِّصال قول الله تعالى: ﴿وكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ بقول المرأة: ﴿وجَعَلُوا أعِزَّةَ أهْلِها أذِلَّةً﴾ [النمل:٣٤]، وذلك أنّ قوله: ﴿وكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ خَبَرُ مبتدإٍ. وكذلك قول فرعون لأصحابه في سورة الأعراف: ﴿فَماذا تَأْمُرُونِ﴾، وهو مُتَّصِلٌ بقول المَلَأِ: ﴿يُرِيدُ أنْ يُخْرِجَكُمْ مِن أرْضِكُمْ﴾ [الأعراف:١١٠]".
و ابنُ عطية على هذا القول بقوله: «فالإشارة -على هذا- إلى إقرارها، وصنع الله تعالى فيه». و مستندًا للسياق، فقال: «وهذا يضعف؛ لأنّه يقتضي حضورُه مع النسوة عند الملك، وبعد هذا يقول الملك: ﴿ائتوني به﴾». ثم أنه على هذا القول يجيء قوله: ﴿وأن الله لا يهدي كيد الخائنين﴾ «بتقدير: وليعلم أنّ الله لا يهدي كيد الخائنين». الثاني: أنّه مِن قول المرأة، ابنُ عطية (٥/١٠٤)، عليه بقوله (٥/١٠٥): «أي: قولي هذا وإقراري ليعلم يوسف أنِّي لم أخنه في غيبته بأن أكذب عليه أو أرميه بذنب هو بريء منه، والتقدير على هذا التأويل: توبتي وإقراري ليعلم أنِّي لم أخنه، وأنّ الله لا يهدي كيد الخائنين».
واختُلِف في قوله: ﴿وما أبرئ نفسي...﴾، هل هي من كلام يوسف أم من كلام المرأة، حسب التي قبلها، ابنُ عطية (٥/١٠٥) أنّ مَن قال إنها من كلام يوسف روى في ذلك: عن أنس بن مالك أنّ رسول الله ﷺ : لما قال يوسف: أني لم أخنه بالغيب. قال له جبريل: ولا حين هممت وحللت سراويلك. ومَن قال بأنّه مِن قول المرأة وجَّه كلامَها إلى الاعتذار عن وقوعها فيما يقع فيه البشر من الشهوات، كأنها قالت: وما هذا ببِدْعٍ، ولا ذلك نكير على البشر فأُبرِّئ أنا منه نفسي، والنفوس أمارات بالسوء مائلة إليه.
و ابنُ تيمية (٤/٤٥-٥٢بتصرف) قولَ مَن قال بأنّ الآيتين مِن قول يوسف، وهو قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك، والسدي، وغيرهم، فقال: «وهو قول في غاية الفساد، ولا دليل عليه، بل الأدلة تدُلُّ على نقيضه».
و القولَ بأنّه مِن قول المرأة مستندًا إلى السياق، والدلالة العقلية، وذلك:
١- أنّ حال يوسف الظاهر مِن القرآن أنّه صاحب نفس زكية عفيفة لم تستجب للإغراء الشديد، فكيف يقول: ﴿وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء﴾ وهو يعلم أنّ نفسه بريئة زكية غير أمارة.
٢- أنّ قوله: ﴿ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب﴾ إذا كان معناه على ما زعموه أن يوسف أراد أن يعلم العزيز أني لم أخنه في امرأته على قول أكثرهم؛ أو ليعلم الملك أو ليعلم الله لم يكن هنا ما يشار إليه، فإنه لم يتقدم مِن يوسف كلام يشير به إليه، ولا تقدم أيضًا ذكرَ عفافه واعتصامه؛ فإن الذي ذكره النسوة قولهن: ﴿ما علمنا عليه من سوء﴾. وقول امرأة العزيز: ﴿أنا راودته عن نفسه﴾. وهذا فيه بيان كذبها فيما قالته أوَّلًا، ليس فيه نفس فعله الذي فعله هو. فقول القائل: إنّ قوله: ﴿ذلك﴾ من قول يوسف، مع أنّه لم يتقدم منه هنا قول ولا عمل؛ لا يَصِحُّ بحال.
٣- أنّ المعنى على هذا التقدير -لو كان هنا ما يشار إليه مِن قول يوسف أو عمله-: إنّ عِفَّتي عن الفاحشة كان ليعلم العزيزُ أنِّي لم أخنه، ويوسف ﵇ إنّما تركها خوفًا مِن الله ورجاء لثوابه؛ لا لأجل مجرد علم مخلوق. قال الله تعالى: ﴿ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين﴾. فأخبر أنّه رأى برهان ربه، وأنّه مِن عباده المخلصين. ومَن ترك المحرمات ليعلم المخلوق بذلك لم يكن هذا لأجل برهان من ربه، ولم يكن بذلك مخلصًا، فهذا الذي أضافوه إلى يوسف إذا فعله آحادُ الناس لم يكن له ثواب من الله؛ بل يكون ثوابه على مَن عمل لأجله.
٤- أنّ الناس عادتهم في مثل هذا يعرفون بما عملوه مَن لذلك عنده قدر، وهذا يناسب لو كان العزيز غيورًا، وللعِفَّة عنده جزاء كثير، والعزيز قد ظهرت عنه مِن قلة الغيرة وتمكين امرأته مِن حبس يوسف مع الظالمين مع ظهور براءته ما يقتضي أنّ مثل هذا ينبغي في عادة الطباع أن يقابل على ذلك بمواقعة أهله، فإنّ النفس الأمارة تقول في مثل هذا: هذا لم يعرف قدر إحساني إليه وصوني لأهله؛ بل سلَّطها ومكَّنها. فكثير من النفوس لو لم يكن في نفسها الفاحشة إذا رأت مَن حاله هذا تفعل الفاحشة؛ إما نكاية فيه ومجازاة له على ظلمه، وإمّا إهمالًا له لعدم غيرته وظهور دياثته، ولا يصبر في مثل هذا المقام عن الفاحشة إلا من يعمل لله خائفًا منه، وراجيًا لثوابه، لا من يريد تعريف الخلق بعمله.
٥- أنّ الخيانة ضد الأمانة، وهما من جنس الصدق والكذب، ولهذا يقال: الصادق الأمين، ويقال: الكاذب الخائن. وهذا حال امرأة العزيز، فإنها لو كذبت على يوسف في مغيبه وقالت: راودني. لكانت كاذبة وخائنة، فلما اعترفت بأنها هي المراودة كانت صادقة في هذا الخبر أمينة فيه، ولهذا قالت: ﴿وإنه لمن الصادقين﴾. فأخبرت بأنه صادق في تبرئته نفسه دونها. فأما فعل الفاحشة فليس من باب الخيانة والأمانة، ولكن هو من باب الظلم والسوء والفحشاء كما وصفها الله بذلك في قوله تعالى عن يوسف: ﴿معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون﴾. ولم يقل هنا: الخائنين، ثم قال تعالى: ﴿كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين﴾. ولم يقل: لنصرف عنه الخيانة.
٦- أنّ النفوس منقسمة إلى مرحومة وأمارة كما قال القرآن: ﴿إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي﴾. وقد علِمنا قطعًا أنّ نفس امرأة العزيز من النفوس الأمارة بالسوء، وأمّا نفس يوسف ﵇ فإن لم تكن من النفوس المرحومة عن أن تكون أمّارة فما في الأنفس مرحوم؛ فإنّ مَن تدَّبر قصة يوسف علم أن الذي رُحم به وصرف عنه من السوء والفحشاء من أعظم ما يكون، ولولا ذلك لما ذكره الله في القرآن وجعله عبرة، وما من أحد من الصالحين الكبار والصغار إلا ونفسه إذا ابتليت بمثل هذه الدواعي أبعد عن أن تكون مرحومة من نفس يوسف. وعلى هذا التقدير: فإن لم تكن نفس يوسف مرحومة فما في النفوس مرحومة، فإذًا كل النفوس أمارة بالسوء، وهو خلاف ما في القرآن.
٧-أن هذا الكلام فيه -مع الاعتراف بالذنب- الاعتذار بذكر سببه، فإنّ قولها: ﴿أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين﴾ فيه اعتراف بالذنب، وقولها: ﴿وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء﴾ إشارة تطابق لقولها: ﴿أنا راودته﴾، أي: أنا مُقِرَّة بالذنب ما أنا مبرئة لنفسي، ثم بينت السبب فقالت: ﴿إن النفس لأمارة بالسوء﴾ فنفسي من هذا الباب، فلا ينكر صدور هذا منِّي، ثم ذكرت ما يقتضي طلب المغفرة والرحمة، فقالت: ﴿إن ربي غفور رحيم﴾. فإن قيل: فهذا كلام مَن يُقِرُّ بأن الزنا ذنب، وأن الله قد يغفر لصاحبه. قيل: نعم، والقرآن قد دل على ذلك حيث قال زوجها: ﴿واستغفري لذنبك﴾. وهذا دليل أنهم كانوا يرون ذلك ذنبًا ويستغفرون منه وإن كانوا مع ذلك مشركين؛ إذ الفواحش مما اتَّفق اهل الأرض على استقباحها.
٨-أنّ الله لم يذكر عن نبيٍّ ذنبًا إلا ذكر توبته منه، ويوسف لم يذكر القرآن أنه فعل مع المرأة ما يتوب منه، وما نقل عن وقوعه في بعض مقدمات الذنب كحل السراويل ونحوها فهذا ليس مما ينقل عن النبي، بل عن أهل الكتاب، وقولهم في الأنبياء معروف، فلو لم يكن معنا ما يرد نقلهم لم نصدقهم فيما لم نعلم صدقهم فيه، فكيف نصدقهم فيما قد دل القرآن على خلافه. والقرآن قد أخبر عن يوسف مِن الاستعصام والتقوى والصبر في هذه القضية ما لم يذكر عن أحد نظيره، فلو كان يوسف قد أذنب لَكان إما مصرًّا وإما تائبًا، والإصرار ممتنع، فتعيَّن أن يكون تائبًا، واللهُ لم يذكر عنه توبة في هذا ولا استغفارًا كما ذكر عن غيره من الأنبياء؛ فدلَّ ذلك على أن قوله: ﴿إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي﴾ إنما يناسب حال امرأة العزيز لا يناسب حال يوسف.
و ابنُ القيم (٢/٦٤-٦٥بتصرف) القول بأنه من قول يوسف، و أنّه من قول امرأة العزيز مستندًا إلى اللغة، والسياق، وذلك:
١- أنّه متصل بكلام المرأة السابق، وهو قولها: ﴿الآن حصحص الحق أنا راودته﴾، ومن جعله من قوله فإنه يحتاج إلى إضمار قول لا دليل عليه في اللفظ بوجه، والقول في مثل هذا لا يُحْذَف لئلا يوقع في اللبس، فإن غايته أن يحتمل الأمرين، فالكلام الأول أولى به قطعًا.
٢- أنّ يوسف لم يكن حاضرًا وقت مقالتها هذه، بل كان في السجن، والسياق صريح في ذلك فإنّه لما أرسل الملك إليه يدعوه قال للرسول: ﴿ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن﴾.
٣- أنّ الضمائر كلها في نسق واحد، وذلك قول النسوة: ﴿ما علمنا عليه من سوء﴾، وقول امرأة العزيز: ﴿أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين﴾، فهذه خمسة ضمائر بين بارز ومستتر، ثم اتصل بها قوله: ﴿ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب﴾، فهذا هو المذكور أولًا بعينه، فلا شيء يفصل الكلام عن نظمه ويضمر فيه قولٌ لا دليل عليه.
و قال ابنُ كثير (٨/٥٠-٥١).
﴿إِنَّ ٱلنَّفۡسَ لَأَمَّارَةُۢ بِٱلسُّوۤءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّیۤۚ إِنَّ رَبِّی غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ ٥٣﴾ - تفسير
٣٧٥٩٦- قال مقاتل بن سليمان: ﴿إن النفس﴾ يعني: القلب ﴿لأمارة بالسوء﴾ للجسد، يعني: بالإثم. ثُمَّ استثنى، فقال: ﴿إلا ما رحم ربي﴾ يعني: إلا ما عَصَم ربي فلا تأمر بالسوء، ﴿إن ربي غفور﴾ لِما هَمَّ به مِن المعصية، ﴿رحيم﴾ به حين عَصَمَه[[تفسير مقاتل بن سليمان ٢/٣٤٠.]]. (ز)
﴿إِنَّ ٱلنَّفۡسَ لَأَمَّارَةُۢ بِٱلسُّوۤءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّیۤۚ إِنَّ رَبِّی غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ ٥٣﴾ - آثار متعلقة بالآية
٣٧٥٩٧- عن أبي خزيمة، قال: سمعتُ عبد العزيز بن عمير يقول: النفسُ أمّارة بالسوء، فإذا جاء العزمُ مِن الله كانت هي التي تدعوك إلى الخير[[أخرجه ابن أبي حاتم ٧/٢١٥٨، وفي المطبوع منه بلفظ: إلى الحياء.]]. (٨/٢٧٦)
{"ayahs_start":52,"ayahs":["ذَ ٰلِكَ لِیَعۡلَمَ أَنِّی لَمۡ أَخُنۡهُ بِٱلۡغَیۡبِ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی كَیۡدَ ٱلۡخَاۤىِٕنِینَ","۞ وَمَاۤ أُبَرِّئُ نَفۡسِیۤۚ إِنَّ ٱلنَّفۡسَ لَأَمَّارَةُۢ بِٱلسُّوۤءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّیۤۚ إِنَّ رَبِّی غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ"],"ayah":"۞ وَمَاۤ أُبَرِّئُ نَفۡسِیۤۚ إِنَّ ٱلنَّفۡسَ لَأَمَّارَةُۢ بِٱلسُّوۤءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّیۤۚ إِنَّ رَبِّی غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ"}