الباحث القرآني
قوله تعالى: ﴿قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا﴾ الآية. لمّا قال سبحانه ﴿أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾ [المؤمنون: 105] ذكر ما يجري مجرى الجواب عنه وهو من وجهين الأول قولهم: ﴿رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا﴾ قرأ الأخوان: «شقاوتنا» بفتح الشين وألف بعد القاف. والباقون بكسر الشين وسكون القاف. وهما مصدران بمعنى واحد فالشقاوة كالقساوة، وهي لغة فاشية، والشقوة كالفطنة والنعمة، وأنشد الفراء:
3812 - كُلِّفَ مِنْ عَنَائِهِ وشِقْوَتِهْ ... بِنْتَ ثَمَانِي عَشْرَةٍ مِنْ حِجَّتِهْ
وهي لغة الحجاز.
قال أبو مسلم: «الشقْوَة من الشقَاء كجِرْيَة الماء، والمصدر الجَرْي، وقد يجيء لفظ فِعْلَة، والمراد به الهيئة والحال فيقول: جِلْسَة حَسنة ورِكْبَة وقِعْدَة، وذلك من الهيئة، وتقول: عاش فلان عِيشَةً طيبة، ومات مِيتَةً كريمة، وهذا هو الحال والهيئة، فَعَلَى هذا المراد من الشقْوَة حال الشقاء. وقرأ قتادة والحسن في رواية كالأخوين إلاّ أنهما كسرا الشين، وشبل في اختياره كالباقين إلاّ أنّه فتح الشين.
قال الزمخشري: «غَلَبَتْ عَلَيْنَا» ملكتنا من قولك غَلَبَنِي فلان على كذا إذا أخذه منك (وامتلكه) والشَّقاوة سوء العاقبة.
فصل
قال الجبائي: المراد أن طلبنا اللذّات المحرّمة، وخروجنا عن العمل الحسن ساقنا إلى هذه الشقاوة، فأطلق اسم المُسبب على السبب، وليس هذا باعتذار فيه، لأن علمهم بأن لا عُذر لهم فيه ثابت عندهم، ولكنه اعتراف بقيام الحجة عليهم في سوء صنيعهم.
وأجيب: بأنك حملت الشقاوة على طلب تلك اللذّات المحرّمة، وطلب تلك اللذّات حاصل باختيارهم أو لا باختيارهم، فإن حصل باختيارهم فذلك الاختيار محدث فإن استغنى عن المؤثر، فَلِم لا يجوز في كل الحوادث ذلك؟ وحينئذ يَنْسد عليك باب إثبات الصانع، وإن افتقر إلى مُحدث فمحدثه إمَّا العبد أو الله، فإن كان هو العبد فذلك باطل لوجوه:
أحدها: أنَّ قدرة العبد صالحة للفعل والترك، فإن توقَّف صدور تلك الإرادة عنه إلى مرجح آخر، عاد الكلام فيه، ولزم التسلسل، وإن لم يتوقف على المرجّح، فقد جوزتَ رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجّح، وذلك يسد باب إثبات الصانع.
وثانيها: أنَّ العبد لا يعلم كمية تلك الأفعال، ولا كيفيّتها، والجاهل بالشيء لا يكون محدثاً له، وإلاّ لبطلت دلالة الأحكام، ولا يقال علم العلم.
وثالثها: أَنَّ أحداً في الدنيا لا يرضى بأن يختار الجهل، بل لا يقصد إلا (ما قصد إيقاعه لكنه لم يقصد إلاّ) تحصيل العلم فكيف حصل الجهل فثبت أن الموجد للداعي والبواعث هو الله، ثم إنَّ الداعية إِذا كانت سائقة إلى الخير كانت سعادة، وإن كانت سائقة إلى الشرّ كانت شقاوة.
وقال القاضي، قولهم ﴿رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا﴾ دليل على أنه لا عذر لهم لاعترافهم، فلو كان كفرهم من خلقه وإرادته، وعَلِمُوا ذلك، لكان ذكرهم ذلك أولى وأقرب إلى العذر.
والجواب: قد بيّنا أنّ الذي ذكروه ليس إلاّ ذلك، ولكنهم مُقرّون أن لا عذر لهم فلا جرم قيل: «اخْسَئُوا فِيهَا» .
والوجه الثاني لهم في الجواب: قولهم: ﴿وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ﴾ أي: عن الهدى، وهذا الضلال الذي جعلوه كالعِلّة في إقدامهم على التكذيب إن كان هو نفس التكذيب لزم تعليل الشيء بنفسه، وهو باطل، فلم يبق إلاّ أن يكون ذلك الضلال (عبارة عن شيء آخر ترتب عليه فعلهم، وما ذلك إلاّ خلق الداعي إلى الضلال) . ثم إنّ القوم لما اعتذرُوا بهذين العُذرين، قالوا: ﴿رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا﴾ أي: من النار «فَإِنْ عُدْنَا» لما أنكرنا «فَإِنَّا ظَالِمُونَ» فعند ذلك أجابهم الله تعالى فقال: ﴿اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ﴾ .
فإن قيل: كيف يجوز أن يطلبوا الخروج وقد علموا أنَّ عقابهم دائم؟ قلنا: يجوز أن يلحقهم السهو عن ذلك في أحوال شدة العذاب فيسألون الرجعة. ويحتمل أن يكون مع علمهم بذلك يسألون على وجه الغوث والاسترواح.
قوله: «اخْسَئُوا فِيهَا» أقيموا فيها، كما يقال للكلب إذا طُرد اخسأ؛ أي: انزجر كما تنزجر الكلاب إذا زُجرت، يقال: خسأ الكلب وخَسَأَ بِنَفْسِه. «وَلاَ تُكَلمون» في رفع العذاب فإِنّي لا أرفعه عنكم، وليس هذا نهياً، لأنّه لا تكليف في الآخرة.
قال الحسن: هو آخر كلام يتكلم به أهل النار، ثم لا يتكلّمون بعده إلا الشهيق والزفير. ويصير لهم عواء كعواء الكلب لا يَفْهَمُون ولا يُفْهمُون.
قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي﴾ الآية. العامة على كسر همزة (إِنَّهُ) استئنافاً. وأُبّي والعتكي: بفتحها أي: لأنه والهاء ضمير الشأن. قال البغوي: الهاء في إنه عماد، وتسمى المجهولة أيضاً.
قوله: «فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرياً» قرأ الأخوان ونافع هنا وفي ص بكسر السين. والباقون: بضمها في المَوْضعين.
و (سِخْريًّا) مفعول ثان للاتخاذ. واختلف في معناها فقال الخليل وسيبويه والكسائي وأبو زيد: هما بمعنى واحد نحو دُريّ ودِريّ، وبَحْر لُجِّي ولِجِّي بضم اللام وكسرها. وقال يونس: إن أريد الخدمة والسخرة فالضم لا غير، وإن أريد الهزء فالضم والكسر ورَجّح أبو عليّ وتَبعه مكي قراءة الكسر، قالا: لأنّ ما بعدها أَلْيَق لها لقوله: ﴿وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ﴾ . ولا حجة فيه، لأنّهم جمعوا بين الأمرين سَخروهم في العمل، وسَخِرُوا منهم استهزاءً. والسُّخْرَة بالتاء الاستخدام وسُخْرِيًّا بالضم منها، والسُّخْر بدونها الهُزء والمكسور منه، قال الأعشى:
3813 - إِنِّي أَتَانِي حَدِيثٌ لاَ أُسَرُّ بِهِ ... مِنْ علْو لاَ كذبٌ فِيهِ ولاَ سَخَرُ
ولم يختلف السبعة في ضم ما في الزخرف، لأنّ المراد الاستخدام، وهو يُقوِّي قول من فرّق بينهما، إلاَّ أنَّ ابن محيصن وابن مسلم وأصحاب عبد الله كَسَرُوه أيضاً، وهي مُقَوية لقول من جعلهما بمعنى والياء في سُخْريًّا وسِخْريًّا للنسب زيدت للدلالة على قوة الفعل، فالسُّخْريّ أقوى من السُّخْر، كما قيل في الخصوص خُصُوصيّة دلالة على قوة ذلك.
قال معناه الزمخشري.
فصل
اعلم أنّه تعالى قرعهم بأمر يتصل بالمؤمنين قال مقاتل: إن رؤوس قريش مثل أبي جهل، وعقبة وأبيّ بن خلف، كانوا يستهزؤون بأصحاب محمدٍ، ويضحكون بالفقراء منهم، كبلال، وخباب، وعمّار، وصهيب، والمَعْنى: اتخذتموهم هزواً «حَتَّى أَنْسَوْكُمْ» بتشاغلكم بهم على تلك الصفة ﴿ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ﴾ ونظيره: ﴿إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ﴾ [المطففين: 29] ثم إنّه تعالى ذكر ما يوجب أسفهم وخسرانهم بأَنْ وصف ما جازى به أولئك فقال: ﴿جَزَيْتُهُمُ اليوم بِمَا صبروا﴾ أي: جزيتهم اليوم الجزاء الوافر.
قوله: ﴿أَنَّهُمْ هُمُ الفآئزون﴾ قرأ الأخوان بكسر الهمزة، استئنافاً.
والباقون بالفتح، وفيه وجهان:
أظهرهما: أنَّه تعليل فيكون نصباً بإضمار الخافض أي: لأنهم هم الفائزون، وهي موافقة للأُولى فإنّ الاستئناف يعلل به أيضاً.
والثاني: قاله الزمخشري، ولم يذكر غيره، أنه مفعول ثان ل «جَزَيْتُهُمْ» أي: بأنهم أي: فوزهم وعلى الأَوّل يكون المفعول الثاني محذوفاً.
{"ayahs_start":106,"ayahs":["قَالُوا۟ رَبَّنَا غَلَبَتۡ عَلَیۡنَا شِقۡوَتُنَا وَكُنَّا قَوۡمࣰا ضَاۤلِّینَ","رَبَّنَاۤ أَخۡرِجۡنَا مِنۡهَا فَإِنۡ عُدۡنَا فَإِنَّا ظَـٰلِمُونَ","قَالَ ٱخۡسَـُٔوا۟ فِیهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ","إِنَّهُۥ كَانَ فَرِیقࣱ مِّنۡ عِبَادِی یَقُولُونَ رَبَّنَاۤ ءَامَنَّا فَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَا وَأَنتَ خَیۡرُ ٱلرَّ ٰحِمِینَ","فَٱتَّخَذۡتُمُوهُمۡ سِخۡرِیًّا حَتَّىٰۤ أَنسَوۡكُمۡ ذِكۡرِی وَكُنتُم مِّنۡهُمۡ تَضۡحَكُونَ","إِنِّی جَزَیۡتُهُمُ ٱلۡیَوۡمَ بِمَا صَبَرُوۤا۟ أَنَّهُمۡ هُمُ ٱلۡفَاۤىِٕزُونَ"],"ayah":"إِنَّهُۥ كَانَ فَرِیقࣱ مِّنۡ عِبَادِی یَقُولُونَ رَبَّنَاۤ ءَامَنَّا فَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَا وَأَنتَ خَیۡرُ ٱلرَّ ٰحِمِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق