الباحث القرآني
ثم قال: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾ [الأنعام ١٨].
﴿هُوَ﴾ الضمير يعود على الله عز وجل، ومرجعه ما سبق من الآية.
﴿الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ القاهر هو الغلبة مع السلطان يعني السلطة؛ لأن الغالب المطلق قد لا يكون له سُلْطة، لكن قهر الله عز وجل غلبة مع سلطة تامة.
وقوله: ﴿فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ هل المراد فوقية المكانة أو فوقية المكان أو هما جميعًا؟ نعم، هما جميعًا؛ فوقية المكان وفوقية المكانة؛ وعليه فيكون المعنى هو القاهر فوق عباده؛ من حيث المعنى لا يمكن أن تغلبه قُوَّةٌ، ومن حيث المكان أنه فوق كل شيء.
وقوله: ﴿عِبَادِهِ﴾ جمع عبد، والمراد به هنا العبودية العامة التي تشمل المؤمن والكافر؛ لأن العبودية ثلاثة أقسام: عامة، وخاصة، وأخص؛ العامة: هي عبودية أن جميع المخلوقات كلها ذليلة أمام الله عز وجل فهي عابدة، قال الله عز وجل: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ [مريم ٩٣]، الخاصة: هي عبودية المؤمنين كما في قوله تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ [الفرقان ٦٣]، العبودية التي أَخَصُّ: هي عبودية الرسل قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [الصافات ١٧١ - ١٧٣]؛ فهنا ثلاثة أقسام، الأخ يبينها لنا بارك الله فيك هنا ﴿الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ هي العامة أو الخاصة؟
* طالب: العامة.
* الشيخ: العامة، واعلم أن الخاصة تدخل في العامة؛ بمعنى أنهم عباد لله العبودية القدرية والعبودية الشرعية.
إذن ﴿الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ المراد عبودية القدَر؛ كلٌّ خاضع لله عز وجل لو كان من أقسى عباد الله فهو عبد لله، ففرعون مثلًا عَبْدٌ لله بالمعنى العام، وموسى عبد لله بالمعنى العام والخاص.
فالعبودية الشرعية خاصَّة، والعبودية القدرية الكونية عامَّة.
﴿فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾ ﴿الْحَكِيمُ﴾ تصحُّ أن تكون بمعنى مُحكِم؛ والشاهد على مجيء (فَعِيل) بمعنى (مُفْعِل)، بل الشواهد كثيرة؛ منها قول الشاعر:
؎أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ ∗∗∗ يُؤَرِّقُنِي وَأَصْحَابِيهُجُــــــــــــــوعُ
(الدَّاعِي السَّمِيعُ) ولّا المُسْمِع؟ ليس المعنى السامع؛ لأنه داعٍ، (السميع) يعني المسمع.
؎............................ ∗∗∗ يُؤَرِّقُنِي وَأَصْحَابِيهُجُـــــــــــــــــوعُ
و(حكيم) أيضًا بمعنى حاكم؛ إذن هي مشتقة من الحِكمة ومن الحكم، والدليل على هذا -على أنها من (الحكم)- قول الله تبارك وتعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة ٥٠]، وأما من (الحكمة) فكما في قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ [التين ٨] والجواب: بلى.
إذن ﴿الْحَكِيمُ﴾ مشتقة من الإحكام والحكم؛ فإذا كان مشتقًّا من الإحكام فهي بمعنى مُحكِم، وإذا كانت من الحكم فهي بمعنى حاكم، والله تبارك وتعالى موصوف بهذا وهذا.
ثم اعلم أن الحكم كونيٌّ وشرعيٌّ؛ من الكوني قول الله تعالى عن أخي يوسف: ﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي﴾ [يوسف ٨٠] أي: يُقَدِّر لي، هذا حكم قَدَرِيٌّ.
وأما الشرعيُّ فمنه قول الله تبارك وتعالى في سورة الممتحنة: ﴿ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ﴾ [الممتحنة ١٠].
إذن الحكم نوعان: كوني، وشرعي؛ مثال الكوني قول الله تعالى عن أخي يوسف: ﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي﴾ [يوسف ٨٠]، ومن الشرعي قوله تعالى في سورة الممتحنة: ﴿ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ﴾ [الممتحنة ١٠] أي: شَرْعُه، حكم شرعي.
فإن قال قائل: ما الفرق بينهما؟
قلنا: الفرق بينهما من وجهين؛ الأول أن الحكم القدري لا بد أن يقع إذا حكم الله تعالى بشيء حكمًا قدريًّا فلا بد أن يقع؛ حَكَم سبحانه وتعالى بالخوف لا بد أن يقع الخوف، بالجدب لا بد أن يقع الجدب، بالرخاء لا بد أن يقع الرخاء، وهلم جرًّا.
الحكم الشرعي إذا حكم بشيء قد يُنَفَّذ وقد لا ينفذ؛ فإذا قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ﴾ [البقرة ١٧٣] فهل نقول: إن هذه الآية تدل على أنه لا يمكن أن يأكل الميتة أحد؟ لا، قد يأكل وقد لا يأكل.
الفرق الثاني: أن الحكم الشرعي سواء كان إيجابًا أو تحريمًا لا يكون إلا فيما يرضى الله عز وجل، لا يمكن أن يأمر الله عباده بما يكرهه ولا أن ينهاهم عما يحبه.
الحكم الكوني يكون فيما يحبه ويرضاه، وفيما يكرهه ويُسخطه، هذا هو الفرق، انتهينا من الكلام على الحكم.
الحكمة نوعان: حكمة وهي أن يكون الشيء على هذه الصورة المعينة، حكمة أخرى: أن يكون هذا الشيء لغاية محمودة، الأولى حكمة صورية، الثانية غائية، فإذا تأملت المخلوقات كلها وجدت أنها في غاية الحكمة: شمس، وقمر، نجوم، رياح، أمطار، وهكذا كلها لحكمة، وإذا نظرت الغاية منها وجدتها غاية حميدة مطابقة للحكمة.
كذلك أيضًا الشرع إذا تأملت الشرائع وجدت كون هذا الشيء على صورة معينة حكمة، وكونه لغاية حميدة حكمة؛ في الزكاة مثلًا نجد الزروع ما سقي بالمؤونة، كم فيه؟ نصف العشر، وما سُقِي بلا مؤونة العشر، ليش اختلف؟ لأن الواقع يقتضي ذلك؛ ما سقي بالمؤونة تَعِبَ عليه صاحبه وأنفق مالًا كثيرًا في استخراج الماء، وذاك لم يكن عليه هذا.
كذلك إذا تأملت الحكمة في الزكاة أيضًا؛ وجدت أن المال القليل لا تجب فيه الزكاة، لأنه لا يحتمل المواساة بخلاف الكثير، ووجدت ما يشقُّ إخراج الزكاة عنه لا تجب فيه الزكاة كالثياب والمراكب والبيوت وما أشبهه.
طيب، ما الحكمة من الزكاة؟ الآن عرفنا أن الزكاة على صورة معنية حكمة، لكن ما الحكمة من الزكاة؟
اسمع ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ [التوبة ١٠٣] هذا أفضل شيء؛ تطهرهم من الذنوب؛ لأن الصدقة تطفئ الخطيئة.
﴿تُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ أي: تزكِّي أخلاقهم ودينهم، تزكِّي دينهم؛ لأنه يبذل ما يحب فيما يحب الله عز وجل، ولا يمكن أن يبذل الإنسان محبوبًا إلا لما هو أحب، كذلك تزكي أخلاقهم بالكرم والسخاء والرخاء.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أن من أسباب انشراح الصدر الصدقة والبذل، وهذا معنى خفيٌّ؛ كلما كان الإنسان أشدَّ بذلًا للمال كان أوسع صدرًا لا سيما إذا كان يؤمن بأنه يقربه إلى الله عز وجل، وأنه يُكَفِّر سيئاته، وما أشبه ذلك.
المهم الآن (الحكم) و(الإحكام)؛ الحكم كوني وشرعي، الإحكام صوري وغائي، وتكون أيضًا الحكمة في المشروعات وفي المخلوقات.
﴿الْخَبِيرُ﴾ يعني: ذا الخبرة، قال أهل العلم: والخبرة هي العلم ببواطن الأمور، مشتقة من خبير الزرع الذي يدفنه في الأرض ويكون خفيًّا، ولهذا يمر عليكم في الحديث أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم «نهى عن الْمُخَابَرَة»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٣٨١)، ومسلم (١٥٣٦ / ٨١) من حديث جابر بن عبد الله.]] يعني: المزارعة التي تشتمل على الغرر.
إذن ﴿الْخَبِيرُ﴾ يعني: العليم ببواطن الأمور -جل وعلا- حتى إن الله قال: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾ [ق ١٦] الذي يُحدِّث به نفسَه يعلمه الله عز وجل قبل أن يحدِّث به لسانه، وقبل أن يعلم به إخوانه.
﴿الْخَبِيرُ﴾ إذن ذو الخبرة وهي العلم ببواطن الأمور، هل نقول: إذا كان خبيرًا لزم أن يكون عليمًا؟
نعم، يلزم أن يكون عليمًا، وقرن الله تعالى هنا بين (الحكيم) و(الخبير) ليعلم الناس أن حكمة الله عز وجل عن خبرة وعلم ببواطن الأمور؛ وعلى هذا فقد تكون خفيَّة على كثير من الناس؛ لأنه لا يدرك الحكمة إلا من كان خبيرًا.
ففي قَرْن هذين الاسمين فائدة؛ وهي أن الخبرة قد تكون خفيَّة لا يعلمها إلا الله عز وجل؛ ومن ثَمَّ قلنا: إن جميع أوامر الشرع ونواهيه حكمة، ولا حاجة أن نعرف العلَّة؛ لأنا نعلم أن الله حكيم عز وجل، وأنه ما شرعه إلا لحكمة فلا حاجة، وما موقفنا من الأوامر والنواهي إلا أن نقول: سمعنا وأطعنا.
إن تيسَّر لنا معرفة الحكمة فهذا مِنَّة من الله عز وجل ومساعدة ومعونة من الله حتى يطمئن القلب ويقوى الإيمان، وإن لم تتبين فالمؤمن يكفيه أن هذا حكم الله عز وجل؛ ولذلك ربما تكون العبادة التي تخفى حكمتها أبلغ في التعبد؛ لأن الشيء إذا عَلِمْت علَّتَه قد يكون عقلك يأمرك به، لكن إذا كنت لا تعرف العلة فإن تَذَلُّلَك لله به وعبادتك إياه أبلغ في التذلُّل، مثلًا رمي الجمرات؛ حصى تأخذها من الأرض ترمي بها في مكان معين، فالإنسان قد يعلم العلة، وقد لا يعلم أكبر علة فيها أنها ذكر لله عز وجل، كما جاء في الحديث «إِنَّمَا جُعِلَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَرَمْيُ الْجِمَارِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ»[[أخرجه أبو داود (١٨٨٨)، وأحمد (٢٤٣٥١) من حديث عائشة.]] فهذا كمال التعبد، إنسان عاقل مؤمن فاهم ذكي يأخذ حصيات ويرميها في مكان معين، هذا لولا أنه مشروع لقيل: إنه عبث، لكنه في وقته ومكانه مشروع لأنه أيش؟ فيه كمال التعبد والتذلل لله، وأن المؤمن يقول: سمعنا وأطعنا، مع أن فيه ذكرًا لله في القلب وهو كمال التذلل والتعبد، وفيه ذكر الله باللسان؛ لأن يُشْرَع في كل حصاة ترميها أن تقول: الله أكبر.
{"ayah":"وَهُوَ ٱلۡقَاهِرُ فَوۡقَ عِبَادِهِۦۚ وَهُوَ ٱلۡحَكِیمُ ٱلۡخَبِیرُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق