الباحث القرآني
ثم قال الله تعالى -ونحن نبتدئ بذلك الدرس-: ﴿لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ﴾ [الزمر ١٦]، ﴿لَهُمْ﴾ الضمير يعود على ﴿الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [الزمر ١٥] وهم الكفار.
﴿مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ﴾ من فوق رؤوسِهم، وكلمة ﴿مِنْ فَوْقِهِمْ﴾ تدلُّ على أن هذه الظُّلَل محيطةٌ بهم.
وقوله: ﴿ظُلَلٌ﴾ قال المؤلف: (طِبَاقٌ ﴿مِنَ النَّارِ﴾ )، وهذه الطِّباق من النَّار لا نعلم كيفيَّتها، لا نعلم هل هي حديدٌ مُحمى أو حجارة أو غير ذلك، لكن إذا تأمَّلْنا قولَه تعالى: ﴿وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ [البقرة ٢٤] فقد نقول: إنها من الحجارة، وليست أيضًا كحجارتنا، بل هي حجارةٌ لا تُعلم كيفيَّتها.
وقوله: ﴿وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ﴾ أي: (مِن النار) كما قال المؤلف، وهذا كقوله تعالى: ﴿لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ﴾ [الأعراف ٤١] أي: شيءٌ يغشاهم؛ أي: يغطِّيهم.
﴿ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ﴾ [الزمر ١٦] ﴿ذَلِكَ﴾ أي: المشار إليه مِن ذكْر هذه الظُّلَل ﴿يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ﴾، ﴿بِهِ﴾ الضمير يعود على العذاب المذكور، والباء للسببية؛ أي يُخَوِّف بسببه، ويجوز أن تكون للتعدية؛ أي: يُخَوِّف به نفسه.
﴿عِبَادَهُ﴾ قال: (أي: المؤمنين ليتَّقوه، يدُلُّ عليه ﴿يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ﴾ [الزمر ١٦]). المؤلف -رحمه الله- سَلَك في تفسير الآية أنَّ المراد بالعِباد هنا شيءٌ خاصٌّ وهم المؤمنون، مع أنَّ ظاهر الآية العموم وأنَّ المراد بالعِباد هنا مَن يتعبَّدون لله بالمعنى العام، وهي العبودية الكونية؛ لأنَّ العبادة نوعان: عبادةٌ يتعبَّد الإنسانُ بالشرع، يتعبَّد لله بالشرع، وهذه خاصة بِمَن؟ بالمؤمنين، وعبادةٌ يعني يتعبَّد الإنسانُ لله بالكون أي: يكون عبدًا لله كونًا وقدَرًا يفعل الله فيه ما يشاء، وهذه عامة؛ كما قال تعالى: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ [مريم ٩٣]، فهل المراد بالآية هنا العبادة العامَّة وأنَّ الله يوجِّه الخطابَ إلى جميع العباد؛ جميع الناس، أن يتَّقُوه، أو هي خاصَّة؟
يرى المؤلف -رحمه الله- أنها خاصَّة، ولكن لا دليل على ذلك، وإذا لم يكن هناك دليلٌ فالأَولى إبقاءُ النص على عمومه، فكما أن المؤمن يُخَوَّف بهذا الوعيد فكذلك الكافر، الكافر أيضًا يُخَوَّف، بل إنَّ تخويف الكافر أوكد من تخويف المؤمن؛ لأنَّ مع المؤمن ما يُنجيه من الخلود في النار، لكن الكافر ليس معه ما يُنجيه من الخلود في النار. إذَن المراد بذلك العموم أو الخصوص؟
* طالب: العموم.
* الشيخ: ويش وجهه؟
* الطالب: (...).
* الشيخ: ما وجه أنَّ الأرجح العموم؟
* طالب: لا دليل للمؤلف، والأَولى أن يبقى النص على ظاهره.
* الشيخ: أن هذا هو ظاهر النَّص، كذا؟
ثانيًا: أنَّ الكافر أَوْلى أن يُخَوَّف بالنار من المؤمن؛ لأنَّ مع المؤمن ما ينجو به من الخلود في النار، وليس مع الكافر شيءٌ ينجو به، فكيف نصرف التخويف عمَّن هو أحقُّ بالتخويف. إذَنْ فالصحيح أنَّ المراد بالعباد العموم؛ يعني: يُخَوِّف الله بهذا العذاب جميعَ الناس.
ثم وجَّهَ الله الخطابَ إلى الناس عمومًا فقال: ﴿يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ﴾، ﴿يَا عِبَادِ﴾ يعني جميع العباد؛ كما قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ﴾ [لقمان ٣٣]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ [النساء ١]، والآيات كثيرةٌ في توجيه الأمر بالتقوى إلى جميع الناس، والكافر محتاجٌ إلى التقوى كما أنَّ المؤمن كذلك.
فقول المؤلف: (يدلُّ عليه) فيه نظر؛ ففي حُكم المؤلف نظر، وفي الاستدلال لهذا الحكم نظر.
﴿يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ﴾ غريبٌ أن تأتي النون مع فِعل الأمر، والمعروف أنَّ فعل الأمر المقرون بواو الجماعة أو ألف الاثنين أو ياء المخاطَبة تُحذف منه النون.
* طالب: هذه نون الوقاية.
* الشيخ: هذه نون الوقاية؟ ما الذي أدراك أنها نون الوقاية؟
* الطالب: لأن أصلها (اتَّقُونني).
* الشيخ: اتقوني؟
* الطالب: (فاتَّقونني).
* الشيخ: نعم، (فاتَّقونني) أصله؟
* الطالب: (...).
* الشيخ: هذا اللفظ ﴿فَاتَّقُونِ﴾ أنتَ قلت: إن النون هنا ليست نون الرفع ولكن نون الوقاية، فما الذي أدراك؟
* الطالب: (...) فأصلها (اتَّقونني).
* الشيخ: اتقونني؟! لا، هذا أصلًا ليس بأصل؟
* طالب: لأنه يدلُّ على حذف الياء كسرتُه، وأصله (فاتَّقوا) هذا الأمر، و(نِ) نون الوقاية مع ياء المتكلم، وبعدها حُذفت الياء للتخفيف، وبعدُ بقيت الكسرة حتى تدل على حذفها.
* الشيخ: صحيح، الدليل واضح يا جماعة كَسْر النون؛ لأنها لو كانت نون الرفع لكانت بفتح النون، فإنَّ نون الرفع تكون مفتوحة.
ومن مثال ذلك أيضًا قوله تعالى في سورة الذاريات: ﴿فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ﴾، ﴿فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ﴾ [الذاريات ٥٩]. ﴿فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ﴾ هذا لفظ الآية، إذا وصلتَ كيف تقول؟ ﴿فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ﴾ [الذاريات ٥٩، ٦٠]، فالنون هنا للوقاية وليست نون الرفع.
﴿يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ﴾ وقد سبق معنى التقوى مِرارًا فلا حاجة لإعادته.
ثم قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ﴾ [الزمر ١٧].
﴿الَّذِينَ اجْتَنَبُوا﴾ أي: أبعدوا عن الطاغوت؛ لأنه مأخوذٌ من الجَنْب، وهو الشيء المنفصل عن الشيء، تقول: إلى جانب فلان؛ أي إنَّه منفصلٌ غير متَّصل، ﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ﴾ أي: ابتعَدوا عنها.
و﴿الطَّاغُوتَ﴾ اسمٌ من الطُّغيان، والتاء فيه للمبالغة، فما هو الطاغوت الذي اشتقَّ من الطغيان؟
يقول ابن القيم رحمه الله: الطاغوت كلُّ ما تَجاوز به العبدُ حدَّه من معبودٍ أو متبوعٍ أو مُطاعٍ. كلُّ ما تجاوز به الإنسانُ حدَّه -وإنما قال: ما تجاوز به حدَّه، من أجْل أن يَصْدُق عليه أنه طغيان- من معبود أو متبوع أو مطاع. فمثلًا الأصنام التي يعبدها الكفار تُسَمَّى طواغيت، المتبوعون من العلماء طواغيت، المطاعون من الأمراء كذلك أيضًا طواغيت، لكنَّه ليس على ظاهره، كلامُ ابن القيم ليس على ظاهره؛ المراد به المعبود الذي لا إرادة له كالأصنام من الجمادات أو المعبود الذي رضي بعبادته، وأمَّا المعبود الذي عُبِد وهو لا يرضى بالعبادة فلا يُسمَّى طاغوتًا، ولهذا لا يمكن أن نُسمِّي عيسى بن مريم طاغوتًا. وكذلك أيضًا المتبوع؛ العلماء الذين لا يرضون أن يعبدهم الناسُ ليسوا طواغيت، المطاعُ أيضًا؛ الأمراء الذين لا يرضون أن يعبدهم الناس لا يُسمَّون طواغيت،
فكلام ابن القيم ليس على إطلاقه.
ويمكن أن نقول: إن قول ابن القيم: ما تجاوز به العبدُ حدَّه من معبودٍ أو متبوعٍ أو مطاعٍ، أنَّه عائدٌ على العمل؛ يعني أن الطاغوت عمَلُ الإنسان في معبوداته أو مَن يطيعهم أو مَن يتَّبعهم؛ يعني معصية الله في طاعة هؤلاء، فيكون الوصف بالطغيان عائدًا على الفعل لا على المفعول، وحينئذٍ نَسْلَم من الإشكال الذي قُلنا: إنَّه لا بد أن يُقَيَّد المعبود والمتبوع والمطاع بأنه راضٍ.
على كل حال إنَّ ﴿الطَّاغُوتَ﴾ مأخوذٌ من الطغيان وهو مجاوزة الحد، والصيغة فيه صيغة مبالغة.
قال المؤلف: (الأوثان)، ففسَّر الطاغوت بالمعبودات وهي الأوثان، ولهذا قال: ﴿أَنْ يَعْبُدُوهَا﴾.
﴿أَنْ يَعْبُدُوهَا﴾ (أنْ) هذه مصدرية، والمصدر المؤول منصوبٌ على أنه بدلٌ من الطاغوت. مِن أيِّ أنواع البدل؟
* طالب: بدل كل من كل.
* الشيخ: لا
* طالب: بدل بعض من كل.
* الشيخ: ولا بعض؛ لأن العبادة ما هي ببعض الأوثان.
* طالب: بدل اشتمال.
* الشيخ: بدل اشتمال، طيب إذَنْ نقول: ﴿أَنْ يَعْبُدُوهَا﴾ في محل نصب بدل من ﴿الطَّاغُوتَ﴾.
وقوله: ﴿أَنْ يَعْبُدُوهَا﴾ هم يعبدون الأصنامَ بدُعائها، ولكنهم يدَّعون أنهم لا يعبدونها إلا لتُقرِّبهم إلى الله.
ثم قال: ﴿وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ﴾ إلى آخِره في الدرس القادم إن شاء الله.
* * *
* طالب: الهيبة التي تأتي (...).
* الشيخ: نعم، إي، ويش فيها؟
* الطالب: الهيبة هذه ماذا تكون؟
* الشيخ: ما هي خوف عبادة هذه، هذه ليست خوف عبادة، ولكنَّها خوف هيبة واحترام.
* طالب: قال المصنف رحمه الله تعالى: ﴿يَا عِبَادِ﴾ والمراد بالعباد المؤمنون، (...).
* الشيخ: طيب الكافر ما يُؤْمَر بالتقوى؟
* الطالب: (...).
* الشيخ: لا، من جملة التقوى ترْك الكفر؛ لأنَّ التقوى اتِّخاذ وقايةٍ من عذاب الله، ومن جملتها الإيمان، ولهذا جاءت الآية: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ﴾ [لقمان ٣٣]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ عمومًا، وجاءت آيةٌ أخرى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ [الحج ١]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ [النساء ١].
* * *
* طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (١٨) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (٢٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [الزمر ١٧ - ٢١]
* الشيخ: بس، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى﴾. ﴿الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ﴾، ما معنى ﴿اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ﴾؟
* طالب: اجتنبوا عبادة الطاغوت، وهو ما عُبِدَ من دون الله وهو راضٍ.
* الشيخ: نعم، طيب وما معنى ﴿اجْتَنَبُوا﴾؟
* الطالب: ابتعَدوا.
* الشيخ: ابتعَدوا عنها.
ما موقع ﴿أَنْ يَعْبُدُوهَا﴾ من الإعراب؟ ﴿اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا﴾.
* طالب: بدل اشتمال.
* الشيخ: بدل اشتمال. كم أنواع البدل؟
* الطالب: (...).
* الشيخ: ما هي؟
* الطالب: اشتمال، بعض، بيان.
* الشيخ: لا.
* طالب: بدل الغلط، وبدل الاشتمال، وبدل الكل من الكل، وبدل البعض من الكل.
* الشيخ: كم هذه؟
* الطالب: أربعة.
* الشيخ: خمسة؛ قال ابن مالك:
؎مُطَابِقًا أَوْ بَعْضًا اوْ مَا يَشْتَمِلْ ∗∗∗ عَلَيْهِ يُلْفَى أَوْ كَمَعْطُوفٍبِـ(بَلْ)
أربعة، فيه بدل كُلٍّ من بعض؟
* طالب: على قول.
* الشيخ: على قول.
* الطالب: (...).
* الشيخ: إي نعم.
؎......................... ∗∗∗ بِسِجِسْتَانَ طَلْحَةَ الطَّلْحَاتِ
* * *
قوله عز وجل: ﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ﴾ [الزمر ١٧].
يقول: (﴿أَنَابُوا﴾ أقبلوا ﴿إِلَى اللَّهِ﴾ )، والإنابة تكون بمعنى الإقبال كما قال المؤلف، وتكون بمعنى الرجوع؛ رجعوا إلى الله، والرجوع إلى الله يستلزم الإقبالَ عليه؛ لأن الإنسان يفِرُّ بالمعصية بعيدًا عن الله، فإذا تابَ وأنابَ ورجعَ إلى الله فهو مُقبل.
﴿لَهُمُ الْبُشْرَى﴾ [الزمر ١٧] الجملة هذه خبريَّة، قُدِّم فيها الخبر ﴿لَهُمُ﴾ لإفادة الحصر؛ لأنَّ ما كان حقُّه التأخير إذا قُدِّم أفادَ الحصر.
وقوله: ﴿لَهُمُ الْبُشْرَى﴾ الجملة هذه خبر ﴿الَّذِينَ﴾؛ الذين اجتنبوا الطاغوت لهم البشرى، واضح؟ فتكون هذه الجملة في موضع رفْعٍ على الخبر، فما هي البُشرى؟
البُشرى ما تَحْصل به البشارة، والبشارة هي في الأصل الخبرُ السَّارُّ، وسُمِّي الخبرُ السَّارُّ بشارة لأنه يظهر أثرُه على البشرة التي هي الجلدُ؛ فإنَّ الإنسان إذا أُخبر بما يسرُّه استنار وجهه وتغيَّر، فسُمِّيتْ بُشْرى.
وقول المؤلف: (الجنة) هذا لا شك أنه مِمَّا يدخل في البُشرى، لكنه أعَمُّ مِمَّا قال المؤلف؛ كما قال تعالى: ﴿لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾ [يونس ٦٤] فمِن البُشرى الرؤيا الصالحة يراها الإنسانُ لنفسه أو يراها له مؤمن، فإن هذه من البُشرى كما قال النبي ﷺ: «تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ»[[أخرجه مسلم (٢٦٤٢ / ١٦٦) من حديث أبي ذر الغفاري.]]؛ الرؤيا الصالحة يراها أو تُرى له؛ مثل أن يرى مَن يبشِّره بالجنة، أن يرى أنه في نعيم، وما أشبهَ ذلك، هذه من البشرى.
ومن البُشرى أيضًا أن يُوَفَّق للعمل الصالح؛ إذا رأيتَ اللَّهَ سبحانه وتعالى وفَّقك للعمل الصالحِ المبنيِّ على الإخلاص والمتابعة لرسول الله ﷺ فإنَّ هذه من البُشرى.
ومن البُشرى أيضًا أن يوفِّقك الله عز وجل لمصاحبة الأخيار؛« فإنَّ «الْمَرْء عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ» » كما جاء في الحديث «فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ»[[أخرجه أبو داود (٤٨٣٣)، والترمذي (٢٣٧٨)، من حديث أبي هريرة.]]، فإذا وجدتَ أن الله وفَّقك لمصاحبة الأخيار فإنَّ هذا عنوانٌ على السعادة.
ومن البُشرى أيضًا أن يحبَّ الإنسانُ من يحبُّه الله؛ فإن النبي ﷺ سُئِل عن الرجل يحبُّ القومَ ولَمَّا يلحقْ بهم، فقال ﷺ:« «مَنْ أَحَبَّ قَوْمًا فَهُوَ مِنْهُمْ». » قال أنس بن مالك رضي الله عنه«: ما فرِحْنا بعد الإسلام بشيءٍ أحَبَّ إلينا من هذا الحديث. » ثم قال: «فأنا أُحِبُّ النبيَّ ﷺ وأُحِبُّ أبا بكر وعمر»[[هذه ثلاثة أحاديث ذُكِرت في سياق حديث واحد؛ الأول: ما أخرجه الشيخان -البخاري (٦١٧٠)، ومسلم (٢٦٤٠ / ١٦٥)- من حديث أبي موسى قال: قيل للنبي ﷺ: الرجُل يحبُّ القومَ ولَمَّا يلحقْ بهم؟ قال: «المرءُ مع مَن أحبَّ». وأمَّا حديث «مَن أحبَّ قومًا ...» فأخرجه الطبراني (٢٥١٩) من حديث أبي قرصافة الكناني رضي الله عنه بلفظ: «مَن أحبَّ قومًا حشره الله في زُمرتهم». والثالث هو حديث أنس الذي أخرجه الشيخان –البخاري (٣٦٨٨) ومسلم (٢٦٣٩)- بسنديهما عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال: «وما أعددتَ للساعة؟». قال: حبَّ الله ورسوله. قال: «فإنك مع مَن أحببتَ». قال أنس: فما فرِحْنا بعد الإسلام فرحًا أشدَّ من قول النبي ﷺ: «فإنَّك مع مَن أحببتَ». قال أنس: فأنا أحبُّ اللَّهَ ورسولَه، وأبا بكرٍ وعمرَ، فأرجو أن أكون معهم وإنْ لم أعمل بأعمالهم.]]، فهذه من البُشرى.
المهم أن البُشرى كلُّ خبرٍ سارٍّ، فيشمل ما قاله المؤلف؛ (الجنة)، وهي الغاية لكلِّ إنسانٍ، ويشمل ما كان علامةً على ذلك، ﴿لَهُمُ الْبُشْرَى﴾.
قال: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ﴾ [الزمر ١٧] أَمَر اللُّه النبيَّ ﷺ أن يبشِّر عباد الله، بَشِّرْهم بماذا؟ بشِّرْهم بالجنة وبكُلِّ ما يسُرُّهم، حتى في الدنيا المؤمن مسرورٌ دائمًا، وإنْ أُصِيب ببلاءٍ فإنه مسرور؛ لأنه إذا أُصِيب بالبلاء فصبر كان خيرًا له.
قوله: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ﴾ الدال مكسورة مع أنها مفعولٌ به، لِماذا؟
* طالب: (...).
* الشيخ: لأنَّ أصلها (عبادي) فحُذفت الياء للتخفيف كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ﴾ [الرعد ١١] أي: من والِي، وإنْ كانت الياء في ﴿مِنْ وَالٍ﴾ غير الياء في (عبادي)؛ لأن الياء ﴿مِنْ وَالٍ﴾ من أصل الكلمة، وأمَّا هنا فهي كلمةٌ أخرى؛ الياء.
﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ﴾ مَن المراد بالعباد هنا؟ المراد خصوصيَّة العبودية؛ أي: عباد الله الصالحين لا كُل عبد.
ثم بيَّن من صفاتهم قال: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ [الزمر ١٨] هذا من علامات عباد الله عز وجل أنهم لا يُضيعون الفُرَص.
﴿يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ﴾ أي: يُصْغُون إليه، ولم يقُل: يسمعون؛ لأنَّ الاستماع هو متابعة المتكلِّم والإنصاتُ إليه، بخلاف السَّماع، ونضرب مثلًا لرجُلٍ مَرَّ بقارئٍ فسمعه يقرأ، ورجُلٍ آخَر مَرَّ بقارئٍ يقرأ فجلس إليه يُنْصِت، الأول سامع، والثاني مستمع. ولهذا قال العلماء بناءً على هذا الفرق: إذا قرأ القارئُ آيةً فيها سجدةٌ وسَجَد فإنَّ السامع لا يسجد والمستمع يسجد؛ لأن المستمع متابِع والسامع ليس بمتابع. إذَنْ هؤلاء يستمعون القولَ، لا يُضيعون فرصة.
﴿الْقَوْلَ﴾ (أل) هنا للعهد، وتُشبه أن تكون للعهد الذِّكْري؛ لقوله: ﴿فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾؛ أي إنهم يستمعون القولَ الحَسَن ليس كُلَّ قول، فـ(أل) هنا نقول: إنها للعهد، ويُشبه أن تكون للعهد الذِّكْري؛ لقوله: ﴿فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾.
إذَن ما المراد بالقول هنا؟ القول الحَسَن، أمَّا اللغْو أو السيِّئ فإن الله يقول: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ [الفرقان ٧٢]، ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ [القصص ٥٥] فإذا كانوا يُعرضون عن اللغو لأنه لا فائدة فيه، فالمحرَّم من باب أَوْلى. إذَنْ هؤلاء قومٌ عندهم حَزْم، عندهم شُحٌّ في الوقت، لا يستمعون إلا إلى القول الحَسَن.
طيب، إذا استمعوا إلى القول الحسن، فنحن نعلم أنَّ الحسن فيه ما هو أحسن وما هو حَسَن، فما الذي يتَّبعون؟ يقول: ﴿فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾؛ فمثلًا إذا سمعوا الترغيب في صلاة الليل وأنَّ أكثرها -مثلًا- إحدى عشرة ركعة وأدناها ركعة واحدة، ما الذي يتَّبعون؟
* طلبة: إحدى عشرة.
* الشيخ: الإحدى عشرة؛ لأنها أحسن.
إذا سمعوا الإنفاق في طلب العلم والإنفاق على فقيرٍ ليس في ضرورة، ماذا يتَّبعون؟
* طالب: على طلب العلم.
* الشيخ: على طلب العلم؛ لأنهم يتَّبعون الأحسن، إذَنْ لم يفرِّطوا في الوقت، ولم يفرِّطوا في الأفضل، بل كانوا يستمعون كلَّ قولٍ حَسَن ويتَّبعون الأحسن منه.
طيب، فإن تَبِعوا الحسن وتركوا الأحسن فإنهم لا يُلامون على ذلك، لكنَّهم ليسوا في قمَّة الكمال، الذي في قمَّة الكمال هو الذي يتَّبع الأحسن.
قال الله تعالى: ﴿فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ (وهو ما فيه صلاحُهم) لكن الأصلح؛ يتَّبِعون الأصلح فالأصلح.
قال الله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ﴾ [الزمر ١٨].
أوَّلًا: ﴿أُولَئِكَ﴾ الإشارة للبعيد، وإنما أشار إليهم إشارةَ البعيدِ مع قُرب ذِكرهم للدلالة على عُلُوِّ منزلتهم، وهذا يقع كثيرًا في القرآن؛ يشير الله إلى الشيء القريب بصيغة البعيد لعُلُوِّ مرتبته؛ كما قال الله تعالى: ﴿الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ [البقرة ١، ٢] مع أنه يقول ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ الكتاب قريب، لكن إشارة لأيش؟ لعُلُوِّ مرتبتِه، أحيانًا يُشير إليه بالقريب لقُربه من مُريده؛ كما في قوله تعالى: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ﴾ [الأنعام ٩٢] يعني ليس بعيدًا عليهم، قريبٌ لهم.
هنا يقول: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ﴾ أشار إليهم إشارةَ البعيد؟ إشارةً إلى عُلُوِّ مرتبتهم.
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ﴾ هذه الجملة خبرية طرفاها معرفة، وقد قال العلماء: إنَّ الجملة الخبرية إذا كان طرفاها معرفة فإنها تفيد الحصر؛ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ﴾ يعني لا غير.
وقوله: ﴿هَدَاهُمُ اللَّهُ﴾ يشمل هداية الدلالة وهداية التوفيق؛ يعني بيَّن لهم الحقَّ وعلِمُوه ثم اهتدَوا به، والناسُ في هذا المقام ثلاثة أقسام: قِسمٌ ضلُّوا عن الهدى علمًا وعملًا، وقِسمٌ هُدُوا إلى الحقِّ علمًا وعملًا، وقِسمٌ هُدُوا إلى الحقِّ علمًا ولم يهتدوا إليه عملًا. عرفتم؟
هل يمكن أن أقول: وقِسمٌ اهتدوا إلى الحق عملًا ولم يهتدوا إليه علمًا؟
* الطلبة: لا يمكن.
* الشيخ: لا يمكن، لماذا؟ لأنه لا عمل بالحق إلا بعلمٍ بالحق، فالقسمة رُباعية، لكن الطرف الرابع منها غير واقع، ممتنع.
إذَن ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ﴾ هداية دلالةٍ وتوفيقٍ، وإنْ شئتَ فقلْ: هداية عِلم وعمل، أيُّهما الدلالة؟
* الطلبة: العلم.
* الشيخ: العلم. والتوفيق؟
* الطلبة: العمل.
* الشيخ: العمل.
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [الزمر ١٨]، ﴿وَأُولَئِكَ﴾ كرَّر اسم الإشارة تنويهًا بعُلُوِّ مرتبتهم.
﴿هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ أي: (أصحاب العقول)؛ لأنَّ الإنسان كلَّما كان للحقِّ أَتْبَع كان أكمَلَ عقلًا، وكلَّما نقص اتِّباعُ الحقِّ في حقِّه كان أَدَلَّ على قِلَّة عقلِه، فأعقلُ الناسِ أتْبَعُهم لدين الله لا شك؛ لأنهم هم الذين عندهم الحزمُ وانتهازُ الفُرَص وحِفْظُ الوقت، ولهذا قال: ﴿أُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (أصحاب العقول).
فإن قال قائل: أليس الكفَّار ذوي عقل؟
فالجواب: بلى، لكنَّهم ذَوُوا عقلٍ إدراكيٍّ لا عقلٍ رُشْديٍّ، ولهذا كانوا مكلَّفين مُلزَمين لأنَّ عندهم عقلًا إدراكيًّا، لكنَّهم غير موفَّقين لأنهم فقدوا عقلَ الرُّشد.
قال الله تعالى في بيان عقوبة الخاسرين الذين خَسِروا أنفسَهم وأهليهم يوم القيامة، قال في بيان عقوبتهم: ﴿لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ﴾ [الزمر ١٦].
* من فوائد هذه الآية: شِدَّة العذاب على أهل النار؛ لأن العذاب يغشاهم من فوقهم ومن تحت أرجُلهم، وإذا كان الإنسان لا يتحمَّل النارَ إذا أتَتْه من وجهٍ ولو بعيد، فكيف إذا أتَتْه من الوجهين: الفوق والتحت!
* ومن فوائد الآية الكريمة: أنَّه يجب على الإنسان أن يخاف مما خوَّفه الله حتى يحقِّق العبودية؛ لقوله: ﴿ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أنَّه ينبغي للإنسان أن يسير إلى الله عز وجل على جانبٍ من الخوف، الخوف من العذاب، وقد مَرَّ علينا كثيرًا: هل يُغَلِّب السائرُ إلى الله جانبَ الخوف أو جانبَ الرجاء، على ما سبق.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أنَّ الله عز وجل رَبُّ كلِّ شيء، وأنَّ كلَّ شيءٍ فهو عابدٌ لله؛ لقوله: ﴿ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: وجوبُ التقوى؛ لقوله تعالى: ﴿يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ﴾.
ثم قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا﴾ إلى آخره [الزمر: ١٧].
* من فوائدها: الثَّناء على مجتنب الطاغوت.
* ومن فوائدها: أنَّ لهم هذا الثواب العظيم؛ وهو قوله: ﴿لَهُمُ الْبُشْرَى﴾.
* ومن فوائدها: أن التوحيد لا يتِمُّ إلا باجتناب الطاغوت والإخلاص لله؛ لقوله: ﴿اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى﴾.
* ومن فوائد هذه الآية: أنَّ الذين اتَّصَفوا بهذه الصفة: اجتناب الطاغوت والإنابة إلى الله، هم أهل البُشرى؛ ﴿لَهُمُ الْبُشْرَى﴾، ولم يُبَيِّن الله وقتَ البُشرى، فهو شاملٌ للبُشرى في الدنيا وفي الآخرة.
* ومن فوائدها: حرمانُ مَن أشركَ بالله مِن هذه البُشرى؛ لأنه جعل البُشرى لِمَن؟ لِمَن اجتنبوا الطاغوتَ أن يعبدوها وأنابوا الى الله.
* ومن فوائد الآية الكريمة: إثباتُ العبودية الخاصة؛ لقوله: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ﴾، والعبودية الخاصة تكون منقسمة إلى خاصَّةٍ أخَصَّ، وإلى خاصَّةٍ ليست بأخَصَّ؛ فالمؤمنون جميعًا كلُّهم عبادُ الله، والرُّسُل عبوديتهم أخصُّ.
طيب، ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا﴾ [الإسراء ١] هذه من الخاصة أو الأخَصِّ؟
* الطلبة: الأخص.
* الشيخ: من الأخص. ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ﴾ [ص ٤٥]؟
* الطلبة: الأخص.
* الشيخ: هذه من العبادة الأخص.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أنَّ عباد الله حريصون على استماع ما فيه المصلحة والمنفعة؛ لقوله: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ﴾ [الزمر ١٨].
* ومن فوائدها: أنَّ هؤلاء السادة لا يضيِّعون وقتًا، حتى إنهم يستمعون إلى عمل غيرهم، وهو قولُ غيرِهم، فكيف (...)، لا بد أن يكونوا قائمين به.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أنَّ عباد الله عز وجل الذين وصفهم الله بما ذُكِر؛ يأخذون من القول بأحسنه؛ لقوله؟
* طالب: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ [الزمر ١٨].
* الشيخ: كيف؟
* الطالب: لقوله: ﴿أَحْسَنَهُ﴾.
* الشيخ: لقوله: ﴿فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾.
* من فوائد هذه الآية الكريمة: أنَّ هؤلاء القوم هم الذين هداهم الله؛ لقوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ﴾ [الزمر ١٨].
ويتفرَّع على هذه القاعدة أنك إذا رأيتَ من نفسك الحرصَ على استماع قول الخير واتِّباع أحسنه فاعلم أن هذا من هداية الله لك؛ لأنه قال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ﴾، وإذا رأيتَ من نفسك كراهةَ الاستماع إلى القول الحسن فاتَّهِم نفسَك؛ لأنَّ الله جعل الهداية في هؤلاء القوم، فإذا لم يحصل لك هذا فاتَّهِم نفسَك، صحِّح الخطأ، أَقْبِل إلى الله عز وجل.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أنَّ أفعال العباد واقعةٌ بتقدير الله وأنهم لا يستقلُّون بها، من أين تؤخذ؟ ﴿هَدَاهُمُ اللَّهُ﴾، ولهذا ذهب أهل السُّنة والجماعة إلى أن أفعال العباد مخلوقةٌ لله مُرادةٌ له، خلافًا لِمَن قال: إن أفعال العباد ليست مُرادةً لله ولا مخلوقةً له، وهم القدَريَّة مجوس هذه الأُمَّة.
* من فوائد الآية الكريمة: بيانُ مِنَّة الله عز وجل على هؤلاء الذين وُفِّقوا لاستماع القول واتِّباع أحسنه؛ يعني إظهار مِنَّة الله عليهم في قوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ﴾.
* ومن فوائدها: أنَّه يجب عقلًا أن تحمد الله سبحانه وتعالى إذا هداك إلى مثل هذا؛ لأنَّك إذا علمتَ أنَّ الهداية من الله فالعقل يقتضي أيش؟ أن تحمده وتشكره، وهذه النعمة أبلَغُ من الإنعام بالأكل والشرب؛ لأنَّ الأكل والشرب كلٌّ يأكل ويشرب حتى البهائم، لكن الهداية ما كلُّ أحدٍ يهتدي، فإنعامُ الله على الإنسان بالهداية العِلمية والعملية أعظم من إنعامه عليه بالأكل والشرب.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أنَّ المتمسِّكين بدين الله المتَّبعين لأحسن القول هم أصحاب العقول.
من المتعارَف عند الناس الآن أنهم إذا رأوا الإنسانَ ذكيًّا مُتأنِّيًا في الأمور يقولون: هذا عاقل، ما شاء الله، عاقل. ولو كان من أفجَر الناس، والحقيقة أنَّا نقول: العاقل مَن وفَّقه الله تعالى للعلم والعمل ولو كان من أبلد الناس باعتبار الذكاء.
* ومن فوائد هذه الآية: أنَّه لا تلازُم بين الذكاء والعقل: الذكاء شيءٌ والعقل شيءٌ آخَر، حتى في عقل الإدراك لا تلازُم بين الذكاء وعقل الإدراك؛ لأنَّ من الناس مَن تجده ذكيًّا شديد الملاحظة يفهم الشيء بسرعة ويعطي الجواب بسرعة، لكنَّه في التصرُّف أحمق.
وهذه النعمة أبلغ من الإنعام بالأكل والشرب لأن الأكل والشرب كل يأكل ويشرب حتى البهائم، لكن الهداية ما كل أحد يهتدي، فإنعام الله على الإنسان بالهداية العلمية والعملية أعظم من إنعامه عليه بالأكل والشرب.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن المتمسكين بدين الله المتبعين لأحسن القول هم أصحاب العقول، من المتعارف عند الناس الآن أنهم إذا رأوا إنسانًا ذكيًّا متأنيًا في الأمور يقولون: هذا عاقل -ما شاء الله- عاقل. ولو كان من أفجر الناس، والحقيقة أننا نقول: العاقل من وفقه الله تعالى للعلم والعمل ولو كان من أبلد الناس، باعتبار الذكاء.
* ومن فوائد هذه الآية: أنه لا تلازم بين الذكاء والعقل، الذكاء شيء، والعقل شيء آخر، حتى في عقل الإدراك لا تلازم بين الذكاء وعقل الإدراك؛ لأن من الناس من تجده ذكيًّا شديد الملاحظة، يفهم الشيء بسرعة ويعطي الجواب بسرعة، لكنه في التصرف أحمق ليس عنده عقل، ومن الناس من يكون –بالعكس- عنده شيء من البلادة ولكنه في التصرف عاقل متأنٍ، ولكن أعقل الناس أطوع الناس لله، لا شك أن أعقل الناس أطوعهم لله سبحانه وتعالى، ولهذا قال: ﴿وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [الزمر ١٨].
* ومن فوائد الآية: الإشارة إلى انقسام الناس إلى قسمين: موفق، ومخفق؛ لأن قوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ يدل على أن هناك قسمًا آخر، وهم الذين لم يوفقوا ولم يهديهم الله، والأمر كذلك، الواقع كذلك، الآية أشارت إلى هذا، والواقع يشهد له.
فإن قال قائل: لماذا لم يجعل الله سبحانه وتعالى الناس على دين واحد؟ أمة واحدة؟ قلنا: لأن هذا ينافي الحكمة، قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [هود ١١٨، ١١٩].
لو لم يوجد هذا الانقسام ما ملئت النار بل ولا دخلها أحد، لو لم يوجد هذا الانقسام ما عرف الإنسان قدر نعمة الله عليه بالإيمان والعمل الصالح، لو لم يوجد هذا الإيمان ما مدح من آمن وعمل صالحًا، لماذا؟ لأن الناس هكذا، ما يستطيع أن يخرج عما عليه الناس، لو لم يوجد هذا لم يكن هناك سوق للجهاد؛ لأنك لا يمكن أن تجاهد من هو مثلك في الإيمان والعمل الصالح، لو لم يوجد هذا لم يقم سوق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لو لم يوجد هذا لم يقم سوق الدعوة إلى الله إلى غير ذلك من المصالح الكثيرة التي تفوت بفوات هذا الانقسام.
أما من حيث القدرة الإلهية فإن الله قادر على أن يجعل الناس أمة واحدة على الدين الحق، ولكن الحكمة الإلهية تأبى ذلك، وقد علمتم شيئًا من كثير كثير من حكمة تفرق الناس إلى مؤمن وكافر.
ثم قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ﴾ [الزمر ١٩]، ﴿أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ﴾ ما هي كلمة العذاب؟
قال المؤلف هي قوله تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [هود ١١٩]، هذا ما ذهب إليه.
وقيل: كلمة العذاب هي قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾ [يونس ٩٦، ٩٧]، وهذا القول أقرب للصواب؛ لأن هذا القول أخص مما قال المؤلف؛ لأن قوله تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ لا تدل على شخص بعينه، تدل على أن كلمة الله عز وجل اقتضت أن تُملأ النارُ، لكن: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾ هؤلاء قوم بأعيانهم، لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية، فالصحيح أن المراد بكلمة الله هي ما ذكره الله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾ أنهم من أهل النار هؤلاء لا يمكن أن يؤمنوا.
﴿أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ﴾ أي: لأملأن جنهم من الجنة والناس أجمعين، هذا قول، القول الثاني: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ يعني أن المراد بكلمة (العذاب) هي أن الله تعالى قضى بأن هؤلاء من أهل النار، فلا يمكن أن يؤمنوا.
﴿أَفَمَنْ حَقَّ﴾ كلمة ﴿أَفَمَنْ﴾ فيها ثلاث كلمات: الهمزة والفاء ومن، فالهمزة للاستفهام، والفاء عاطفة، و(من) يقول المؤلف: إنها شرطية، ويقول آخرون: إنها موصولة؛ أفالذي حق عليه كلمة العذاب، وعلى كلام المؤلف تكون شرطية، ويأتي إن شاء الله بقية الكلام عليها.
* طالب: (...).
* الشيخ: كيف؟
* الطالب: (...) الرسول ﷺ قال: «خِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ»[[أخرجه البخاري (٤٦٨٩) من حديث أبي هريرة.]]، يعني لو قلنا مثلًا: إن صاحب العقل في الجاهلية لو اهتدى وأصبح أكمل عقلًا فهل يصح أن نقول هكذا؟
* الشيخ: لا؛ لأن معنى قوله: «خِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ»؛ يعني مثلًا العرب كانوا قبائل، بعض القبائل أشهر من بعض، فيقول عليه الصلاة والسلام إن من كان له حسب وشرف في الجاهلية فهذا فحسبه وشرفه له إذا فقه في دين الله.
* الطالب: ما ينطبق عليه القرآن (...)؟
* الشيخ: لا، ما ينطبق، بس المعنى اللي أنت قلته ما ينطبق على هذا الحديث؛ لأن كونه ذكيًّا ثم يكون عاقلًا قد يُحمد وقد لا يُحمد؛ يعني المشكل بعد أحيانًا يكون الذكاء المفرط سببًا للضلال؛ لأن هذا الذكي يورد على نفسه أشياء ويفتِّح على نفسه أشياء لو كان غافلًا لكان أحسن له، ولهذا ما ضر أصحاب أهل الكلام والمنطق والفلاسفة إلا حدة ذكائهم، تجد الإنسان بذكائه يورد إذا كان كذا ولمَ كذا؟ لكن السليم هو الذى يستمر، وقد تمنى بعض أهل الكلام أن يموت على؟
* الطلبة: دين عجائز نيسابور.
* الشيخ: دين عجائز نيسابور، دين العجائز اللي ما تعرف.
* طالب: ما الفرق بين الشعور وعقل الإدراك؟
* الشيخ: لا، فيه عقل الإدراك وعقل الرشد.
* الطالب: ما الفرق بين الشعور وعقل الإدراك؟
* الشيخ: ما أظن أن هناك فرقًا قويًّا، لكن الشعور يرمي إلى قوة الملاحظة، أن الإنسان حي قلبه.
* طالب: شيخ، الشعور أنقص من الإدراك؛ لأن الشعور يوجد (...)، والإدراك هو الذي يفهم به الأشياء، لكن ليس فهمه فهم رشد، ويفهم يعني مثلًا (...) مثل هذا الشيء (...) والشعور هو أنقص من الإدراك.
* الشيخ: لا، هو يمكن أنقص، وأكمل من وجه، أحيانًا يكون الإنسان من قوة ملاحظته يشعر بما لا يشعر به الآخرون، وأحيانًا يكون -مثل ما قلت- الشعور الإحساس، مجرد الإحساس، والإحساس يكون في البهائم وفي العقلاء، لكن هو من جهة أكمل، ومن جهة ثانية الشعور أكمل؛ لأن بعض الناس يكون عنده الشعور إحساس نفسي ما يدركه الآخرون (...).
* * *
* طالب: ﴿رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (٢٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [الزمر ٢٠، ٢١].
* الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تبارك وتعالى في سياق الآيات –انتبه- التي بها الكلام على أهل الحق وأهل الباطل، قال: ﴿أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ﴾ [الزمر ١٩]، هذا مبتدأ المناقشة، ما المراد بـ﴿كَلِمَةُ الْعَذَابِ﴾؟
* طالب: (...).
* الشيخ: ما المراد بـ﴿كَلِمَةُ الْعَذَابِ﴾؟
* الطالب: هذا ما أخذناه.
* الشيخ: أخذناها، وذكرنا الصحيح في هذا.
* الطالب: (...).
* الشيخ: كيف لا؟ أخذناه.
* طالب: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾ [يونس ٩٦].
* الشيخ: ﴿كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾.
* الطالب: قوله تعالى: ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [هود ١١٩].
* الشيخ: المؤلف مشى على أن المراد بها قوله تعالى: ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾، والظاهر أن المراد بها ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [يونس ٩٦].
طيب، الذى قبلها ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ﴾ [الزمر ١٧، ١٨] هذا؟
* طالب: (...).
* الشيخ: قوله تعالى: ﴿وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى﴾ [الزمر ١٧] الجملة هذه معطوفة على أي شيء؟ على أي شيء معطوفة؟
* الطالب: ﴿الْبُشْرَى﴾.
* الشيخ: لا، ﴿وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ﴾.
* الطالب: ﴿اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ﴾.
* الشيخ: على قوله: ﴿اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ﴾؛ يعني: جمعوا بين هذا وهذا.
قوله: ﴿لَهُمُ الْبُشْرَى﴾ الجملة في محل؟
* الطالب: في محل رفع خبر، خبر (الذين).
* الشيخ: خبر ﴿الَّذِينَ اجْتَنَبُوا﴾.
ما المراد بـ﴿الْبُشْرَى﴾؟
* طالب: المراد بـ﴿الْبُشْرَى﴾ هنا: ما يسر.
* الشيخ: كلام المؤلف؟
* الطالب: الجنة.
* الشيخ: المراد بها الجنة، والصحيح؟
* الطالب: أنها تشمل الجنة، وتشمل كل ما كان علامة للبشرى.
* الشيخ: ما هو الدليل على أن هذا هو الصحيح؛ العموم؟
* الطالب: الدليل (أل) للاستغراق.
* الشيخ: هو قد يكون المراد بـ(أل) العهد.
* طالب: (...) تفيد معنى أكثر للعموم.
* الشيخ: لكن نريد دليلًا.
* طالب: (...).
* الشيخ: وغيرها؟
* الطالب: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس ٢٦].
* طالب آخر: شيخ، نقول: (الْبُشْرَى) الخبر السار، فهو يعم جميع البشر.
* طالب آخر: يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ مِنْ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ الرُّؤْيَا الصَّالَحِةَ»[[أخرجه مسلم (٤٧٩ / ٢٠٧) من حديث ابن عباس.]].
* الشيخ: في القرآن ﴿لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [يونس ٦٤].
وأفضل ما يُفسر القرآن بالقرآن.
قوله: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ﴾ [الزمر ١٧] كيف كانت مكسورة وهي مفعول به؟
* الطالب: هنا حذف الياء؛ ياء المتكلم.
* الشيخ: وأصلها؟
* الطالب: أصلها: بشر عبادي.
* الشيخ: نعم، ما المراد بالعباد هنا؟ مَن تعبدوا بالخصوص أو بالعموم؟
* الطالب: بالخصوص.
* الشيخ: بالخصوص، لماذا؟
* الطالب: لأن هنا ذكر ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ﴾ التبشير لا يكون إلا للعباد، ثانيًا..
* الشيخ: إلا للعباد بالمعنى الخاص.
* الطالب: وكذلك أضاف إليها ياء المتكلم أو ياء النفس.
* الشيخ: لا، هذه قلنا: إذا صارت جمعًا قد تشمل، لكن الذين يستمعون القول هذا يُخصص أيضًا، أولًا أنه من جهة البشارة، والثاني: الذين يستمعون القول.
يقول: ﴿فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ [الزمر ١٨] ماذا تفيد؟
* طالب: القول الحسن.
* الشيخ: الحسن؟! كيف نقول: الحسن، وهو أحسن؟
* الطالب: أحسن (...).
* الشيخ: نعم.
* طالب آخر: لأنهم يستمعون القول الحسن فيتبعون الأحسن.
* الشيخ: نعم، يعني أنهم لا يرضون بدون الكمال، أو بدون الأكمل على الأصح.
القول ذكرنا أنه ينقسم إلى أربعه أقسام؟ ما هي؟
* طالب: هي يتبعون القول.
* الشيخ: نعم.
* الطالب: يستمعون القول يشمل..
* الشيخ: قلنا: إنه ينقسم إلى أربعة أقسام.
* الطالب: نعم، الذكر.
* الشيخ: لا.
* طالب: تقسيم من جهة الطاعة، ومن جهة اتباع القول، والعمل.
* الشيخ: لا، القول ينقسم إلى أربعة أقسام.
* طلبة: (...).
* الشيخ: لا، (...) إذا أجبت تعرفون (...).
* الطالب: مذكور يا شيخ.
* الشيخ: نعم.
* الطالب: حسن، وأحسن، وغير حسن ولا سيئ، وسيئ.
* الشيخ: ما ذكرنا هذا؟
* طلبة: لا.
* الشيخ: لا ذكرناه، قلنا: سيء، وأسوأ، ولغو، وحسن، وأحسن، خمسة أقسام.
* طالب: هذه ذكرنا قبل، ما هو في نفس الآية.
* الشيخ: على كل حال المهم أنه مر عليكم (...) إقامة الحجة تكفي مرة واحدة.
على كل حال القول ينقسم إلى خمسة أقسام: سيء، وأسوأ، ولغو، وحسن، وأحسن هم يتبعون الأحسن، واستدللنا بالآية: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ [الفرقان ٧٢]، نعم ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ﴾ [القصص ٥٥].
قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ﴾ [الزمر ١٨] لماذا جاءت باسم الإشارة للبعيد؟
* طالب: إشارة إلى علو مرتبتهم.
* الشيخ: نعم، إلى علو مرتبتهم، تمام؛ لأنهم يتبعون الأحسن فهم أعلى مرتبة، هل في قوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ﴾ حصر؟
* طالب: نعم.
* الشيخ: طريقه؟
* الطالب: معرفة، إذا كانت الجملة طرفاها معرفة فإنها تفيد الحصر.
* الشيخ: تمام، قوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [الزمر ١٨] ﴿أُولُو﴾ بمعنى؟
* طالب: (...).
* الشيخ: و﴿الْأَلْبَابِ﴾.
* الطالب: ﴿الْأَلْبَابِ﴾ بمعنى العقول.
* الشيخ: معناها العقول، ولّا ذوو العقول؟
* الطالب: العقول.
* الشيخ: العقول، طيب لماذا سمي العقل لبًّا؟
* الطالب: لأن هو (...) غيره (...).
* الشيخ: يعني جُعل لبًّا، يعني مَن ليس له عقل فهو قشور ما يحصِّل شيء طيب، لو قال قائل: هناك عقلاء لا يتبعون أحسن القول؟
* طالب: هذا عقل إدراك، وليس عقل رشد.
* الشيخ: وليس عقل رشد، والثناء على أي العقلين؟
* الطالب: على عقل الرشد.
* الشيخ: على عقل الرشد، تمام، بارك الله فيك، أما الفوائد فأخذناها أظن.
* طالب: نعم، أخذناها.
* الشيخ: إلى؟
* طالب: ﴿أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ﴾.
* الشيخ: قال الله تعالى: ﴿أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ﴾ [الزمر ١٩] الهمزة هنا للاستفهام، ويحتمل أن المراد به الاستفهام الحقيقي أو أن المراد به الإنكار؛ يعني النفي، ويتبين من تفسيرها.
وقوله: ﴿حَقَّ عَلَيْهِ﴾ أي وجب عليه وذُكّر الفعل مع أن كلمة مؤنث لوجهين:
الوجه الأول: أن تأنيث كلمة تأنيث مجازي.
والثاني: أنه منفصل عن عامله، ولا يجب تأنيث الفعل إلا إذا كان الفاعل مؤنثًا حقيقيًّا متصلًا كما قال ابن مالك:
؎وَإِنَّمَا تَلْزَمُ فِعْلَ مُضْمَرِ ∗∗∗ مُتَّصِلٍ أَوْ مُفْهِمٍ ذَاتَ حِرِ
يقول: ﴿أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ﴾ أي: وجب عليه كلمة العذاب، وهي أنهم لا يؤمنون، ولو جاءتهم كل آية أو -كما قال المؤلف-: ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [هود ١١٩]، والأول أظهر.
وقوله: ﴿كَلِمَةُ الْعَذَابِ﴾ يعني الكلمة التي يستحقون بها العذاب، وهي أن كل من خالف أمر الله فإنه مستحق للعذاب، قال الله تعالى: ﴿أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ﴾ [الزمر ١٩]، ﴿أَفَأَنْتَ﴾ فالخطاب للرسول ﷺ؛ يعني: هل تنقذه إذا حقت عليه كلمة العذاب؟ والجواب: لا، وإذا كان الجواب لا، إذا كان جواب الاستفهام (لا) فهو علامة على أن الاستفهام للنفي، وهنا نسأل الهمزة في: ﴿أَفَمَنْ حَقَّ﴾، والهمزة في ﴿أَفَأَنْتَ﴾ هل لكل واحدة معنى مستقل أو أن الثانية توكيد للأولى؟
* طالب: توكيد للأولى.
* الشيخ: إن جعلنا الجملتين جملة واحدة يعني إن جعلنا الكلام واحدًا في الجملتين، فالثانية توكيد للأولى، وإن جعلنا كل كلمة مستقلة كل جملة مستقلة عن الأخرى، فالثانية أصلية، يعني تأسيسية لا توكيدية، وعلى كلٍّ فإن مثل هذا التركيب -أعني إذا أتت همزة الاستفهام وبعدها حرف عطف- قد سبق لنا مرارًا أن لعلماء النحو في ذلك قولين في الإعراب، فمنهم من يرى أن الهمزة داخلة على جملة مقدرة تناسب المقام والفاء وحرف العطف على تلك الجملة المحذوفة.
ومنهم من يرى أن الهمزة داخلة على الجملة التي بعد حرف العطف، فيكون حرف العطف على ما سبق، وإنما قُدمت الهمزة لأن لها الصدارة، وذكرنا أن القول الثاني أيسر، وذلك لأن القول الأول قد يتعذر على الإنسان معرفة المناسب للسياق، أو ربما يقدر ما يظنه مناسبًا وليس بمناسب.
يقول الله عز وجل: ﴿أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ﴾ الخطاب قلت لمن؟ للنبى ﷺ، ﴿تُنْقِذُ﴾: تُخرج، ولكن تفسير ﴿تُنْقِذُ﴾ بـ(تخرج) قاصر؛ لأن كلمة تخرج لا تدل على أنه مُنقَذ من هلكة، لكن (تنقذ) تدل على معنى أخص من (تخرج)، أليس كذلك؟ إذن لا ينبغي أن نفسر الأخص بالأعم؛ لأنك إذا فسرت الأخص بالأعم نقصت التفسير، فالإخراج يكون إنقاذًا ويكون غير إنقاذ، لكن الإنقاذ يكون عن هَلَكة، ولهذا لو فسرت تنقذ: تنجي، لكان أوضح؛ لأن الإنجاء أيضًا يكون من الهلكة، ﴿أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ﴾ أي: تنجي ﴿مَنْ فِي النَّارِ﴾ من عذابها، ﴿مَنْ فِي النَّارِ﴾ (مَن) بمعنى الذي، وهو مفعول به لـ(تنقذ)، ﴿مَنْ فِي النَّارِ﴾، ﴿فِي النَّارِ﴾ جار ومجرور متعلق؟
* طالب: (...).
* الشيخ: التقدير؟
* الطالب: كأنه استقر في النار.
* طالب آخر: ثبت في النار.
* الشيخ: من دخل في النار.
* الطالب: ثبت ولّا دخل؟
* الشيخ: يُقدر بما يناسب.
* طالب: داخل.
* الشيخ: لا، داخل لا يصلح في صلة الموصول، حطوا بالكم.
* الطالب: (...).
* الشيخ: داخل لا يصلح في صلة الموصول؛ لأنك إذا قدرت (داخل) تحتاج إلى تقدير مبتدأ؛ لتكون جملة، لكن لو قدرت فعلًا ما احتجنا إلى شيء آخر، فنقول مثلًا في جميع صلة الموصول: لا يقدر فيها إلا فعل؛ لأنك لو قدرت الاسم احتجت إلى تقدير مبتدأ لتتم الجملة، فيكون التقدير مرتين، أما إذا قدرت فعلًا صار التقدير مرة واحدة.
﴿أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ﴾ أي: من استقر في النار، أو من دخل في النار، أو من كان في النار، حسب، يعني المعنى متقارب.
قال المؤلف: (جواب الشرط) أين الشرط؟ الشرط هو (مَن) في قوله: ﴿أَفَمَنْ حَقَّ﴾، وهذا أحد الوجهين في (مَن) أنها اسم شرط، وقال بعض العلماء: إن (مَن) اسم موصول؛ يعني: أفالذي حق عليه كلمة العذاب تنقذه؟ ودائمًا اسم الشرط والموصول يتعاوران؛ أي: يُستعار بعضهما مكان بعض البعض الآخر.
يقول: (جواب الشرط، وأُقيم فيه الظاهر مقام المضمر) أُقيم فيه الظاهر الذي هو (مَن) مقام المضمر الذى يكون لولا الظاهر على هذا الوجه: أفأنت تنقذه، أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذه؟ وهذا كلام المؤلف يوحي بأن جملتين مرتبط بعضهما ببعض، وليس كل واحدة مستقلة عن الأخرى (أفانت تنقذه).
ولكن نقول: هناك احتمال آخر خلاف ما قاله المؤلف، وهو أن الثانية منفصلة عن الأولى، وأن تقدير الأولى: ﴿أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ﴾ تدفع عن أو كلمة نحوها، يعني: أفتدفع عن مَن حق عليه كلمة العذاب؟ ثم استأنف فقال: ﴿أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ﴾ يعني الأول تجعله مؤمنًا بحيث لا يستحق النار، والثاني تنقذه من النار إذا دخل فيها، هذا وجه للمفسرين.
الوجه الثاني أن تكون الجملتان واحدة، يكون معنى ﴿أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ﴾ فهو في النار أفأنت تنقذه منها؟ وهذا هو الذى مشى عليه المؤلف.
ومؤدى الجملتين واحد في النهاية؛ أن من حق عليه كلمة العذاب فإنه لا يمكن لا للرسول ﷺ ولا لغيره أن ينقذه من النار.
يقول المؤلف: (وأُقيم فيه الظاهر مقام المضمر) وإقامة الظاهر مقام المضمر هنا تفيد معاني، منها: أن من حق عليه كلمة العذاب فهو في النار؛ لأنه لو قال: أفأنت تنقذه؟ لكان الإنسان يقول: من أي شيء أنقذه؟
فإذا قال: أفأنت تنقذ مَن في النار؟ علمنا أن هذا الذى حق عليه كلمة العذاب في النار.
يقول: (والهمزة للإنكار) الهمزة في ﴿أَفَمَنْ﴾ وفي ﴿أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ﴾ وهما همزة واحدة، على القول بأن الجملتين واحدة، فتكون الثانية توكيدًا للأولى، والحاصل أن الله يقول للرسول عليه الصلاة والسلام: هل من حقت كلمة العذاب يمكن أن تمنعه من استحقاقها؟ هل مَن دخل النار يمكن أن تنقذه؟
الجواب: لا يمكن، لا هذا ولا هذا؛ لأن النبى ﷺ لا يملك أن يهدي أحدًا حتى لا تحق عليه كلمة العذاب، ولا يمكن أن ينقذ أحدًا من النار.
يقول عليه الصلاة السلام «حين نزل قوله تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء ٢١٤]» جمع أقاربه وصار يخصصهم «يَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا»، إلى أن قال «يَا فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا» [[متفق عليه؛ البخاري (٣٥٢٧)، ومسلم (٢٠٤ / ٣٤٨) من حديث أبي هريرة.]]، وهي ابنته، يقول: المال أستطيع أن أنفعك به، ولكن لا أغني عنكِ من الله شيئًا، وإذا كان لا يُغني عن ابنته شيئًا فمَن سواها من باب أولى.
فإن قال قائل: كيف نجمع بين هذا وبين شفاعة النبى ﷺ لعمه أبي طالب «حتى كان في ضحضاح من نار وعليه نعلان من نار يغلي منهما دماغه»[[متفق عليه؛ البخاري (٣٨٨٣)، ومسلم (٢٠٩ / ٣٥٧) من حديث العباس بن عبد المطلب.]]، كيف؟ هنا أغني، وهنا شفع ونفعت الشفاعة، فيقال: أولًا الرسول عليه الصلاة والسلام لم يتمكن من إخراجه من النار، وإذا لم يتمكن من إخراجه من النار لم يكن معارضًا للآية؛ لأن الله قال: ﴿أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ﴾ ما أنقذه.
ثانيًا: أن التخفيف عن أبي طالب ليس من أجل أنه عم الرسول ﷺ فهذا أبو لهب عمه ولكن لم يغنِ عنه شيئًا، لكن من أجل ما قام به من الدفاع العظيم عن الإسلام وعن رسول الإسلام، فإنه دافع عنه مدافعة عظيمة، بل إنه كان يمدح الرسول ﷺ في المحافل، بل شهد له بالرسالة، فقال:
؎لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ ابْنَنَا لَا مُكَذَّبٌ ∗∗∗ لَدَيْنَا وَلَا يُعْنَى بِقَوْلِالْأَبَاطِلِ
هذا بيت من لاميته المشهورة، التي قال عنها ابن كثير -رحمه الله- قال: هذه ينبغي أن تكون من المعلقات، بل هي أبلغ من المعلقات.
المعلقات قصائد اختارها العرب سموها المعلقات السبع، وأضافوا إليها ثلاثًا سموها المعلقات العشر، هذه القصائد علقوها في جوف الكعبة حفاظًا عليها وتنويهًا بها، لكن لامية أبي طالب أشد وأشد؛ يعني: وأحسن وأعذب، فشهد للرسول ﷺ بأنه غير مكذب، وأنه لا يُعْنَى بقول الأباطل السحرة، بل إنه عليه الصلاة والسلام أصدق الناس وأنزه الناس، ثم يقول في قصيدة أخرى:
؎وَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ ∗∗∗ مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينَا؎لَوْلَا الْمَلَامَةُ أَوْ حِذَارُ مَسَبَّةٍ ∗∗∗ لَرَأَيْتَنِي سَمْحًا بِذَاكَ مُبِيـــنَا
مثل هذا الكلام إذا سمعه الناس آمنوا، فهو في الحقيقة داعٍ إلى الإسلام، لكنه ليس مسلمًا، نسأل الله العافية.
إذن التخفيف عنه ليس من أجل أنه عم الرسول، ولكن من أجل أنه دافع عن الإسلام وحمى النبى ﷺ حماية تامة، وأعاله أيضًا، فإنه بعد موت جده عبد المطلب كان عند عمه أبي طالب، وهذا معروف، فمِن عَدْلِ الله عز وجل أن الله شكره على العمل وخفف عنه بشفاعة النبي ﷺ حتى صار -فيما سمعتم- في ضحضاح من نار، وعليه نعلان من نار يغلي منهما دماغه، أعاذني الله وإياكم من النار، ﴿أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ﴾.
قال: (والمعنى: لا تقدر على هدايته فتنقذه من النار) هذا المعنى، وصدق الله سبحانه وتعالى، الإنسان لا يمكن أن ينقذ أحدًا من النار أبدًا، فإذا كان نبي الله ﷺ لا يمكن لا يقدر على ذلك، فمَن دونه من باب أولى.
ثم قال تعالى: ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ هذا الاستدراك من أحسن ما يكون لمَّا قال: ﴿أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ﴾ استدرك هذه الحال، حال مَن لا يدخل النار؛ فقال: ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ [الزمر ٢٠] إلى آخره، (لكن) هنا لا تعمل لأنها؟
* طالب: مخففة.
* الشيخ: مخففة، و(لكن) إذا خُفِّفَت تكون لمجرد العطف فقط، ومعناها الاستدراك، فإذن ﴿الَّذِينَ﴾ مبتدأ، خبره جملة ﴿لَهُمْ غُرَفٌ﴾ هذا الخبر.
قال: (﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ﴾ بأن أطاعوه)، أفادنا المفسر -رحمه الله- بأن التقوى هي الطاعة، وهذا أجمع ما قيل في التقوى؛ أنها طاعة الله عز وجل بامتثال أمره واجتناب نهيه؛ لأنه أمر ونهى، لا للهوى، ولهذا مَن أطاع الله لمجرد الهوى لا يكون كمن أطاع الله لأن الله أمر أو نهى، كثير من الناس يطيع الله لأن نفسه تهوى ذلك، ولكن الطاعة الحقيقة هي التي يكون الباعث عليها امتثال أمر الله تركًا للمنهيات وفعلًا للمأمورات.
﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ﴾ قال: ﴿اتَّقَوْا رَبَّهُمْ﴾ إشارة إلى أن تقواهم لله مبنية على أساس؛ لأنه ربهم، والربوبية هنا تشمل الربوبيه القدرية، والربوبيه الشرعية؛ لأن الله رب مالك للكون قَدَرًا ومالك للحكم شرعًا، فهم يتقون ربهم؛ لأنه الذى خلقهم ورزقهم وأعدهم وأمدهم، يعبدون ربهم؛ لأنه الحاكم فيهم، والذي يأمرهم وينهاهم، فيقومون بأمره ويدعون نهيه.
﴿لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ﴾ [الزمر ٢٠] غُرَف: جمع غرفة، والغرفة هي البناء العالي، إذا كان في الأسفل يُسمى حُجرة، وإذا كان فوق يُسمى غرفة، فالبناء العالي يسمى غُرفة، هذه الغرف غرف مبنية، يقول: ﴿مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ﴾ يعني: طبقات، قصور عالية شامخة، مبنيَّة من لَبِنَات من الذهب والفضة، جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، هذه الغرف المبنية من الذهب والفضة أيضًا ليست على ما يُشاهد في الدنيا من اللمعان والحسن الجذاب، بل هي أشد وأعظم، لا يمكن أن نتصور حسن هذه الغرف ولا مواد بنائها أبدًا، لماذا؟ لأن الله يقول: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة ١٧]، ويقول في الحديث القدسى: «أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ»[[متفق عليه؛ البخاري (٣٢٤٤)، ومسلم (٢٨٢٤ / ٢) من حديث أبي هريرة. ]].
وهي -أي الجنة- ليس فيها شيء مما في الدنيا إلا الأسماء فقط، لكن الحقائق تختلف اختلافًا عظيمًا فيها عنب، نخل، رمان، لكن ليست كالموجود عندنا في الدنيا، بل هي شيء لا يمكن أن يتصوره الإنسان، هذه الجنة مُعَدَّة للمتقين الذين اتقوا ربهم، كما قال الله تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران ١٣٣] العمل يسير والعوض كثير، لكن العمل يسير يا إخواني على من يسره الله عليه، والله ييسره على من صدق النية في التوجه إلى الله، ولم يركن إلى الدنيا؛ لأن الركون إلى الدنيا -ولا سيما ممن أعطاه الله العلم- ذُل وانحطاط ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾ [الأعراف ١٧٥، ١٧٦].
والمثل -أخس الأمثال: ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ [الأعراف ١٧٦] كذا؟ ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ﴾ إلى آخره.
إذن نقول: هذه الغرف التي أعدها الله للمتقين الذين أخلصوا النية لله رجاء الوصول إلى ثوابه، والذين لا يفعلون طاعة إلا وهم يؤمنون بأن لها ثوابًا في هذه الجنة؛ لأن هذه العقيدة وهذا الشعور يحملك على إحسان العبادة، إذا علمت أنه ما من عبادة تقوم بها إلا من أجل الوصول إلى هذا الثواب سوف تحرص على العمل، وتتقن العمل.
﴿لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾، ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا﴾ أي: من تحت هذه الغرف العليا وما تحتها، ﴿الْأَنْهَارُ﴾ جمع نَهَر أو نَهْر؛ لأن نَهَر أو نَهْر الحلقية الذي ثانيها حرف حلق؛ نَهَر وبحر، يجوز فيها تسكين الحرف الثاني وفتحه، تقول: نَهَر ونَهْر، وبَحَر وبَحْر، هنا نقول: أنهار جمع نَهْر، وهي أربعة أنواع بينها الله تعالى في سورة القتال فقال: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ﴾ [محمد ١٥]، اقرأ.
* طالب: ﴿فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ﴾.
* الشيخ: ﴿وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ﴾ قبلها.
* الطالب: ﴿وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفَّى﴾ [محمد ١٥].
* الشيخ: نعم، هذه أربعة أنواع فيها أنهار من ماء غير آسن يعني غير قابل لأن يكون آسنا، والآسن هو المتغير، وأنتم تعلمون أن الماء إذا بقي في الإناء مدة أو في مقره في البئر مدة فإنه يتغير، ﴿وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ﴾ ولا فيها سَكر.
﴿وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفَّى﴾ أنهار، ما هي تُحلب من الضروع، ولا تأتي من نحل، أنهار تمشي على الأرض، تجري، وقد جاء في الأثر أنها تجري بلا أخدود، تعرفون الأخدود؟ أيش تسمونها؟
* طلبة: مجرى.
* الشيخ: إي، تبقى مجاري على وجه الأرض لا تحتاج إلى حفر سواقي ولا إلى جدارن تمنع من سيلان الماء، بل هي تجري بدون شيء وورد أيضًا أنها تجري باختيار الإنسان يوجه النهر حيث شاء، يوجهه حيث شاء، ويمسكه حيث شاء؛ لأن الله يقول: ﴿وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [الزخرف ٧١]، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.
* طالب: شيخ، أحسن الله إليك، في قول يقولون: إن نهر النيل وسيحون وجيحون والفرات أنه من الجنة؟
* الشيخ: إي نعم، صحيح ورد فيه حديث.
* الطالب: نعم.
* الشيخ: ورد فيه الحديث، لكن قالوا: إنها تشبه أنهار الجنة بالصفاء، هو ليس معناه أنها نزلت من السماء.
* طالب: تشبيه بليغ.
* الشيخ: نعم، تشبيه بليغ.
* طالب: الربوبية القدرية والشرعية؟
* الشيخ: أيش؟
* الطالب: القدرية والشرعية.
* الشيخ: ما أدري ويش تقول؟
* الطالب: الربوبية.
* الشيخ: إي نعم.
* الطالب: القدرية والشرعية.
* الشيخ: نعم.
* الطالب: ما فهمناها.
* الشيخ: ما فهمتوها، نعم الربوبية الشرعية هو التصرف في الناس بالشرع.
* الطالب: يعني (...).
* الشيخ: الأمر والنهي، والقدرية معروفة، ولهذا مر علينا مثل هذا، الحكم كونيّ..
* الطالب: (...).
* الشيخ: وشرعي نفس التصرف بمقتضى الربوبية كوني وشرعي.
* الطالب: (...) يا شيخ.
* الشيخ: مثل الإرادة، كونية وشرعية.
* طالب: (...).
* الشيخ: نعم.
* الطالب: (...).
* الشيخ: نعم.
* الطالب: (...).
* الشيخ: التفسير يعني التَّقَوِّي بالطاعة، نعم.
* طالب: بعض الناس (...).
* الشيخ: نعم.
* الطالب: (...).
* الشيخ: إي.
* الطالب: هل يؤجر على فعله هذا؟
* الشيخ: والله -على كل حال- تبرأ الذمة بذلك، لكنه لن يصل إلى درجة الكمال، ولهذا نحن نقول دائما ينبغي للإنسان عند فعل العبادة أن تكون له نيَّتان، نيتان: نية العمل، ونية المعمول له، نية العمل هذه كل الناس يعمل، ينوون، هذا يأتي يصلي الظهر ينوي صلاة الظهر، لكن نية المعمول له أنه يريد بذلك التقرب إلى الله عز وجل، هذا كثيرًا ما يغفل الإنسان عنه، يصده الشيطان عن ذلك.
هنا -بعد- نية ثالثة؛ نية المتابعة للرسول ﷺ، نية المتابعة، فكل هذه المعاني -نسأل الله أن يعفو عنا- هذه تغيب عنا كثيرًا، لا نية امتثال الأمر، وهي نية المعمول له، ولا نية المتابعة للرسول ﷺ؛ لأنك إذا نويت أو إذا شعرت بهذه النية أحببت الله عز وجل وأحببت الرسول، وشعرت بأنك عبد لله متبع لرسول الله، وتجد للعبادة طعمًا لا تجده إذا أتيت بها على سبيل العادة، ولهذا نقول: عادات الموفَّق عبادات، وعبادات الغافل عادات، إي نعم (...).
* طالب: (...).
* الشيخ: (مَن)؟
* الطالب: (مَن) الموصولة (...).
* الشيخ: ما فيها رأي آخر؟
* الطالب: أو شرطية.
* الشيخ: أو شرطية.
ما المراد بقوله: ﴿أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ﴾ [الزمر ١٩] الخطاب لمن؟
* طالب: الخطاب للنبي ﷺ.
* الشيخ: نعم.
* الطالب: الاستفهام للنفي.
* الشيخ: للنفي، كالأول.
* الطالب: نعم.
* الشيخ: هل الهمزة الثانية أصلية مؤسسة أو زائدة للتوكيد؟
* طالب: زائدة.
* الشيخ: ما فيها رأي آخر؟
* الطالب: فيها رأي آخر، جملة (...) أو جعلنا (...) خاصة (...).
* الشيخ: أحسنت، قوله: ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ﴾ هذا الاستدراك أيش فائدته؟
* طالب: العطف.
* الشيخ: إي نعم، العطف، لكن الاستدراك من أي شيء؟
* الطالب: الاستدراك، بَيَّن أن العذاب يحصل لبعض الناس فاستدرك بهذه الآية، يخرج الناس..
* الشيخ: يعني لما قال مثلًا: ﴿أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ﴾ [الزمر ١٩]، استدرك فقال: ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ [الزمر ٢٠] يعني: أنهم لم يحق عليهم، ما إعراب ﴿الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾؟
* طالب: ﴿الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ الإعراب؟
* الشيخ: إي نعم ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾.
* الطالب: ﴿اتَّقَوْا﴾؟
* الشيخ: ﴿الَّذِينَ﴾.
* الطالب: ﴿الَّذِينَ﴾ اسم من أسماء الإشارة.
* الشيخ: ﴿الَّذِينَ﴾ اسم إشارة؟!
* الطالب: ﴿لَكِنِ﴾..
* الشيخ: ﴿لَكِن﴾ حرف استدراك، لكِنَّ ﴿الَّذِينَ﴾؟
* الطالب: ﴿الَّذِينَ﴾ اسم إشارة.
* الشيخ: اسم الإشارة ﴿الَّذِينَ﴾؟! اسم الإشارة: هذا هذه هؤلاء.
* الطالب: ﴿الَّذِينَ﴾..
* الشيخ: ما قرأت النحو؟
* طالب: ﴿الَّذِينَ﴾ اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ.
* الشيخ: نعم ﴿الَّذِينَ﴾ اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ، أين خبره؟ خبر ﴿الَّذِينَ﴾؟
* طالب: ﴿اتَّقَوْا﴾.
* الشيخ: لا، ﴿اتَّقَوْا﴾ صلة الموصول.
* الطالب: (...).
* الشيخ: وينه؟ الجار والمجرور خبرها ولّا لا؟
* طالب: (...).
* الشيخ: الجار والمجرور، الظاهر أنه معارض، نعم.
* طالب: جملة: ﴿لَهُمْ غُرَفٌ﴾ [الزمر ٢٠].
* الشيخ: جملة ﴿لَهُمْ غُرَفٌ﴾ جار ومجرور خبر مقدم لـ(غرف).
* نأخذ الفوائد، قال الله تعالى: ﴿وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ﴾ [الزمر ٢٠]، ﴿وَعْدَ﴾ يقول المؤلف: (منصوب بفعل مقدر) أي: وُعِدوا وعد الله، أو على رأي آخر محتمل تقدير: أُنْجِزُوا وعد الله، يعني: أنجز الله لهم وعده وعلى هذا فيكون منصوبًا بفعل مقدر من غير فعله، أما رأي المؤلف فهو مصدر محذوف العامل.
يقول -رحمه الله- قال الله تعالى: ﴿وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ﴾، قال المفسر: (وعده) فأفاد بأن (أل) هنا نائبة مناب الضمير، وأن الميعاد بمعنى الوعد، وقوله: ﴿لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ﴾ أي أنه لا يخلف ما وعده بشيء آخر؛ لأن (أخلف) تدل على إبدال شيء بشيء، كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ﴾ [سبأ ٣٩]، بخلاف (خَلَف) فإنها تدل على خلف شيء بشيء، فيُقال: خَلَفَه؛ أي: أتى بعده، أخلفه: بمعنى جعل له بديلًا، ولهذا يقول المصاب: اللهم آجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها، يعني أعطني بدلًا عنها.
وقوله: ﴿لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ﴾ إنما كان كذلك لكمال صدقه وكمال قدرته؛ لأن إخلاف الميعاد إما أن يكون لكذب الواعد وإما أن يكون لعجزه، والله عز وجل منزه عن هذا وهذا، فهو كامل الصدق، كامل القدرة.
في هذه الآية: ﴿أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ﴾ إلى آخره فيها دليل، * من فوائدها: أن من حقت عليه كلمة العذاب فلا هادي له، ويشهد لهذا قوله تعالى: ﴿مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [الأعراف ١٨٦].
* ومن فوائدها: إثبات كلام الله؛ لأن الذي يقضي بالعذاب هو الله عز وجل لا غيره، فكلمة العذاب صادرة من الله، وفي هذا إثبات الكلام لله عز وجل، والقرآن كله -كل حرف منه- فيه إثبات كلام الله، لماذا؟
* طالب: (...).
* الشيخ: لا، في كل حرف من القرآن إثبات كلام الله.
* طالب: لأنه باللفظ والصوت والحرف.
* الشيخ: لأنه كلام الله، فكل حرف منه فهو كلام الله، إذ إن كلام الله حرف وصوت.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة أن النبي ﷺ لا يستطيع أن يُنقذ مَن في النار، وإذا كان هذا للرسول ﷺ فغيره من باب أولى.
* ومن فوائدها أن من حقت عليه كلمة العذاب فإنه في النار؛ لأننا قلنا: إن الظاهر هنا نائب مناب المضمر، وأن التقدير: أفانت تنقذه؟
* ومن فوائد هذه الآية: بلاغة القران، وشدة زواجره، حيث يأتي بمثل هذا الأسلوب الشديد الذي يصرم القلب الواعي الحي ﴿أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ﴾ [الزمر ١٩]، أسلوب شديد جدًّا، ولا شك أن الأسلوب الشديد في موضعه يعتبر من البلاغة؛ لأن البلاغة أن يأتي الكلام مطابقًا لمقتضى الحال، أي لما تقتضيه الحال من لين وشدة وتطويل وإيجاز.
* ومن فوائد هذه الآية: إثبات النار، والنار هي الدار الثانية التي يستقر فيها الإنس والجن، وهي دار من اعتدى وكفر، وهي موجودة الآن، وستبقى أبد الآبدين.
ثم قال تعالى: ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ﴾ إلى آخره، في هذا بيان علو منزلة المتقين؛ لأن الاستدراك هنا كأنه انتشال لهم مما سبق ذكره من الوعيد الشديد لهؤلاء الذين حقت عليهم كلمة العذاب.
* ومن فوائدها أن التقوى سبب لدخول الجنة لقوله: ﴿لَهُمْ غُرَفٌ﴾ إلى آخره.
* ومن فوائدها أن تقواهم لله له سبب سابق ولاحق، فالربوبية الخاصة في قوله: ﴿رَبَّهُمْ﴾ اقتضت أن يتقوه، وهم يتقون ربهم الذي سيثيبهم، فالتقوى لها سبب، وهو عنايه الله عز وجل بهم، هذا سابق، ولها سبب لاحق، وهو ما يرجونه من ثواب الله عز وجل، كل هذا يُحمل على التقوى، فهو ربهم حيث وفقهم للتقوى، وربهم حيث أثابهم عليها.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة أن منازل الجنة غُرَف مبنية بعضها فوق بعض لقوله: ﴿لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ﴾ [الزمر ٢٠]، وهل هذه الغرف تختلف بحسب العامل؟ الجواب: نعم، «وقد بَيَّن الرسول عليه الصلاة والسلام أن جنتين من جنات الخلد من ذهب آنيتهما وما فيهما وأن جنتين من فضه آنيتهما وما فيهما»[[أخرج البخاري (٤٨٧٨) ومسلم (١٨٠ / ٢٩٦) بسنديهما عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن النبي ﷺ قال: «جنتان من فضة آنيتهما، وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما...». الحديث.]].
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة تمام النعيم، حيث كانت هذه الغرف تجري من تحتها الأنهار، وفيها الأشجار وفيها من كل ما يتمناه الإنسان، بل فوق ذلك.
* من فوائد الآية الكريمة أن هذا النعيم ثابت بوعد الله لقوله تعالى: ﴿وَعْدَ اللَّهِ﴾.
* ومن فوائدها إثبات أن الله لا يخلف الميعاد لكمال صدقه وقدرته، ففيها إثبات كمال الصدق وإثبات كمال القدرة.
{"ayahs_start":16,"ayahs":["لَهُم مِّن فَوۡقِهِمۡ ظُلَلࣱ مِّنَ ٱلنَّارِ وَمِن تَحۡتِهِمۡ ظُلَلࣱۚ ذَ ٰلِكَ یُخَوِّفُ ٱللَّهُ بِهِۦ عِبَادَهُۥۚ یَـٰعِبَادِ فَٱتَّقُونِ","وَٱلَّذِینَ ٱجۡتَنَبُوا۟ ٱلطَّـٰغُوتَ أَن یَعۡبُدُوهَا وَأَنَابُوۤا۟ إِلَى ٱللَّهِ لَهُمُ ٱلۡبُشۡرَىٰۚ فَبَشِّرۡ عِبَادِ","ٱلَّذِینَ یَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقَوۡلَ فَیَتَّبِعُونَ أَحۡسَنَهُۥۤۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ هَدَىٰهُمُ ٱللَّهُۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمۡ أُو۟لُوا۟ ٱلۡأَلۡبَـٰبِ","أَفَمَنۡ حَقَّ عَلَیۡهِ كَلِمَةُ ٱلۡعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِی ٱلنَّارِ","لَـٰكِنِ ٱلَّذِینَ ٱتَّقَوۡا۟ رَبَّهُمۡ لَهُمۡ غُرَفࣱ مِّن فَوۡقِهَا غُرَفࣱ مَّبۡنِیَّةࣱ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُۖ وَعۡدَ ٱللَّهِ لَا یُخۡلِفُ ٱللَّهُ ٱلۡمِیعَادَ"],"ayah":"وَٱلَّذِینَ ٱجۡتَنَبُوا۟ ٱلطَّـٰغُوتَ أَن یَعۡبُدُوهَا وَأَنَابُوۤا۟ إِلَى ٱللَّهِ لَهُمُ ٱلۡبُشۡرَىٰۚ فَبَشِّرۡ عِبَادِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق