الباحث القرآني
﴿والَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطّاغُوتَ﴾ إلَخْ، قالَ ابْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتْ في ثَلاثَةِ نَفَرٍ كانُوا في الجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، زِيدِ ابْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وسَلْمانَ، وأبِي ذَرٍّ، وقالَ ابْنُ إسْحاقَ: أُشِيرَ بِها إلى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وسَعْدِ بْنِ أبِي وقّاصٍ، وسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، والزُّبَيْرِ، وذَلِكَ أنَّهُ لَمّا أسَلَمَ أبُو بَكْرٍ سَمِعُوا ذَلِكَ فَجاؤُوهُ، وقالُوا: أسْلَمْتَ؟ قالَ: نَعَمْ، وذَكَّرَهم بِاللَّهِ تَعالى، فَآمَنُوا بِأجْمَعِهِمْ، فَنَزَلَتْ فِيهِمْ، وهي مُحْكَمَةٌ في النّاسِ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، والطّاغُوتُ فَعَلُوتٌ مِنَ الطُّغْيانِ، كَما قالُوا: لافاعُولٌ، كَما قِيلَ بِتَقْدِيمِ اللّامِ عَلى العَيْنِ نَحْوَ: صاعِقَةٍ وصاقِعَةٍ، ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ الِاشْتِقاقُ، وأنَّ طَوَغَ وطَيَغَ مُهْمَلانِ.
وأصْلُهُ طَغَيُوتٌ، أوْ طَغَوُوتٌ مِنَ الياءِ، أوِ الواوِ، لِأنَّ طَغى يَطْغى ويَطْغُو كِلاهُما ثابِتانِ في العَرَبِيَّةِ، نَقَلَهُ الجَوْهَرِيُّ، ونَقَلَ أنَّ الطُّغْيانَ والطَّغَوانَ بِمَعْنًى، وكَذا الرّاغِبُ، وجَمْعُهُ عَلى الطَّواغِيتِ يَدُلُّ عَلى أنَّ الجَمْعَ بُنِيَ عَلى الواوِ، وقَوْلُهُمْ: مِنَ الطُّغْيانِ لا يُرِيدُونَ بِهِ خُصُوصَ الياءِ، بَلْ أرادُوا المَعْنى، وهو عَلى ما في الصِّحاحِ: الكاهِنُ والشَّيْطانُ وكُلُّ رَأْسٍ في الضَّلالِ، وقالَ الرّاغِبُ: هو عِبارَةٌ عَنْ كُلِّ مُتَعَدٍّ، وكُلِّ مَعْبُودٍ مِن دُونِ اللَّهِ تَعالى، وسُمِّيَ بِهِ السّاحِرُ والكاهِنُ والمارِدُ مِنَ الجِنِّ والصّارِفُ عَنِ الخَيْرِ، ويُسْتَعْمَلُ في الواحِدِ والجَمْعِ.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ في هَذِهِ السُّورَةِ: لا يُطْلَقُ عَلى غَيْرِ الشَّيْطانِ، وذَكَرَ أنَّ فِيهِ مُبالَغاتٍ مِن حَيْثُ البِناءُ، فَإنَّ صِيغَةَ فَعَلُوتٍ لِلْمُبالَغَةِ، ولِذا قالُوا: الرَّحَمُوتُ الرَّحْمَةُ الواسِعَةُ، ومِن حَيْثُ التَّسْمِيَةُ بِالمَصْدَرِ، ومِن حَيْثُ القَلْبُ، فَإنَّهُ لِلِاخْتِصاصِ كَما في الجاهِ، وقَدْ أطْلَقَهُ في النِّساءِ عَلى كَعْبِ بْنِ الأشْرَفِ، وقالَ: سُمِّيَ طاغُوتًا، لِإفْراطِهِ في الطُّغْيانِ، وعَداوَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، أوْ عَلى التَّشْبِيهِ بِالشَّيْطانِ، فَلَعَلَّهُ أرادَ: لا يُطْلَقُ عَلى غَيْرِ الشَّيْطانِ عَلى الحَقِيقَةِ، وكَأنَّهُ جَعَلَ كَعْبًا عَلى الأوَّلِ مِنَ الوَجْهَيْنِ مِن شَياطِينِ الإنْسِ، وفي الكَشْفِ: كَأنَّهُ لَمّا رَآهُ مَصْدَرًا في الأصْلِ مَنقُولًا إلى العَيْنِ كَثِيرَ الِاسْتِعْمالِ في الشَّيْطانِ حَكَمَ بِأنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِ بَعْدَ النَّقْلِ مَجازٌ في الباقِي لِظُهُورِ العَلاقَةِ، إمّا اسْتِعارَةٌ، وإمّا نَظَرٌ إلى تَناسُبِ المَعْنى، والَّذِي يَغْلِبُ عَلى الظَّنِّ أنَّ الطّاغُوتَ في الأصْلِ مَصْدَرٌ نُقِلَ إلى البالِغِ الغايَةَ في الطُّغْيانِ، وتَجاوُزِ الحَدِّ، واسْتِعْمالُهُ في فَرْدٍ مِن هَذا المَفْهُومِ العامِّ شَيْطانًا كانَ أوْ غَيْرَهُ يَكُونُ حَقِيقَةً، ويَكُونُ مَجازًا عَلى ما قَرَّرُوا في اسْتِعْمالِ العامِّ في فَرْدٍ مِن أفْرادِهِ كاسْتِعْمالِ الإنْسانِ في زَيْدٍ، وشُيُوعُهُ في الشَّيْطانِ لَيْسَ إلّا لِكَوْنِهِ رَأْسَ الطّاغِينَ، وفَسَّرَهُ هُنا بِالشَّيْطانِ مُجاهِدٌ، ويَجُوزُ تَفْسِيرُها بِالشَّياطِينِ جَمْعًا عَلى ما سَمِعْتُ عَنِ الرّاغِبِ، ويُؤَيِّدُهُ قِراءَةُ الحَسَنِ ”اجْتَنَبُوا الطَّواغِيتَ“، ﴿أنْ يَعْبُدُوها﴾ بَدَلُ اشْتِمالٍ مِنَ الطّاغُوتِ، وعِبادَةُ غَيْرِ اللَّهِ تَعالى عِبادَةٌ لِلشَّيْطانِ، إذْ هو الآمِرُ بِها والمُزَيِّنُ لَها، وإذا فُسِّرَ الطّاغُوتُ بِالأصْنامِ فالأمْرُ ظاهِرٌ، ﴿وأنابُوا إلى اللَّهِ﴾ وأقْبَلُوا إلَيْهِ سُبْحانَهُ مُعْرِضِينَ عَمّا سِواهُ إقْبالًا كُلِّيًّا، ﴿لَهُمُ البُشْرى﴾ بِالثَّوابِ مِنَ اللَّهِ تَعالى عَلى ألْسِنَةِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ - أوِ المَلائِكَةِ عِنْدَ حُضُورِ المَوْتِ وحِينَ يُحْشَرُونَ، وبَعْدَ ذَلِكَ.
﴿فَبَشِّرْ عِبادِ﴾ ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أحْسَنَهُ﴾ مَدْحٌ لَهم بِأنَّهم نُقّادٌ في الدِّينِ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الحَسَنِ، والأحْسَنِ، والفاضِلِ والأفْضَلِ، فَإذا اعْتَرَضَهم أمْرانِ واجِبٌ ونَدْبٌ اخْتارُوا الواجِبَ، وكَذَلِكَ المُباحُ والنَّدْبُ.
(p-253)وقِيلَ: يَسْتَمِعُونَ أوامِرَ اللَّهِ تَعالى فَيَتَّبِعُونَ أحْسَنَها نَحْوَ القِصاصِ والعَفْوِ والِانْتِصارِ والإغْضاءِ والإبْداءِ والإخْفاءِ، لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأنْ تَعْفُوا أقْرَبُ لِلتَّقْوى﴾ ﴿وإنْ تُخْفُوها وتُؤْتُوها الفُقَراءَ فَهو خَيْرٌ لَكُمْ﴾ والفَرْقُ بَيْنَ الوَجْهَيْنِ أنَّ هَذا أخَصُّ لِأنَّهُ مَخْصُوصٌ بِأوامِرَ فِيها تَخْيِيرٌ بَيْنَ راجِحٍ وأرْجَحَ، كالعَفْوِ والقِصاصِ مَثَلًا، كَأنَّهُ قِيلَ: يَتَّبِعُونَ أحْسَنَ القَوْلَيْنِ الوارِدَيْنِ في مُعَيَّنٍ، وفي الأوَّلِ يَتَّبِعُونَ الأحْسَنَ مِنَ القَوْلَيْنِ، مُطْلَقًا، كالإيجابِ بِالنِّسْبَةِ إلى النَّدْبِ مَثَلًا.
وعَنِ الزَّجّاجِ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ وغَيْرَهُ فَيَتَّبِعُونَ القُرْآنَ. وقِيلَ: يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ مِمَّنْ كانَ فَيَتَّبِعُونَ أوْلاهُ بِالقَبُولِ، وأرْشَدَهُ إلى الحَقِّ، ويَلْزَمُ مِن وصْفِهِمْ بِذَلِكَ أنَّهم يُمَيِّزُونَ القَبِيحَ مِنَ الحَسَنِ، ويَجْتَنِبُونَ القَبِيحَ، وأُرِيدَ بِهَؤُلاءِ العِبادُ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا وأنابُوا لا غَيْرُهُمْ، لِئَلّا يَنْفَكَّ النَّظْمُ، فَإنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فَبَشِّرْ﴾ مُرَتَّبٌ عَلى قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿لَهُمُ البُشْرى﴾ ووَضَعَ الظّاهِرَ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ لِيُشَرِّفَهم تَعالى بِالإضافَةِ إلَيْهِ، ولِتَكْرِيرِ بَيانِ الِاسْتِحْقاقِ، ولِيَدُلَّ عَلى أنَّهم نَقّادُونَ حِرْصًا عَلى إيثارِ الطّاعَةِ ومَزِيدِ القُرْبِ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى، وفِيهِ تَحْقِيقٌ لِلْإنابَةِ، وتَتْمِيمٌ حَسَنٌ، وقِيلَ: الوَقْفُ عَلى ”عِبادِي“، فَيَكُونُ الَّذِينَ مُبْتَدَأً، خَبَرُهُ جُمْلَةُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ﴾ أيْ لِدِينِهِ، والكَلامُ اسْتِئْنافٌ بِإعادَةِ صِفَةِ مَنِ اسْتُؤْنِفَ عَنْهُ الحَدِيثُ، وما تَقَدَّمَ أرْجَحُ لِما سَلَفَ مِنَ الفَوائِدِ مِن إقامَةِ الظّاهِرِ مَقامَ المُضْمَرِ، والتَّتْمِيمِ، فَإنَّ ذَلِكَ دُونَ الوَصْفِ لا يَتِمُّ، ولِأنَّ مُحَرِّكَ السُّؤالِ المُجابِ بِالجُمْلَةِ بَعْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَيَتَّبِعُونَ أحْسَنَهُ﴾ أقْوى، وذَلِكَ الأصْلُ في حُسْنِ الِاسْتِئْنافِ، ﴿وأُولَئِكَ هم أُولُو الألْبابِ﴾ أيْ هم أصْحابُ العُقُولِ السَّلِيمَةِ عَنْ مُعارَضَةِ الوَهْمِ ومُنازَعَةِ الهَوى المُسْتَحِقُّونَ لِلْهِدايَةِ لا غَيْرُهُمْ، وفي الآيَةِ دِلالَةٌ عَلى حَطِّ قَدْرِ التَّقْلِيدِ المَحْضِ، ولِذا قِيلَ:
؎شَمِّرْ وكُنْ في أُمُورِ الدِّينِ مُجْتَهِدًا ولا تَكُنْ مِثْلَ عِيرٍ قُيِّدَ فانْقادا
واسْتُدِلَّ بِها عَلى أنَّ الهِدايَةَ تَحْصُلُ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعالى وقَبُولِ النَّفْسِ لَها، كَما ذَهَبَ إلَيْهِ الأشاعِرَةُ،
{"ayahs_start":17,"ayahs":["وَٱلَّذِینَ ٱجۡتَنَبُوا۟ ٱلطَّـٰغُوتَ أَن یَعۡبُدُوهَا وَأَنَابُوۤا۟ إِلَى ٱللَّهِ لَهُمُ ٱلۡبُشۡرَىٰۚ فَبَشِّرۡ عِبَادِ","ٱلَّذِینَ یَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقَوۡلَ فَیَتَّبِعُونَ أَحۡسَنَهُۥۤۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ هَدَىٰهُمُ ٱللَّهُۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمۡ أُو۟لُوا۟ ٱلۡأَلۡبَـٰبِ"],"ayah":"وَٱلَّذِینَ ٱجۡتَنَبُوا۟ ٱلطَّـٰغُوتَ أَن یَعۡبُدُوهَا وَأَنَابُوۤا۟ إِلَى ٱللَّهِ لَهُمُ ٱلۡبُشۡرَىٰۚ فَبَشِّرۡ عِبَادِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق