الباحث القرآني
ثم قال الله سبحانه وتعالى: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ [فاطر ٤٤]. الهمزة هنا للاستفهام، والمراد به التوبيخ والتقريع، وهذه الهمزة الاستفهامية هل هي داخلة على الجملة الموجودة المذكورة أو على جملة محذوفة يعينها السياق؟
في هذا قولان لأهل العلم بالنحو؛ فمنهم من يقول: إنها داخلة على هذه الجملة المذكورة، وعلى هذا القول يقولون: إن التقدير: وألم يسيروا، فيجعلون الواو مُقدَّمة على الهمزة؛ لأنه لا يمكن أن تُجعل الهمزة مُقدَّمة على الواو، والواو حرف عطف تقتضي معطوفًا عليه، فيقولون: إن الهمزة متأخرة والواو حرف عطف، وهذه الجملة معطوفة على ما سبق، وهذا الوجه لا شك أنه أسهل وأيسر؛ إذ لا يتكلف الإنسان فيه العناء في ذلك الشيء المحذوف الْمُقدَّر وهو القول الثاني أن الهمزة داخلةٌ على محذوف يعينه السياق، ففي مثل هذه الآية نقول: تقدير الكلام: أَغَفَلوا ولم يسيروا في الأرض أو كلمةً نحوها.
وهذا التقدير قد يكون سهلًا في بعض المواضع بمعنى أن بعض المواضع يكون المعنى فيها ظاهرًا، ويمكنك بكل سهولة أن تُقدِّر ذلك المحذوف، لكن أحيانًا يصعب عليك أن تُقدِّر ذلك المحذوف؛ لاحتمال السياق لأوجه متعددة، في هذا نقول: إن القول الثاني أو الثاني ولَّا الأول؟ الثاني باعتبار الغالب، أن القول الثاني أو الآخر، نقول: إن القول الآخر أقرب وأسهل أن نجعل الواو حرف عطف، والجملة هذه معطوفة على ما سبق، والأصل: تقديم ذلك الحرف العاطِف على الجملة، فالتقدير وألم يسيروا.
وقوله: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ السير هنا هل هو سير القلوب أو سير الأقدام أو كلاهما؟ نقول: الأولى أن يقال: إنه شامل فيكون سير القلوب وسير الأقدام، أما سير القلوب فهو بالنظر في تاريخ الأمم السابقة، وما جرى عليهم، وما جرى لأهل الخير الآمرين بالقسط، فيسير الإنسان بقلبه في أرجاء العالم وهو جالس على كرسيه لا يتحرك، وأما السير البدني، أو السير بالأقدام فهو أن يتقدم الإنسان إلى هذه المواضع ليعتبر، ومن ذلك قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «زُورُوا الْقُبُورَ؛ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْآخِرَةَ»[[أخرجه أبو داود (٣٢٣٥)، والترمذي (١٠٥٤)، والنسائي (٥٦٥١) من حديث بريد بن الحصيب.]]. فإن زيارة القبور سيرٌ بالأقدام، يذهب الرجل إلى المقبرة، ويقف ويشاهد هذه القبور ويعتبر؛ هؤلاء القوم الذين كانوا أشد منه، قوة وكانوا أكثر منه مالًا، ومع ذلك آلوا إلى ما آلوا إليه حتى يعرف أنه سوف يؤول إلى ما آلَ إليه هؤلاء، طالت المدة أم قصرت.
إذن السير في الأرض يكون بالقلب، ويكون بالقدم، أيهما أنفع للمرء السير بالقلب أو السير بالقدم؟ السير بالقلب أشمل وأهون؛ لأنه بإمكان الإنسان أن يطوف الدنيا كلها في ساعة واحدة وأسهل؛ السير بالقدم أشد تأثيرًا؛ لأنه يُشاهد، وما راءٍ كمن سمع؛ ولهذا «أمر النبي عليه الصلاة والسلام إذا دخلنا على ديار المعذبين أألا ندخل إلا ونحن باكون أن يصيبنا ما أصابهم»[[متفق عليه؛ البخاري (٤٣٣)، ومسلم (٢٩٨٠ / ٣٨) من حديث عبد الله بن عمر.]]. حتى نعتبر ونصحح المسير.
﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ ﴿فِي﴾ هنا قال العلماء: إنها بمعنى (على)، ولا تصح أن تكون للظرفية لماذا؟ لأن الظرفية تقتضي أن يكون السائر في جوف الظرف، ومعلومٌ أن السائر في الأرض لا يسير في جوف الأرض، هل هو يفتح نفقًا ليسير فيه؟ لا، يسير على ظهرها، قالوا: فـ﴿فِي﴾ بمعنى (على)، ونظيرها قوله تعالى: ﴿وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾ [طه ٧١] أي: على جذوع النخل.
وقوله: ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ يحتمل أن يُراد بها الجنس، ويحتمل أن يراد بها العهد (أل) هنا، أن تكون جنسية أو عهدية، فعلى الأول يكون المراد السير في جنس الأرض التي أُصيبت بغضب، والتي لم تُصَبْ، وعلى الثاني يكون المراد بالأرض التي أُصِيبت بالغضب، فتكون (أل) هنا للعهد الذهني أو الذكري؟ العهد الذهني؛ لأن العهد الذكري لا بد أن يكون هناك مذكور تعود عليه (أل)، أما إذا لم يكن مذكور فهو عهدٌ ذهني.
وقوله: ﴿فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [فاطر ٤٤] ﴿فَيَنْظُرُوا﴾ الفاء هنا قيل: إنها عاطفة، وقيل: إنها سببية، فعلى أنها عاطفة تكون في محل جزم؛ أي: يكون الفعل بعدها مجزومًا، وعلى أنها سببية يكون الفعل بعدها منصوبًا، فعلى كونها سببية يكون التقدير: أو لم يسيروا في الأرض فبسبب سيرهم ينظروا، وعلى أنها عاطفة يكون المعنى: أو لم يسيروا في الأرض ولم ينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم.
والنظر هنا هل هو نظر القلب أم نظر العين؟
* طالب: الأمران.
* الشيخ: إذا قلنا: إن السير سير القدم فالنظر نظر العين، وإذا قلنا: إن السير سير القلب فالنظر نظر القلب؛ إذن تكون شاملةً للأمرين حسب ما نُفَسِّر السير فيما سبق.
﴿فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ هذا الاستفهام الجملة الاستفهامية علَّقت (ينظروا) عن العمل؛ يعني: فينظروا كيف كان عاقبتهم؛ يعني أي عاقبة كانت لهم، هل نُعِّموا وأُكْرِموا أو عُذِّبوا وأُهْلِكوا، انظروا، فإذا نظر الإنسان العاقل فسوف يعتبر، ويقيس الحاضر على الغائب.
﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ﴾ عاقبة الشيء مآله ﴿الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ ما هي العاقبة للذين من قبلهم؟ الهلاك، عاقبتهم الهلاك؛ ولهذا قال الله تعالى: ﴿وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [الصافات ١٣٧، ١٣٨]، فانظروا إلى آثارهم ماذا كانت؟ كانت الدمار، فإذا كانت الدمار وسببه التكذيب والاستكبار فإن السبب الذي كان فيما سبق مؤديًا إلى هذا الهلاك فإنه سيكون مؤديًا إليه فيما لحق؛ إذ لا فرق.
قال الله تعالى: ﴿وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ [فاطر ٤٤] (كانوا) الضمير يعود على مَنْ؟ على السابقين.
﴿أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ يعني أقوى منهم قوة، ومع ذلك لم تنفعهم قوتهم ولم تمنعهم، أُهْلِكوا، وانظر إلى قوم عاد ﴿مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾ [فصلت ١٥]. ويش قال الله تعالى؟ ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ [فصلت ١٥]، وكانت عادٌ من أقوى الأمم أجسامًا وصلابةً وعزمًا حتى أنهم تحدوا، قالوا: ﴿مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾ [فصلت ١٥] فقال الله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ وأهلكهم بألطف الأشياء أهلكهم بالريح، قال فرعون: ﴿وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي﴾ [الزخرف ٥١]، فافتخر بجريان الأنهار وهي المياه من تحته فأُهْلِك بالغرق؛ بالماء الذي كان يفتخر به، فالإنسان العاقل إذا رأى حال هذه الأمم وقوتها، وأن هذا لم ينفعهم ولم يمنعهم من عقاب الله فلا بد أن يعتبر.
قال: ﴿وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ الواو هنا في قوله: ﴿وَكَانُوا﴾ يحتمل أن تكون عاطفة، ويحتمل أن تكون للحال، والتقدير: وقد كانوا أشد منهم قوة فأهلكهم الله بتكذيبهم رسلهم ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ﴾ [فاطر ٤٤].
هنا إذا تأمل الإنسان الآية يقول: إن الله سبحانه وتعالى لم يذكر عاقبة هؤلاء المكذبين في الآية: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾، فلماذا لم يذكرها؟ اعتمادًا على هذا السائر الذي يسير فينظر؛ يعني فمعناه: احكم أنت بنفسك على هؤلاء، فلا حاجة إلى أن أُذكِّرك بأن الله أهلكهم؛ لأنك سوف تحكم على هذا بما تراه من آثارهم.
(﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ﴾ قال: يسبقه ويفوته) ﴿فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا﴾ قال: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ﴾ اللام هنا يُسميها النحويون لام الجحود، وهو النفي؛ لأنها وقعت بعده؛ أي: بعد النفي، وضابطها أي ضابط لام الجحود أن تقع بعد كون منفي.
وإذا أردنا أن نقربها إلى المبتدئ نقول: أن تقع بعد (ما كان) أو (لم يكن) ﴿لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ [النساء ١٣٧]. اللام نقول: هي لام الجحود ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾ [الأنفال ٣٣] نقول: اللام لام الجحود، فإذا وقعت اللام بعد (ما كان)، أو (لم يكن) داخلةً على الفعل المضارع فإنها تنصب الفعل المضارع أو ينصبه (أن) مُقدرةً بعد اللام على الخلاف، إنما نُسمي هذه اللام لام الجحود، لكن الضابط الذي قلت أولًا -وهي الواقعة بعد كون منفي- أعم من قولنا هي المسبوقة بـ(ما كان) أو (لم يكن)، لماذا كان أعم؟ لأنه يمكن أن تأتي بعد (كائن)، تقول: لستُ بكائنٍ لأعذبك مثلًا، أو غير كائن ليقوم، وما أشبه ذلك، فإذا قلنا: بعد كون منفي كان أعم لكن إذا كنا نخاطب شخصًا مبتدئًا في النحو فقد يصعب عليه تصور كلمة (كون منفي)، فنقول له: إذا وقعت بعد (ما كان) أو (لم يكن) فهي لام الجحود، وتنصب الفعل المضارع إما بنفسها كما هو مذهب الكوفيين، وإما بـ(أن) مضمرةً بعد اللام.
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ﴾ ﴿مِنْ﴾ حرف جر زائد زائد، زائد في الإعراب وزائد في المعنى؛ أي أنه يزيد في المعنى، ما هي زيادة المعنى؟ توكيد النفي؛ يعني أن هذا النفي مؤكَّد.
وقوله: ﴿لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ﴾ إذا قلنا: ﴿مِنْ﴾ حرف جر زائد، فنُعرب ﴿شَيْءٍ﴾ على أنها فاعل مرفوع بضمة مقدرة على أيش؟
* طالب: الياء
* الشيخ: ﴿شَيْءٍ﴾ فاعل مرفوع بضمة مقدرة؟
* الطالب: على الهمزة على الألف.
* الشيخ: على الهمزة على الألف؟!
* الطالب: (...) على الهمزة.
* الشيخ: على الهمزة؟! ما علمنا أحدًا من الناس قال: مُقدَّرة على الهمزة، من يعرف الإعراب؟
* طالب: مقدرة على الياء.
* الشيخ: خطأ.
* الطالب: على آخره.
* الشيخ: على آخره.
* الطالب: منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد.
* الشيخ: إي، صح.
﴿مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ﴾ [فاطر ٤٤] قال المؤلف: (يسبقه ويفوته)، وهذا تفسيرٌ لا بأس ببعض اللوازم، كما قال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ [العنكبوت ٤]، ولكن العجز في الواقع هو عدم القدرة على الشيء، وهذا أولى من تفسير المؤلف، تقول: ما كان الله تعالى ليحول بينه وبين ما يريد عجزٌ في قدرته بل هو قادرٌ على كل شيء من إيجاد معدوم، أو إعدام موجود، أو تغيير حال، أو غير ذلك، فالله تعالى لا يُعجزه شيء لا في السماوات ولا في الأرض؛ لأن أمره عز وجل إذا أراد شيئًا أن يقول: (كن فيكون) بدون أي عمل، كلمة واحدة تجعل الشيء على حسب مراده تبارك وتعالى، فلا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض، وإذا كان لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض فإنه لن يعجز عن إهلاك المكذِّبين الذين كذبوا رسول الله ﷺ.
يقول: (﴿إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا﴾ أي: بالأشياء كلها ﴿قَدِيرًا﴾ عليها) الجملة موقعها مما قبلها أنها تعليل لما قال: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ﴾ [فاطر ٤٤] علل هذا الحكم المنفي بقوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا﴾ [فاطر ٤٤]، والعلم إدراك الشيء على ما هو عليه، والقدرة التمكن من الفعل بلا عجز، هذه القدرة، والقوة التمكن من الفعل بلا ضعف؛ فهي أخص من القدرة من وجه، وأعم منها من وجه آخر كما سنذكره.
ما وجه كونه عز وجل بعلمه وقدرته لا يعجزه شيء؟ لأن العاجز عن الشيء إما أن يكون لعدم علمه بالأسباب التي تغيرها به، وإما أن يكون لعدم قدرته، فلو تأملت عجز أي عاجز لوجدت السبب في عجزه إما أنه لا يعلم، وإما أنه لا يقدر، فلو قيل لرجل: نريد أن تصلح هذه الساعة الخربانة. قال: طيِّب أعطوني إياها، وهو ما يعرف أبدًا، ما درس يقدر يزينها ولَّا لا؟
* طلبة: لا، ما يقدر.
* الشيخ: كيف ما يقدر؟ عنده آلات للصناعة، وعنده قوة بدنية يقدر يصلحها ولا ما يقدر؟
* طلبة: ما يقدر.
* الشيخ: لماذا؟
* طلبة: لأنه ما عنده علم.
* الشيخ: لأن ما عنده علم، ما يقدر يصلحها، يمكن يفسدها أكثر.
فيه رجل آخر عنده علم وقد درس علم تصليح الساعات مثلًا لكن ما عنده قدرة بدنية مشلول، هل يمكن أن يصلحها؟ لا يمكن؛ لعدم القدرة، إذن انتفاء عجز الله عز وجل؛ لكمال علمه وكمال قدرته، وبهذا نعرف أنه لا يوجد نفيٌ محض في صفات الله، بل كل نفي في صفات الله فهو متضمن لثبوت كمال، لا يمكن أن يوجد نفيٌ محض؛ ولهذا لما نفى العجز بَيَّن السبب قال: ﴿إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا﴾ والله أعلم.
* * *
قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا..﴾ [فاطر ٤٢]. (...)
﴿فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [فاطر ٤٤] ما المراد بالسير هنا؟ (...).
السير في الأرض؟ قلبًا وقدمًا وجه الدلالة أن الله وَبَّخَ الذين لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم.
* ومن فوائدها: أنه ينبغي لنا أن ننظر إلى عاقبة السابقين نَظَرَ اعتبار بمآلهم حين كذبوا رسلهم، وليس اعتبارًا بقوتهم وصناعتهم وطرازهم وما أشبه ذلك، وإذا طبقنا هذا على واقع الناس اليوم الذين يذهبون إلى ديار ثمود وجدنا أنهم يذهبون إليها لا ليعتبروا بما صنع الله بهم من العقوبة لتكذيبهم الرسل ولكن لينظروا كيف كانت قوتهم وصناعتهم وزخارفهم وما أشبه ذلك، وهذا حرام لا يجوز أن يذهب الإنسان إلى ديار هؤلاء المكذبين لهذا الغرض؛ لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُعَذَّبِينَ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ»[[متفق عليه؛ البخاري (٤٣٣)، ومسلم (٢٩٨٠ / ٣٨) من حديث عبد الله بن عمر.]].
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن في التاريخ عبرًا يعتبر بها العاقل؛ لقوله: ﴿فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [فاطر ٤٤].
* ومن فوائد الآية: استعمال قياس الأولى؛ لقوله: ﴿وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾. فإذا كان الله تعالى أهلكهم مع كونهم أشد منهم قوة، فإن إهلاك هؤلاء من باب أولى.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن قوة البشر مهما عظمت لا تمنعهم من الله شيئًا؛ لقوله: ﴿فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ [فاطر ٤٤]؛ ولهذا لما قالت عاد: من أشد منا قوة؟ قيل لهم: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ [فصلت ١٥].
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن في السير في الأرض قلبًا أو قدمًا عبرة لا للمرسل إليهم بل هو للرسل أيضًا، فإن إهلاك المكذبين للرسل انتصارٌ لمن؟ للرسل، معلوم أن الله إذا أهلك عدوك فإنه انتصارٌ لك بلا شك.
* ومن فوائد الآية الكريمة: نفي العجز عن الله عز وجل؛ لقوله: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ﴾؛ لأن فيها نفي العجز عنه لكمال علمه وقدرته.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن من صفات الله تعالى ما يكون سلبيًّا؛ أي منفيًّا عن الله، وضابطه أن كل صفة نقص فهي منفية عن الله عز وجل، هذه قاعدة عامة، كما أن كل صفة كمال فهي ثابتة له، ولكن التفصيل لا بد فيه من دليل؛ لأن هذه القاعدة عامة لقوله: ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾ [النحل ٦٠] ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [الأعراف ١٨٠] لكن التفصيل بأن هذه الصفة المعينة ثابتة لله أو منتفية عنه لا بد فيها من دليل.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى لا ينفي شيئًا عن نفسه إلا لثبوت كمال ضده؛ لأنه لما قال: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ﴾ قال: ﴿إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا﴾ فيستفاد من ذلك أن كل صفة منفية عن الله لا يُراد بها مجرد النفي؛ لأن مجرد النفي ما فيه فائدة؛ إذ إن النفي المحض عدمٌ محض، والعدم ليس بشيء فضلًا عن أن يكون كمالًا، ولأن النفي قد يكون سببه العجز كما في قول الشاعر:
؎قُبَيِّلَةٌ لَا يَغْـــــــــدِرُونَبِــــــذِمَّـــــــةٍ ∗∗∗ وَلَا يَظْلِمُونَ النَّاسَ حَبَّةَخَرْدَلِ
هذا مدح ولَّا ذم؟ ذم؛ لأنهم لعجزهم ما يستطيعون يظلمون الناس، ولا يغدرون بالذمم، وقد يكون سببه عدم القابلية لا للكمال ولكن لأنه غير قابل لهذه الصفة كما لو قلت: إن جدار بيتنا لا يظلم، واحد يمدح بيته مثلًا يقول: إن جداره ما هو بيظلم أحدًا، صحيح؟
* طلبة: عدم القابلية.
* الشيخ: إي، هو صحيح لا يظلم أحدًا لكن لا لأنه عدل، كامل العدل لكن لأنه لا يقبل كلمة ظُلْم، فنفيها عنه كثبوتها له، حتى لو قلت: جدارٌ يظلم، ما أحد يصدق.
إذن صفات الله المنفية التي يسميها العلماء السلبية تتضمن كمال الضد؛ يعني لكمال علمه وقدرته لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض.
* ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات أن السماوات أكثر من واحدة؛ لوجود الجمع؛ لأنها جاءت بصيغة الجمع ﴿السَّمَاوَاتِ﴾، وهي سبع بنص القرآن والسُّنَّة، ﴿أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا﴾ [نوح ١٥] والسُّنَّة كذلك ظاهرة في أن السماوات السبع كقول النبي عليه الصلاة والسلام: «اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَمَا أَظْلَلْنَ»[[أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (٢٥٦٥)، وابن حبان في صحيحه (٢٧٠٩) من حديث صهيب بن سنان.]].
* ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات اسمين من أسماء الله وهما العليم والقدير، وما تضمناه من صفة أو حُكم؛ من صفة وهي العلم والقدرة، أو حكم وهو أنه يعلم ويقدر على كل شيء، إنه كان عليمًا قديرًا، ثم قال الله تعالى..
* طالب: (...).
* الشيخ: وهى؟
* الطالب: السير في الأرض (...).
* الشيخ: السير في الأرض للنزهة يعني؟
* الطالب: لا، للاعتبار (...).
* الشيخ: السير في الأرض للاعتبار لا بأس به، وإذا كانت مصلحته أكثر من نقصه كان محمودًا، وإن كان نقصه أكثر من مصلحته فإنه لا ينبغي، فمثلًا لو ذهب ينظر في آيات الله تعالى في الجبال الشاهقة، وفي الأنهار، وفي البحار، وما أشبه ذلك؛ فهذا حسن محمود، لكن إذا كان يكلف من النفقة أكثر مما ينتفع به الإنسان فإنه يُنهَى عنه؛ لأن في ذلك إضاعة المال، أما إذا كانت النفقة قليلة أو كان هذا الرجل ذا مال كثير لا يتضرر به ولكنه ينتفع به من الناحية الإيمانية، فلا بأس به.
{"ayah":"أَوَلَمۡ یَسِیرُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَیَنظُرُوا۟ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَكَانُوۤا۟ أَشَدَّ مِنۡهُمۡ قُوَّةࣰۚ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِیُعۡجِزَهُۥ مِن شَیۡءࣲ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَلَا فِی ٱلۡأَرۡضِۚ إِنَّهُۥ كَانَ عَلِیمࣰا قَدِیرࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق