الباحث القرآني
(...) لما ذكر حال المنافقين الذين يعجبك قولهم في الحياة الدنيا وهم ألدّ الخصام، والذين إذا تولوا سعوا في الأرض فسادًا، فأهلكوا الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد، ذكر حال قوم على ضدهم، وهكذا القرآن كما تقدم لنا مرارًا، القرآن مثاني تُثَنَّى فيه الأمور، فيؤتى بذكر الجنة ثم النار، وبذكر المتقين ثم الفجار، وهكذا لأجل أن يبقى الإنسان في روضة متنوعة ما يكلّ ولا يمَلّ، ثم ليبقَ الإنسان بين الخوف والرجاء، الخوف إذا رأى النار ووعيدَها وعقوبتها، والرجاء إذا رأى الجنة ونعيمها وثوابها، ثم يبقى ينظر إلى حال الناس جميعًا، أهل الخير وأهل الشر كأنهم أمامه في المرآة، بخلاف ما لو كانت السياقات واحدة، ثم انتهى الكلام عن أحوال هؤلاء كلهم، ثم ابتدأ بالكلام في أحوال الآخرين، فترتيب القرآن لا شكَّ أنه من لدن حكيم خبير سبحانه وتعالى، وأنه هو الموافق لإصلاح القلوب، ولهذا نرى أنه ليس من المستحسن، بل إنه من الذي نرى أنه مُحرَّم، هؤلاء الذين جمعوا آيات القرآن المتناسبة، جمعوا بعضها إلى بعض كما يوجد في تفصيل آيات القرآن الحكيم للذي كتب المعجم المفهرِس لآيات القرآن، المعجم المفهرس سليم لا بأس به، لكنه كتب كتابًا آخر تفصيل آيات القرآن الحكيم، وجمع آيات التوحيد جميعًا، وآيات الصلاة جميعًا، وآيات الزكاة جميعًا، وآيات المتقين جميعًا، إلى آخره، وقرآن مصحف لكنه مرتّب بحسب المعاني، هذا في الحقيقة لا يَرِد، ونرى أنه إلى التحريم أقرب؛ لأنه إخراج لكتاب الله سبحانه وتعالى عن ترتيبه الذي رُتّب عليه، والترتيب بين الآيات اجتهادي ولّا توقيفي؟
* الطلبة: توقيفي.
* الشيخ: توقيفي، هنا قال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ﴾ [البقرة ٢٠٤]، ثم قال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ﴾ [البقرة ٢٠٧]
* طالب: (...).
* الشيخ: هذا كتاب مصنف.
* طالب: جمَّع الآيات..
* الشيخ: إي.
* الطالب: جمَّع، بوَّب إلى آخر المصحف.
* الشيخ: إي إلى آخر المصحف.
* الطالب: أصل فيه كثير من التصانيف تخرج..
* الشيخ: فيه كثير من التصانيف مثلًا كما نرى في آيات الصلاة (...)الأحكام هذه ما فيها شيء.
* طالب: (...) القرآن (...).
* الشيخ: إيه هذا (...).
* طالب: (...).
* الشيخ: على كل حال لا يجوز إخراج القرآن يعني يُؤلَّف كله على هذا التفصيل إلا على ما جاء به كتاب الله.
* طالب: فيه الآن تفسير موضوعي، يعني كل موضوع يجمع جميع الآيات التي وردت في هذا الموضوع..
* الشيخ: ما فيه مانع هذا؛ لأنه مجزأ، يعني يأخذ الموضوع المتَّحِد ويحطه في كتاب مستقل، ما فيه شيء هذا، وما زال العلماء يفعلونه مثل كتاب تفسير آيات الأحكام للجصّاص وغيره موجودة والقرطبي، هذا جمع القرآن كله في مصحف، وخلّى ها الآيات هذه لحالة وهذه لحال وهذه لحال.
* طالب: كما لو أعاد ترتيبه.
* الشيخ: إن كان مرتبًا من جديد.
* الطالب: (...) القرآن (...).
* الشيخ: كل واحد يا أخي، ما دام إن القرآن كله موجود على هذا الترتيب، فمعنى ذلك أن فيه شبه اعتراض على الترتيب الإلهي.
* طالب: (...) إذا أراد أن يرجع يريد أن ينظر (...) مثل يجد شيء..
* الشيخ: هذه مشكلة.
* الطالب: لا بد (...).
* الشيخ: ما يخالف، نحن نقول: لو أنه قال باستثناء جزء في قصة موسى، وكتب كلمة واحدة في قصة موسى لا بأس، جزأها منفردة، لكن كونه يكتب جميعًا ومشكَّلًا كأنه مصحف (...) هذا لا يصح، ما يجوز، ويش معنى أنه توقيفي الترتيب؟
* الطالب: لا، هو أصلًا (...) لا أنه فعله على أنه قرآن.
* الشيخ: يعني ويش الفرق؟ تسمية فقط؟
* الطالب: لا، هو (...).
* الشيخ: لا يا أخي، ما أظن أبدًا (...).
* الطالب: هذا يسمونه التفصيل..
* الشيخ: إي، ما يجوز، اجعل مثلًا موضوعًا معينًا لا بأس، نوافقك في هذا، أما أن تُرتّب القرآن كله من أوله إلى آخره ترتبه على ما تريد أنت، فهذا حرام سمِّه ما شئت.
المهم قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ﴾ هذا هو القسيم الثاني، أول قسيم لقوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ﴾ فعلى هذا تكون (مِن) للتبعيض ﴿مِنَ النَّاسِ﴾، و(مَن) مبتدأ، والجار والمجرور قبله خبره، وقال بعض أهل النحو: إن (مِن) التبعيضية اسم؛ لأنها بمعنى (بعض)، وعليه فتكون هي مبتدأ، وتكون ﴿مَنْ يَشْرِي﴾ خبره.
وقوله: ﴿مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ﴾ أي: يبيعها؛ لأن (شَرَى) بمعنى (باع)، كقوله تعالى: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ﴾ [يوسف ٢٠]، شروه يعني باعوه بثمن بخس، أما (اشترى) فهي التي تأتي بمعنى ابتاع، فإذا جاءت التاء فهي للمشتري، للآخِذ، وإذا حُذفت التاء فهي للبائع المعطي.
﴿مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾، يعني ذاته، يعني يبيع نفسه، ﴿ابْتِغَاءَ﴾ مفعول من أجله، أي: طلب. ﴿مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾ أي: رضوانه، أي يبيع نفسه في طلَب رضا الله عز وجل، فيكون قد باع نفسَه مخلصًا لله عز وجل في هذا البيع.
ثم قال: ﴿وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾، كلمة ﴿مِنَ النَّاسِ﴾ هل تعني شخصًا معينًا أو هي عامة؟
قال بعض المفسرين: إنها تعني شخصًا معينًا وهو «صهيب الرومي لما أراد أن يهاجر من مكة منعه كفار مكة، وقالوا: ما يمكن تهاجر أبدًا إلا أن تدعَ لنا جميع ما تملك، فنحن نأذن لك بالهجرة؛ فوافق على ذلك، وأنقذ نفسه بالهجرة ابتغاء مرضاة الله »[[أخرجه ابن حبان (٧٠٨٢) من حديث أبي عثمان النهدي.]].
وقال بعض العلماء: بل هي عامة، وهم أكثر المفسرين، عامة لكل المؤمنين المجاهدين في سبيل الله، قالوا: ودليل ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾ [التوبة ١١١]، وهذا القول أصح؛ أنها للعموم، حتى لو صحَّ أن سبب نزولها قصة صهيب فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
قال الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ يعنى معناه أن هؤلاء الذي باعوا أنفسهم ابتغاء مرضاة الله فإن الله تعالى يشملهم برأفته؛ لقوله: ﴿وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾، قال العلماء: والرأفة أرقّ الرحمة، يعني أعلى درجات الرحمة في الرقة، إذن فهي رحمة في غاية ما يكون من الرقَّة فتكون رأفة، فمن أسماء الله تعالى الرؤوف، ومن صفاته الرأفة؛ لأن كل اسم من أسماء الله فهو دالّ على صفة أو صفتين أو أكثر كما مرّ.
وقوله: ﴿بِالْعِبَادِ﴾ (أل) هنا للعموم، فهي نائبة منابَ (كل)، أي: بكل العباد، والمراد بالعباد هنا من كانوا عبيدًا له بالمعنى القدَري لا بالمعنى الشرعي، فرأفة الله تعالى ورحمته شاملة لكل أحد، لكن مَن كان مؤمنًا حصلت له الرأفة الخاصة والعامَّة، ومن كان غير مؤمن فله الرأفة العامة، واعلم أن العبوديّة لها معنيان: خاص، وعام؛ والخاص له أخص وهو خاصّ الخاص، فمن العام قوله تعالى: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ [مريم ٩٣]، ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ [الحجر ٤٢]، على القول بأن المستثنى هنا متصل، وأما إذا قيل: إنه منقطع، فإن قوله: ﴿إِنَّ عِبَادِي﴾ من القسم الخاص.
وأما الخاص فمِثل قوله تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ [الفرقان ٦٣]، مَن المراد بهم، كل العباد؟ لا، عباد الرحمن المتصفون بهذه الصفات فيخرج من لم يتصف بها.
والذي أخص مثل قوله تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ﴾ [الفرقان ١] هذه عُبودية أخصّ عبودية الرِّسالة.
يقول الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ [البقرة ٢٠٨]، قوله: ﴿رَءُوفٌ﴾ عندي فيها قراءة ثانية وهي: ﴿رَءُفٌ﴾، بدون واو ﴿وَاللَّهُ رَءُفٌ بِالْعِبَادِ﴾.
يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [البقرة ٢٠٨]، ﴿السِّلْمِ﴾ فيه قراءتانِ: ﴿السَّلْمِ﴾، و﴿السِّلْمِ﴾، و﴿خُطُوَاتِ﴾ فيها قراءتان: ﴿خُطُوَات﴾ بضم الطاء، و﴿خُطْوَات﴾ بسكون الطاء.
قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ الخطاب للمؤمنين، وقد تقدّم أن الله تعالى إذا ابتدأ الحكم بالنداء فهو دليل على العناية به؛ لأن المقصود بالنداء تنبيه المخاطب، ولا يقتضي التنبيه إلا ما كان مُهِمًّا، الآن لو أقول: انتبه، يكون أقل مما لو قلت: يا فلان انتبه؛ لأن الخطاب له للتنبُّه، فالنداء الحكم الْمُصدَّر بالنداء يدل تصديره بذلك على أنه هامّ، ولهذا صُدِّر النداء الموجب للتنبه، ثم إذا كان الخطاب للذين آمنوا فإن في ذلك ثلاث فوائد كما سبق، الفائدة الأولى؟
* طالب: أن هذا المشار إليه من شأنه أو من (...) يتصف به.
* الشيخ: أن امتثال هذا الأمر من مقتضيات الإيمان، الفائدة الثانية؟
* طالب: ما ينهاهم عنه هو شر ولا..
* الشيخ: لا.
* طالب: الحث والإغراء.
* الشيخ: نعم، صح، الحث والإغراء؛ لأنك لو قلت: يا مؤمن، تحثه؛ لأن بمقتضى إيمانه يفعل، مثل ما لو قلت: يا أيها الكريم جُد على الفقير، هذا مقصوده الإغراء بكرمه حتى يتذكر صفته وهي الكرم، هذا حتى يتذكر صفته وهي الإيمان.
الفائدة الثالثة: أن فعل هذا إن كان أمرًا من كمال الإيمان، وتركه من نقص الإيمان، وفِعله (...) ينقِّص الإيمان، واجتنابه لله يزيد في الإيمان، هنا نشوف الآية اللي معنا أمر ولا نهي؟ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ويش بعده؟ أمر ﴿ادْخُلُوا﴾، فيكون الدخول في السلم من مقتضيات الإيمان، ويكون الدخول في السلم مُكمِّلًا للإيمان، ويكون عدم الدخول في السلم مُنقِّصًا للإيمان، كل هذا استفدناه من الخطاب بـ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾.
قال: ﴿ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ﴾ السِّلْم والسَّلْم بمعنى الإسلام، وهو الاستسلام لله تعالى ظاهرًا وباطنًا، فإن قال قائل: كيف يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ﴾ ونحن قد عرفنا من قبل أن الإيمان أكمل من الإسلام؛ لقوله تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات ١٤]، فكيف يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ﴾؟ قلنا: إن هذا الأمْر مقيد بما بعد قوله: ﴿فِي السِّلْمِ﴾ وهو قوله: ﴿كَافَّةً﴾، فهنا يتوجَّه الأمر، أو إلى هنا عند ﴿كَافَّةً﴾ يتوجه الأمر، يعني: نفِّذُوا أحكام الإسلام جميعًا، لا تُفرطوا في شيء منها؛ لأن هذا مقتضى كمال الإيمان، فيكون هنا الأمر مُنصبّ على مجرد الدخول في السِّلم ولّا منصب على قوله ﴿كَافَّةً﴾؟ على قوله ﴿كَافَّةً﴾.
وقوله: ﴿كَافَّةً﴾، ﴿كَافَّةً﴾ اسم فاعِل يُطلق على من يَكُفّ غيرَه، فتكون التاء فيه للمبالغة مثل راوِية، وساقِية، وعلَّامة، وما أشبهها، فالتاء هنا في هذه الأمثلة الثلاثة ساقِية، وراوِية، علَّامة للمبالغة، فيقول ﴿كَافَّةً﴾ بمعنى كافّ، وتكون ﴿كَافَّةً﴾ بمعنى كافّ، والتاء للمبالغة، قالوا: ومنه قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ﴾ [سبأ ٢٨] ﴿كَافَّةً لِلنَّاسِ﴾، معناها أي: كافًّا لهم، كافًّا لهم عما يضرهم، ﴿لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [إبراهيم ١]، فمعنى كافة أي: كافًّا لهم عما يضرهم، والتاء هنا للمبالغة، ومثَّلوا لذلك أيضًا بقوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً﴾ [التوبة ٣٦]، وقالوا: إن قاتلوهم كافة أي: كافين لهم عن الشرك كما يقاتلونكم كافّين لكم عن الإسلام؛ لقوله: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [النساء ١٦٧] ﴿هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [الفتح ٢٥]، فهم يقاتلوننا ليكفُّونا عن ديننا فنحن نقاتلهم لنكفهم عن الشِّرْك والكفر، وتطلق (كافة) بمعنى الجماعة، مثل العامَّة، كما يُقال: كافة الناس أي: عامّتهم وجماعتهم، ووجه ارتباطها بالمعنى الأصلي اللي هو الكف أن الجماعة لها شوكة ومنعَة تكُفّ بجمعيتها من أرادها بسوء، لهذا سُمِّيت الجماعة كافة.
* طالب: كافة الناس..
* الشيخ: مثل كافة الناس وعامة الناس أي جماعتهم. قالوا: ومنه:«بُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ...»[[أخرجه البخاري (٣٣٥) من حديث جابر بن عبد الله بلفظ: «وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً»، وأخرجه أيضًا من حديثه (٤٣٨) بلفظ: «وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً».]] كَافَّة ولّا عامة؟
* طالب: كافة.
* طلبة: عامة.
* الشيخ: عامة، لكن وأرسلناك كافة للناس.
* طالب: (...).
* الشيخ: وأرسلناك.
* طالب: (...).
* الشيخ: (...) على كُلّ حال يقال: أُرسل النبي ﷺ إلى الناس كافة، كافة يعني جميعًا، هنا ﴿ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾، هل المراد ادخلوا في السلم جميعًا وتكون (كافَّة) حالًا من السِّلم، أو ادخلوا أنتم جميعًا في السِّلْم وتكون ﴿كَافَّةً﴾ حالًا من الواو في قوله: ﴿ادْخُلُوا﴾، أيهما أقرب؟ الأقرب المعنى الأول؛ لأننا لو قلنا بالمعنى الثاني: ادخلوا جميعًا في السلم، صار معنى ذلك أن بعضَ المؤمنين لم يدخل في الإسلام، وحينئذٍ فلا يصح أن يتوجه إليه النداء بوصف الإيمان، والمعنى الثاني هو الصواب أن ﴿كَافَّةً﴾ حالٌ مِن السِّلم، مِن السِّلم، يعني: ادخلوا في الإسلام كله جميعًا لا تدعوا شيئًا من شعائره، وهذا هو المعنى الصحيح للآية، وهو الذي ينطبق على مقتضى الإيمان؛ لأن مقتضى الإيمان أن يقوم الإنسان بجميع الشرائع، ما يأخذ بشريعة ويدع شريعة.
* طالب: يقولون من قرأ ﴿السَّلْم﴾ تكون بمعنى الصلح، وقرأتها في تفسير السَّلْم معناه الصلح؟
* الشيخ: نعم، الصواب أن معناهم كله واحد، إنه المراد بها الإسلام، لكنها تأتي بمعنى الصلح صحيح، مثل قوله تعالى: ﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ [محمد ٣٥] هذا صحيح.
يقول: ﴿ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ [البقرة ٢٠٨] أمْر بعده نهي؛ لأن اتباع خطوات الشيطان يخالف الدخول في السلم كافة، ﴿لَا تَتَّبِعُوا﴾ المعنى واضح فيها يعني: لا تتبعوها، و﴿خُطُوَاتِ﴾ جمع خطوة، ويصلح فيها: (خُطْوَاتِ) و(خُطُوَاتِ)، والخطوة هي عبارة عن مُنتهى نقْل القدم عند المشي، هذه الخطوة، مُنتهى نقْل القدم عند المشي، تمشي مثلًا نَقْلك قدمك من هذا إلى هذا يسمى الخُطوة، والمعنى ظاهر أننا لا نتبع الشيطان في سيره، لماذا؟ لأن الله بيَّن في آية أخرى أن الشيطان يأْمُر بالفحشاء والمنكَر، وما كان كذلك فإنه لا يمكن أن يُتَّبع، هل يرضى أحد أن يتبع الفحشاء والمنكر؟ لا، أيضًا الشيطان لنا عدو كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ﴾ [الأعراف ٢٢]، ثم قال: ﴿فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا﴾، إذا كان عدوًّا لكم اتخذوه عدوًّا، إذن هل أحد من العقلاء يتبع عدوه؟
* طلبة: لا.
* الشيخ: ما أسمع إلا صوتين ضعيفين كأنكم كنتم تستخيرون الله في الجواب؟
* الطلبة: لا.
* الشيخ: ما أحد يتبع عدوه، لا أحد يتبع عدوه، واضح؟ طيب إذا كان الشيطان يأمر بالفحشاء والمنكر، وكان عدوًّا لنا، فليس من العقل فضلًا عن مقتضى الإيمان أن يُتابعه الإنسان في خطواته، طيب، ما هي خطوات الشيطان؟ إذا قال قائل: بيّنوا لنا خطوات الشيطان؟ نقول: بيّنها الله عز وجل، يأمر بالفحشاء وهي عظائم الذنوب، والمنكر، فكل معصية فهي من خطوات الشيطان، سواء كانت تلك المعصية من فِعْل المحظور أو من ترْك المأمور، فإنها من خُطوات الشيطان، لكن هنا أشياء بيّن الرسول ﷺ أنها من فِعْل الشيطان، نصَّ عليها بعينها مثل: الأكل بالشمال، والشُّرب بالشمال، والأخْذ بالشمال، والإعطاء بالشمال، هذه بيّن الرسول ﷺ أنها من فِعْل الشيطان، وكذلك الالتفات في الصلاة اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العَبْد، فهذه منصوص عليها بعينها واضحة، وغير المنصوص عليها نقول: كل معصية فهي من خطوات الشيطان.
وقوله: ﴿الشَّيْطَانَ﴾ تقدم لنا هل هو مُشتق من (شَطَنَ) أو من (شاط)، من (شطن) بمعنى بعُد لبعده عن رحمة الله، أو من (شاط) بمعنى غضِب وحمق؛ لأنه هو لا شك أنه أحمق ما يكون من عباد الله.
* طالب: (...) هل هو من خطوات الشيطان؟
* الشيخ: لا، هو لا شك أنه من وساوس الشيطان، أما أن نقول: إنه من خطوات الشيطان فإن ظاهر الآية الكريمة أنه ليس منه؛ لأنه قال: ﴿لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [النور ٢١].
وقوله: ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [البقرة ١٦٨]، هذه الآية مُؤكَّدة بمؤكِّدين: (إنَّ) واللام؛ كذا؟
* طلبة: نعم.
* الشيخ: متأكدون؟
* طلبة: بمؤكدين غير اللام.
* الشيخ: بمؤكدين وهي إن واللام.
* طلبة: لا.
* الشيخ: (إن) ويش؟
* طلبة: إن واللام.
* الشيخ: لا.
* طالب: تقديم الخبر.
* الشيخ: لا ما فيها، فيها تأكيد واحد، وهي (إن)، لكن فيها تأكيد معنوي بغير الحروف المؤكدة وهو قوله: ﴿عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾.
وقوله: ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ ﴿إِنَّهُ لَكُمْ﴾ كأن الشيطان ما جُعِل عدوًّا إلا لنا لبني آدم، ولا شك أنه عدو لنا بخبر الله عز وجل، وهو دليل نظري (...) أثري واضح، وبالدليل العقلي النظري؛ لأن الشيطان ما استحق اللعنة إلا لعدم خضوعه لأبينا بأمْر الله، فهذا الذي طُرد وأُبْعِد عن رحمة الله بسبب أبينا بسبب عدم السجود لأبينا يصير عدوًّا لنا ولّا لا؟ نعم؛ لأنه هنا بيقول: هذه هم اللي كانوا سببًا للطرد والإبعاد عن رحمة الله واستحاق اللعنة، فلهذا كان عدوًّا لنا بمقتضى الدليل السمعي ويش بعد؟ والعقلي.
وقوله: ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ كلمة (مُبِين) مُفعِل يجوز أن تكون من (أبان) بمعنى (أظهر)، ومن (أبان) بمعنى (بان)؛ لأن بانَ يَبِين فهو بَيِّن؛ وأبان يُبين فهو مُبِين، بمعنًى واحد، إلا أن (أبان) الرباعية تأتي بمعنى (أظْهَر) لا بمعنى (ظَهَرَ).
* طالب: (...).
* الشيخ: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ﴾ [الواقعة ٧٧].
* طالب: (...).
* الشيخ: لا، إنه في سورة يس؟ ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا﴾ [يس ٦٩، ٧٠] ﴿قُرْآنٌ مُبِينٌ﴾ هنا بمعنى بيِّن ولّا مُظْهر؟ ﴿قُرْآنٌ مُبِينٌ﴾ يعني: مُظهِر، الدليل قوله: ﴿لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [يس ٧٠]، وأما (مُبين) بمعنى بيِّن فمثل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [آل عمران ١٦٤] يعني بيِّن، طيب وكلمة (مبين) هنا ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ هي بمعنى بيِّن أو بمعنى مُظْهِر؟ يعني بمعنى ظاهر ولّا بمعنى مُظْهِر؟
* طلبة: ظاهر.
* طالب: (...).
* الشيخ: ظاهِر ومُظهِر أيضًا، ظاهر ومظهر؛ لأن كونه يأمرنا بالفحشاء والمنكر معناه أنه أظْهَر العداوة، وكذلك كونه لم يسجد لأبينا ويقول: إنه خير منه، هذا أيضًا أظهر عداوته، فهو صالح للأمرين، طيب ومن هو العدو؟ ويش هو العدو؟ العدو من المعاداة، وهي البُعد والتنافر، قال الفقهاء: ومَن سرَّه مَساءة شَخْص أو غمَّه فرحه فهو عدُوّه، يعني: عدوك من يحزن لسرورك ويُسَرّ لحزنك، هذا عدو، نعم هذا هو العدو، الشيطان هو كذلك؟ نعم، الدليل: ﴿إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [المجادلة ١٠]، وفي قوله: ﴿لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ ختم الآية بهذه أو ختم هذا النهي بهذه الجملة فيه فائدتان: الفائدة الأولى: تعليل الحُكْم السابق، والفائدة الثانية: التحذير من اتباع خطوات الشيطان.
ثم قال الله عز وجل: ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة ٢٠٩]، ﴿إِنْ زَلَلْتُمْ﴾ قال بعض العلماء: أي عدلتم، وقال آخرون: أي مِلتم، وهذا الأخير أقرب إلى معنى اللفظ؛ لأن الزَّلل مثل الزَّلَق في الدَّحْر؛ زَلَّتْ به قدمه يعني: هَوَت به، هَوَت به من دَحَض أو من عالٍ مِن دَرَج وما أشبه ذلك، وهذا أبلغ من (عدلتم)، يعني: إذا مِلتم عن الحق واتبعتم خطوات الشيطان ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ [البقرة ٢٠٩]، البيِّنات يعني صفة، هذه صفة لموصوف محذوف، أي الآيات البيِّنات والنصائح الظاهِرات، إذا زَلَلْتُم عن الحق ومِلْتم، وسمّى الله تعالى ذلك زَلَلًا؛ لأن في الميل والعدول عن الحق فيه هَلَكَة ولّا لا؟
* طالب: نعم.
* الشيخ: نعم، مثل ما لو زَلَّ الإنسان وسقط في بئر مثلًا، أو زَلّ الإنسان وزلق وطاح في الشارع.
وقوله: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ هذا جواب الأمر، جواب (إن) (فاعلموا)، والمراد بالعلم ليس أن يبلغ ذلك إلى قلوبنا، ولكن أن نحذر ممن له العِزَّة، ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾، والختم بهذين الاسمين يدل على أن الإنسان مُعرَّض للعقوبة أو واقع في العقوبة، وهنا يكون مُعرَّضًا للعقوبة ولّا لا؟ نعم، إذا زَلّ بعد أن جاءته البينة فقد عرَّض نفسه للعقوبة، وأما كونه كون ما خُتِمت به الآية عُقوبة فمثل قوله تعالى: ﴿فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [المائدة ٣٨]، يقال: إن أعرابيًّا كان عند قارئ يقرأ هذه الآية، وكان القارئ يقول: (جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) قال له: لا، هذه ما هي صحيحة، اقرأ قال: (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَالله غفور رحيم)؛ قال: ما يصح. أقول: إن الأعرابي قال: ما يمكن هذا، فلما قرأها الثالثة قال: ﴿نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ قال: الآن أصبت؛ لأنه عَزّ وحَكَمَ فقطع، ولو غفر ورحم ما قطع، وهذا استنتاج صحيح، ولهذا قال الله تعالى في الذين يسعون في الأرض فسادًا، قال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة ٣٤]، ولهذا قال العلماء: إذا تاب قُطَّاع الطريق قبل القُدرة عليهم سقطت عنهم العقوبة التي لله، فهنا يقول: ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾، إذن فأنتم قد عرضتم أنفسكم بعد الزلل الذي زللتم به من بعد ما جاءتكم البينات عرضتموها للهلاك.
ثم قال: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾ [البقرة ٢١٠]، ﴿يَنْظُرُونَ﴾ أي: المكذِّبون الذين زلُّوا من بعْد ما جاءتهم البينات.
﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾ (هل) استفهام بمعنى النفي، أي: ما ينظرون، و﴿يَنْظُرُونَ﴾ بمعنى: ينتظرون، وتأتي بمعنى النظر بالعين، فإن عُدِّيت بـ(إلى) فهي النظر بالعين، وإن لم تُعَدَّ فهي بمعنى الانتظار، مثال الْمُعَدَّاة بـ(إلى) قوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾ [آل عمران ٧٧]، ومثل قوله ﷺ: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٦٧٢)، ومسلم (١٠٨ / ١٧٣) من حديث أبي هريرة، واللفظ لمسلم.]]، ومثل قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة ٢٢، ٢٣]، الأولى بالضاد (ناضِرة)، والثانية بالظاء؛ لأن الأولى ناضرة يعني حسنة، والثانية من النظر بالعين، أما التي لا تتعدى بـ(إلى) فهي بمعنى: ينتظرون، مثل هذه الآية: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ﴾ [البقرة ٢١٠] أي: ما ينتظر هؤلاء إلا أن يأتيهم، ومثل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا﴾ [البقرة ١٠٤] يعني: انتظِرْنا.
﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾، ﴿يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ﴾ هل معنى الآية ﴿يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ﴾ يعني: تأتيهم ظلل من الله؟
* طالب: لا ليس..
* الشيخ: كما لو قلت: إلا أن يأتيهم الله بعذاب من عنده؟
* طالب: لا (...).
* الشيخ: مثل ﴿وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا﴾ [التوبة ٥٢]، هل هي مثل هذه الآية؟ لا؛ لأنها عُدِّيت بـ (في) ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾ [البقرة ٢١٠] فلم يكُن المعنى أن يأتيهم ظُلل من الله، لا.
وقوله: ﴿أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾ أضاف الفِعل إلى الله وهو على جادَّة أهل السُّنة والجماعة على ظاهِره وحقيقته، أي أن الله نفسَهُ يأتي، يأتي، وأما أهل التحريف فيقولون: إن معناه أن يأتيهم أمْر الله في ظُلل من الغمام، وهذا تحريف للقرآن عن ظاهِره بغير دليل إلا بدليل زعموه عقليًّا، وهو وهْميّ وليس عقليًّا، فنحن نقول: الذي نَسَبَ فِعْل الإتيان إليه مَنْ هو؟ الله عز وجل، وهو أعْلم بنفسِه، وهو يُريد أن يُبيِّن لعباده أو يُضلِّل عباده؟
* الطلبة: أن يُبين لعباده.
* الشيخ: أن يُبين، حاشاه أن يريد الإضلال، ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ [النساء ١٧٦]، إذا كان الله يريد أن يُبين وهو أعْلم بنفسِه، فهل في كلامه عِيّ وعَجْز عن التعبير بما في نفسه؟ لا، هل كلامه فيه نقص في البلاغة؟ لا، إذن فكلامه في غاية ما يكون من العلم، وغاية ما يكون من إرادة الهدى، وغاية ما يكون من الفصاحة والبلاغة، فهل بعد ذلك يمكن أن نقول: إنه لا يُراد به ظاهره؟ أبدًا، لا يمكن، إلا إذا قال الله هو عن نفسه إنه ما أراد ذلك فنعم.
قال: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾، أي: ما ينتظر المكذِّبون للرسول ﷺ إلا هذا اليوم الذي هو يوم القيامة، وهو الذي يأتي فيه الله عز وجلَّ للفصل بين عبادِه، يقول: ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾، هنا (يأتي) فِعل مضارع، والفاعِل (الله)، وهو مضاف، وهو الفعل هنا مضاف إلى مَن؟ إلى الله، يعني مضاف في المعنى ما هو في الإعراب، فالفعل مضاف إلى الله ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾، وكل شيء أضافَه الله إلى نفسه فالمراد به حقيقة ذاته، ﴿اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الأعراف ٥٤] يعني بذاته، (استوى) فعل ماض يعود على الله، ينزل إلى السماء الدنيا؟
* طالب: بذاته .
* الشيخ: بذاته، ما دام أضيف إلى الله فالمراد هو ذاته سبحانه وتعالى، وكذلك يضحك يعني هو، يعْجَب هو، يأتي هو، يمشي هو، «أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً»[[متفق عليه؛ البخاري (٧٤٠٥)، ومسلم (٢٦٧٥ / ٢) من حديث أبي هريرة.]]، يأتي هرولة، وهكذا، فكل شيء أضافه الله إلى نفسه فالمراد إليه ذاته، إلا إذا قام الدليل على أن المراد غيره، مثل ما جاء في الحديث الصحيح: «عَبْدِي، جُعْتُ فَلَمْ تُطْعِمْنِي أَوِ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي»[[أخرجه مسلم (٢٥٦٩ / ٤٣) من حديث أبي هريرة.]]، فهذا بيّنه الله عز وجل أن المراد استطعام، استطعام أحد من عباده، من عباده الصالحين، فإن قلت: ماذا تقول في قوله تعالى الحديث القدسي: «فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ» إلى آخره، ومعروف أن الخبر مُسنَد إلى المبتدأ (كُنْتُ) التاء هذه اسم (كان) وهي في الأصل مبتدأ، و(سمعه) خبر (كان) وهي في الأصل خبر، ومعروف أن الخبر مُسند إلى المبتدأ، فإذا قلت: زيد قائم، فالقيام لمن؟
* الطلبة: لزيد.
* الشيخ: لزيد، فكيف تقول في هذا الحديث القدسي: «كُنْتُ سَمْعَهُ»؟ هل تقول: إن الله عز وجل إن المراد كان الله ذاته سمعًا لهذا؟
* الطلبة: لا.
* الشيخ: نقول: «كُنْتُ سَمْعَهُ» على القاعِدة، لكن ليس معنى ما قال الله: إن السمع يكون هو الله، بل قال: «كُنْتُ سَمْعَهُ»، والمعنى أن الله تعالى يُسدِّد في سمعه وبصره وجوارحه، «كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ»، والحديث كله من أوله إلى آخره يدل على أن هذا أمْر مستحيل، «مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي» إليّ عبدي، ومن المعلوم أنه لا يمكن أن يكون العابد هو المعبود، «أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ»، افترضت عليه، ما يمكن يكون الفارِض هو المفرُوض عليه. «وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ» فهنا لا يزال عبدي، فالعبد لا يكون هو المعبود. «يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ»، ما يمكن يكون المتقرِّب هو المتقرَّب إليه، «حَتَّى أُحِبَّهُ» هناك حابّ ومحبوب. «فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ»، ما يمكن إن الله يكون هو سمْع هذا المخلوق ما يمكن. أما اليد، قال: «وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا»؛ لأن العمل باليد «وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا»[[أخرجه البخاري (٦٥٠٢) من حديث أبي هريرة.]]، فتبين أن القاعدة هي القاعدة، لكن يَمنع من أن يكون هذا الشيء هو الله يمنع هنا مثل ما قلنا الضمائر تدل كلها على أن هذين شيئان متباينان.
إذن ﴿يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾ نطبّقها على القاعدة ولّا لا؟
* الطلبة: نعم.
* الشيخ: من اللي يأتي؟
* الطلبة: الله.
* الشيخ: الله نفسه، الذين يقولون: يأتي أمر الله نقول: هذا خطأ، قلتم على الله ما لا تعلمون، بل صرفتم كلام الله عن ظاهِره بغير دليل، الله يقول: ﴿يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾، وأنتم تقولون: يأتيهم أمر الله؟! جناية عظيمة على الله عز وجل، كيف يُثبت لنفسه إتيانًا وأنتم تقولون: لا يأتي وإنما الذي يأتي أمْره، لو كان الأمر كما قُلتم لزم أن يكون ظاهِر كتاب الله عز وجل أمرًا مستحيلًا على الله، فيكون القرآن بعد أن كان بيانًا للناس صار تعمِية للناس وتضليلًا للناس، ولّا لا؟ لأن الإنسان عندما يسمع أن ﴿يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾ ويقرؤها يقول: يأتي الله عز وجل نفسه، فإذا قلت: يأتي أمْره، فقد جعلتَ القرآن الذي هو بَيان جعلتَه تلبيسًا وتضليلًا، وجعلته أيضًا تعمية للخلق بعد أن كان موعظة وذكرى، ولو أن هؤلاء المتأوِّلين فكّروا في نتائج تأويلهم هذا ما استقرّت عليه أقدامهم أبدًا؛ لأنه لا يقوله مؤمن عاقل كما قال شيخنا في تفسيره: ما أحد يقوله وفي قلبه حبة خردل من إيمان، هذا تضليل عظيم ويلزم عليه لوازم من أبطل اللوازم، والشنقيطي رحمه الله أيضًا في تفسيره قال: إنه لا يَصرف مِثل هذه الآيات عن ظاهرها إلا من تنجَّس قلبُه بقذَر التشبيه؛ لأنه مثل ما قال شيخ الإسلام رحمة الله عليه قال: هؤلاء المؤوِّلة إنما أوّلوا لاعتقادهم أن ظاهرها تشبيه، فشبّهوا أولًا وعطّلوا ثانيًا. فنحن نعتقد أن ما قال الله عن نفسه فهو حق؛ لأنه تعالى أعلم بنفسه، وأصدق قِيلًا، وأحسن حديثًا، وهو يريد أن يبين لعباده، والدليل على ذلك: ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ [النساء ١٧٦]، ما يريد أن يُخفي الأمر على عباده، وأن يظهر لهم القول بخلاف ما أراد، فإن هذا تعنُّت.
فإذا قال قائل: كيف يأتي؟ نقول: كيف هنا لا يخلو هذا الاستفهام إما أن يكون استبعادًا من الإنسان فليتُب إلى الله عز وجل؛ لأنه أنكر، يعني يقول: ويش لون يجي؟ كيف يجي؟ يعني قد يأتي الاستفهام للاستبعاد والإنكار فهذا أمر خطير، وإما أن يسأل عن الكيفية، يعني: أنا أومن بأنه يأتي لكن كيف يأتي، على أي كيفية؟ فنقول: هذا سؤال مبتدِع، وأظن الفرق بين السؤالين واضح؟ الأول: اللي قال: كيف يأتي؟ منكرًا، فهذا معناه التكذيب أو الشك، أما إذا قال: كيف يأتي؟ مؤمنًا بالأصل والمعنى سائلًا عن الكيفية، فماذا نقول له؟ نقول: هذا بدعة، ولا يجوز السؤال عن الكيفية؛ لأنه سؤال عن ما لا يمكن الجواب عنه، واضح؟ ما يمكن أحد يجيب، ولهذا اشتهر عن مالك رحمه الله أنه قال في الاستواء على العرش قال: «الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ »[[أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (٨٦٧).]]، فبيّن رحمه الله أن الكيف غير معقول، أي: لا تدركه عقولنا ولم يأتِ به الدليل السمعي، فإذا انتفى عنه الدليلان السمعي والعقلي فموقفنا أن نكُفّ عن ذلك.
وقال: السؤال عنه بدعة؛ لأن هذا ما كان معروفًا في عهد الصحابة رضي الله عنهم، والصحابة أحرص منا على الخير، وأفهم منا وأعقل، فقد جَمَعَ الله لهم الحرص، والفهم، والعقل، ولذلك ما سألوا؛ لأنهم يعلمون أن هذا أمر لا يُحاط به، كما قال الله تعالى: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه ١١٠]، وهكذا بقية الصفات، ما يُسأل عن الكيفية أبدًا، ولهذا قال بعضهم بعض أهل العلم قال: إذا قال لك الجهمي: كيف ينزل؟ فقل: في النزول -يعني في حديث النزول- فقل: إن الله أخبرنا أنه ينزل ولم يخبرنا كيف ينزل. جواب تمام. فنقف على ما أخبرنا به ونسكت عما لم نُخْبَر به.
وقال آخرون: إذا قال لك الجهمي: كيف صفة كذا وكذا من صفات الله؟ فقل له: كيف ذاته؟ هل يكيّف ذاته؟
* طالب: لا.
* الشيخ: لا، نقول: إذا كنت لا تعرف كيفية ذاته فإن كيفية الصفة فرْع عن كيفية الذات، فالعلم بكيفية الصفة لا يكون إلا بعد العِلم بكيفية الذات، وكما لا تعلم كيفية ذاتِه فلا نَعلم نحن كيفية صفاته، والأمر في هذا واضح. إذن نؤمن بالإتيان حقًّا وأنه يأتي سبحانه وتعالى حقيقة، ولكن على أي كيفية؟ الله أعلم، وهل هو على كيفية؟
* الطلبة: نعم.
* الشيخ: نعم، على كيفية لكنها غير معلومة، ولهذا الإمام مالك قال: الكيف غير معقول، ما قال: لا كيفية له.
﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾ [البقرة ٢١٠] (في) معناها (مع)، يعني يأتي مصاحبًا لهذه الظُّلل، وإنما أخرجناها عن الأصْل الذي هو الظرفية؛ لأننا لو أخذناها على أنها الظرفية صارت مُحيطة بالله عز وجل، والله تعالى لا يُحيط به شيء من مخلوقاته، هو أعظم وأجلّ من أن يحيط به شيء من مخلوقاته، ونظير ذلك أن تقول: جاء فلان في الجماعة الفلانية، يعني معهم، وإن كان هذا التنظير ليس من كل وجه؛ لأن فلانًا يمكن أن تحيط به الجماعة، ولكن الله لا يمكن أن يحيط به الظُّلل.
وقوله: ﴿فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾، هذا الغمام يأتي مُقدِّمةً بين يدي مجيء الله عز وجل، كما قال تعالى في سورة الفرقان: ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ﴾ [الفرقان ٢٥]، فالسماء تشقّق، شوف ما قال: تَنْشق، قال: تشقق، كأنها تنبعث من كل جانب، تشقق بالغمام، والغمام قالوا: إنه السحاب الأبيض الرقيق، لكن ليس كسحاب الدنيا، الاسم هو الاسم، ولكن الحقيقة غير الحقيقة؛ لأن المسميات في الآخرة وإن شاركت المسميات في الدنيا في الاسم فإنها تختلف مثل ما تختلف الدنيا عن الآخرة، أليس كذلك؟
* طالب: بلى.
* الشيخ: إي نعم، ﴿فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ﴾، قوله: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ﴾ بالرفع عطفًا على قوله: ﴿يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾، يعني: وتأتيهم الملائكة أيضًا مُحيطةً بهم، كما قال الله تعالى: ﴿كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ [الفجر ٢١، ٢٢]، وفي حديث الصور الطويل الذي ساقه ابن جرير وغيره أن السماوات تشقق، تتشقق السماء الدنيا بالغمام وتنزل الملائكة فيحيطون بأهل الأرض، ثم السماء الثانية، والثالثة، والرابعة، كل من وراء الآخر، ولهذا قال: ﴿صَفًّا صَفًّا﴾ يعني صفًّا بعد صف، ثم ينزل الرب عز وجل للقضاء بين عباده، ذلك النزول الذي يليق بعظمته وجلاله، ولا أحد يحيط به؛ لأنه تعالى لا يُحاط به كما قال تعالى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ﴾ [الأنعام ١٠٣]، وقال: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه ١١٠]، فالملائكة تُحيط بالخلائق، ثم ينزل الرب عز وجل فيقضي بين العباد، ولكن متى يكون هذا؟ ما يكون إلا بعد أن يلحق الناس من الغم والكرب ما لا يُطيقون، فيذهبون إلى من يَشفع لهم عند الله أن يقضيَ بينهم فيريحهم من هذا الموقف، فيأتون إلى آدم ويذكرون له من مناقبه، ولكنه يعتذر بأنه أكل من الشجرة فعصى، يعتذر مع أنه تَابَ إلى الله واجتباهُ ربه وهداه، لكن مقام الشفاعة ليس بالأمر الهيِّن، الشافع لا يمكن أن يتقدّم إلى الشفاعة وهو يذكر أنه قد أذْنب في جانب المشفوع إليه؛ لأنه كما يقول العامَّة يعني: وجهه ما يستطيع يقابله، كيف يعصيه بالأمس ويجي اليوم يشفع لغيره؟! ولهذا يعتذر، ثم يأتون إلى نوح وهو أول الرسل، هذاك أول البشر، وهذا أول الرسل، يأتون إليه ولكنه يعتذر أيضًا، بماذا؟ بأنه سأل ما ليس له به عِلم ﴿فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي﴾ [هود ٤٥] وهل استغفر نوح؟
* طالب: نعم.
* الشيخ: استغفر؟
* طلبة: نعم.
* الشيخ: ويش قال؟
* الطلبة: (...)
* الشيخ: ﴿قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (٤٦) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [هود ٤٦، ٤٧]، هذا استغفار، استغفار على سبيل الاعتراف بأنه لا بُدَّ له من أن يغفر الله له وإلا لكان خاسرًا، يأتون بعد ذلك إلى إبراهيم فيعتذر، بماذا؟ بأنه كذب ثلاث كذبات هي كذِب لكنها تورية، تورية كذب باعتبار المخاطَب ولّا حقيقة ليست بكذب. ثم يأتون إلى موسى فيعتذر، بماذا؟ بأنه قتل نفسًا لم يُؤمر بقتلها، ثم يأتون إلى عيسى ولا يذْكُر ذنبًا، ما يعتذر بذنب، لكنه يعتذر بفَضْل محمد عليه الصلاة والسلام عليه، فيقول: اذهبوا إلى مُحَمَّدٍ عبدٍ غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر[[متفق عليه؛ البخاري (٤٧١٢)، ومسلم (١٩٤ / ٣٢٧) من حديث أبي هريرة.]]. ولا شك أن هذا من المقام المحمود العظيم للرسول عليه الصلاة والسلام، الأنبياء يعتذرون، منهم من يذكر شيئًا مثلبة يخجل بها أن يكون شافعًا، ومنهم من لا يذْكُر شيئًا، لكن يرى أن في المكان مَنْ هو أحق منه وهو محمد عليه الصلاة والسلام، فيأتون إلى النبي ﷺ فيسألونه أن يشفع إلى الله، ومع ذلك ما يشفع إلى الله مع كونه أوجَهَ الخلق عند الله، ما يشفع إلا بعد إذن الله، وهكذا الملك والعظمة والسلطان، أقرب الخلْق إليه ما يستطيع أن يتكلم بالشفاعة لغيره، ولا لمصلحته أيضًا، إلا بعد إذن الله، أكبر ملك من الملوك يمكن زوجته اللي هي محل وطئه تشفع ولّا لا؟
* الطلبة: نعم.
* الشيخ: بدون أن تستأذن، لكن الرب عز وجل لعظمته وسلطانه ما أحد يشفع إلا بعد أن يأذن، فيستأذن الله عز وجل فيأذن له فيسجد سجودًا طويلًا يفتح الله عليه من المحامِد والثناء على الله ما لم يفتحه عليه من قَبل، ثم يقول له: ارفع رأسك، وقل تُسمع، واشفع تُشفَّع، وسَل تعطَ، فيشفع إلى الله عز وجل فيأتي الرب عز وجل كما ذكر هنا.
﴿فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ﴾ [البقرة ٢١٠]، الملائكة تقدم لنا الكلام عليهم عند قوله: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾ [البقرة ١٧٧]، وبيَّنّا أن الملائكة عالَم غيبي، وأنهم رسُلٌ مخلوقون، خلقهم الله عز وجل لعبادته، وأنهم يُسبِّحون الليل والنهار، ولّا في الليل والنهار؟
* الطلبة: الليل والنهار.
* الشيخ: بينهما فرق؟ الليل والنهار يعني دائمًا مستوعبين، أما (في) للظرفية يحتمل في بعض الليل، الليل والنهار.
﴿وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾، كلمة ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ اختلف فيها الْمُعْرِبون؛ فمنهم من قال: إنها معطوفة على ﴿أَنْ يَأْتِيَهُمُ﴾، فتكون في حيِّز الأمر المنتظَر: هل ينظرون إلا أن يأتيهم وإلا أن يُقضى الأمر، ولكنه أتى بصيغة الماضي لتحقُّق وقوعه، هكذا قال بعضهم، وعلى هذا فيكون محلّ الجملة النصب؛ لأن ﴿أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾ محلها النصب بـ﴿يَنْظُرُونَ﴾ يعني: هل ينظرون إلا إتيان الله، إتيان الله في ظلل من الغمام، وإتيان الملائكة، وانقضاء الأمر، هذا وجه، والوجه الثاني: أن قوله: ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ جُملة مستأنَفة ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾ وانتهى الأمر، يعني: وقد انتهى الأمر ولا عُذر لهم بعد ذلك ولا حُجَّة لهم، وقوله: ﴿الْأَمْرُ﴾ بمعنى الشأن، وكما تقدم لنا أن الأمر مُفْرد الأوامر، ومفرد الأمور، فهنا مفرد أيش؟ الأمور ولَّا الأوامر؟
* الطلبة: الأمور.
* الشيخ: الأمور، يعني قُضي الشأن وانتهى كل شيء، وصار أهل النار إلى النار وأهل الجنة إلى الجنة، ولهذا قال بعده: ﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾، وفي قراءة: ﴿تَرْجِعُ الْأُمُورُ﴾، وهنا المتعلِّق مُقدَّم على المتعلَّق به؛ لأن ﴿إِلَى اللَّهِ﴾ مُتعلق بماذا؟
* طلبة: بـ(ترجع).
* الشيخ: بـ(ترجع)، وتقديم المعمول يفيد الحصر والاختصاص، أي: إلى الله وحدَه لا إلى غيره، ﴿تَرْجِعُ الْأُمُورُ﴾: أمور الدنيا والآخرة، كذا؟ شؤونها كلها الدينية والدنيوية والجزائية وكل شيء، كما قال الله تعالى في سورة هود: ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ﴾ [هود ١٢٣]، كل الأمر، فالأمور كلها تَرْجع إلى الله عز وجل، ومنها: أن الناس يرجعون يوم القيامة إلى ربهم فيُحاسبهم، وهذه الآية تفيد كما سيأتي إن شاء الله في الفوائد تفيد تهديد هؤلاء المكذِّبين.
* طالب: شيخ، شيخنا في آية ﴿أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ [النحل ٣٣] يعني أو يأتي أمره.
* الشيخ: إيه اللي فيها؟
* الطالب: بعضهم احتج بها على أن هذه تفسر..
* الشيخ: ما هو صحيح، الاحتجاج باطل، وذلك لأنه يجب أن نقول: إن كل آية تُفسَّر بحسب ما فيها.
* الطالب: إذن معنى الآية هنا؟
* الشيخ: أمره بعذابهم.
* طالب: يعني بعد (...).
* الشيخ: لا لا، يعني أمره أن الله يأمر بعذابهم في الدنيا، العذاب في الدنيا.
* طالب: والملائكة؟
* الشيخ: الملائكة لقبض أرواحهم، هذا الفرق بينهما.
* طالب: (...) بمعنى هذا؟
* الشيخ: أيهم؟
* طالب: (...).
* الشيخ: لا بعيدة.
ثم قال تعالى: ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾ [البقرة ٢١١]، ﴿سَلْ﴾ أصلها (اسأل)، فنُقلت حركة الهمزة إلى السين الساكنة، ثم حُذِفت تخفيفًا، حُذفت الهمزة تخفيفًا، ثم حُذفت همزة الوصل لعدَم الحاجة إليها، فعندنا الآن همزتان محذوفتان: همزة الوصل اللي في أول الكلمة، والهمزة التي هي عَين الفعل، أما همزة الوصل فحُذفت لعدم الحاجة إليها؛ لأن همزة الوصل يُؤتى بها لتسهيل النطق بالساكن، اسأل لأيش جبنا (اسأل) همزة؛ لأنه ما يمكن ننطق بالساكن مبتدأ حتى يتقدمه الهمزة (اسأل)، أما الثاني اللي هي عين الفعل فحُذفت تخفيفًا بعد أن نُقلت حركتها إلى السين فصارت (سل)، إذن، كيف وَزْن (سَلْ) بالميزان الصرفي؟
* الطلبة: (فَلْ).
* الشيخ: وزنها (فَلْ).
* طالب: أصلها ليست فاعل؟
* الشيخ: أصلها (افعل)، فحُذفت العين وحُذفت همزة الوصل وصارت (فَل).
* * *
(...) بني إسرائيل، تقدم لنا قاعدة أن (بني) إن أُضيفت إلى قبيلة شملت الذكور والإناث، وإلى فرد فهي للذكور، فتقول مثلًا: بنو محمد، إذا كانوا عَلَم شخص ما هو قبيلة، وتقول: بنو تميم للذكور والإناث.
﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ هنا مضافة إلى أيش؟ مضافة إلى قبيلة.
* طالب: أو شخص (...).
* الشيخ: لا، أصبح اسم قبيلة حتى تميم أصله واحد، يعني صار اسمًا للقبيلة، فهو الآن اسم للقبيلة.
﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ وإسرائيل -كما تقدم- هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، ويقال: إن (إيل) في العبرية بمعنى الله، فمعنى إسرائيل يعني عبد الله.
وقوله: ﴿كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾ [البقرة ٢١١]، ﴿كَمْ آتَيْنَاهُمْ﴾ هذه استفهامية علَّقت الفعل (سَلْ) عن العمل، فصارت هي وجملتها في محل نصب، وأصلها: سل فلانًا عن كذا وكذا، فعَلَّقت الفعل عن المفعول الثاني.
وقوله: ﴿كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾، تعرفون أن (كم) تحتاج إلى مميِّز؛ لأن (كم) اسم مبهم تدل على عدد، فما هو هذا المعدود؟ المعدود قوله: ﴿مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾، و(كم) هنا هي تكثِيرية ولَّا خبرية؟
* طالب: تكثيرية.
* الشيخ: تكثيرية، يعني كم بمعنى آيات كثيرة أعطيناهم.
وقوله: ﴿كَمْ آتَيْنَاهُمْ﴾: أعطيناهم، و(آتيناهم) كما عرفنا تنصب مفعولين، المفعول الأول: الهاء، والمفعول الثاني محذوف، والتقدير: كم من آية بينة آتيناهموها، وعاد الضمير المحذوف إلى متأخر لفظًا؛ لأنه مُتقدِّم رُتبةً؛ إذ إن (من آية) كان حقها أن تكون بعد (كَم)، كم مِن آية.
وقوله: ﴿كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ﴾، الإيتاء هنا يشمل الإيتاء الشرعي والإيتاء القَدَري الكوني؛ لأنهم أُوتوا آياتٍ بينات شرعية جاءت بها التوراة، وأوتوا آيات كونية كالعصا واليد، وقوله: ﴿مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾ الآية بمعنى العلامة على الشيء، كلها تُسمى آية، وقوله: ﴿بَيِّنَةٍ﴾ أي: ظاهرة في كونها آية، مثل أيش؟
* طالب: (...).
* الشيخ: في القرآن: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ [الإسراء ١٠١]
ومنها: أن الله أنزل عليهم المنّ والسلوى.
ومنها: أن الله رفع فوقهم الطور حتى يأخذوا ما أُوتوا بقوة، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة، حتى إن الله تعالى أنزل عليهم بأنه فضلهم على العالمين، قال لهم موسى عليه السلام: ﴿يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ [المائدة ٢٠]. وقال الله: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة ٤٧]، فما أكثرَ الآيات والنِّعم التي أعطاها الله بني إسرائيل ومع ذلك كفروا بها وأنكروها، حتى إنهم بعدما أنجاهم الله مِن فرعون مرُّوا بقوم يعكُفون على أصنام لهم فـ ﴿قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ [الأعراف ١٣٨]، وهذا لا شك من الجهل العظيم؛ ولهذا ﴿قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾، ﴿كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾ [البقرة ٢١١]، والخطاب في قوله: ﴿سَلْ﴾ هل هو للرسول ﷺ وحده أو لكل من يتأتَّى خطابه؟
تقدّم لنا أن مِثل هذه الخطابات تارة يقوم الدليل على أنها خاصة بالرسول ﷺ فتكون خاصَّة به، وتارة يقوم الدَّليل على أنها عامَّة له ولغيره، فتكون عامَّة، وتارة لا يقوم دليل على هذا ولا على هذا، فالظاهر أنها عامة؛ لأن القرآن نزل للأمة إلى يوم القيامة، ويش مثال الذي قام الدليل على أنها خاصة بالرسول عليه الصلاة والسلام؟
* طالب: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾.
* الشيخ: إي، مثل: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ [الشرح ١ - ٤]، فهذه خاصَّة بالرسول ﷺ.
والتي قام الدليل على أنها عامة مثل قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق ١] فهنا قال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾، لكن وجَّه أو أَمَرَ بحُكم عام ﴿إِذَا طَلَّقْتُمُ﴾، ما قال: إذا طلَّقت، وأما المحتمِل فهو كثير في القرآن، ومنه هذه الآية.
﴿سَلْهُمْ﴾ هل المراد سؤال استعلام، أو أن المراد سؤال تبكيت وتوبيخ؟ أيهما؟
* طالب: الأخير.
* طالب: الثاني.
* الشيخ: الأخير، الظاهر أنه الأخير؛ لإقامة الحُجَّة عليهم ببيان نِعَم الله التي كان من حقه عليهم أن يشكروها، لكن بدَّلوها كُفرًا، وإلَّا فالظاهر أن الرسول ﷺ كان يعلم بما أنزل الله عليه ما آتاهم الله من الآيات البينات.
قال: ﴿مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [البقرة ٢١١]، خَتْم الآية بهذه الجملة يدُل على أن الآيات من النِّعم، وأن بني إسرائيل كفروها وبدَّلوها، كفروا بها وبدلوها كُفرًا؛ ولهذا قال: ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾.
﴿مَنْ﴾ اسم شرط جازم؛ ولهذا جزمت الفعل، وأين جوابه؟ جوابه مفهوم من قوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾، فالجملة هنا دالة على الجواب وليست هي الجواب؛ لأن شِدة عقاب الله ثابِتة، سواء بدَّلوا أم لم يبدلوا، لكنها دالة على جواب الشرط.
وقوله: ﴿مَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ﴾ ويش معنى (يُبدِّل)؟ أي: يُغيِّر، وبِناءً على ذلك فإن (بدَّل) هنا لا تحتاج إلى مفعول، ويكون تغييرهم لنعمة الله أنهم كفروا بها فزالت عنهم، فصار زوالها إلى نقمة صار تبديلًا، كيف بَدَّل نعمة الله؟ ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ﴾ قلنا: يبدل يعني يغيّر، كيف يغيرونها؟ إذا كفروها؟
* طالب: زالت عنهم.
* الشيخ: زالت عنهم، هذا التبديل، الآن بدلوها بنقمة، جعلوها تؤول إلى نقمة بأنهم كفروها، فيكون المعنى: من يُبِدِّلها بنِقمة، ويكون ذلك فيه إشارة إلى أن الذين يكفرون النِّعم معناه أنهم رضوا لأنفسهم بأن تَحِل بدلها النِّقم، أما إذا جعلنا المعنى كما في آية إبراهيم: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا﴾ [إبراهيم ٢٨] فهنا نقول: إن مفعول (يُبَدِّل) الثاني محذوف، والتقدير: ومن يُبدل نعمة الله كفرًا فإن الله شديد العقاب، ويكون المعنى هنا تبديل النعمة تبديل الشكر، يعني: من يجعل بَدَل الشكر كُفرًا، فإن الله شديد العقاب، وكلا المعنيين حق، وكلاهما متلازم، فإنه يلزم من الكُفْران تغيير النِّعمة، يلزم منها تغيير النعمة، فالمعنيان مؤدَّاهما واحد، أي: من يفعل أفعالًا تُنافي الشكر فإنه سيُعاقَب.
وقوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [البقرة ٢١١] ﴿شَدِيدُ﴾ بمعنى قويّ؛ والعِقاب الجزاء بالعقوبة، وسُمِّي الجزاء عُقوبة وعِقابًا؛ لأنه يقع عَقِب الذنب، يقع عَقِبَه مُؤاخذةً به.
وقوله: ﴿شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ هذا من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، مثل ما تقول: حسن الوجه، يعني: ذو الوجه الحسن، فهي صفة مشبَّهة.
ثم قال تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة ٢١٢]، ﴿زُيِّن﴾ التزيين جعْل الشيء بهيًّا في عين الإنسان أو في سمْعه أو في مذاقِه أو في فِكْره، المهم أن أصل التزيين جعل الشيء بهيًّا جميلًا جذابًا.
وقوله: ﴿زُيِّنَ﴾ مبني للمجهول، ونائب الفاعل: ﴿الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾، وهنا قد يقول النحوي منكم: لماذا لم يُؤنَّث الفعل مع أن الحياة مؤنثة وهي نائب الفاعل؟ فالجواب من وجهين؛ الوجه الأول: أن التأنيث غير حقيقي، وابن مالك يقول:
؎وَإِنَّمَا تَلْزَمُ فِعْلَ مُضْمَرِ ∗∗∗ مُتَّصِلٍ أَوْ مُفْهِمٍ ذَاتَ حِرِ
نعم، هذه واحدة، والوجه الثاني: الفصل، وابن مالك يقول: متصل، يعني: ما تجب التاء إلا إذا كان المؤنث حقيقيًّا متصلًا.
؎وَإِنَّمَا تَلْزَمُ فِعْلَ مُضْمَرِ ∗∗∗ مُتَّصِلٍ أَوْ مُفْهِمٍ ذَاتَ حِرِ
وهنا ما أفهم ذات حر.
﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾، ﴿زُيِّنَ﴾ الفاعل محذوف، فمن الْمُزَيِّن؟ هل هو الشيطان أو الله عز وجل؟
* طالب: الله يُقدِّر والشيطان..
* الشيخ: فيه آيتان: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ﴾ [النمل ٤]، وفي آية أخرى: ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام ٤٣]، وهنا ﴿زُيِّنَ﴾ مبنية للمجهول، فعلى آي الآيتين تُحمل، وهل بين الآيتين منافاة؟
الجواب: ليس بين الآيتين مُنافاة؛ فإن الله تعالى زيَّن لهم سوء أعمالهم لسوء أعمالهم كما يفيده قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف ٥]، والتزيين من الله باعتبار التقدير، أما الذي باشر التزيين ووسوس لهم بذلك فهو الشيطان.
وقوله: ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾، ما قال: زُيِّن للناس كما في آية أخرى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ﴾ إلى آخره [آل عمران: ١٤]، فهل نحمل ﴿النَّاسِ﴾ على: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ونقول: هناك عام أُريد به الخاص؟ أو نقول: إن بين الآيتين فرقًا؟ أو نقول: إن ذكر بعض أفراد العام لا يقتضي التخصيص؟ نقول: زُين للناس عمومًا، وهنا ذكر الله تعالى تزيينه لبعض أفراد هذه الجنس وهم الذين كفروا.
﴿الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ الحياة ضِدُّ الموت، والمراد به هذه الدار، و﴿الدُّنْيَا﴾ فُعْلَى، يعني أنها اسم تفضيل مؤنث، مأخوذة من أين؟ من الدُّنو الذي هو ضِد العُلُوّ، وسُمِّيَت بذلك لوجهين: لدُنوّ مرتبتها، ودُنُوّ زمنها، أما دُنو زمنها فلأنها قبل الآخرة، أقرب من الآخرة هنا نعيش فيها الآن؛ وأما دُنو مرتبتها فظاهر، إي نعم، ظاهر جدًّا واضح، الرسول ﷺ أخبر أن موضع سوط أحدنا في الجنة خير من الدنيا وما فيها، موضع السوط، تعرفون موضع السوط، مِقدار مِتر تقريبًا خير من الدنيا وما فيها، ما هو الدنيا التي فيها أنت الآن، الدنيا من أولها إلى آخرها وما فيها، إذن فرق بين هذه وهذه، فهي دانية زمنًا ودانية مَرتبة؛ لتأخُّرها كثيرًا عن الآخرة، ولهذا -سبحان الله العظيم- ما تجد فيها حال سرور إلا مشوبًا بتنغيص قبله وبعده، لكن هذا التنغيص بالنسبة للمؤمن خير، وإن كان فيه تنغيص وألَم وأذى، لكنه خير له كما أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام: «عَجَبًا لِلْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، إِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ»[[أخرجه مسلم (٢٩٩٩ / ٦٤) من حديث صهيب. ]]، والمؤمن إذا ابتُلي بالبلاء الجسمي أو النفسي يقول: هذه نعمة من الله يُكفِّر الله بها عنه، فإذا أحسَّ هذا الإحساس صار هذا الألم صار نعمة؛ لأن الإنسان خطَّاء دائم، هذه الأشياء لا شك أنها والحمد لله تكفير للسيئات، فإن صبر واحتسب صارت زيادة في الدرجات، فالآلام، والبلايا، والهم، والغم تكفِير بكل حال، لكن مع الصبر والاحتساب يكون عملًا صالحًا يُثاب عليه ويُؤجر عليه.
إذن صارت الدنيا دنيا، كما وصفها الله عز وجل، دنيا مهما كان فيها من النعيم فهي دنيا؛ ولهذا أنا أذكر لكم دائمًا قصة الحافظ ابن حجر رحمه الله مع اليهودي الزيّات في مصر، كان ابن حجر رئيس القضاة هناك ويسمونه قاضي القضاة، ويأتي يمر بالسوق ومعه العربة، على عربة تُجَرّ بالبغال في مَحْفل، فمر بذلك اليهوديّ الزيات الوسِخ من الزيت، وأوقفه الرجل اليهودي وقال له: كيف يقول النبي نبيكم محمد ﷺ: «إِنَّ الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ»[[أخرجه البيهقي في الزهد (٤٥٢) من حديث ابن عمر رضي الله عنه.]]، وأنت الآن فيما أنت فيه من النعيم في الدنيا؟ وهو اليهودي هذا فيما فيه من الأذى والبلاء في الدنيا، كيف يصير هذا؟
فقال له على الفور، قال: إن ما أنا فيه من النعيم بالنسبة لنعيم الآخرة للمؤمن سِجن، ما هو شيء، وما أنت فيه من البؤس بالنسبة لعذاب الآخرة اللي ستلقاه جنَّة، صحيح ولَّا لا؟
* طلبة: نعم.
* الشيخ: فالرجل في الحال قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، تبين له الأمر، فالمهم أن الدنيا على اسمها، الحياة الدنيا، وإنما سمَّاها الله تعالى دنيا حتى لا نرفع بها رأسًا، ولا نهتم بها، وأن نُشمِّر ونجعل الغرض الأسمى والمقصود الأعلى هو الدار الآخرة؛ ويكفي الإنسان العاقل إذا سمع هذا الوصف الدنيا.
* طالب: شيخ، ذكرنا زُيِّنَ، أن الله زَيَّن لهم سوء أعمالهم؛ لسوء أعمالهم، فنقول: زين الله لهم سوء أعمالهم (...).
* الشيخ: لا لا؛ لأن التزيين نوعان: تزيين ابتدائي واستمراري، التزيين الاستمراري مبنيّ على الأول، والأول مبني على النية، فساءت النية ثم ساء الفعل ثم زِيدوا -والعياذ بالله- إساءة.
وقوله: ﴿وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة ٢١٢] الجملة هذه يقولون: إنها حالية، يعني: زُيِّنت لهم والحال أنهم يسخرون من الذين آمنوا، يسخرون يعني يجعلونهم محل سخرية وازدراء واحتقار، من المؤمنين، وييجي المؤمن هذا سيارته (...)، وداره من سعف ولّا من طين وما أشبه ذلك، ثيابه ممزقة، كتابه غير جميل وهكذا، يسخرون منهم.
* طالب: ويش (...).
* الشيخ: هذا ما هي لغة عربية هذا عامية.
* طالب: (...)
* الشيخ: ويش تقولون فيه؟ يعني: متكسرة خربانة، إي نعم.
* طالب: ثوبه قصير؟
* الشيخ: لا، الثوب القصير ما هو علشان الفقر، وربما يشمل هذا أيضًا، نشوف يسخرون من الذين آمنوا باعتبار أنهم ما أوتوا شيئًا من الدنيا، هذا سخريتهم.
وربما نقول: ﴿وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أيضًا من أعمالهم الصالحة التي يتعبدون لله بها، ويقولون: ويش هذا التزمت؟ ويش هذا التشدد، وما أشبه ذلك، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ﴾ [المطففين ٢٩ - ٣١].
فيَحْتَمل السخرية لما حُرموا من الدنيا؛ أو لما كانوا عليه من الدين؛ أو للأمرين جميعًا كما هو الواقع.
* طالب: إن كان لا يسخر منه (...) يسخرون؟
* الشيخ: فهو فيه خَصْلة من خِصال الكفار، وكما سبق لنا في باب من استهزأ (...) ذكر الله على التفصيل السابق من جهة أنه يكفر أو لا يكفر.
وقوله: ﴿وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [البقرة ٢١٢].
* طالب: (...).
* الشيخ: وين؟
* طالب: ﴿يَسْخَرُونَ﴾.
* الشيخ: ﴿يَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة ٢١٢] ذكر؟
* طالب: ذكر ابن عقيل..
* الشيخ: وجهين.
الوجه الأول: إنه الجملة حالية، لكن الوجه الأول من السخرية وما ذكرنا أنهم يسخرون بحرمانهم مما أُوتي هؤلاء من زينة الدنيا، والسخرية الوجه الثاني: يسخرون بهم لما قاموا به من الأعمال الصالحة.
ويقول: قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾، هذا مِن الله عز وجل، الكلام هذا مِنَ الله.
ما قال: والذين آمنوا فوقهم، قال: ﴿وَالَّذِينَ اتَّقَوْا﴾؛ لأنه لا بد مع الإيمان من التقوى، ولهذا يرتب الله سبحانه وتعالى الثواب على الإيمان والعمل الصالح الذي هو التقوى، فمجرد العقيدة لا تُنجي الإنسان من عذاب النار حتى يكون معها عمل صالح، ولهذا الصحيح أن من ترك الصلاة فهو كافر كفرًا مخرجًا عن الملة، فهذا لا بد منه، لا بد من العمل الصالح، بل لا يمكن أن تكون العقيدة صحيحة إلا بعمل صالح.
يقول: ﴿وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [البقرة ٢١٢] ولم يقل: أحسن حالًا منهم، بل ﴿فوقهم﴾، تدل على العلو، الفارق العظيم بينهما، فوقهم في المكان، وفوقهم في النعيم، فوقهم في المكان؛ لأن هؤلاء في الجنة في أعلى عليين، وهؤلاء في سجين في أسفل السافلين.
وفوقهم من حيث النعيم؛ فإن هؤلاء أعد الله لهم من النعيم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وأولئك أُعدّ لهم من الإهانة ما لا يتصوّره إنسان، لو لم يكن من إهانتهم إلا قول الله تعالى لهم: ﴿اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾ [المؤمنون ١٠٨] بعدما يدعون يتضرعون إلى الله بالدعاء: ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ﴾ [المؤمنون ١٠٧] يتضرعون إلى الله عز وجل بالدعاء، وكان الجواب جواب الرب الرحيم الغفور: ﴿اخْسَئُوا فِيهَا﴾ [المؤمنون ١٠٨]، والكلمة هذه ما تعاد مرة ثانية، البشر يقول للإنسان: اخسأ، لا تتكلم، لكن ربما يكلمه، أليس كذلك؟
لكن الرب: ﴿اخْسَئُوا فِيهَا﴾ أمر كوني ﴿وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾، أحد ما يبقى له أمل ولا رجاء، يتوسطون بالشفعاء ﴿يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ﴾ [الزخرف ٧٧] ينفع؟
الجواب: ﴿قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ﴾ [الزخرف ٧٧، ٧٨].
إذن صدق قول الله عز وجل أو تبين وجه قول الله عز وجل: ﴿وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [البقرة ٢١٢] رتبة ومكانًا، وكما تعلمون أن الجنات درجات -نسأل الله أن يهب لنا ولكم أعلاها- هذه الجنات أعلاها الفردوس الذي فوقه عرش الرحمن ما فوقه شيء من قبل.
وهذه دركات ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ [النساء ١٤٥]
وقوله: ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ المراد بالقيامة هي يوم الحساب، وسمي بيوم القيامة لثلاثة أمور ذكرناها فيما سبق، ولعل عندكم منها علمًا.
* طالب: لقيام الناس من قبورهم، وقيام الأشهاد، وقيام العدل.
* الشيخ: إي نعم؛ لأن الناس يقومون من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلًا فيقفون ذلك الموقف العظيم الذي قال الله تعالى فيه: ﴿يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (١٧) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ﴾ [المزمل ١٧، ١٨].
ثانيًا: يقام العدل حتى إنه يُقتصّ للشاة؟
* طالب: القرناء.
* الشيخ: القرناء؟!
الجلحاء من الشاة القرناء، ويقام أيش؟ الأشهاد، كما قال الله: ﴿وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ [غافر ٥١] الأشهاد منين؟ من الملائكة، وكذلك من بني آدم بعضهم على بعض؛ ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ [البقرة ١٤٣]، بل من الجوارح والجلود؛ ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النور ٢٤] نعم حتى الجلود تشهد؛ ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا﴾ [فصلت ٢١].
قال: ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [البقرة ٢١٢] يرزق يعني يعطي.
و﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي: بغير تقدير؛ لأنه سبحانه وتعالى كرمه لا ينتهي.
تزيين سابق والسخرية مستمرة دائمًا على القول بأن الواو للحال تحتاج إلى تقدير (...) ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (الله) مبتدأ وجملة (يرزق) خبره، والرزق بمعنى العطاء، ورزق الله تعالى ينقسم إلى قسمين: عامّ وخاص، فالعام ما يقوم به البدن ويصلح مثل الأكل، الشرب، اللباس، المسكن، المركوب وما أشبهها، هذا عام، وهو شامل للمؤمنين والكافرين والإنس والجن والإنسان والبهائم، عرفتم؟ وشامل أيضًا للرزق الحلال، والرزق الحرام كالذي لا يتغذى إلا بحرام كالربا والسرقة والنهب وقال: هذا من رزق الله، لكنه حرام، ولهذا قال السفاريني في العقيدة:
؎وَالرِّزْقُ مَا يَنْفَعُ مِنْ حَلَالِ ∗∗∗ وَضِدِّهِ فَحُلْ عَنِ الْمُحَالِ
أوما مرّتْ هذه؟ مرّتْ، إذن نقول: الرزق العام ما يقوم به البدن ويصلح، وهو شامل للمؤمن والكافر، والبر والفاجر، والإنسان والبهائم، والنافع والضار، والحرام والحلال، كذا؟
الثاني: ما يقوم به الدين، وهو ما فيه صلاح القلوب، وهذا خاص بالمؤمنين مثل: العلم النافع، والعمل الصالح، والإنابة إلى الله، والتوكل عليه، وما أشبه ذلك، هذا رزق خاص يرزقه الله مَن؟ المؤمنين.
وقوله: ﴿يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ﴾ ﴿مَنْ﴾ هذه عامة معلّقة بالمشيئة، وقد مر علينا كثيرًا أن كل شيء علَّقه الله تعالى بالمشيئة فهو تابع للحكمة، ليست مشيئة الله مشيئة مجردة، بل هي مشيئة مقرونة بالحكمة، فكل ما مر عليك شيء معلّق بالمشيئة أو معلق بالإرادة فاعلم أنه مقرون بالحكمة؛ يعني فمن اقتضت حكمة الله عز وجل أن يرزقه رَزَقه، ومن لا فلا.
وقوله: ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي: بغير تقدير، أو بغير محاسبة؛ يعني بغير مِنَّة، أيهما؟
﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ بلا تقدير واضح، فإن رزق الله لا نهاية له لا سيما الرزق في الآخرة؛ رزق الجنة فإنه ﴿مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ﴾ [ص ٥٤] كما قال الله عز وجل، وهل نقول: ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ بغير مِنّة؟ قد نقول ذلك أيضًا أنه ما يحاسب؛ يعني ما يطالب بالعوض؛ لأنه لو طالب بالعوض لكنا هالكين، لو أن الإنسان حاسبه الله على نعمة واحدة من نعمه، ويش يسوي؟ أعتقد لو توجع الإنسان منا عينه ليلة من الليالي ويقال له: إما أن تفقد البصر ولَّا تعطينا كل اللي عندك من المال، ويش يقول؟ يعطيهم كل اللي عنده، كل اللي عنده من المال، عند الرجل، ولَّا لا؟ إذن هذه نعمة واحدة، ما بالك بما هو أعظم منها؟!
نعمة النفَس أمر ضروري للحياة تُحصى؟ ما تحصى، ومع ذلك بدون تعب الإنسان يتكلم ويصعد نفَسه وينزل ويتكلم ويأكل، ثم لو ضُيّق عليه نَفَسه لمرة واحدة يقولوا: واللهِ ما إحنا فاتحين النفس إلا إن كنت بتعطينا مالك كله، ويش يقول؟ يقول: خذوه.
إذن يرزق بغير حساب؛ أي: بغير محاسبة؛ أي: ما يطلب يعني معاوضة، وإن كان واجبًا علينا أن نشكر الله على هذه النعم، لكن عز وجل نعمه أكثر، لو أنه حاسبنا على ما أنعم به علينا لكنا ضائعين.
بسم الله الرحمن الرحيم، قال الله عز وجل: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾ [البقرة ٢٠٧].
من فوائد الآية الكريمة: تقسيم الناس إلى قسمين؛ القسم الأول سبق: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ﴾ [البقرة ٢٠٤]، والقسم الثاني هذا: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ﴾.
* ومن فوائدها: بلاغة هذا القرآن حيث يجعل الأمور يجعلها مثاني، إذا جاء الكلام عن شيء جاء الكلام عن ضده.
* ومن فوائد الآية الكريمة: فضل من باع نفسه لله لقوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾.
* ومن فوائدها: الإشارة إلى إخلاص النية، من أين تؤخذ؟ ﴿ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾.
* ومن فوائدها: إثبات الرضا لله لقوله: ﴿مَرْضَاتِ﴾. والرضا -كما تقدم لنا- صفة حقيقية لله عز وجل متعلقة بمشيئته، وينكرها الأشاعرة وأشباههم من أهل التعطيل، يحرفون المعنى إلى أن المراد برضا الله إما إثابته أو إرادة الثواب.
* ومن فوائد الآية الكريمة: وجوب تقديم مرضاة الله على الناس، وجوبه ولَّا جوازه؟
* طلبة: وجوبه.
* الشيخ: من أين نأخذ الوجوب؟
* طالب: المقابلة (...).
* الشيخ: اللي يؤخذ منها الجواز، الظاهر.
* طلبة: (...).
* الشيخ: لا، ما نبغي، نبغي الآية، من الآية يؤخذ منها -ما هو الجواز فقط - أيضًا استحباب تقديم مرضاة الله على النفس؛ لأن الله تعالى ذكر ذلك في مقام أيش؟ المدح والثناء.
* ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات الرأفة لله لقوله: ﴿وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ [البقرة ٢٠٧] والرأفة هي أرقّ الرحمة؛ يعني رحمة خاصة.
* ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات عموم رأفة الله عز وجل لقوله: ﴿بِالْعِبَادِ﴾، هذا إذا كان العباد بالمعنى العام، أما إذا قلناه بالمعنى الخاص فلا يستفاد منها ذلك.
ثم قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ إلى آخره [البقرة: ٢٠٨].
* يستفاد من هذه الآية الكريمة: فضل الإيمان لقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ لأن هذا نداء تشريف وتكريم.
* ومن فوائدها: أن الإيمان مقتضٍ لامتثال الأمر؛ لأن الله صدّر الأمر بهذا النداء ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾. والحكم لا يقرن بوصف إلا إذا كان لهذا الوصف أثر فيه، وهذه فائدة مهمة: لا يقرن الحكم بوصف إلا إذا كان لهذا الوصف أثر فيه. ولا شك أن الإيمان يقتضي امتثال أمر الله عز وجل.
* ومن فوائد الآية الكريمة: وجوب تطبيق الشرع جملة وتفصيلًا لقوله: ﴿ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾.
* ومن فوائدها: أن الإنسان يؤمر بالشيء الذي هو متلبِّس به باعتبار استمراره عليه، كيف هذا؟
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ﴾ إحنا قلنا: إنه كيف ينادي المؤمنين وهم داخلين وهم مؤمنين؟
قلنا: المراد الاستمرار عليه، وعدم الإخلال بشيء منه، مثل قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ﴾ [النساء ١٣٦] يعني استمروا على ذلك، وإلا فالأصل أن الإنسان لا يؤمر بالشيء وهو متلبِّس به، فلو وجدت رجلًا قائمًا قلت: قم، ويش بيقول؟ يقول: هذا جاهل، فإذن يكون هنا توجيه الأمر بالشيء إلى من هو متلبس به باعتبار أيش؟ باعتبار استمراره عليه وعدم الإخلال بشيء منه؛ ولهذا قال: ﴿كَافَّةً﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: تحريم اتباع الشيطان وخطواته لقوله: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ [البقرة ٢٠٨]. هل يؤخذ من الآية الكريمة تحريم التشبُّه بالكفار؟
* طلبة: نعم.
* الشيخ: لا تستعجلون، أنتم تأملوا، هل يُعقل من الآية تحريم التشبه بالكفار؟
* طلبة: نعم.
* الشيخ: الجواب: نعم، تؤخذ منه؛ لأن أعمال الكفار من خطوات الشيطان ولَّا لا؟ لأن الشيطان يأمر بالفحشاء والمنكر، ولا أنكَر من الكفر والعياذ بالله، فعلى هذا يؤخذ من الآية الكريمة: تحريم التشبُّه بالكفار؛ لأن ذلك من اتباع خطوات الشيطان.
هل يشمل ذلك ما لو هنَّأهم بعيدهم؟ يُهنيهم بعيدهم؟ إذا قال واحد: كما يهنئوننا بعيدنا نهنئهم بعيدهم جزاءً وفاقًا؟
* طلبة: (...).
* طالب: غير شرعي.
* الشيخ: نقول: لأن عيدنا مرضي عند الله وعيدهم غير مرضي عند الله، ونحن إذا هنأناهم بعيدهم فمعنى ذلك أنا هنأناهم بشعائر الكفر، ولا يجوز أن نهنئ أحدًا بالتزامه بشعيرة من شعائر الكفر، والذي يهنئهم بعيدهم خطر على دينه، ربما يمرق من دينه وهو لا يشعر؛ لأن الرضا بالكفر كفر، وليس هذا من باب المجازاة؛ لأن نحن لسنا كهُم، طرفي نقيض؛ يعني نحن على فكر وهم على فكر، لا، نحن ربنا واحد نعم، ربنا وربهم واحد، هو الذي خلقنا جميعًا، وهو الذي أمرنا ووجَّه الأمر إلينا جميعًا، فنحن امتثلنا ما أمر به وهم خالفوا، وليست المسألة اختيارًا نحن أسَّسنا فكرًا ومشينا عليه وهم أسسوا فكرًا ومشوا عليه حتى نقول: نتبادل معهم التهاني كما يتبادلون معنا ذلك.
نحن نقول: لا، كلنا بشر، وكلنا خلق لله، والرب واحد، أمرَنا فسمعنا وأمرهم فعصوا؛ فهذا فرق بين هذا وهذا، أليس كذلك؟
* الطلبة: بلى.
* الشيخ: وهذا هو الخطر الداهم الذي أصاب كثيرًا من المسلمين اليوم حيث ظنوا أن المسألة مسألة فكر، والرسول عليه الصلاة والسلام أخبر أنه «مَا يَسْمَعُ بِهِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ لَا يُؤْمِنُ بِمَا جَاءَ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ»[[أخرجه مسلم (١٥٣ / ٢٤٠) من حديث أبي هريرة بلفظ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ».]]. المسألة ما هي مسألة فكر حتى نقول: والله هم لهم فكرهم ولنا فكرنا، مسألة دين تعبَّدنا به الخالق وحده فسمعنا وأطعنا وسمعوا وعصوا، وحينئذٍ نقول: لا يجوز أن نهنئهم بأعيادهم.
* ويستفاد من هذه الآية الكريمة: شدة عداوة الشيطان لبني آدم؛ ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [البقرة ٢٠٨] كذا؟
* ويستفاد من الآية الكريمة: أنه لا يمكن أن يأمرنا الشيطان بخير؛ إذ إن عدوك يسره مساءتك، ويغمه سرورك، ما يمكن يأمرك بخير أبدًا، ولهذا قال في آية أخرى: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا﴾ [فاطر ٦] ما هو مجرد خبر فقط.
* طالب: شيخنا، قد يأمر بالخير للاستدراج؟
* الشيخ: ما يمكن.
* الطالب: حديث أبي هريرة[[أخرجه البخاري (٢٣١١) من حديث أبي هريرة.]]؟
* الشيخ: لا، ما هو للاستدراج، هذه لحكمة من الله عز وجل، وإلا هو ما أمره بالخير لنفسه، لكن لما خاف من النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه لو رفعه للرسول افتضح أو ربما يحصل له شيء أكبر فدلَّه على ما فيه حفظ.
ثم قال: ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ﴾ [البقرة ٢٠٩].
ويستفاد من الآية الكريمة أيضًا: قرن الحِكم بعللها، من أين تؤخذ؟ ﴿لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ ثم علَّل: ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾.
فيستفاد منه فائدة متفرِّعة على هذا: أنه ينبغي لمن أتى بالأحكام أن يقرنها بالعلل التي تطمئن إليها النفس، إن كانت ذات دليل من الشرع قرنها بدليل من الشرع، وإن كانت ذات دليل من العقل والقياس قرنها بدليل من العقل والقياس.
﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة ٢٠٩].
* ويستفاد من هذه الآية الكريمة: الوعيد على من زلّ بعد قيام الحجة عليه لقوله: ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾، فإن قلت: من أين الوعيد؟
قلنا: من قوله: ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾؛ لأن من معاني العزة الغلبة، والحكمة: تنزيل الشيء في مواضعه، فإذا كان هناك غلبة وحكمة فالمعنى: أنه سينزل بكم ما تتبين به عزته؛ لأن هذا هو مقتضى حكمته، ظاهر؟
* طلبة: لا.
* الشيخ: مرة ثانية نعيدها: إذا قال قائل: ما هو الدليل على الوعيد؟ قلنا: لأن من معنى العزيز: الغلبة، من معانيها: الغلبة، فإذا كانت الغلبة مقرونة بحكمة دل هذا على أنه سيُنزّل بكم من عزته ما تقتضيه حكمته، ومعلوم أنه بعد مجيء البينات انقطعت الحجة.
وقد مر علينا قصة الأعرابي الذي سمع قارئًا يقرأ: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ والله غفور رحيم) هكذا يقرأ الرجل، فقال الأعرابي: أعِد الآية، ما هي هذه الآية. فأعادها على التلاوة الأولى: (نَكَالًا مِنَ اللَّهِ والله غفور رحيم)، فقال: أعد الآية. فأعادها على الصواب فقال: ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [المائدة ٣٨]، قال: الآن أصبت؛ لأنه عز وحكَم فقطع، ولو أنه غفر ورحم ما قطع. ولهذا قال الله تعالى في الذين يسعون في الأرض فسادًا: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة ٣٤].
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الله تعالى أقام البينات للعباد لقوله: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾.
* ومنها: أنه لا تقوم الحجة على الإنسان ولا يستحق العقوبة إلا بعد قيام البينة لقوله: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ ولهذا شواهد كثيرة من الكتاب والسنة تدل على أن الإنسان لا حجة عليه حتى تقوم عليه البينة.
* ومن فوائد الآية الكريمة: وجوب الإيمان بأسماء الله وما تضمنته من صفات لقوله: ﴿فَاعْلَمُوا﴾ علم اعتراف وإقرار، ما هو مجرد علم فقط؛ علم اعتراف وإقرار، فمجرد العلم لا يكفي، ولهذا أبو طالب كان يعلم أن النبي ﷺ على حق وأنه رسول الله، لكنه لم يقبل ولم يذعن؛ فلهذا نفعه إيمانه ولَّا لا؟ ما نفعه، وليس بمؤمن، وليس الإيمان مجرد الاعتراف بدون إذعان وقبول.
* ومن فوائد الآية: إثبات اسمين من أسماء الله وهما: العزيز والحكيم، وإثبات ما تضمناه من صفة، والعزيز ذكر أهل العلم أن له ثلاثة معانٍ: عزة القدر، وعزة القهر، وعزة الامتناع؛ فعزة القدر يعني أنه عز وجل عظيم القدر، والشيء العزيز: الشيء النادر الذي لا نظير له، أما عزة القهر فمعناها الغلبة، وهذا أظهر معانيها، وأما عزة الامتناع فمعناه أنه يمتنع أن يناله السوء؛ مأخوذ من قولهم: أرض عَزَاز أي: قوية صلبة، ما تؤثر فيها الأقدام، ولهذا قال ابن القيم في النونية:
؎....................... ∗∗∗ فَالْعِزُّ حِيَنئِذٍ ثَلاثُ مَعَانِي
أما الحكيم فقد تقدم أنه مشتق من الحُكم والحِكمة، وأن الحكم نوعان: كوني وشرعي، وأن الحكمة نوعان: غائية وحالية؛ الحالية: أن يكون الشيء على هذا الوجه المعين موافقًا للحكمة. والغائية: أن يكون المقصود به غاية محمودة.
فكون الشيء منظمًا على هذا الوجه هذه حِكمة لا شك، وكون المقصود به كذا وكذا من الغايات الحميدة هذا أيضًا حكمة، فصار الحكيم له أربعة معانٍ في الحقيقة: حُكم، وإحكام، وحال، وغاية. فالْحُكم فيه حكمة، وكل منهما حكمة في صورته التي هو عليها وفي غايته التي تقصد به.
ثم قال الله عز وجل: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ﴾ إلى آخره [البقرة: ٢١٠].
* ويستفاد من هذه الآية الكريمة: وعيد هؤلاء بيوم القيامة؛ لأن هذا الذي ذكر الله ووصفه متى يكون؟ يوم القيامة.
وفيه أن الله تعالى لا يعذِّب هذه الأمة بعذاب عام؛ لأن الله جعل وعيد المكذبين متى؟ يوم القيامة، ويدل لذلك آيات وأحاديث قال الله تبارك وتعالى في سورة القمر: ﴿بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ﴾ [القمر ٤٦].
* ويستفاد من الآية أيضا: إثبات إتيان الله عز وجل؛ إثبات إتيانه عز وجل لقوله: ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة ٢١٠]. والمراد إتيانه نفسه أو أمره؟ إتيانه نفسه؛ لأن الشيء إذا أضيف إلى الله فالمراد نفسه، ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ﴾ [الأنعام ١] أي: هو نفسه الذي خلق. ﴿اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الأعراف ٥٤] أي: هو نفسه، ﴿يَكِيدُونَ﴾ [الطارق ١٥] ﴿وَأَكِيدُ﴾ [الطارق ١٦]؛ أي: نفسه، كل شيء يضاف إلى الله فالمراد نفسه، إلا أن يقوم دليل على أنه لا يراد به نفسه فيتبع الدليل، ففي الحديث: «جُعْتُ فَلَمْ تُطْعِمْنِي»[[أخرجه مسلم (٢٥٦٩ / ٤٣) من حديث أبي هريرة بلفظ: «اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي».]] هذا بيّن الله عز وجل أن المراد: أن عبدًا من عباد الله استطعمه فلم يطعمه، إذن المراد إتيان الله نفسه، ولا يعارض ذلك أن الله قد يضيف الإتيان إلى أمره مثل قوله تعالى: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ﴾ [النحل ١] ومثل: ﴿أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ [النحل ٣٣] لأننا نقول: إن هذا من أمور الغيب، والصفات توقيفية، فنتوقف فيها على ما ورد، فالإتيان الذي أضافه الله لنفسه يكون إتيانه بنفسه، والإتيان الذي أضافه الله إلى أمره يكون إتيان أمره؛ لأنه ليس لنا أن نقول على الله ما لا نعلم، علينا أن نتوقف فيما ورد على حسب ما ورد.
* ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات الملائكة لقوله: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ﴾.
* ومنها قبل: إثبات عظمة الله عز وجل لقوله: ﴿فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾ شوف ﴿فِي ظُلَلٍ﴾ (ظُلل) نكرة تدل على أنها ظلل عظيمة وكثيرة، ولهذا جاء في سورة الفرقان: ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ﴾ [الفرقان ٢٥]، شوف يعني لو تصوّرت الحالة تشقق كأنها من كل جانب؛ يعني تثور ثورانًا بهذا الغمام العظيم، كل هذا تقدمة لمجيء الجبار سبحانه وتعالى، وهذا يفيد العظمة؛ عظمة الباري سبحانه وتعالى.
* ومن فوائد الآية: أن الملائكة أجسام، خلافًا لمن قال: إن الملائكة قوة وأرواح، والرد على هذا الزعم في القرآن والسنة كثير، أو لا؟
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن يوم القيامة به ينقضي كل شيء، ما بعده شيء؛ إما إلى الجنة وإما إلى النار، ما فيه أمل أن الإنسان يستعتب إذا كان من أهل النار ليكون من أهل الجنة لقوله: ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ [البقرة ٢١٠] قضي الأمر الذي قضاه من؟
* طلبة: الله.
* الشيخ: الله عز وجل، لكنه أتى بالبناء للمجهول لعظمة هذا الأمر، وهذا كقوله: ﴿وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ﴾ [هود ٤٤].
* ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات قدرة الله سبحانه وتعالى حيث إن هذا الأمر يُقضى في بعض يوم؛ لأن الله يقول: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا﴾ [الفرقان ٢٤]، والمقيل يكون في نصف النهار، في نصف النهار انتهى كل شيء، هذا على أحد التفسيرين في الآية.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الأمور كلها ترجع إلى الله وحده لقوله: ﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾، أيّ الأمور؟ الكونية أو الشرعية؟ الكل؛ الكونية والشرعية.
﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ [الشورى ١٠] ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [يوسف ٤٠] فالأمور كلها مرجعها إلى الله سبحانه وتعالى، وما ثبت فيه أنه يُرجع فيه إلى الخلق فإنما ذلك بإذن الله، فيه أشياء مرجعها إلى الخلق، والحكم بين الناس مرجعه إلى القضاة، لكن بماذا كان القضاة مرجعًا؟ بإذن الله سبحانه وتعالى، وبهذا يتبين أن الأمر كله يرجع إلى الله سبحانه وتعالى.
هل نأخذ من هذه الآية قاعدة: إثبات الأفعال لله؟ لأن عندنا الآن نوع من أنواع الأفعال وهو الإتيان، فهل نقول: إنه يدل على إثبات كل فعل لله؟
الجواب: لا؛ لأن النوع أخص من الجنس، وثبوت الأخص لا يقتضي ثبوت الأعم، لكنه نعم يدل على ثبوت جنس الفعل لا كل فعل، وأن الله سبحانه وتعالى تقوم به الأفعال الاختيارية مثل: الاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والقرب من عباده كيف يشاء، والضحك، والعجب، ووضع قدمه على النار وهي تقول: هل من مزيد؟ وغير ذلك من الأفعال التي جاءت في الكتاب والسنة، وأهل السنة والجماعة يؤمنون بها على أنها أفعال؛ أفعال متعلقة بذاته، وأنه سبحانه وتعالى يفعل ما يريد، وأما أهل التعطيل والتأويل فلا يقرّون بذلك، ولا يرون أن الله تقوم به الأفعال الاختيارية، ويحرّفون ما جاء في الكتاب والسنة على المعاني القديمة أيضًا، ولهذا: الكلامُ عندهم: المعنى القائم بنفسه، وهو قديم أيضًا كقدم العلم والقدرة، ما يمكن أن الله تعالى يتكلم بكلام حادث يحدثه ويتكلم بما شاء.
* طالب: قولنا يُقضى يعني يقضى الأمر بينهم يعني أهل الفترة، أهل الأعراف يتأخرون يعني بعد ها اليوم؟
* الشيخ: الله أعلم هل يتأخرون كل ها اليوم هذا أو بعض اليوم بقيته، ما أدري.
* الطالب: أهل الأعراف يعني يرون أهل النار.
* الشيخ: إي، يرون أهل النار، ويرون أهل الجنة، لكن من الجائز أن يكون في بقية اليوم، لكن أنا عندي في هذه المسألة إشكال إلا أنه عند التأمل ما فيه إشكال هو حديث أبي هريرة في قصة مانعي الزكاة: «كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ»[[أخرجه مسلم (٩٨٧ / ٢٤) من حديث أبي هريرة.]] فإنه قد يتبادر من هذا الحديث أن اليوم يتم، لكنه ليس بلازم أن يتم، أقول: ليس بلازم؛ لأن الحديث يقول: «فِي يَوْمٍ». و(في) للظرفية، والظرف يكون أوسع من المظروف، فمن الجائز أن يُعذب إلى نصف اليوم الذي يكون به انصراف كل أحد إلى مكانه.
* طالب: شيخ، إثباتنا للمشيئة يستفاد من هذه الآية؟
* الشيخ: منين؟
* الطالب: من الإتيان، يكون بالمشيئة.
* الشيخ: من اللازم إي نعم، يستفاد منها، ويستفاد أيضًا إذا بغينا نجيب اللوازم إثبات المشيئة؛ لأن الإتيان لا يكون إلا بمشيئة، ويستفاد أيضًا عظمة الله عز وجل وتمام سلطانه وملكه من قوله: ﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ [البقرة ٢١٠].
* طالب: شيخ، ما يصير مقضي لهم يعني بالجنة لكن يبقون بالأعراف بعد القضاء هذا؟
* الشيخ: لا، يعني أهل الأعراف قصدك؟
* الطالب: إي نعم، يعني في بعض اليوم؟
* الشيخ: الله أعلم؛ لأن أصحاب الأعراف ما يطلق عليهم أنهم من أصحاب الجنة على الإطلاق، ولهذا في سورة الأعراف ذكر الله ثلاثة أصناف: أصحاب النار، وأصحاب الجنة، وأصحاب الأعراف، والله أعلم كم يبقون بالأعراف هذه.
* الطالب: بس في الشورى يقول: ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾ [الشورى ٧]
* الشيخ: صحيح، هذا المآل النهائي، المآل النهائي هذا هو.
* طالب: يعني خمسين ألف سنة فترة، هذه الفترة كلها يعذَّب فيها؟
* الشيخ: لا، ما هو بالظاهر؛ لأنه قوله: «حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ»، وإذا قلنا: إنه يُقضى بين العباد في نصف اليوم، فمعناه إلى نصف اليوم.
* الطالب: مدة الفترة؟
* الشيخ: له؟ له هو؟
* الطالب: (...).
* الشيخ: ما هو بالظاهر؛ لأن (حتى يُقضى) غاية، والغاية هي أن يُقضى بين العباد.
* الطالب: (...) في اليوم (...) العباد.
* الشيخ: إيه، ما يخالف، اليوم كان مقداره خمسين ألف سنة، لكن ما يلزم أن يكون كل اليوم يعذب؛ لأن تقييده حتى يقضى، هو صحيح لو عُذب أول اليوم اللي مقداره خمسين ألف سنة لصدق أنه يعذب في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة؛ لأنه قد عُذب في هذا اليوم إلى أن يقضى بين العباد، أقول الحديث: «فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ» هذا اليوم اللي مقداره خمسين ألف سنة يُقضى بين العباد في نصف يوم، والحديث يقول: «حَتّى يُقْضَى» ومعنى ذلك أن عذابه يمتد إلى أن يقضى بين العباد وهو نصف اليوم، وكلمة «فِي يَوْمٍ» ما يمنع أن يكون في أوله فقط، لو قلت لشخص: زرتك في يوم الخميس، هل يلزم أن تمتد الزيارة من أول اليوم إلى آخره؟ ما يلزم، يمكن زرته في أول اليوم إلى نصف النهار أو إلى ثلث النهار، فهو يُعذّب في يوم كان مقدراه خمسين ألف سنة إلى أن يُقضى، تعذيبه إلى أن يقضى بين العباد، فإذا كان يقضى بين العباد في النصف انتهى تعذيبه في النصف.
* طالب: شيخ، «خمسين ألف» ما معناه؟
* الشيخ: معناه عظمة هذا اليوم، وليس معناه امتداده خمسين ألف سنة، بيان عظمة هذا اليوم ولا يلزم من هذا امتداده.
* الطالب: لكن ما يكون فيه يكون بخمسين ألف سنة.
* الشيخ: هو لولا كلمة «حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ» لكان ظاهر الحديث أن تعذيبه من أوله إلى آخره، لكن لما قُيِّدت «حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ»، وقلنا: إنه يقضى بين العباد في نصف اليوم بناءً على قوله: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا﴾ [الفرقان ٢٤] تبيّن أن عذابهم إلى نصف اليوم، وما أطوله؛ خمس وعشرون ألف سنة.
* طالب: شيخ، ما وجه الدلالة من هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى يتم الحساب في بعض اليوم؟
* الشيخ: نعم؟
* الطالب: قلتم: يقال: (...) سبحانه وتعالى حيث إن هذا الأمر يقضى في بعض يوم؟
* الشيخ: لا، ما قلنا، ما يستفاد من هذا، يستفاد من آية الفرقان.
* طالب: شيخ، اليوم المقصود في هذه الآية، هل المقصود به اليوم عند الله سبحانه وتعالى؟
* الشيخ: إي، يوم القيامة ﴿مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ [المعارج ٤].
* الطالب: بمعنى عندنا هل الفترة الزمنية بما نعد أيامنا نحن؟
* الشيخ: إي، هو الظاهر.
* الطالب: خمسين ألف؟
* الشيخ: خمسين ألف سنة.
* الطالب: الله أكبر!
* الشيخ: ثم قال تعالى: ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾ إلى آخره [البقرة: ٢١١].
* يستفاد من هذه الآية: بيان كثرة نعم الله على بني إسرائيل لقوله: ﴿كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾.
* ومن فوائدها: تقريع بني إسرائيل الذين كفروا بنعمة الله وتوبيخهم؛ لأن المراد بالسؤال هنا سؤال استعلام ولَّا سؤال توبيخ؟ سؤال توبيخ.
* ومن فوائد الآية الكريمة: التحذير من تبديل نعمة الله عز وجل لقوله: ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ﴾ [البقرة ٢١١].
ومنها: إثبات شدة العقاب من الله لقوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [البقرة ٢١١]
والعقاب في موضعه محمود؟ نعم، محمود، بل مأمور به ﴿فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ﴾ [النور ٢] اجلدوهم، الرجم عقوبة؛ عقوبة أيش؟
* طلبة: الزنا.
* الشيخ: يسمونها المتأخرون (إعدام)، وهذا غلط، عقوبة قتل، وفرق بين القتل والإعدام، إذا قتلنا واحدًا هل نحن أعدمناه؟ لا، جسمه باقٍ لكن..
(...) بما لا يسمى به؛ لأن باب الإخبار أوسع من باب التسمية، فمثلًا: يجوز لنا أن نخبر بأن الله متكلم، يجوز؟
* طلبة: نعم.
* الشيخ: نسميه؟
* الطلبة: لا.
* الشيخ: ما نسميه. يجوز نقول: إن الله مريد، ولَّا لا؟ نخبر أنه مريد، ولا نسميه، ولهذا قال: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الحجر ٤٩] بعده؟ ﴿وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ﴾ [الحجر ٥٠] فشدة العقاب؛ شديد العقاب، والحقيقة أن هذه صفة مشبهة مضافة إلى الفاعل، هو الله شديد العقاب، الشدة في عقابه، لكن الغفور الرحيم من أسمائه كما في آية: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ﴾ [الحجر ٤٩، ٥٠].
* طالب: شيخ، الآن فيه ضابط في إطلاق الأسماء والصفات على الله عز وجل، ما هو الضابط للإخبار عن الله عز وجل؟
* الشيخ: نعم، الضابط للإخبار عن الله أنك تُخبر عن الله بكل صفة اتصف الله بها، كل صفة اتصف الله بها تُخبر بها عنه، لكن إن كانت مُطلقة فمطلقة، وإن كانت مقيّدة فمقيدة، هناك أشياء ما يصح الإخبار بها عن الله؛ لأنها لا تليق به؛ كالنائم مثلًا، أو العاجز، أو الجاهل، أو ما أشبه ذلك؛ لأنها ما تليق بالله عز وجل، لكن فيه أشياء ما تسمى الله بها، لكنه يُخبر بها عنه؛ لأنها هي ما تصح أن تكون اسمًا لكون أسماء الله الحسنى ما فيها احتمال للسيئ أبدًا، كل الأسماء حسنى، ما فيها سوء ولا بالاحتمال، لكن الذي يخبَر به عنه قد يكون في بعض الأحيان يكون فيه يتضمن السوء، لكن بالنسبة لله ما يتضمن السوء، مثلًا المتكلم، المتكلم قد يتكلم بخير، وقد يتكلم بشر، فليس كل الكلام خير، والمريد أيضًا إرادة خير وإرادة شر، ولهذا ما جاءت اسمًا، لكن جاءت خبرًا؛ لأن باب الإخبار أوسع، الصانع مثلًا يُخبر به عن الله، لكن لا يسمى به.
* طالب: يا شيخ، الطبيب؛ يعني معنى الطبيب.
* الشيخ: خبر لا بأس.
* طالب: قول: مهندس الكون الأعظم، قول بعض؟
* الشيخ: والله هذه مهندس.
* طالب: ويش؟! (...).
* الشيخ: نعم، فيه من يقول هكذا يتجاسر، أنا ما أتجاسر أن أقولها، وإلا معناها صحيح؛ لأن الهندسة ويش معناها؟
* طلبة: الإتقان والتصميم.
* الشيخ: التصميم والإتقان، التصميم بإتقان، لكني ما أتجاسر أن أقولها لله، أما الطبيب فقد «روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه مرض فقيل له: ألا ندعو لك الطبيب؟ فقال إن الطبيب رآني وقال: أنا أفعل ما أريد.»[[انظر الزهد لأحمد بن حنبل (٥٨٨)، وحلية الأولياء لأبي نعيم (١ / ٣٤).]] أما مسألة المهندس قد تشعر مهندس إن لم يكن فهمي خطأ؛ قد تفهم بأنه متعلم، متعلم يعني مكتسب للصنعة اكتسابًا، وقد يقول قائل: والطبيب أيضًا باعتبار إضافته للآدمي أيضًا مكتسبها، لكني لا أتجاسر أن أقول مهندس الكون، ما أستطيع.
* طالب: شيخ، مخترع؟
* الشيخ: مخترع يصلح، يُطلق عليه؛ لأن المخترع مثل المبدع، ولهذا توجد هذه في كلام بعض أهل العلم أنه قادر على الاختراع وما أشبه ذلك.
ثم قال: ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إلى آخره [البقرة: ٢١٢].
* يستفاد من هذه الآية الكريمة: انخداع الكافرين بالحياة لقوله: ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾.
* ويستفاد منها: أن الكفار عاشقون لها، وأنها هي همهم وغرضهم؛ لأن ما زين للشخص فلا بد أن يكون الشخص مهتمًّا به طالبًا له.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن المؤمنين ليست الدنيا في أعينهم شيئًا لقوله: ﴿لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ واضح؟ ولهذا كان الرسول ﷺ إذا رأى ما يعجبه في الدنيا يقول: «لَبَّيْكَ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَةِ»[[أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (١٦٠٣٨) من حديث عبد الله بن الحارث.]] كلمة عظيمة هي، إذا رأى ما يعجبه من أي شيء يقول: «لَبَّيْكَ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَةِ» لماذا؟ لأن النفس إذا رأت ما يعجبها بطبيعتها تطلب هذا الشيء فيقول: «لَبَّيْكَ» لتوجيه النفس إلى إجابة من؟ إلى إجابة الله لا إلى إجابة رغبتها، وإلا النفس هذا الشيء الدنيا مزينة في قلوب الناس إلا من عصم الله، فالنفس تطلبها تتجه إليها فيقول: «لَبَّيْكَ»، ثم يقنع النفس أيضًا بأني ما صددتك وأجبت الرب عز وجل إلا لخير لماذا؟ «إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَةِ»، وصدق الرسول عليه الصلاة والسلام العيش عيش الآخرة، والعجيب أن من طلب عيش الآخرة طاب له عيش الدنيا، ومن طلب عيش الدنيا ضاعت عليه الدنيا والآخرة.
قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [الزمر ١٥] هذا الخسارة؛ خسروا أنفسهم لأنها راحت عليهم، مآلهم النار والعياذ بالله، وأهلوهم أيضًا الذين في النار ما يهتم بعضهم ببعض، كلٌّ -والعياذ بالله- شقي فيما هو فيه، والحاصل أننا نقول: إن هذه من حكمة الرسول عليه الصلاة والسلام التي ينبغي لكل إنسان، نحن نرى في الدنيا ما يعجبنا لا شك، نرى ما يعجبنا من المراكب والقصور وغيرها، لكن حط هذه على بالك: «لَبَّيْكَ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَةِ» تجد كل اللي أمامك يتضاءل، إذا قلتها بصدق وإخلاص ومتابعة للرسول عليه الصلاة والسلام ترى كل ها اللي أمامك يعجبك تراه متضائلًا ما كأنه شيء.
* ومن فوائد الآية الكريمة: حقارة الدنيا، منين نأخذها؟ من وصفها بذلك: الدنيا؛ بالحياة الدنيا، وقد سبق لنا أنها من الدنوِّ زمنًا ورتبة؛ زمنًا لأنها قبل الآخرة، ورتبةً لأنها قليلة بالنسبة للآخرة.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الكفار لا يزالون يسلِّطون أنفسهم على المؤمنين لقوله: ﴿وَيَسْخَرُونَ﴾ لكن أنا أقول: لا يزالون يسلطون، منين أخدت لا يزالون؟ من قوله: ﴿وَيَسْخَرُونَ﴾ بالفعل المضارع، شوف: ﴿زُيِّنَ﴾،﴿ويسخرون﴾، ما قال: وسخروا. ﴿وَيَسْخَرُونَ﴾؛ لأن المضارع يدل على الاستمرار والحال والاستقبال، فهم دائمًا في سخرية من الذين آمنوا، يقولوا: أيش ها دولا (...)؟! سيارة مثل (...) وبيت من الطين، وما أشبه ذلك. شوف يسخر، لكن العبرة بالنهاية؛ ﴿وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ﴾ [البقرة ٢١٢] ومتى؟ يوم القيامة، اللي ما فيه رجوع إلى الورا، أو نزول إلى الأرض، ولهذا قال: ﴿وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [البقرة ٢١٢].
* ومن فوائد الآية الكريمة: تثبيت المؤمنين وترسيخ أقدامهم في إيمانهم لقوله: ﴿يَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة ٢١٢] يعني: اصبروا، اصبروا؛ فإن هذا دأبهم وشأنهم أن يسخروا منكم، ولكن ما دمتم تعرفون أن هذا طبيعة الكفار أو شيء كالطبيعة فإن الإنسان يصبر، حقيقة أن الإنسان إذا عرف أن هذا الشيء لا بد منه يكون مستعدًّا له وقابلًا له وغير متأثر فيه.
* ومن فوائد الآية الكريمة: البشرى للمؤمنين للذين اتقوا أنهم فوق الكفار يوم القيامة، واتل قول الله عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ﴾ [المطففين ٢٩ - ٣٢] رجعيُّون؛ يعني ما عندهم (...) ما يصلحون لهذا العصر، بعدها: ﴿وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (٣٣) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [المطففين ٣٣، ٣٤] اليوم يوم القيامة ﴿الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ﴾ [المطففين ٣٤] هذا والله ضحك ما بعده بكاء، لكن ضحك أولئك المجرمين بعده بكاء.
﴿عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ﴾ [المطففين ٣٥] ويش ينظرون؟ ينظرون ما أعد الله لهم من النعيم، ومنه النظر إلى وجهه تعالى -الله يجعلني وإياكم منهم- النظر إلى وجه الله، وينظرون أيضًا إلى ما فعل الله بهؤلاء ﴿قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ﴾ [الصافات ٥١- ٥٥]. قرينه في الدنيا فرآه في سواء الجحيم، قال له: كلِّمه، هذا في أعلى عليين، وهذا في أسفل السافلين، قال له ﴿قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ﴾ [الصافات ٥٦] شوف هذا القرين الخبيث يحاول إضلال هذا الرجل؛ ﴿إِنْ كِدْتَ﴾ (إن) هذه مخففة من الثقيلة للتأكيد، و(كدت) بمعنى قاربت؛ يعني: إنك قاربت أن ترديني، ﴿وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾ [الصافات ٥٧]، إذن يطّلعون عليهم ولَّا لا؟ يطلعون عليهم، ويطلبون ممن معهم في الجنة أن يطلعوا: ﴿هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ﴾ [الصافات ٥٤] ولهذا قال: ﴿وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [البقرة ٢١٢].
إثبات أفعال الله سبحانه وتعالى المتعلقة بمشيئته لقوله: ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ﴾ وتسمى هذه الأفعال في كتب العقائد، تسمى الأفعال الاختيارية؛ يعني المتعلقة بمشيئة الله، وهي ثابتة لله عز وجل على وجه الحقيقة، وأمثلتها في القرآن كثيرة.
وقوله: ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ فيها إثبات المشيئة لله، وكل ما في الكون فإنه واقع بمشيئة الله، والمشيئة تختلف عن الإرادة لأنها لا تنقسم، بخلاف الإرادة فإنها تنقسم إلى قسمين: إرادة شرعية وإرادة كونية، أما هذه فلا تنقسم بل هي واجبة المراد، يعني إذا شاء الله تعالى شيئًا كان، ولهذا كان من قول المسلمين عامة: (ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن).
وهل تتعلق بما يحبه وما لا يحبه؟ نعم، قال الله تعالى: ﴿مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ﴾ [الأنعام ٣٩] وهذا لا يحبه، ﴿وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الأنعام ٣٩] وهذا يحبه، فهي متعلقة بما يحبه وما لا يحبه.
وقد سبق لنا أن كل فعل علَّقه الله بالمشيئة فإنه مقرون بالحكمة؛ إذ ليس لمجرد المشيئة فقط، بل للمشيئة المقرونة بالحكمة، ودليل ذلك سمعي وعقلي؛ السمعي قوله: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الإنسان ٣٠] ويش بعده؟ ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [الإنسان ٣٠] فدل هذا على أن مشيئته مقرونة بالحكمة، وأما العقلي: فلأن الله سبحانه وتعالى وصف نفسه بأنه حكيم، بل سمَّى نفسه بالحكيم، والحكيم لا يصدر منه شيء إلا وهو موافق للحكمة.
إذن يستفاد من هذه الآية: إثبات المشيئة لله، وإطلاقها مقيَّد بما عُلم من أن كل مشيئة فهي مقرونة بالحكمة.
* ومن فوائد الآية الكريمة: كثرة رزق الله عز وجل لقوله: ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ يعني معناه أنه يعطي عطاء لا يبلغ الحساب، كما قال الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة ٢٦١].
{"ayahs_start":207,"ayahs":["وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن یَشۡرِی نَفۡسَهُ ٱبۡتِغَاۤءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ رَءُوفُۢ بِٱلۡعِبَادِ","یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱدۡخُلُوا۟ فِی ٱلسِّلۡمِ كَاۤفَّةࣰ وَلَا تَتَّبِعُوا۟ خُطُوَ ٰتِ ٱلشَّیۡطَـٰنِۚ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوࣱّ مُّبِینࣱ","فَإِن زَلَلۡتُم مِّنۢ بَعۡدِ مَا جَاۤءَتۡكُمُ ٱلۡبَیِّنَـٰتُ فَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِیزٌ حَكِیمٌ","هَلۡ یَنظُرُونَ إِلَّاۤ أَن یَأۡتِیَهُمُ ٱللَّهُ فِی ظُلَلࣲ مِّنَ ٱلۡغَمَامِ وَٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ وَقُضِیَ ٱلۡأَمۡرُۚ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرۡجَعُ ٱلۡأُمُورُ","سَلۡ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ كَمۡ ءَاتَیۡنَـٰهُم مِّنۡ ءَایَةِۭ بَیِّنَةࣲۗ وَمَن یُبَدِّلۡ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَاۤءَتۡهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِیدُ ٱلۡعِقَابِ","زُیِّنَ لِلَّذِینَ كَفَرُوا۟ ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَا وَیَسۡخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ۘ وَٱلَّذِینَ ٱتَّقَوۡا۟ فَوۡقَهُمۡ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِۗ وَٱللَّهُ یَرۡزُقُ مَن یَشَاۤءُ بِغَیۡرِ حِسَابࣲ"],"ayah":"فَإِن زَلَلۡتُم مِّنۢ بَعۡدِ مَا جَاۤءَتۡكُمُ ٱلۡبَیِّنَـٰتُ فَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِیزٌ حَكِیمٌ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق