الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإنْ زَلَلْتُمْ مِن بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ البَيِّناتُ فاعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ وفي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ أبُو السَّمّالِ ”زَلِلْتُمْ“ بِكَسْرِ اللّامِ الأُولى، وهُما لُغَتانِ كَضَلَلْتُ وضَلِلْتُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: يُقالُ: زَلَّ يَزِلُّ زُلُولًا وزِلْزالًا إذا دَحَضَتْ قَدَمُهُ وزَلَّ في الطِّينِ، ويُقالُ لِمَن زَلَّ في حالٍ كانَ عَلَيْها: زَلَّتْ بِهِ الحالُ، ويُسَمّى الذَّنْبُ زَلَّةً، يُرِيدُونَ بِهِ الزَّلَّةَ لِلزَّوالِ عَنِ الواجِبِ، فَقَوْلُهُ: ﴿فَإنْ زَلَلْتُمْ﴾ أيْ (p-١٧٩)أخْطَأْتُمُ الحَقَّ وتَعَدَّيْتُمُوهُ، وأمّا سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا في السِّلْمِ كافَّةً، فَمَن قالَ في الأوَّلِ: إنَّهُ في المُنافِقِينَ، فَكَذا الثّانِي، ومَن قالَ: إنَّهُ في أهْلِ الكِتابِ فَكَذا الثّانِي، وقِسِ الباقِيَ عَلَيْهِ. يُرْوى عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: ﴿فَإنْ زَلَلْتُمْ﴾ في تَحْرِيمِ السَّبْتِ ولَحْمِ الإبِلِ ﴿مِن بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ البَيِّناتُ﴾ مُحَمَّدٌ ﷺ وشَرائِعُهُ ﴿فاعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ﴾ بِالنِّقْمَةِ ﴿حَكِيمٌ﴾ في كُلِّ أفْعالِهِ، فَعِنْدَ هَذا قالُوا: لَئِنْ شِئْتَ يا رَسُولَ اللَّهِ لَنَتْرُكَنَّ كُلَّ كِتابٍ غَيْرَ كِتابِكَ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ﴾ [النِّساءِ: ١٣٦] . المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ: ﴿فَإنْ زَلَلْتُمْ﴾ فِيهِ سُؤالٌ وهو أنَّ الحُكْمَ المَشْرُوطَ إنَّما يَحْسُنُ في حَقِّ مَن لا يَكُونُ عارِفًا بِعَواقِبِ الأُمُورِ، وأجابَ قَتادَةُ عَنْ ذَلِكَ فَقالَ: قَدْ عَلِمَ أنَّهم سَيَزِلُّونَ، ولَكِنَّهُ تَعالى قَدَّمَ ذَلِكَ وأوْعَدَ فِيهِ لِكَيْ يَكُونَ لَهُ حُجَّةٌ عَلى خَلْقِهِ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإنْ زَلَلْتُمْ﴾ يَعْنِي إنِ انْحَرَفْتُمْ عَنِ الطَّرِيقِ الَّذِي أُمِرْتُمْ بِهِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ يَدْخُلُ في هَذا الكَبائِرُ والصَّغائِرُ، فَإنَّ الِانْحِرافَ كَما يَحْصُلُ بِالكَثِيرِ يَحْصُلُ بِالقَلِيلِ. فَتَوَعَّدَ تَعالى عَلى كُلِّ ذَلِكَ زَجْرًا لَهم عَنِ الزَّوالِ عَنِ المِنهاجِ لِكَيْ يَتَحَرَّزَ المُؤْمِنُ عَنْ قَلِيلِ ذَلِكَ وكَثِيرِهِ لِأنَّ ما كانَ مِن جُمْلَةِ الكَبائِرِ فَلا شَكَّ في وُجُوبِ الِاحْتِرازِ عَنْهُ، وما لَمْ يُعْلَمْ كَوْنُهُ مِنَ الكَبائِرِ فَإنَّهُ لا يُؤْمَنُ كَوْنُ العِقابِ مُسْتَحِقًّا بِهِ، وحِينَئِذٍ يَجِبُ الِاحْتِرازُ عَنْهُ. * * * المَسْألَةُ الخامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِن بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ البَيِّناتُ﴾ يَتَناوَلُ جَمِيعَ الدَّلائِلِ العَقْلِيَّةِ والسَّمْعِيَّةِ؛ أمّا الدَّلائِلُ العَقْلِيَّةُ فَهي الدَّلائِلُ عَلى الأُمُورِ الَّتِي تُثْبِتُ صِحَّةَ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ إلّا بَعْدَ ثُبُوتِها؛ نَحْوَ العِلْمِ بِحُدُوثِ العالَمِ وافْتِقارِهِ إلى صانِعٍ يَكُونُ عالِمًا بِالمَعْلُوماتِ كُلِّها، قادِرًا عَلى المُمْكِناتِ كُلِّها، غَنِيًّا عَنِ الحاجاتِ كُلِّها، ومِثْلَ العِلْمِ بِالفَرْقِ بَيْنَ المُعْجِزَةِ والسِّحْرِ، والعِلْمِ بِدَلالَةِ المُعْجِزَةِ عَلى الصِّدْقِ، فَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ البَيِّناتِ العَقْلِيَّةِ، وأمّا البَيِّناتُ السَّمْعِيَّةُ فَهي البَيانُ الحاصِلُ بِالقُرْآنِ، والبَيانُ الحاصِلُ بِالسُّنَّةِ، فَكُلُّ هَذِهِ البَيِّناتِ داخِلَةٌ في الآيَةِ مِن حَيْثُ إنَّ عُذْرَ المُكَلَّفِ لا يَزُولُ عِنْدَ حُصُولِ كُلِّ هَذِهِ البَيِّناتِ. المَسْألَةُ السّادِسَةُ: قالَ القاضِي: دَلَّتِ الآيَةُ عَلى أنَّ المُؤاخَذَةَ بِالذَّنْبِ لا تَحْصُلُ إلّا بَعْدَ البَيانِ وإزاحَةِ العِلَّةِ، فَإذا عَلَّقَ الوَعِيدَ بِشَرْطِ مَجِيءِ البَيِّناتِ وحُصُولِها، فَبِأنْ لا يَجُوزَ أنْ يَحْصُلَ الوَعِيدُ لِمَن لا قُدْرَةَ لَهُ عَلى الفِعْلِ أصْلًا أوْلى، ولِأنَّ الدَّلالَةَ لا يَنْتَفِعُ بِها إلّا أُولُو القُدْرَةِ، وقَدْ يَنْتَفِعُ بِالقُدْرَةِ مَعَ فَقْدِ الدَّلالَةِ، وقالَ أيْضًا: دَلَّتِ الآيَةُ عَلى أنَّ المُعْتَبَرَ حُصُولُ البَيِّناتِ لا حُصُولُ اليَقِينِ مِنَ المُكَلَّفِ فَمِن هَذا الوَجْهِ دَلَّتِ الآيَةُ عَلى أنَّ المُتَمَكِّنَ مِنَ النَّظَرِ والِاسْتِدْلالِ يَلْحَقُهُ الوَعِيدُ كالعارِفِ، فَبَطَلَ قَوْلُ مَن زَعَمَ أنْ لا حُجَّةَ لِلَّهِ عَلى مَن يَعْلَمُ ويَعْرِفُ. * * * أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: إنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فَإنْ زَلَلْتُمْ مِن بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ البَيِّناتُ﴾ إشارَةٌ إلى ذَنْبِهِمْ وجُرْمِهِمْ، فَكَيْفَ يَدُلُّ قَوْلُهُ: ﴿أنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ عَلى الزَّجْرِ والتَّهْدِيدِ. الجَوابُ: أنَّ العَزِيزَ مَن لا يُمْنَعُ عَنْ مُرادِهِ، وذَلِكَ إنَّما يَحْصُلُ بِكَمالِ القُدْرَةِ، وقَدْ ثَبَتَ أنَّهُ سُبْحانَهُ (p-١٨٠)وتَعالى قادِرٌ عَلى جَمِيعِ المُمْكِناتِ، فَكانَ عَزِيزًا عَلى الإطْلاقِ، فَصارَ تَقْدِيرُ الآيَةِ: فَإنْ زَلَلْتُمْ مِن بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ البَيِّناتُ، فاعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ مُقْتَدِرٌ عَلَيْكم لا يَمْنَعُهُ مانِعٌ عَنْكم، فَلا يَفُوتُهُ ما يُرِيدُهُ مِنكم وهَذا نِهايَةٌ في الوَعِيدِ، لِأنَّهُ يَجْمَعُ مِن ضُرُوبِ الخَوْفِ ما لا يَجْمَعُهُ الوَعِيدُ بِذِكْرِ العِقابِ، ورُبَّما قالَ الوالِدُ لِوَلَدِهِ: إنْ عَصَيْتَنِي فَأنْتَ عارِفٌ بِي، وأنْتَ تَعْلَمُ قُدْرَتِي عَلَيْكَ وشِدَّةَ سَطْوَتِي، فَيَكُونُ هَذا الكَلامُ في الزَّجْرِ أبْلَغَ مِن ذِكْرِ الضَّرْبِ وغَيْرِهِ، فَإنْ قِيلَ: أفَهَذِهِ الآيَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلى الوَعْدِ كَما أنَّها مُشْتَمِلَةٌ عَلى الوَعِيدِ ؟ قُلْنا: نَعَمْ مِن حَيْثُ أتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿حَكِيمٌ﴾ فَإنَّ اللّائِقَ بِالحِكْمَةِ أنْ يُمَيِّزَ بَيْنَ المُحْسِنِ والمُسِيءِ فَكَما يَحْسُنُ مِنَ الحَكِيمِ إيصالُ العَذابِ إلى المُسِيءِ فَكَذَلِكَ يَحْسُنُ مِنهُ إيصالُ الثَّوابِ إلى المُحْسِنِ، بَلْ هَذا ألْيَقُ بِالحِكْمَةِ وأقْرَبُ لِلرَّحْمَةِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: احْتَجَّ مَن قالَ بِأنَّهُ لا وُجُوبَ لِشَيْءٍ قَبْلَ الشَّرْعِ بِهَذِهِ الآيَةِ قالَ: لِأنَّهُ تَعالى أثْبَتَ التَّهْدِيدَ والوَعِيدَ بِشَرْطِ مَجِيءِ البَيِّناتِ، ولَفْظُ ”البَيِّناتِ“ لَفْظُ جَمْعٍ يَتَناوَلُ الكُلَّ، فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الوَعِيدَ مَشْرُوطٌ بِمَجِيءِ كُلِّ البَيِّناتِ وقَبْلَ الشَّرْعِ لَمْ تَحْصُلْ كُلُّ البَيِّناتِ، فَوَجَبَ أنْ لا يَحْصُلَ الوَعِيدُ، فَوَجَبَ أنْ لا يَتَقَرَّرَ الوُجُوبُ قَبْلَ الشَّرْعِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ أبُو عَلِيٍّ الجُبّائِيُّ: لَوْ كانَ الأمْرُ كَما يَقُولُهُ المُجْبِرَةُ مِن أنَّهُ تَعالى يُرِيدُ مِنَ السُّفَهاءِ والكُفّارِ السَّفاهَةَ والكُفْرَ لَما جازَ أنْ يُوصَفَ بِأنَّهُ حَكِيمٌ، لِأنَّ مَن فَعَلَ السَّفَهَ وأرادَهُ كانَ سَفِيهًا، والسَّفِيهُ لا يَكُونُ حَكِيمًا. أجابَ الأصْحابُ بِأنَّ الحَكِيمَ هو العالِمُ بِعَواقِبِ الأُمُورِ؛ فَيَرْجِعُ مَعْنى كَوْنِهِ تَعالى حَكِيمًا إلى أنَّهُ عالِمٌ بِجَمِيعِ المَعْلُوماتِ وذَلِكَ لا يُنافِي كَوْنَهُ خالِقًا لِكُلِّ الأشْياءِ ومُرِيدًا لَها، بَلْ يُوجِبُ ذَلِكَ لِما بَيَّنّا أنَّهُ لَوْ أرادَ ما عُلِمَ عَدَمُهُ لَكانَ قَدْ أرادَ تَجْهِيلَ نَفْسِهِ فَقالُوا: لَوْ لَزِمَ ذَلِكَ لَكانَ إذا أمَرَ بِما عُلِمَ عَدَمُهُ فَقَدْ أمَرَ بِتَجْهِيلِ نَفْسِهِ. قُلْنا: هَذا إنَّما يَلْزَمُ لَوْ كانَ الأمْرُ بِالشَّيْءِ أمْرًا بِما لا يَتِمُّ إلّا بِهِ، وهَذا عِنْدَنا مَمْنُوعٌ فَإنْ قالُوا: لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَزِمَ تَكْلِيفُ ما لا يُطاقُ، قُلْنا: هَذا عِنْدَنا جائِزٌ، واللَّهُ أعْلَمُ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: يُحْكى أنَّ قارِئًا قَرَأ ”غَفُورٌ رَحِيمٌ“ فَسَمِعَهُ أعْرابِيٌّ فَأنْكَرَهُ، وقالَ: إنْ كانَ هَذا كَلامُ اللَّهِ فَلا يَقُولُ كَذا، الحَكِيمُ لا يَذْكُرُ الغُفْرانَ عِنْدَ الزَّلَلِ؛ لِأنَّهُ إغْراءٌ عَلَيْهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب