الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَسُولِ سَبِيلا﴾ ﴿يا ويْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا﴾ ﴿لَقَدْ أضَلَّنِي عَنِ الذِكْرِ بَعْدَ إذْ جاءَنِي وكانَ الشَيْطانُ لِلإنْسانِ خَذُولا﴾ ﴿وَقالَ الرَسُولُ يا رَبِّ إنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذا القُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ المُجْرِمِينَ وكَفى بِرَبِّكَ هادِيًا ونَصِيرًا﴾ "يَوْمَ" ظَرْفٌ، العامِلُ فِيهِ فِعْلٌ مُضْمَرٌ، و "عَضُّ اليَدَيْنِ" هو فِعْلُ النادِمُ المَلْهُوفِ المُتَفَجِّعِ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ وجَماعَةٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ: "الظالِمْ" في هَذِهِ الآيَةِ عُقْبَةُ بْنُ أبِي مُعَيْطٍ ؛ وذَلِكَ أنَّهُ كانَ أسْلَمَ أو جَنَحَ لِلْإسْلامِ، وكانَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ الَّذِي قَتَلَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِيَدِهِ يَوْمَ أُحُدٍ خَلِيلًا لِعُقْبَةَ، فَنَهاهُ عَنِ الإسْلامِ، فَقَبِلَ نَهْيَهُ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ فِيهِما، فالظالِمْ عُقْبَةُ، وفُلانٌ أُبَيٌّ. وفي بَعْضِ الرِواياتِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ الظالِمْ أُبَيٌّ، فَإنَّهُ كانَ يَحْضُرُ إلى النَبِيِّ ﷺ، فَنَهاهُ عُقْبَةُ، فَأطاعَهُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ومَن أدْخَلَ في هَذِهِ الآيَةِ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ فَقَدْ وهِمْ، إلّا عَلى قَوْلِ مَن يَرى "الظالِمُ" اسْمَ جِنْسٍ. (p-٤٣٥)وَقالَ مُجاهِدٌ، وأبُو رَجاءَ: الظالِمُ: اسْمُ جِنْسٍ، وفُلانٌ: الشَيْطانُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ويَظْهَرُ أنَّ "الظالِمْ" عامٌّ، وأنَّ مَقْصِدَ الآيَةِ تَعْظِيمُ يَوْمٍ يَتَبَرَّأُ فِيهِ الظالِمُونَ مِن خُلّانِهِمُ الَّذِينَ أمَرُوهم بِالظُلْمِ، فَلَمّا كانَ خَلِيلُ كُلِّ ظالِمْ غَيْرَ خَلِيلِ الآخَرِ، وكانَ كُلُّ ظالِمْ يُسَمِّي رَجُلًا خاصًّا بِهِ عَبَّرَ عن ذَلِكَ بِـ "فُلانٍ" الَّذِي فِيهِ الشِياعُ التامُّ، ومَعْناهُ واحِدٌ عَنِ الناسِ، ولَيْسَ مِن ظالِمْ إلّا ولَهُ في دُنْياهُ خَلِيلٌ يُعِينُهُ ويُحَرِّضُهُ، هَذا في الأغْلَبِ، ويُشْبِهُ أنَّ سَبَبَ الآيَةِ وتَرَتُّبَ هَذِهِ المَعانِي كانَ عُقْبَةَ وأُبَيًّا، وقَوْلُهُ: ﴿مَعَ الرَسُولِ﴾ يُقَوِّي ذَلِكَ بِأنْ يَجْعَلَ تَعْرِيفَ "الرَسُولِ" لِلْعَهْدِ، والإشارَةِ إلى مُحَمَّدٍ ﷺ، وعَلى التَأْوِيلِ الأوَّلِ التَعْرِيفُ لِلْجِنْسِ. وكُلُّهم قَرَأ "لَيْتَنِي" ساكِنَةَ الياءِ غَيْرَ أبِي عَمْرٍو فَإنَّهُ حَرَّكَ الياءَ في "لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ"، ورَواها أبُو حامِدٍ عن نافِعٍ مِثْلَ أبِي عَمْرٍو، و "السَبِيلُ" المُتَمَنّاةُ هي طَرِيقُ الآخِرَةِ. وفي هَذِهِ الآيَةِ لِكُلِّ ذِي نُهْيَةٍ تَنْبِيهٌ عَلى تَجَنُّبِ قَرِينِ السُوءِ، والأحادِيثُ والحِكَمُ في هَذا البابِ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: "يا ويْلَتى" التاءُ فِيهِ عِوَضٌ عَنِ الياءِ فِي: يا ويْلِي، والألِفُ هي الَّتِي في قَوْلِهِمْ: يا غُلامًا، وهي لُغَةٌ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ بِإمالَةِ: "يا ويْلَتى"، قالَ أبُو عَلِيٍّ: (p-٤٣٦)وَتَرْكُ الإمالَةِ أحْسَنُ؛ لِأنَّ أصْلَ هَذِهِ اللَفْظَةِ الياءُ "يا ويْلَتى"، فَبُدِّلَتِ الكَسْرَةُ فَتْحَةً والياءُ ألِفًا فِرارًا مِنَ الياءِ، فَمَن أمالَ رَجَعَ إلى الَّذِي فَرَّ مِنهُ أوَّلًا. و "الذِكْرُ" هو ما ذَكَرَ بِهِ الإنْسانُ أمْرَ آخِرَتِهِ مِن قُرْآنٍ أو مَوْعِظَةٍ ونَحْوِهِ. ﴿وَكانَ الشَيْطانُ لِلإنْسانِ خَذُولا﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِن قَوْلِ الظالِمْ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ابْتِداءً إخْبارًا مِنَ اللهِ تَعالى عَلى جِهَةِ الدَلالَةِ عَلى وجْهِ ضَلالِهِمْ، والتَحْذِيرِ مِنَ الشَيْطانِ الَّذِي بَلَغَ ثَمَّ ذَلِكَ المَبْلَغَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَقالَ الرَسُولُ﴾ حِكايَةٌ عن قَوْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ في الدُنْيا، وتَشَكِّيهِ ما يَلْقاهُ مِن قَوْمِهِ، هَذا قَوْلُ الجُمْهُورِ، وهو الظاهِرُ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: هو حِكايَةٌ عن قَوْلِ ذَلِكَ في الآخِرَةِ. وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو: "قَوْمِيَ" بِتَحْرِيكِ الياءِ، والباقُونَ بِسُكُونِها. و "مَهْجُورًا" يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ: مُبْعَدًا مَقْصِيًّا، [وَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ] مِنَ الهُجْرِ (بِضَمِ الهاءِ) إشارَةً إلى قَوْلِهِمْ: شِعْرٌ وكَهانَةٌ وسِحْرٌ، وهَذا قَوْلُ مُجاهِدٍ، والنَخَعِيِّ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ويَقُولُ ابْنُ زَيْدٍ: هو تَنْبِيهٌ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلى مُلازَمَةِ المُصْحَفِ، وألّا تَكُونَ الغَبَرَةُ تَعْلُوهُ في البُيُوتِ ويُشْتَغَلُ بِغَيْرِهِ، ورَوى أنَسٌ عَنِ النَبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «مَن عَلَّقَ مُصْحَفًا ولَمْ يَتَعاهَدْهُ أتى يَوْمَ القِيامَةِ مُتَعَلِّقًا بِهِ، يَقُولُ: هَذا اتَّخَذَنِي مَهْجُورًا، اقْضِ يا رَبِّ بَيْنِي وبَيْنَهُ». ثُمْ آنَسَهُ عن فِعْلِ قَوْمِهِ بِأنْ أعْلَمَهُ أنَّ غَيْرَهُ مِنَ الرُسُلِ كَذَلِكَ امْتُحِنَ بِأعْداءٍ في زَمَنِهِ، أيْ: فاصْبِرْ كَما صَبَرُوا، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، و "عَدُوًّا" يُرادُ بِهِ الجَمْعُ، (p-٤٣٧)تَقُولُ: "هَؤُلاءِ عَدُوٌّ لِي"، فَتَصِفُ بِهِ الجَمْعَ والواحِدَ والمُؤَنَّثَ، ثُمْ وعَدَهُ تَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿وَكَفى بِرَبِّكَ هادِيًا ونَصِيرًا﴾، والباءُ في "بِرَبِّكَ" لِلتَّأْكِيدِ، دالَّةٌ عَلى المَعْنى، إذْ هُوَ: اكْتَفِ بِرَبِّكَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب