الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أحْسَنَ ما عَمِلُوا ويَزِيدَهم مِن فَضْلِهِ واللهُ يَرْزُقُ مِن يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا أعْمالُهم كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَمْآنُ ماءً حَتّى إذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ووَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفّاهُ حِسابَهُ واللهُ سَرِيعُ الحِسابِ﴾ ﴿أو كَظُلُماتٍ في بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِن فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إذا أخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها ومَن لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَما لَهُ مِن نُورٍ﴾ اللامُ في قَوْلِهِ تَعالى: "لِيَجْزِيَهُمْ" مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: فَعَلُوا ذَلِكَ، ويَسَّرُوا لِذَلِكَ، ونَحْوَ هَذا، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ مُتَعَلِّقَةً بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: "يُسَبِّحُ". وقَوْلُهُ: "أحْسَنَ ما عَمِلُوا" فِيهِ حَذْفُ مُضافٍ تَقْدِيرُهُ: ثَوابَ أحْسَنَ ما عَمِلُوا، ثُمْ وعَدَهم عَزَّ وجَلَّ بِالزِيادَةِ مِن فَضْلِهِ عَلى ما تَقْتَضِيهِ أعْمالُهُمْ، فَأهْلُ الجَنَّةِ أبَدًا في مَزِيدٍ، ثُمْ ذَكَرَ أنَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشاءُ، ويَخُصُّهُ بِما يَشاءُ مِن رَحْمَتِهِ دُونَ حِسابٍ ولا تَعْدِيدٍ، وكُلُّ تَفَضُّلٍ لِلَّهِ فَهو بِغَيْرِ حِسابٍ، وكُلُّ جَزاءٍ عَلى عَمَلِ فَهو بِحِسابٍ. ولِما ذَكَرَ اللهُ تَعالى فِيما تَقَدَّمَ مِن هَذِهِ الآيَةِ حالَةَ الإيمانِ والمُؤْمِنِينَ وتَنْوِيرِهِ قُلُوبَهُمْ، عَقَّبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ الكَفَرَةِ وأعْمالِهِمْ، فَمَثَّلَ لَها ولَهم تَمْثِيلَيْنِ: الأوَّلُ مِنهُما يَقْتَضِي حالَ أعْمالِهِمْ في الآخِرَةِ مِن أنَّها غَيْرُ نافِعَةٍ ولا مُجْدِيَةٍ، والثانِي يَقْتَضِي حالها في الدُنْيا مِن أنَّها في الغايَةِ مِنَ الضَلالِ والغُمَّةِ الَّتِي مَثَّلَها ما ذَكَرَ مِن تَناهِي الظُلْمَةِ في قَوْلِهِ: "أو كَظُلُماتٍ". و"السَرابُ": ما تَرَقْرَقَ مِنَ الهَواءِ في الهَجِيرِ في فَيافِي الأرْضِ المُنْبَسِطَةِ، وأوهَمَ الناظِرَ إلَيْهِ عَلى البُعْدِ أنَّهُ ماءٌ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لَأنَّهُ يَنْسَرِبُ كالماءِ، فَكَذَلِكَ أعْمالُ الكافِرِ، يَظُنُّ في دُنْياهُ أنَّها نافِعَتُهُ، فَإذا كانَ يَوْمَ القِيامَةِ لَمْ يَجِدْها شَيْئًا، فَهي كالسَرابِ الَّذِي يَظُنُّهُ الرائِي العَطْشانُ ماءً، فَإذا قَصَدَهُ وأتْعَبَ نَفْسَهُ بِالوُصُولِ إلَيْهِ لَمْ يَجُدْ شَيْئًا، و"القِيعَةُ": جَمْعُ قاعٍ، كَجارٍ وجِيرَةٍ، والقاعُ: المُنْخَفِضُ البِساطُ مِنَ الأرْضِ، ومِنهُ «قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ (p-٣٩٤)فِي مانِعِ زَكاةِ الأنْعامِ: فَيُبْطَحُ لَها بِقاعٍ قَرْقَرٍ». وقِيلَ: القِيعَةُ مُفْرِدٌ، وهو بِمَعْنى القاعُ. وقَرَأ مَسْلَمَةُ بْنُ مُحارِبٍ: "بِقِيعاتٍ"، وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ، وشَيْبَةُ، ونافِعٌ بِخِلافٍ-: "الظَمَآنُ" بِفَتْحِ المِيمِ وطَرْحِ حَرَكَةِ الهَمْزَةِ عَلى المِيمِ وتَرَكَ الهَمْزَةِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿حَتّى إذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا﴾ يُرِيدُ: شَيْئًا نافِعًا في العَطَشِ، أو يُرِيدُ: شَيْئًا مَوْجُودًا عَلى العُمُومِ، ويُرِيدُ بِـ "جاءَهُ": جاءَ مَوْضِعَهُ الَّذِي تَخَيَّلَهُ فِيهِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ الضَمِيرُ في "جاءَهُ" عَلى السَرابِ، ثُمْ يَكُونُ في الكَلامِ بَعْدَ ذَلِكَ مَتْرُوكٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الظاهِرُ تَقْدِيرُهُ: فَكَذَلِكَ الكافِرُ يَوْمَ القِيامَةِ يُظَنُّ عَمَلَهُ نافِعًا حَتّى إذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا، ويُحْتَمَلُ الضَمِيرُ أنْ يُعُودَ عَلى العَمَلِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: "أعْمالُهُمْ"، ويَكُونُ تَمامُ المَثَلِ في قَوْلِهِ: "ماءً"، ويَسْتَغْنِي الكَلامُ عن مَتْرُوكٍ عَلى هَذا التَأْوِيلِ، لَكِنْ يَكُونُ في المَثَلِ إيجازٌ واقْتِضابٌ لِوُضُوحِ المَعْنى المُرادِ بِهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ﴾ أيْ: بِالمَجازاتِ، والضَمِيرِ في "عِنْدَهُ" عائِدٌ عَلى العِلْمِ، وباقِي الآيَةِ بَيِّنٌ، فِيهِ تُوعَدٌ وسُرْعَةُ الحِسابِ مِن حَيْثُ هو بِعِلْمٍ لا تَكَلُّفُ فِيهِ. (p-٣٩٥)وَقَوْلُهُ تَعالى: "أو كَظُلُماتٍ" عَطْفٌ عَلى قَوْلِهِ: "كَسَرابٍ"، وهَذا المِثالُ الأخِيرُ تَضَمَّنَ صِفَةَ أعْمالِهِمْ في الدُنْيا، أيْ إنَّهم مِنَ الضَلالِ ونَحْوَهُ في مِثْلِ هَذِهِ الظُلْمَةِ المُجْتَمِعَةِ مِن هَذِهِ الأشْياءِ، وذَهَبَ بَعْضُ الناسِ إلى أنَّ في هَذا المِثالِ أجْزاءً تُقابِلُ أجْزاءً مِنَ المُمَثَّلِ، فَقالَ: الظُلُماتُ: الأعْمالُ الفاسِدَةُ والمُعْتَقَداتُ الباطِلَةُ، والبَحْرُ اللُجِّيُّ: صَدْرُ الكافِرِ وقَلْبُهُ، واللُجِّيُّ مَعْناهُ ذُو اللُجَّةِ وهي مُعْظَمُ الماءِ وغَمْرُهُ، واجْتِماعُ مائِهِ أشَدُّ لِظُلْمَتِهِ، والمَوْجُ هو الضَلالُ أوِ الجَهالَةُ الَّتِي غَمَرَتْ قَلْبَهُ، والفِكْرُ المُعْوَجَّةُ، والسَحابُ هو شَهْوَتُهُ في الكُفْرِ وإعْراضُهُ عَنِ الإيمانِ وما رِينَ بِهِ عَلى قَلْبِهِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا التَأْوِيلُ سائِغٌ، وألّا يُقَدَّرَ هَذا التَقابُلُ سائِغٌ. وقَرَأ سُفْيانُ بْنُ حُسَيْنٍ: "أو كَظُلُماتٍ" بِفَتْحِ الواوِ، وقَرَأ جُمْهُورُ السَبْعَةِ: "سَحابٌ" بِالرَفْعِ والتَنْوِينِ "ظُلُماتٌ"، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ -فِي رِوايَةِ قَنْبَلٍ -: "سَحابٌ" بِالرَفْعِ والتَنْوِينِ "ظُلُماتٍ" بِالخَفْضِ عَلى البَدَلِ مِن "ظُلُماتٍ" الأوَّلِ، وقَرَأ ابْنُ أبِي بَزَّةَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ: "سَحابُ" بِغَيْرِ تَنْوِينٍ عَلى الإضافَةِ عَلى "ظُلُماتٍ". وقَوْلُهُ: ﴿إذا أخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها﴾ لَفْظٌ يَقْتَضِي مُبالَغَةَ الظُلْمَةِ، واخْتَلَفَ الناسُ في هَذا اللَفْظِ، هَلْ يَقْتَضِي أنَّ هَذا الرَجُلَ -المُقَدَّرَ في هَذِهِ الأحْوالِ وأخْرَجَ يَدَهُ- رَأى يَدَهُ أو لَمْ يَرَها البَتَّةَ؟ فَقالَتْ فِرْقَةٌ: لَمْ يَرَها جُمْلَةً، وذَلِكَ أنْ "كادَ" مَعْناها قارَبَ، فَكَأنَّهُ قالَ: إذا أخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يُقارِبْ رُؤْيَتَها، وهَذا يَقْتَضِي نَفْيَ الرُؤْيَةِ جُمْلَةً، وقالَتْ فِرْقَةٌ: بَلْ رَآها بَعْدَ عُسْرٍ وشِدَّةٍ، وكانَ ألّا يَراها، ووَجْهُ ذَلِكَ أنْ "كادَ" إذا صَحِبَها حَرْفُ النَفْيِ وجَبَ الفِعْلُ الَّذِي بَعْدَها، وإذا لَمْ يَصْحَبْها انْتَفى الفِعْلُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا لازِمْ مَتى كانَ حَرْفُ النَفْيِ بَعْدَ "كادَ" داخِلًا عَلى الفِعْلِ الَّذِي بَعْدَها، تَقُولُ: "كادَ زَيْدٌ يَقُومُ" فالقِيامُ مَنفِيٌّ، فَإذا قُلْتَ: "كادَ زَيْدٌ ألّا يَقُومَ" فالقِيامُ واجِبٌ واقِعٌ، وتَقُولَ: "كادَ النَعامُ يَطِيرُ"، فَهَذا يَقْتَضِي نَفْيَ الطَيَرانِ عنهُ، فَإذا قُلْتَ: "كادَ النَعامُ ألّا (p-٣٩٦)يَطِيرَ" وجَبَ الطَيَرانُ لَهُ، فَإذا كانَ حَرْفُ النَفْيِ مَعَ "كادَ" فالأمْرُ مُحْتَمَلٌ، مَرَّةً يُوجِبُ الفِعْلَ، ومَرَّةً يَنْفِيهِ، تَقُولُ: "المَفْلُوجُ لا يَكادُ يَسْكُنُ"، فَهَذا كَلامٌ صَحِيحٌ تَضَمَّنَ نَفْيَ السُكُونِ، وتَقُولُ: "رَجُلٌ مُتَكَلِّمْ لا يَكادُ يَسْكُنُ"، فَهَذا كَلامٌ صَحِيحٌ يَتَضَمَّنُ إيجابَ السُكُونِ بَعْدَ جُهْدٍ ونادِرًا، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَذَبَحُوها وما كادُوا يَفْعَلُونَ﴾ [البقرة: ٧١] نَفْيٌ مَعَ "كادَ" تَضَمِّنَ وُجُوبَ الذَبْحِ، وقَوْلُهُ في هَذِهِ الآيَةِ: ﴿لَمْ يَكَدْ يَراها﴾ نَفْيٌ مَعَ "كادَ" يَتَضَمَّنُ في أحَدِ التَأْوِيلَيْنِ نَفْيَ الرُؤْيَةِ، ولِهَذا ونَحْوَهُ قالَ سِيبَوَيْهِ رَحِمَهُ اللهُ: "إنَّ أفْعالَ المُقارَبَةِ لَها نَحْوٌ آخَرُ" بِمَعْنى أنَّها دَقِيقَةُ التَصَرُّفِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمَن لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَما لَهُ مِن نُورٍ﴾، قالَتْ فِرْقَةٌ: يُرِيدُ: في الدُنْيا، أيْ: مَن لَمْ يَهْدِهِ اللهُ لَمْ يَهْتَدِ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: أرادَ: في الآخِرَةِ، أيْ: مَن لَمْ يَرْحَمْهُ اللهُ ويُنَوِّرْ حالَهَ بِالعَفْوِ والرَحْمَةِ فَلا رَحْمَةَ لَهُ، والأوَّلُ أبْيَنُ وألْيَقُ بِلَفْظِ الآيَةِ، وأيْضًا فَذَلِكَ مُتَلازِمْ، نُورُ الآخِرَةِ إنَّما هو لِمَن نَوَّرَ قَلْبَهُ في الدُنْيا وهُدِيَ، وقَدْ قَرَّرَتِ الشَرِيعَةُ أنَّ مَن مَرَّ لِآخِرَتِهِ عَلى كُفْرِهِ فَهو غَيْرُ مَرْحُومٍ ولا مَغْفُورٍ لَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب