الباحث القرآني

﴿في بِيُوتٍ أذِنَ اللَّهُ أنْ تُرْفَعَ ويُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالغُدُوِّ والآصالِ﴾ ﴿رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ ولا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وإقامِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ والأبْصارُ﴾ ﴿لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أحْسَنَ ما عَمِلُوا ويَزِيدَهم مَن فَضْلِهِ واللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ (p-٢٤٥)تَرَدَّدَ المُفَسِّرُونَ في تَعَلُّقِ الجارِّ والمَجْرُورِ مِن قَوْلِهِ: (في بُيُوتٍ) إلَخْ. فَقِيلَ: قَوْلُهُ: (في بُيُوتٍ) مِن تَمامِ التَّمْثِيلِ، أيْ فَيَكُونُ (في بُيُوتٍ) مُتَعَلِّقًا بِشَيْءٍ مِمّا قَبْلَهُ. فَقِيلَ: يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: (يُوقِدُ)، أيْ: يُوقِدُ المِصْباحَ في بُيُوتٍ. وقِيلَ: هو صِفَةٌ لِمِشْكاةٍ، أيْ مِشْكاةٍ في بُيُوتٍ وما بَيْنَهُما اعْتِراضٌ؛ وإنَّما جاءَ بُيُوتٍ بِصِيغَةِ الجَمْعِ مَعَ أنَّ (مِشْكاةٍ) و(مِصْباحٌ) مُفْرَدانِ؛ لِأنَّ المُرادَ بِها الجِنْسُ فَتَساوى الإفْرادُ والجَمْعُ. ثُمَّ قِيلَ: أُرِيدَ بِالبُيُوتِ المَساجِدُ. ولا يَسْتَقِيمُ ذَلِكَ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ في مَساجِدِ المُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ مَصابِيحُ وإنَّما أُحْدِثَتِ المَصابِيحُ في المَساجِدِ الإسْلامِيَّةِ في خِلافَةِ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ فَقالَ لَهُ عَلَيٌّ: نَوَّرَ اللَّهُ مَضْجَعَكَ يا ابْنَ الخَطّابِ كَما نَوَّرَتْ مَسْجِدَنا. ورُوِيَ أنَّ تَمِيمًا الدّارِيَّ أسْرَجَ المَسْجِدَ النَّبَوِيَّ بِمَصابِيحَ جاءَ بِها مِنَ الشّامِ ولَكِنْ إنَّما أسْلَمَ تَمِيمُ سَنَةَ تِسْعٍ، أيْ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ. وقِيلَ: البُيُوتُ مَساجِدُ بَيْتِ المَقْدِسِ وكانَتْ يَوْمَئِذٍ بِيَعًا لِلنَّصارى. ويَجُوزُ عِنْدِي عَلى هَذا الوَجْهِ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِالبُيُوتِ صَوامِعَ الرُّهْبانِ وأدْيِرَتَهم وكانَتْ مَعْرُوفَةً في بِلادِ العَرَبِ في طَرِيقِ الشّامِ يَمُرُّونَ عَلَيْها ويَنْزِلُونَ عِنْدَها في ضِيافَةِ رُهْبانِها. وقَدْ ذَكَرَ صاحِبُ القامُوسِ عَدَدًا مِنَ الأدْيِرَةِ. ويُرَجِّحُ هَذا قَوْلُهُ: (أنْ تُرْفَعَ) فَإنَّ الصَّوامِعَ كانَتْ مَرْفُوعَةً والأدْيِرَةَ كانَتْ تُبْنى عَلى رُءُوسِ الجِبالِ. أنْشَدَ الفَرّاءُ: ؎لَوْ أبْصَرْتَ رُهْبانَ دَيْرٍ بِالجَبَلْ لانْحَدَرَ الرُّهْبانُ يَسْعى ويَصِلْ والمُرادُ بِإذْنِ اللَّهِ بِرَفْعِها أنَّهُ ألْهَمَ مُتَّخِذِيها أنْ يَجْعَلُوها عالِيَةً وكانُوا صالِحِينَ يَقْرَءُونَ الإنْجِيلَ فَهو كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وبِيَعٌ﴾ [الحج: ٤٠] إلى قَوْلِهِ: ﴿يُذْكَرُ فِيها اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا﴾ [الحج: ٤٠] . وعَبَّرَ بِالإذْنِ دُونَ الأمْرِ؛ لِأنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْهم بِاتِّخاذِ الأدْيِرَةِ (p-٢٤٦)فِي أصْلِ النَّصْرانِيَّةِ، ولَكِنَّهم أحْدَثُوها لِلْعَوْنِ عَلى الِانْقِطاعِ لِلْعِبادَةِ بِاجْتِهادٍ مِنهم، فَلَمْ يَنْهَهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ إذْ لا يُوجَدُ في أصْلِ الدِّينِ ما يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْها فَكانَتْ في قِسْمِ المُباحِ، فَلَمّا انْضَمَّ إلى إباحَةِ اتِّخاذِها نِيَّةُ العَوْنِ عَلى العِبادَةِ صارَتْ مُرْضِيَةً لِلَّهِ تَعالى. وهَذا كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ورَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إلّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ﴾ [الحديد: ٢٧] . وقَدْ كانَ اجْتِهادُ أحْبارِ الدِّينِ في النَّصْرانِيَّةِ وإلْهامُهم دَلائِلَ تَشْرِيعٍ لَهم كَما تَقْتَضِيهِ نُصُوصٌ مِنَ الإنْجِيلِ. والمَقْصِدُ مِن ذِكْرِ هَذا عَلى هَذِهِ الوُجُوهِ زِيادَةُ إيضاحِ المُشَبَّهِ بِهِ كَقَوْلِ النَّبِيءِ ﷺ في صِفَةِ جَهَنَّمَ: «فَإذا لَها كَلالِيبُ مِثْلُ حَسَكِ السَّعْدانِ هَلْ رَأيْتُمْ حَسَكَ السَّعْدانِ» ؟ وفِيهِ مَعَ ذَلِكَ تَحْسِينُ المُشَبَّهِ بِهِ لِيَسْرِيَ ذَلِكَ إلى تَحْسِينِ المُشَبَّهِ كَما في قَوْلِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ: ؎شَجَّتْ بِذِي شَبِمٍ مِن ماءِ مَحْنِيَةٍ ∗∗∗ صافٍ بِأبْطَحَ أضْحى وهْوَ مَشْمُولُ ؎تَنْفِي الرِّياحُ القَذى عَنْهُ وأفْرَطَهُ ∗∗∗ مَن صَوْبِ سارِيَةٍ بِيضٌ يَعالِيلُ لِأنَّ ما ذُكِرَ مِن وصْفِ البُيُوتِ وما يَجْرِي فِيها مِمّا يُكْسِبُها حُسْنًا في نُفُوسِ المُؤْمِنِينَ. وتَخْصِيصُ التَّسْبِيحِ بِالرِّجالِ؛ لِأنَّ الرُّهْبانَ كانُوا رِجالًا. وأُرِيدَ بِالرِّجالِ الَّذِينَ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ ولا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ: الرُّهْبانُ الَّذِينَ انْقَطَعُوا لِلْعِبادَةِ وتَرَكُوا الشُّغْلَ بِأُمُورِ الدُّنْيا، فَيَكُونُ مَعْنى ﴿لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ ولا بَيْعٌ﴾: أنَّهم لا تِجارَةَ لَهم ولا بَيْعَ مِن شَأْنِهِما أنْ يُلْهِياهم عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، فَهو مِن بابِ: ؎عَلى لاحِبٍ لا يُهْتَدى بِمَنارِهِ والثَّناءُ عَلَيْهِمْ يَوْمَئِذٍ؛ لِأنَّهم كانُوا عَلى إيمانٍ صَحِيحٍ؛ إذْ لَمْ تَبْلُغْهم يَوْمَئِذٍ دَعْوى الإسْلامِ، ولَمْ تَبْلُغْهم إلّا بِفُتُوحِ مَشارِفِ الشّامِ بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكٍ، وأمّا كِتابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إلى هِرَقْلَ فَإنَّهُ لَمْ يُذَعْ في العامَّةِ. وكانَ الرُّهْبانُ يَتْرُكُونَ الكُوى مَفْتُوحَةً لِيَظْهَرَ ضَوْءُ صَوامِعِهِمْ، وقَدْ كانَ العَرَبُ يَعْرِفُونَ صَوامِعَ الرُّهْبانِ وأضْواءَها في اللَّيْلِ. قالَ امْرُؤُ القَيْسِ: ؎تُضِيءُ الظَّلامَ بِالعَشِيِّ كَأنَّها ∗∗∗ مَنارَةُ مُمْسى راهِبٍ مُتَبَتِّلِ (p-٢٤٧)وقالَ أيْضًا: ؎يُضِيءُ سَناهُ أوْ مَصابِيحُ راهِبٍ ∗∗∗ آمالَ السَّلِيطِ بِالذُّبالِ المُفَتَّلِ والسَّلِيطُ: الزَّيْتُ، أيْ صَبُّ الزَّيْتِ عَلى الذُّبالِ. فَهو في تِلْكَ الحالَةِ أكْثَرُ إضاءَةً. وكانُوا يَهْتَدُونَ بِها في أسْفارِهِمْ لَيْلًا. وقالَ امْرُؤُ القَيْسِ: ؎سَمَوْتُ إلَيْها والنُّجُومُ كَأنَّها ∗∗∗ مَصابِيحُ رُهْبانٍ تُشَبُّ لِقُفّالِ القُفّالُ: جَمْعُ قافِلٍ وهُمُ الرّاجِعُونَ مِن أسْفارِهِمْ. وقِيلَ: أُرِيدَ بِالرَّفْعِ الرَّفْعُ المَعْنَوِيُّ وهو التَّعْظِيمُ والتَّنْزِيهُ عَنِ النَّقائِصِ، فالإذْنُ حِينَئِذٍ بِمَعْنى الأمْرِ. وبَعْدُ، فَهَذا يَبْعُدُ عَنْ أغْراضِ القُرْآنِ وخاصَّةً المَدَنِيَّ مِنهُ؛ لِأنَّ الثَّناءَ عَلى هَؤُلاءِ الرِّجالِ ثَناءٌ جَمٌّ ومُعَقَّبٌ بِقَوْلِهِ: ﴿لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أحْسَنَ ما عَمِلُوا﴾ . والأظْهَرُ عِنْدِي: أنَّ قَوْلَهُ: (في بُيُوتٍ) ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ هو حالٌ مِن (نُورِهِ) في قَوْلِهِ: ﴿مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ﴾ [النور: ٣٥] إلَخْ مُشِيرٌ إلى أنَّ (نُورِ) في قَوْلِهِ: (مَثَلُ نُورِهِ) مُرادٌ مِنهُ القُرْآنُ، فَيَكُونُ هَذا الحالُ تَجْرِيدًا لِلِاسْتِعارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ بِذِكْرِ ما يُناسِبُ الهَيْئَةَ المُشَبَّهَةَ أعْنِي هَيْئَةَ تَلَقِّي القُرْآنِ وقِراءَتِهِ وتَدَبُّرِهِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ مِمّا أشارَ إلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيءِ ﷺ: «وما اجْتَمَعَ قَوْمٌ في بَيْتٍ مِن بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ ويَتَدارَسُونَهُ بَيْنَهم إلّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السِّكِّينَةُ وغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَن عِنْدَهُ»، فَكانَ هَذا التَّجْرِيدُ رُجُوعًا إلى حَقِيقَةِ التَّرْكِيبِ الدّالِّ عَلى الهَيْئَةِ المُشَبَّهَةِ كَقَوْلِ طَرَفَةَ: ؎وفِي الحَيِّ أحَوى يَنْفُضُ المُرْدَ شادِفٌ ∗∗∗ مَظاهِرُ سِمْطَيْ لُؤْلُؤٍ وزَبَرْجَدِ مَعَ في الآيَةِ مِن بَيانِ ما أُجْمِلَ في لَفْظِ (مَثَلُ نُورِهِ) وبِذَلِكَ كانَتِ الآيَةُ أبْلَغَ مِن بَيْتِ طَرَفَةَ؛ لِأنَّ الآيَةَ جَمَعَتْ بَيْنَ تَجْرِيدٍ وبَيانٍ، وبَيْتَ طَرَفَةَ تَجْرِيدٌ فَقَطْ. (p-٢٤٨)ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ (في بُيُوتٍ) غَيْرَ مُرْتَبِطٍ بِما قَبْلَهُ، وأنَّهُ مَبْدَأُ اسْتِئْنافٍ ابْتِدائِيٍّ وأنَّ المَجْرُورَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها) . وتَقْدِيمُ المَجْرُورِ لِلِاهْتِمامِ بِتِلْكَ البُيُوتِ ولِلتَّشْوِيقِ إلى مُتَعَلِّقِ المَجْرُورِ وهو التَّسْبِيحُ وأصْحابُهُ. والتَّقْدِيرُ: يُسَبِّحُ لِلَّهِ رِجالٌ في بُيُوتٍ، ويَكُونُ قَوْلُهُ (فِيها) تَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ (في بُيُوتٍ) لِزِيادَةِ الِاهْتِمامِ بِها. وفي ذَلِكَ تَنْوِيهٌ بِالمَساجِدِ وإيقاعُ الصَّلاةِ والذِّكْرِ فِيها كَما في الحَدِيثِ: «صَلاةُ أحَدِكم في المَسْجِدِ أيِ الجَماعَةُ تَفْضُلُ صَلاتَهُ في بَيْتِهِ بِسَبْعٍ وعِشْرِينَ دَرَجَةً» . والمُرادُ بِالغُدُوِّ: وقْتُ الغُدُوِّ وهو الصَّباحُ؛ لِأنَّهُ وقْتُ خُرُوجِ النّاسِ في قَضاءِ شُئُونِهِمْ. والآصالُ: جَمْعُ أصِيلٍ وهو آخِرُ النَّهارِ، وتَقَدَّمَ في آخِرِ الأعْرافِ وفي سُورَةِ الرَّعْدِ. والمُرادُ بِالرِّجالِ: أصْحابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ومَن كانَ مِثْلَهم في التَّعَلُّقِ بِالمَساجِدِ. وتَخْصِيصُ التَّسْبِيحِ بِالرِّجالِ عَلى هَذا؛ لِأنَّهُمُ الغالِبُ عَلى المَساجِدِ كَما في الحَدِيثِ «. . . ورَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالمَساجِدِ» . . . . ويَجُوزُ عِنْدِي أنْ يَكُونَ (في بُيُوتٍ) خَبَرًا مُقَدَّمًا (ورِجالٌ) مُبْتَدَأً، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا ناشِئًا عَنْ قَوْلِهِ: ﴿يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشاءُ﴾ [النور: ٣٥] فَيَسْألُ السّائِلُ في نَفْسِهِ عَنْ تَعْيِينِ بَعْضٍ مِمَّنْ هَداهُ اللَّهُ لِنُورِهِ فَقِيلَ: رِجالٌ في بُيُوتٍ. والرِّجالُ أصْحابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، والبُيُوتُ مَساجِدُ المُسْلِمِينَ وغَيْرُها مِن بُيُوتِ الصَّلاةِ في أرْضِ الإسْلامِ والمَسْجِدُ النَّبَوِيُّ ومَسْجِدُ قِباءَ بِالمَدِينَةِ ومَسْجِدُ جُؤاثى بِالبَحْرَيْنِ. ومَعْنى (﴿لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ﴾) أنَّهم لا تَشْغَلُهم تِجارَةٌ ولا بَيْعٌ عَنِ الصَّلَواتِ وأوْقاتِها في المَساجِدِ. فَلَيْسَ في الكَلامِ أنَّهم لا يَتَّجِرُونَ ولا يَبِيعُونَ بِالمَرَّةِ. (p-٢٤٩)والتِّجارَةُ: جَلْبُ السِّلَعِ لِلرِّبْحِ في بَيْعِها، والبَيْعُ أعَمُّ وهو أنْ يَبِيعَ أحَدٌ ما يَحْتاجُ إلى ثَمَنِهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ (يُسَبِّحُ) بِكَسْرِ المُوَحَّدَةِ بِالبِناءِ لِلْفاعِلِ و(رِجالٌ) فاعِلُهُ. وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ بِفَتْحِ المُوَحَّدَةِ عَلى البِناءِ لِلْمَجْهُولِ فَيَكُونُ نائِبُ الفاعِلِ أحَدَ المَجْرُوراتِ الثَّلاثَةِ وهي (﴿لَهُ فِيها بِالغُدُوِّ﴾) ويَكُونُ (رِجالٌ) فاعِلًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ مِن جُمْلَةٍ هي اسْتِئْنافٌ. ودَلَّ عَلى المَحْذُوفِ قَوْلُهُ (يُسَبِّحُ) كَأنَّهُ قِيلَ: مَن يُسَبِّحُهُ ؟ فَقِيلَ: يُسَبِّحُ لَهُ رِجالٌ. عَلى نَحْوِ قَوْلِ نَهْشَلِ بْنِ حَرِيٍّ يَرْثِي أخاهُ يَزِيدَ: ؎لِيُبْكَ يَزِيدُ ضارِعٌ لِخُصُومَةٍ ∗∗∗ ومُخْتَبِطٌ مِمّا تُطِيحُ الطَّوائِحُ وجُمْلَةُ (﴿لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ﴾) وجُمْلَةُ (يَخافُونَ) صِفَتانِ لِـ (رِجالٌ)، أيْ لا يَشْغَلُهم ذَلِكَ عَنْ أداءِ ما وجَبَ عَلَيْهِمْ مِن خَوْفِ اللَّهِ (وإقامِ الصَّلاةِ) إلَخْ وهَذا تَعْرِيضٌ بِالمُنافِقِينَ. و(إقامُ) مَصْدَرٌ عَلى وزْنِ الإفْعالِ. وهو مُعْتَلُّ العَيْنِ فاسْتَحَقَّ نَقْلَ حَرَكَةِ عَيْنِهِ إلى السّاكِنِ الصَّحِيحِ قَبْلَهُ وانْقِلابَ حَرْفِ العِلَّةِ ألِفًا، إلّا أنَّ الغالِبَ في نَظائِرِهِ أنْ يَقْتَرِنَ آخِرُهُ بِهاءِ تَأْنِيثٍ نَحْوَ إدامَةٍ واسْتِقامَةٍ. وجاءَ مَصْدَرُ (إقامِ) غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِالهاءِ في بَعْضِ المَواضِعِ كَما هُنا. وتَقَدَّمَ مَعْنى إقامَةِ الصَّلاةِ في صَدْرِ سُورَةِ البَقَرَةِ. وانْتَصَبَ (يَوْمًا) مِن قَوْلِهِ: (يَخافُونَ يَوْمًا) عَلى المَفْعُولِ بِهِ لا عَلى الظَّرْفِ بِتَقْدِيرِ مُضافٍ، أيْ يَخافُونَ أهْوالَهُ. وتَقَلُّبُ القُلُوبِ والأبْصارِ: اضْطِرابُها عَنْ مَواضِعِها مِنَ الخَوْفِ والوَجَلِ كَما يَتَقَلَّبُ المَرْءُ في مَكانِهِ. وقَدْ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ونُقَلِّبُ أفْئِدَتَهم وأبْصارَهُمْ﴾ [الأنعام: ١١٠] في سُورَةِ الأنْعامِ. والمَقْصُودُ مِن خَوْفِهِ: العَمَلُ لِما فِيهِ الفَلاحُ يَوْمَئِذٍ كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ﴿لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أحْسَنَ ما عَمِلُوا﴾ . (p-٢٥٠)ويَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: ﴿لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أحْسَنَ ما عَمِلُوا﴾ بِـ (يَخافُونَ)، أيْ كانَ خَوْفُهم سَبَبًا لِلْجَزاءِ عَلى أعْمالِهِمُ النّاشِئَةِ عَنْ ذَلِكَ الخَوْفِ. والزِّيادَةُ: مِن فَضْلِهِ هي زِيادَةُ أجْرِ الرُّهْبانِ إنْ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلّى عَلى اللَّهِ عَلَيْهِ وسَلَّمَ حِينَما تَبْلُغُهم دَعْوَتُهُ لِما في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أنَّ لَهم أجْرَيْنَ، أوْ هي زِيادَةُ فَضْلِ الصَّلاةِ في المَساجِدِ إنْ كانَ المُرادُ بِالبُيُوتِ مَساجِدَ الإسْلامِ. وجُمْلَةُ واللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ (لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ) . وقَدْ حَصَلَ التَّذْيِيلُ لِما في قَوْلِهِ: (مَن يَشاءُ) مِنَ العُمُومِ، أيْ وهم مِمَّنْ يَشاءُ اللَّهُ لَهُمُ الزِّيادَةَ. والحِسابُ هُنا بِمَعْنى التَّحْدِيدِ كَما في قَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ [آل عمران: ٣٧] في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ. وأمّا قَوْلُهُ: ﴿جَزاءً مِن رَبِّكَ عَطاءً حِسابًا﴾ [النبإ: ٣٦] فَهو بِمَعْنى التَّعْيِينِ والإعْدادِ لِلِاهْتِمامِ بِهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب