الباحث القرآني

(p-٦٦١)قوله عزّ وجلّ: ﴿آتُونِي زُبَرَ الحَدِيدِ حَتّى إذا ساوى بَيْنَ الصَدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتّى إذا جَعَلَهُ نارًا قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا﴾ ﴿فَما اسْطاعُوا أنْ يَظْهَرُوهُ وما اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْبًا﴾ ﴿قالَ هَذا رَحْمَةٌ مِن رَبِّي فَإذا جاءَ وعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكّاءَ وكانَ وعْدُ رَبِّي حَقًّا﴾ ﴿وَتَرَكْنا بَعْضَهم يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ في بَعْضٍ ونُفِخَ في الصُورِ فَجَمَعْناهم جَمْعًا﴾ ﴿وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضًا﴾ قَرَأ عاصِمٌ، وحَمْزَةُ: "إيتُونِي" بِمَعْنى: جِيئُونِي، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وأبُو عَمْرُو، وابْنُ عامِرٍ، والكِسائِيُّ: "آتَوْنِي" بِمَعْنى: أعْطَوْنِي، وهَذا كُلُّهُ مُتَقارِبٌ، إنَّما هو اسْتِدْعاءٌ إلى المُناوَلَةِ لا اسْتِدْعاءُ العَطِيَّةِ والهِبَةِ؛ لِأنَّهُ قَدِ ارْتَبَطَ مِن قَوْلِهِ إنَّهُ لا يَأْخُذُ مِنهُمُ الخَرْجَ، فَلَمْ يَبْقَ إلّا اسْتِدْعاءُ المُناوَلَةِ وأعْمالُ القُوَّةِ، و"إيتُونِي" أشْبَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَأعِينُونِي بِقُوَّةٍ﴾ [الكهف: ٩٥]، ونَصْبُ "الزُبُرَ" عَلى نَحْوِ قَوْلِ الشاعِرِ: أمَرْتُكَ الخَيْرَ. حُذِفَ الجارِ فَنُصِبَ الفِعْلُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "زُبَرَ" بِفَتْحِ الباءِ، وقَرَأ الحَسَنُ بِضَمِّها، وكُلُّ ذَلِكَ جَمْعٌ "زُبْرَةٍ"، وهي القِطْعَةُ العَظِيمَةُ مِنهُ. والمَعْنى: فَرَصَفَهُ وبَناهُ حَتّى إذا ساوى بَيْنَ الصَدَفَيْنِ، فاخْتَصَرَ ذَلِكَ لِدَلالَةِ الظاهِرِ عَلَيْهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "ساوى"، وقَرَأ قَتادَةُ: "سَوّى"، و"الصَدَفانِ": الجَبَلانِ المُتَناوِحانِ، ولا يُقالُ لِلْواحِدِ: صَدَفٌ، وإنَّما يُقالُ "صَدَفانِ" لِاثْنَيْنِ أحَدُهُما يُصادِفُ الآخَرَ. وقَرَأ نافِعٌ، وحَمْزَةُ، (p-٦٦٢)والكِسائِيُّ: "الصَدَفَيْنِ" بِفَتْحِ الصادِ وشَدِّها، وهي قِراءَةُ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ، وعُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ رَضِيَ اللهُ عنهُ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وابْنُ عامِرٍ، وأبُو عَمْرُو: "الصُدُفَيْنِ" بِضَمِّ الصادِّ والدالِّ، وهي قِراءَةُ مُجاهِدٍ، والحَسَنُ، وقَرَأ عاصِمٌ -فِي رِوايَةٍ أبِي بَكْرٍ -: "الصُدْفَيْنِ" بِضَمِّ الصادِ وسُكُونِ الدالِ، وقَرَأ قَتادَةُ: "بَيْنَ الصَدْفَيْنِ" بِفَتْحِ الصادِ وسُكُونِ الدالِ. وكُلُّ ذَلِكَ بِمَعْنًى واحِدٍ، هُما الجانِبانِ المُتَناوِحانِ، وقِيلَ: "الصَدَفانِ": السَطْحانِ الأعْلَيانِ مِنَ الجَبَلَيْنِ، وهَذا نَحْوٌ مِنَ الأوَّلِ. وقَوْلُهُ: ﴿قالَ انْفُخُوا﴾ الآيَةُ، مَعْناهُ أنَّهُ كانَ يَأْمُرُ بِوَضْعِ طاقَةٍ مِنَ الزُبُرِ والحِجارَةِ، ثُمَّ يُوقَدُ عَلَيْها حَتّى تُحْمى، ثُمَّ يُؤْتى بِالنُحاسِ المُذابِ أوِ الرَصاصِ أو بِالحَدِيدِ -بِحَسَبِ الخِلافِ في "القِطْرِ"- فَيُفْرِغُهُ عَلى تِلْكَ الطاقَةِ المُنَضَّدَةِ، فَإذا التَأمَ واشْتَدَّ اسْتَأْنَفَ رَصْفَ طاقَةٍ أُخْرى إلى أنِ اسْتَوى العَمَلُ، وقَرَأ بَعْضُ الصَحابَةِ: "بِقُطْرٍ أُفْرِغْ عَلَيْهِ". وقالَ أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ: "القِطْرُ": النُحاسُ المُذابُ، ويُؤَيِّدُ هَذا ما رُوِيَ «عن رَسُولِ اللهِ ﷺ، جاءَهُ رَجُلٌ فَقالَ: يا رَسُولَ اللهِ، إنِّي رَأيْتُ سَدَّ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ، قالَ: كَيْفَ رَأيْتُهُ؟ قالَ: رَأيْتُهُ كالبُرْدِ المُحَبَّرِ، طَرِيقَةٌ صَفْراءُ، وطَرِيقَةٌ حَمْراءُ، وطَرِيقَةٌ سَوْداءُ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: قَدْ رَأيْتُهُ،» وقالَتْ فِرْقَةٌ: "القِطْرُ": الرَصاصُ المُذابُ، وقالَتْ فِرْقَةٌ" القِطْرُ": الحَدِيدُ الذائِبُ. وهو مُشْتَقٌّ مِن قَطَرَ يَقْطُرُ. والضَمِيرُ في قَوْلِهِ: " فَمًا اسْتَطاعُوا" لِيَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "فَما اسْطاعُوا" بِسُكُونِ السِينِ وتَخْفِيفِ الطاءِ، وقَرَأتْ فَرِقْةٌ بِشَدِّ الطاءِ، وفِيها تَكَلُّفٌ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الساكِنِينَ. و"يَظْهَرُوهُ" مَعْناهُ: يَعْلُوهُ بِصُعُودِ فِيهِ، ومِنهُ قَوْلُهُ في المُوَطَّإ: "والشَمْسُ في حُجْرَتِها قَبْلَ أنْ تَظْهَرَ". ﴿وَما اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْبًا﴾ لِبُعْدِ عَرْضِهِ وقُوَّتِهِ، ولا سَبِيلَ (p-٦٦٣)سِوى هَذَيْنَ، إمّا ارْتِقاءٌ وإمّا نَقْبٌ. ورُوِيَ أنَّ في طُولِهِ ما بَيْنَ طَرَفَيِ الجَبَلَيْنِ مِائَةُ فَرْسَخٍ وعَرَضُهُ خَمْسُونَ فَرْسَخًا، ورُوِيَ غَيْرُ هَذا مِمّا لا ثُبُوتَ لَهُ إذْ لا غايَةَ لِلتَّخَرُّصِ، وقَوْلُهُ في هَذِهِ الآيَةِ: "انْفُخُوا" أيْ بِالأكْوارِ. وقَوْلُهُ: "اسْطاعُوا" بِتَخْفِيفِ الطاءِ عَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ، قِيلَ: هي لُغَةٌ بِمَعْنى: اسْتَطاعُوا، وقِيلَ: اسْتَطاعُوا بِعَيْنِهِ كَثُرَ في كَلامِ العَرَبِ حَتّى حَذْفَ بَعْضُهم مِنهُ التاءَ فَقالَ: اسْطاعُ، وحَذَفَ بَعْضُهُمُ الطاءَ فَقالَ: اسْتاعَ يَسْتَيِعُ، بِمَعْنى اسْتَطاعَ يَسْتَطِيعُ، وهي لُغَةٌ مَشْهُورَةٌ. وقَرَأ حَمْزَةُ وحْدَهُ: "فَما اسِطّاعُوا" بِتَشْدِيدِ الطاءِ، وهي قِراءَةٌ ضَعِيفَةُ الوَجْهِ. قالَ أبُو عَلِيٍّ: هي غَيْرُ جائِزَةٍ، وقَرَأ الأعْمَشُ: "فَما اسْتَطاعُوا أنْ يَظْهَرُوهُ وما اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْبًا" بِالتاءِ في المَوْضِعَيْنِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَ هَذا رَحْمَةٌ مِن رَبِّي﴾ الآيَةُ. القائِلُ هو ذُو القَرْنَيْنِ، وأشارَ بِهَذا إلى الرَدْمِ والقُوَّةِ عَلَيْهِ والِانْتِفاعِ بِهِ، وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ: "هَذِهِ رَحْمَةٌ". و"الوَعْدُ" يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِهِ وقْتَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وأبُو عَمْرُو، وابْنُ عُمَرَ: "دَكًّا" مَصْدَرُ دَكَّ يَدُكُّ إذا هَدَمَ ورَضَّ، وقَرَأ عاصِمٌ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: "دَكّاءَ" بِالمَدِّ، وهَذا عَلى التَشْبِيهِ بِالناقَةِ الدَكّاءِ، هي الَّتِي لا سَنامَ لَها، وفي الكَلامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: جَعْلُهُ مِثْلَ دَكّاءَ، وأمّا النَصْبُ في "دَكًّا" فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَفْعُولًا ثانِيًا بِـ "جَعَلَ"، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ "جَعَلَ" بِمَعْنى خَلَقَ ويُنْصَبُ "دَكًّا" عَلى الحالِ، وكَذَلِكَ أيْضًا النَصْبُ في قِراءَةِ مِن مَدٍّ يُحْتَمَلُ الوَجْهَيْنِ. والضَمِيرُ في "تَرَكْنا" لِلَّهِ تَعالى، وقَوْلُهُ: "يَوْمَئِذٍ" يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ لِأنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ضَمِيرُهُ، فالضَمِيرُ في قَوْلِهِ: "بَعْضَهُمْ" عَلى ذَلِكَ -لِجَمِيعِ الناسِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: "يَوْمَئِذٍ" يَوْمَ كَمالِ السَدِّ، فالضَمِيرُ في قَوْلِهِ: "بَعْضَهُمْ" لِيَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ، واسْتِعارَةُ "المَوْجِ" لَهم عِبارَةٌ عَنِ الحَيْرَةِ وتَرَدُّدِ بَعْضِهِمْ في بَعْضٍ كالوالِهِينَ مِن هَمًّ وخَوْفٍ، فَشَبَّهَهم بِمَوْجِ البَحْرِ الَّذِي يَضْطَرِبُ بَعْضُهُ في بَعْضٍ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَنُفِخَ في الصُورِ﴾ الآيَةُ. المَعْنى بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ، فَلا احْتِمالَ لِغَيْرِهِ، فَمَن تَأوَّلَ الآيَةَ كُلَّها في يَوْمِ القِيامَةِ اتَّسَقَ تَأْوِيلُهُ، ومَن تَأوَّلَ الآيَةَ إلى قَوْلِهِ: ﴿يَمُوجُ في بَعْضٍ﴾ في أمْرِ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ تَأوَّلَ القَوْلَ: "وَتَرَكْناهم يَمُوجُونَ" دَأبا عَلى مَرِّ الدَهْرِ (p-٦٦٤)وَتَناسُلِ القُرُونِ بَيْنَهُمِ وقِيامِهِمْ، ثُمَّ نُفِخَ في الصُورِ فَيَجْتَمِعُونَ، و"الصُوَرُ": في قَوْلِ الجُمْهُورِ وظاهِرِ الأحادِيثِ الصِحاحِ هو القَرْنُ الَّذِي يَنْفَخُ فِيهِ لِلْقِيامَةِ، وفي الحَدِيثِ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أنَّهُ قالَ: « "كَيْفَ أنْعَمُ وصاحِبُ القَرْنِ قَدِ التَقَطَ القَرْنَ وحَنّا الجَبْهَةَ وأصْغى بِالأُذُنِ مَتى يُؤْمَرُ"، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلى أصْحابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقالَ: "قُولُوا: حَسْبُنا اللهُ، وعَلى اللهِ تَوَكَّلْنا، ولَوِ اجْتَمَعَ أهْلُ مِنى ما أجَّلُوا ذَلِكَ القَرْنَ"،» وأمّا "النَفَخاتُ" فَأسْنَدَ الطَبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ إلى أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: « "الصُوَرُ قَرْنٌ عَظِيمٌ يَنْفُخُ فِيهِ ثَلاثُ نَفَخاتٍ: الأُولى نَفْخَةُ الفَزَعِ، والثانِيَةُ نَفْخَةُ الصَعْقِ، والثالِثَةُ نَفْخَةُ القِيامِ"،» وقالَ بَعْضُ الناسِ: "النَفَخاتُ" اثْنَتانِ: نَفْخَةُ الفَزَعِ، وهي نَفْخَةُ الصَعْقِ، ثُمَّ الأُخْرى الَّتِي هي لِلْقِيامِ. ومَلَكُ الصُورِ هو إسْرافِيلُ عَلَيْهِ السَلامُ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: الصُورُ جَمْعُ صُورَةٍ، فَكَأنَّهُ أرادَ صُوَرَ البَشَرِ والحَيَوانِ نُفِخَ فِيها الرُوحُ. والأوَّلُ أبْيَنُ وأكْثَرُ في الشَرِيعَةِ. وقَوْلُهُ: ﴿وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ﴾ مَعْناهُ: أبْرَزْناها لَهم لِتَجْمَعَهم وتُحَطِّمَهُمْ، ثُمَّ أكَّدَ بِالمَصْدَرِ عِبارَةً عن شِدَّةِ الحالِ، ورَوى الطَبَرِيُّ في هَذا حَدِيثًا مُضَمِّنُهُ أنَّ النارَ تُرْفَعُ لِلْيَهُودِ والنَصارى كَأنَّها السَرابُ، فَيُقالُ لَهُمْ: هَلْ لَكَمَ في الماءِ حاجَةٌ؟ فَيَقُولُونَ: نَعِمَ، ونَحْوَ هَذا مِمّا لا صِحَّةَ لَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب