الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿وَيَسْألُونَكَ عَنِ الرُوحِ قُلِ الرُوحِ مِن أمْرِ رَبِّي وما أُوتِيتُمْ مِن العِلْمِ إلا قَلِيلا﴾ ﴿وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أوحَيْنا إلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وكِيلا﴾ ﴿إلا رَحْمَةً مِن رَبِّكَ إنَّ فَضْلَهُ كانَ (p-٥٣٤)عَلَيْكَ كَبِيرًا﴾ ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ والجِنُّ عَلى أنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذا القُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ولَوْ كانَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾
الضَمِيرُ في "يَسْألُونَكَ" قِيلَ: هو لِلْيَهُودِ وأنَّ الآيَةَ مَدَنِيَّةٌ، «وَرَوى عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ أنَّهُ كانَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَمَرَّ عَلى حَرْثٍ بِالمَدِينَةِ - ويُرْوى عَلى خَرِبٍ- وإذا فِيهِ جَماعَةٌ مِنَ اليَهُودِ، فَقالَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عَنِ الرُوحِ، فَإنْ أجابَ فِيهِ عَرَفْتُمْ أنَّهُ لَيْسَ بِنَبِيٍّ.»
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وذَلِكَ أنَّهُ كانَ عِنْدَهم في التَوْراةِ أنِ الرَوْحَ مِمّا انْفَرَدَ اللهُ بِعِلْمِهِ، ولا يُطْلِعُ عَلَيْهِ أحَدًا مِن عِبادِهِ. قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وقالَ بَعْضُهُمْ: لا تَسْألُوهُ لِئَلّا يَأْتِي فِيهِ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
يَعْنِي -واللهُ أعْلَمُ- مِن أنَّهُ لا يُفَسِّرُهُ فَتَقْوى الحُجَّةُ عَلَيْهِمْ في نُبُوَّتِهِ، قالَ: فَسَألُوهُ، فَوَقَفَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مُتَوَكِّئًا عَلى عَسِيبٍ، فَظَنَنْتُ أنَّهُ يُوحى إلَيْهِ، ثُمَّ تَلا عَلَيْهِمُ الآيَةَ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وقِيلَ: الآيَةُ مَكِّيَّةٌ، والضَمِيرُ لِقُرَيْشٍ، وذَلِكَ أنَّهم قالُوا: نَسْألُ عن مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ- أهْلَ الكِتابِ مِنَ اليَهُودِ، فَأرْسَلُوا إلَيْهِمْ إلى المَدِينَةِ النَضِرَ بْنَ الحارِثِ، وعُقْبَةَ بْنَ أبِي مُعَيْطٍ، فَقالَ اليَهُودُ: جَرِّبُوا بِثَلاثِ مَسائِلَ، سَلُوهُ عن أهْلِ الكَهْفِ وعن ذِي القَرْنَيْنِ وعَنِ الرُوحِ، فَإنَّ فَسِرَّ الثَلاثَةَ فَهو كَذّابٌ، وإنَّ سَكْتَ عَنِ الرُوحِ فَهو نَبِيٌّ، فَسَألَتْهُ قُرَيْشٌ عَنِ الرُوحِ، فَيُرْوى أنَّ النَبِيَّ ﷺ قالَ لَهُمْ: "غَدًا أُخْبِرُكم بِهِ"، ولَمْ يَقِلْ: "إنْ شاءَ اللهُ"، فاسْتَمْسَكَ الوَحْيُ عنهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مُعاتَبَةً عَلى وعْدِهِ لَهم دُونَ اسْتِثْناءٍ، ثُمَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ.
(p-٥٣٥)واخْتَلَفَ الناسُ في الرُوحِ المَسْؤُولِ عنهُ، أيُّ رُوحٍ هُوَ؟ فَقالَتْ فِرْقَةٌ هي الجُمْهُورُ: وقَعَ السُؤالُ عَنِ الرُوحِ الَّتِي في الأشْخاصِ الحَيَوانِيَّةِ، ما هِيَ؟ فالرُوحُ اسْمُ جِنْسٍ عَلى هَذا، وهَذا هو الصَوابُ، وهو المُشْكِلُ الَّذِي لا تَفْسِيرَ لَهُ. وقالَ قَتادَةُ: الرُوحُ المَسْؤُولُ عنهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَلامُ، قالَ: وكانَ ابْنُ عَبّاسٍ يَكْتُمُهُ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: هو عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِما السَلامُ، وقالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: (مَلَكٌ لَهُ سَبْعُونَ ألْفَ وجْهٍ في كُلِّ وجْهٍ سَبْعُونَ ألْفَ لِسانٍ، لِكُلِّ لِسانٍ سَبْعُونَ ألْفَ لُغَةٍ، يُسَبِّحُ اللهَ سُبْحانَهُ بِكُلِّ تِلْكَ اللُغاتِ، فَيُخْلَقُ مِن كُلِّ تَسْبِيحَةٍ مَلَكًا يَطِيرُ مَعَ المَلائِكَةِ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، ذَكَرَهُ الطَبَرِيُّ. وما أظُنُّ هَذا القَوْلَ يَصِحُّ عن عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عنهُ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: الرُوحُ القُرْآنُ، وهَذِهِ كُلُّها أقْوالٌ مُفَسِّرَةٌ، والأوَّلُ أظْهَرُها وأصْوَبُها.
وقَوْلُهُ: ﴿مِن أمْرِ رَبِّي﴾ يَحْتَمِلُ تَأْوِيلَيْنِ: أحَدُهُما أنْ يَكُونَ "الأمْرُ" اسْمُ جِنْسٍ لِلْأُمُورِ، أيِ: الرَوْحُ مِن جُمْلَةِ أُمُورِ اللهِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِها، فَهي إضافَةُ خَلْقٍ إلى خالِقٍ، والثانِي أنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، مِن أمْرٍ يَأْمُرُ، أيِ: الرَوْحُ مِمّا أمَرَ اللهُ تَعالى أمْرًا بِالكَوْنِ فَكانَ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ، والأعْمَشُ: "وَما أُوتُوا"، ورَواها ابْنُ مَسْعُودٍ عَنِ النَبِيِّ ﷺ، وقَرَأ الجُمْهُورُ: "وَما أُوتِيتُمْ".
واخْتُلِفَ فِيمَن خُوطِبَ بِذَلِكَ -فَقالَتْ فِرْقَةٌ: السائِلُونَ فَقَطْ، تَرْجَمَ الطَبَرِيُّ بِذَلِكَ، ثُمَّ أدْخَلَ تَحْتَ التَرْجَمَةِ عن قَتادَةُ أنَّهُمُ اليَهُودُ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: المُرادُ اليَهُودُ بِجُمْلَتِهِمْ، وعَلى هَذا هي قِراءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: العالَمُ كُلُّهُ، وهَذا هو الصَحِيحُ؛ لِأنَّ قَوْلَ اللهِ تَعالى لَهُ: ﴿قُلِ الرُوحُ﴾ إنَّما هو أمْرٌ بِالقَوْلِ لِجَمِيعِ العالَمِ؛ إذْ كَذَلِكَ هي أقْوالُهُ كُلُّها، وعَلى ذَلِكَ تَمَّتِ الآيَةُ مِن مُخاطَبَةِ الكُلِّ. ويُحْتَمَلُ أيْضًا أنْ تَكُونَ مُخاطَبَةً مِنَ اللهِ تَعالى لِلنَّبِيِّ ﷺ ولِجَمِيعِ الناسِ. ويَتَّصِفُ ما عِنْدَ جَمِيعِ الناسِ مِنَ العِلْمِ بِالقِلَّةِ بِإضافَتِهِ إلى عِلْمِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ الَّذِي هو بِهَذِهِ الأُمُورِ الَّتِي عِنْدَنا مِن عِلْمِها طَرَفٌ يَسِيرٌ جِدًّا، كَما قالَ الخَضْرُ عَلَيْهِ السَلامُ لِمُوسى عَلَيْهِ السَلامُ: "ما نَقَصَ عِلْمِي وعِلْمُكَ وعِلْمُ الخَلائِقِ مِن عِلْمِ اللهِ إلّا كَما نَقَصَ هَذا العُصْفُورُ مِنَ البَحْرِ"، وأرادَ الخَضْرُ عِلْمَ اللهِ بِهَذِهِ (p-٥٣٦)المَوْجُوداتِ الَّتِي عِنْدَ البَشَرِ مِن عِلْمِها طَرَفٌ يَسِيرٌ جِدًّا نِسْبَةً إلى ما يَخْفى عنهُمْ، نِسْبَةَ النُقْطَةِ إلى البَحْرِ، وأمّا عِلْمُ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى عَلى الإطْلاقِ فَغَيْرُ مُتَناهٍ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ التَجَوُّزُ في قَوْلِ الخَضْرِ عَلَيْهِ السَلامُ: "كَما نَقَصَ هَذا العُصْفُورُ"، أيْ: إنّا لا يَنْقُصُ عِلْمُنا شَيْئًا مِن عِلْمِ اللهِ تَعالى عَلى الإطْلاقِ، ثُمَّ مَثَّلَ بِنَقْرَةِ العُصْفُورِ في عَدَمِ النَقْصِ؛ إذْ نَقْصُهُ غَيْرُ مَحْسُوسٍ فَكَأنَّهُ مَعْدُومٌ، فَهَذا احْتِمالٌ، ولَكِنْ فِيهِ نَظَرٌ، وقَدْ قالَتِ اليَهُودُ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ: كَيْفَ لَمْ نُؤْتَ مِنَ العِلْمِ إلّا قَلِيلًا وقَدْ أُوتِينا التَوْراةَ وهي الحِكْمَةُ، ومَن أُوتِيَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا؟ فَعارَضَهم رَسُولُ اللهِ ﷺ بِعِلْمِ اللهِ فَغُلِبُوا، وقَدْ نَصَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ في بَعْضِ الأحادِيثِ بِقَوْلِهِ: "كُلًّا". يَعْنِي أنَّ المُرادَ بِـ "أُوتِيتُمْ" جَمِيعَ العالِمِ، وذَلِكَ أنَّ يَهُودَ قالَتْ لَهُ: أنَحْنُ عَنَيْتَ أمْ قَوْمَكَ؟ فَقالَ: "كُلًّا"، وفي هَذا المَعْنى نَزَلَتْ: ﴿وَلَوْ أنَّما في الأرْضِ مِن شَجَرَةٍ أقْلامٌ﴾ [لقمان: ٢٧]، حَكى ذَلِكَ الطَبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أوحَيْنا إلَيْكَ﴾ الآيَةَ، فِيها شِدَّةٌ عَلى النَبِيِّ ﷺ، وهي عِتابٌ عَلى قَوْلِهِ: "غَدًا أُعْلِمُكُمْ"، فَأُمِرَ بِأنْ يَقُولَ: إنِ الرُوحَ مِن أمْرِ رَبِّي، فَيُذْعِنُ بِالتَسْلِيمِ لِلَّهِ في أنَّهُ يُعْلِمُ بِما شاءَ، ويُمْسِكُ عن عِبادِهِ ما شاءَ، ثُمَّ قِيلَ لَهُ: وما أُوتِيتُمْ أنْتَ يا مُحَمَّدُ وجَمِيعُ الخَلائِقِ مِنَ العِلْمِ إلّا قَلِيلًا، فاللهُ تَعالى يُعْلِمُ مَن عِلْمِهِ بِما شاءَ، ويَدَعُ ما شاءَ، ولَئِنْ شاءَ لَذَهَبَ بِالوَحْيِ الَّذِي أتاكَ، ثُمَّ لا ناصِرَ لَكَ مِنهُ، فَلَيْسَ بِعَظِيمٍ ألّا تَجِيءَ بِتَفْسِيرٍ في الرُوحِ الَّذِي أرْدَتْ تَفْسِيرَهُ لِلنّاسِ ووَعَدَتْهم بِذَلِكَ. ورَوى ابْنُ مَسْعُودٍ أنَّهُ سَتَخْرُجُ رِيحٌ حَمْراءُ مِن قِبَلِ الشامِ فَتُزِيلُ القُرْآنَ مِنَ المَصاحِفِ ومِنَ الصُدُورِ، وتَذْهَبُ بِهِ، ثُمَّ يَتْلُو هَذِهِ الآيَةَ.
(p-٥٣٧)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
أرادَ ابْنُ مَسْعُودٍ بِتِلاوَةِ الآيَةِ أنْ يُبْدِيَ أنَّ الأمْرَ جائِزُ الوُقُوعِ لِيَظْهَرَ مِصْداقُ خَبَرِهِ مِن كِتابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ. و"الوَكِيلُ": القائِمُ بِالأمْرِ في الِانْتِصارِ أوِ المُخاصَمَةِ ونَحْوَ ذَلِكَ مِن وُجُودِ النَفْعِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: "إلّا رَحْمَةً" اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ، أيْ: لَكِنَّ رَحْمَةً مِن رَبِّكَ يُمْسِكُ ذَلِكَ عَلَيْكَ، وهَذا الِاسْتِثْناءُ المُنْقَطِعُ يُخَصِّصُ تَخْصِيصًا ما، ولَيْسَ كالمُتَّصِلِ؛ لِأنَّ المُتَّصِلَ يُخَصِّصُ مِنَ الجِنْسِ أوِ الجُمْلَةِ، والمُنْقَطِعَ يُخَصِّصُ أجْنَبِيًّا مِن ذَلِكَ، ولا يُنْكِرُ وُقُوعَ المُنْقَطِعِ في القُرْآنِ إلّا أعْجَمِيٌّ، وقَدْ حُكِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ خُوَيْزٍ مِقْدادٍ. ثُمَّ عَدَّدَ عَلَيْهِ عَزَّ وجَلَّ كِبَرَ فَضْلِهِ في اخْتِصاصِهِ بِالنُبُوَّةِ، وحِمايَتِهِ مِنَ المُشْرِكِينَ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِمّا لا يُحْصى.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ والجِنُّ﴾ الآيَةَ.
سَبَبُ هَذِهِ الآيَةِ أنَّ جَماعَةً مِن قُرَيْشٍ قالَتْ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ: يا مُحَمَّدُ. جِئْنا بِآيَةٍ (p-٥٣٨)غَرِيبَةٍ غَيْرِ هَذا القُرْآنِ فَإنّا نَقْدِرُ عَلى المَجِيءِ بِمِثْلِ هَذا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ المُصَرِّحَةُ بِالتَعْجِيزِ، المُعْلِمَةُ بِأنَّ جَمِيعَ الخَلائِقِ إنْسًا وجِنًّا لَوِ اجْتَمَعُوا عَلى ذَلِكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ.
والعَجْزُ في مُعارَضَةِ القُرْآنِ إنَّما وقَعَ في النَظْمِ والرَصْفِ لِمَعانِيهِ، وعِلَّةُ ذَلِكَ الإحاطَةُ الَّتِي لا يَتَّصِفُ بِها إلّا اللهُ تَعالى. والبَشَرُ مُقَصِّرٌ ضَرُورَةً بِالجَهْلِ والنِسْيانِ والغَفْلَةِ وأنْواعِ النَقْصِ، فَإنَّ نَظْمَ كَلِمَةٍ خَفِيٌّ عنهُ -لِلْعِلَلِ الَّتِي ذَكَرْنا- ألْيَقُ الكَلامِ بِها في المَعْنى، وقَدْ ذَكَرْتُ هَذِهِ المَسْألَةَ في صَدْرِ هَذا الدِيوانِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا يَأْتُونَ﴾ بِمِثْلِهِ في مَوْضِعِ رَفْعٍ، و"لا" مُتَلَقِّيَةٌ قَسَمًا، واللامُ في قَوْلِهِ تَعالى: "لَئِنِ" مُؤَذِّنَهٌ غَيْرُ لازِمَةٍ، قَدْ تُحْذَفُ أحْيانًا، وقَدْ تَجِيءُ هَذِهِ اللامُ مُؤَكِّدَةً فَقَطْ، ويَجِيءُ الفِعْلُ المَنفِيُّ مَجْزُومًا، وهَذا اعْتِمادٌ عَلى الشَرْطِ، ومِنهُ قَوْلُ الأعْمَشِ:
؎ لَئِنْ مُنِيتَ بِنا عن غَبِّ مَعْرَكَةٍ ∗∗∗ لا تُلْفِنا عن دِماءِ القَوْمِ نَنْتَقِلُ
و"الظَهِيرُ": المُعِينُ، ومِنهُ قوله عزّ وجلّ: ﴿وَإنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ﴾ [التحريم: ٤] الآيَةَ.
(p-٥٣٩)فالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وفَهِمَتِ العَرَبُ بِخُلُوصِ فَهْمِها في مَيْزِ الكَلامِ ودُرْبَتِها بِهِ ما لا نَفْهَمُهُ نَحْنُ ولا كُلُّ مَن خالَطَتْهُ حَضارَةٌ، فَفَهِمُوا العَجْزَ عنهُ ضَرُورَةً ومُشاهَدَةً، وعَلِمَهُ الناسُ بَعْدَهُمُ اسْتِدْلالًا ونَظَرًا، ولِكُلٍّ حَصَلَ عِلْمٌ قَطْعِيٌّ، لَكِنْ لَيْسَ في مَرْتَبَةٍ واحِدَةٍ، وهَذا كَما عَلِمَتِ الصَحابَةُ شَرْعَ النَبِيِّ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ وأعْمالَهُ مُشاهَدَةً عِلْمَ ضَرُورَةٍ، وعَلِمْنا نَحْنُ المُتَواتِرَ مِن ذَلِكَ بِنَقْلِ التَواتُرِ، فَحَصَلَ لِلْجَمِيعِ القَطْعُ، لَكِنَّ في مَرْتَبَتَيْنِ، وفَهِمَ إعْجازَ القُرْآنِ أرْبابُ الفَصاحَةِ الَّذِينَ لَهم غَرائِبُ في مَيْزِ الكَلامِ. ألا تَرى إلى فَهْمِ الفَرَزْدَقِ شِعْرَ جَرِيرٍ في شِعْرِ ذِي الرُمَّةِ في قَوْلِهِ:
؎ يَعُدُّ الناسِبُونَ إلى تَمِيمٍ.
الأبْياتَ كُلَّها. وألا تَرى قِصَّةَ جَرِيرٍ في نَوادِرِهِ مَعَ الفَرَزْدَقِ في قَوْلِ الفَرَزْدَقِ:
؎ عَلامَ تَلَفَّتِينَ.
(p-٥٤٠)وَفِي قَوْلِهِ:
؎ تَلَفَّتُ أنَّها تَحْتَ ابْنِ قَيْنٍ.
وألا تَرى إلى قَوْلِ الأعْرابِيِّ: "عَزَّ فَحَكَمَ فَقَطَعَ"؟ وألا تَرى إلى اسْتِدْلالِ الآخَرِ عَلى البَعْثِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿حَتّى زُرْتُمُ المَقابِرَ﴾ [التكاثر: ٢]، فَقالَ: إنَّ الزِيارَةَ تَقْتَضِي الِانْصِرافَ.
ومِنهُ عِلْمُ بَشّارٍ بِقَوْلِ أبِي عَمْرِو بْنِ العَلاءِ في شِعْرِ الأعْشى:
؎ وأنْكَرَتْنِي وما كانَ الَّذِي نَكِرَتْ.
(p-٥٤١)وَمِنهُ قَوْلُ الأعْرابِيِّ لِلْأصْمَعِيِّ:
مَن أحْوَجَ الكِرِيمَ إلى أنْ يُقْسِمَ؟
ومِن فَهْمِهِمْ أنَّهم بِبَدائِهِهِمْ يَأْتُونَ بِكَلِمَةٍ مَنثُورَةٍ تَفْضُلُ المُنَقَّحَ مِنَ الشِعْرِ، وأمْثِلَةُ ذَلِكَ مَحْفُوظَةٌ، ومِن ذَلِكَ أجْوِبَتُهُمُ المُسْكِتَةُ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِن بَراعَتِهِمْ في الفَصاحَةِ وكَوْنِهِمْ فِيها النِهايَةَ، كَما كانَ السِحْرُ في زَمَنِ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ، والطِبُّ في زَمَنِ عِيسى عَلَيْهِ السَلامُ، فَهم مَعَ هَذِهِ الأفْهامِ أقَرُّوا بِالعَجْزِ، ولَجَأ المُحادُّ مِنهم إلى السَيْفِ، ورَضِيَ بِالقَتْلِ والسِباءِ وكَشْفِ الحُرَمِ، وهو كانَ يَجِدُ المَندُوحَةَ عن ذَلِكَ بِالمُعارَضَةِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وكَذَلِكَ التَحَدِّي بِالعَشْرِ السُورِ، والتَحَدِّي بِالسُورَةِ، إنَّما وقَعَ كُلُّهُ عَلى حَدٍّ واحِدٍ في النُظُمِ خاصَّةً، وقَيَّدَ العَشْرَ بِالِافْتِراءِ لِأنَّهم قالُوا: إنَّ القُرْآنَ مُفْتَرًى، فَدَعاهم بِعَقِبِ ذِكْرِ ذَلِكَ إلى الإتْيانِ بِعَشْرِ سُوَرٍ مُفْتَرِياتٍ، ولَمْ يَذْكُرِ الِافْتِراءَ في السُورَةِ لِأنَّهُ لَمْ يَجْرِ عنهم (p-٥٤٢)ذِكْرُ ذَلِكَ قَبْلُ، بَلْ قالَ: ﴿وَإنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِن مِثْلِهِ﴾ [البقرة: ٢٣]، عَلى أنَّهُ قَدْ جاءَ ذِكْرُ السُورَةِ مَعَ ذِكْرِهِمُ الِافْتِراءَ في سُورَةِ هُودٍ، وقَدِ اخْتَلَفَ الناسُ في هَذا المَوْضِعِ - فَقِيلَ: دُعُوا إلى السُورَةِ المُماثِلَةِ في النَظْمِ والغُيُوبِ وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأوصافِ، وكانَ ذَلِكَ مِن تَكْلِيفِ ما لا يُطاقُ، فَلَمّا عَسُرَ عَلَيْهِمْ خُفِّفَ بِالدَعْوَةِ إلى المُفْتَرَياتِ، وقِيلَ غَيْرُ هَذا مِمّا يَنْحَلُّ عِنْدَ تَحْصِيلِهِ.
{"ayahs_start":85,"ayahs":["وَیَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِۖ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنۡ أَمۡرِ رَبِّی وَمَاۤ أُوتِیتُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ إِلَّا قَلِیلࣰا","وَلَىِٕن شِئۡنَا لَنَذۡهَبَنَّ بِٱلَّذِیۤ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَیۡكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِۦ عَلَیۡنَا وَكِیلًا","إِلَّا رَحۡمَةࣰ مِّن رَّبِّكَۚ إِنَّ فَضۡلَهُۥ كَانَ عَلَیۡكَ كَبِیرࣰا","قُل لَّىِٕنِ ٱجۡتَمَعَتِ ٱلۡإِنسُ وَٱلۡجِنُّ عَلَىٰۤ أَن یَأۡتُوا۟ بِمِثۡلِ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لَا یَأۡتُونَ بِمِثۡلِهِۦ وَلَوۡ كَانَ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضࣲ ظَهِیرࣰا"],"ayah":"قُل لَّىِٕنِ ٱجۡتَمَعَتِ ٱلۡإِنسُ وَٱلۡجِنُّ عَلَىٰۤ أَن یَأۡتُوا۟ بِمِثۡلِ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لَا یَأۡتُونَ بِمِثۡلِهِۦ وَلَوۡ كَانَ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضࣲ ظَهِیرࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق