الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿قالُوا سَنُراوِدُ عنهُ أباهُ وإنّا لَفاعِلُونَ﴾ ﴿وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهم في رِحالِهِمْ لَعَلَّهم يَعْرِفُونَها إذا انْقَلَبُوا إلى أهْلِهِمْ لَعَلَّهم يَرْجِعُونَ﴾ ﴿فَلَمّا رَجَعُوا إلى أبِيهِمْ قالُوا يا أبانا مُنِعَ مِنّا الكَيْلُ فَأرْسِلْ مَعَنا أخانا نَكْتَلْ وإنّا لَهُ لَحافِظُونَ﴾ تَقَدَّمَ مَعْنى "المُراوَدَةُ"، أيْ: سَنُفائِلُ أباهُ في أنْ يَتْرُكَهُ يَأْتِي مَعَنا إلَيْكَ، ثُمَّ شَدَّدُوا هَذِهِ المَقالَةَ بِأنِ التَزَمُوها لَهُ في قَوْلِهِمْ: ﴿وَإنّا لَفاعِلُونَ﴾، وأرادَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَلامُ المُبالَغَةَ في اسْتِمالَتِهِمْ بِأنْ رَدَّ مالَ كُلِّ واحِدٍ مِنهم في رَحْلِهِ بَيْنَ طَعامِهِ، وأمَرَ بِذَلِكَ فِتْيانَهُ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، وابْنُ عامِرٍ: "لِفِتْيَتِهِ"، وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: "لِفِتْيانِهِ"، واخْتُلِفَ عن عاصِمٍ، فَفِتْيانٌ لِلْكَثْرَةِ عَلى مُراعاةِ المَأْمُورِينَ، وفِتْيَةٌ لِلْقِلَّةِ عَلى مُراعاةِ المُتَناوِلِينَ وهُمُ الخَدَمَةُ، ويَكُونُ هَذا الوَصْفُ لِلْحُرِّ والعَبْدِ، وفي (p-١١٣)مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: "وَقالَ لِفِتْيانِهِ وهو يُكايِلَهُمْ". وقَوْلُهُ: ﴿لَعَلَّهم يَعْرِفُونَها﴾ يُرِيدُ: لَعَلَّهم يَعْرِفُونَ لَها يَدًا أو تَكْرِمَةً يَرَوْنَ حَقَّها فَيَرْغَبُونَ فِينا فَلَعَلَّهم يَرْجِعُونَ حِينَئِذٍ، وأمّا مَيْزُ البِضاعَةَ فَلا يُقالُ فِيهِ: "لَعَلَّ"، وقِيلَ: قَصَدَ يُوسُفُ بِرَدِّ البِضاعَةِ أنْ يَتَحَرَّجُوا مِن أخْذِ الطَعامِ بِلا ثَمَنٍ فَيَرْجِعُوا لِدَفْعِ الثَمَنِ، وهَذا ضَعِيفٌ مِن وُجُوهٍ، وسُرُورِهِمْ بِالبِضاعَةِ وقَوْلِهِمْ: ﴿هَذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إلَيْنا﴾ [يوسف: ٦٥] يَكْشِفُ أنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَلامُ لَمْ يَقْصِدْ هَذا، وإنَّما قَصَدَ أنْ يَسْتَمِيلَهم ويَصِلَهم فَيُرَغِّبُهم في نَفْسِهِ كالَّذِي كانَ. وخَصَّ البِضاعَةَ دُونَ أنْ يُعْطِيَهم غَيْرَها مِنَ الأمْوالِ لِأنَّها أوقَعُ في نُفُوسِهِمْ؛ إذْ يَعْرِفُونَ حِلَّها، ومالُهُ هو إنَّما كانَ عِنْدَهم مالًا مَجْهُولَ الحالِ، غايَتَهُ أنْ يُسْتَجازَ عَلى نَحْوِ اسْتِجازَتِهِمْ قَبُولَ المِيرَةِ، ويُظْهِرَ أنَّ ما فَعَلَ يُوسُفُ مِن صِلَتِهِمْ وجَبْرِهِمْ في تِلْكَ الشِدَّةِ كانَ واجِبًا عَلَيْهِ، إذْ هو مَلِكٌ عَدْلٌ، وهم أهْلُ إيمانٍ ونُبُوَّةٍ. وقِيلَ: عَلِمَ عَدَمَ البِضاعَةِ والدَراهِمِ عِنْدَ أبِيهِ فَرَدَّ البِضاعَةَ إلَيْهِمْ لِئَلّا يَمْنَعَهُمُ العَدَمُ مِنَ الِانْصِرافِ إلَيْهِ، وقِيلَ: جَعَلَها تَوْطِئَةً لَجَعَلِ السِقايَةَ في رَحْلِ أخِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ لِيُبَيِّنَ أنَّهُ لَمْ يَسْرِقْ لِمَن يَتَأمَّلُ القِصَّةَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: والظاهِرُ مِنَ القِصَّةِ أنَّهُ إنَّما أرادَ الِاسْتِئْلافَ وصِلَةَ الرَحِمِ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، وعاصِمٍ، وابْنُ عامِرٍ: "نَكْتَلْ" بِالنُونِ عَلى مُراعاةِ: ﴿مُنِعَ مِنّا﴾، ويُقَوِّيهِ: ﴿وَنَمِيرُ أهْلَنا﴾ [يوسف: ٦٥] "وَنَزْدادُ"، وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: "يَكْتَلْ" بِالياءِ، أيْ: يَكْتَلْ يامِينُ كَما اكْتَلْنا، وأصْلُ "نَكْتَلْ": نَكْتَيِلْ، وزْنُهُ نَفْتَعِلُ. وقَوْلُهُمْ: ﴿مُنِعَ مِنّا﴾ ظاهِرُهُ أنَّهم أشارُوا إلى قَوْلِهِ: ﴿فَلا كَيْلَ لَكم عِنْدِي﴾ [يوسف: ٦٠] فَهو مَنعٌ في المُسْتَأْنَفِ، وقِيلَ: أشارُوا إلى بَعِيرِ يامِينَ الَّذِي لَمَّ يَمْتَرْ، والأوَّلُ أرْجَحُ، ثُمَّ تَضَمَّنُوا لَهُ حِفْظَهُ وحِيطَتَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب