الباحث القرآني

﴿فَلَمّا رَجَعُوا إلى أبِيهِمْ قالُوا يا أبانا مُنِعَ مِنّا الكَيْلُ فَأرْسِلْ مَعَنا أخانا نَكْتَلْ وإنّا لَهُ لَحافِظُونَ﴾ ﴿قالَ هَلْ آمَنُكم عَلَيْهِ إلّا كَما أمِنتُكم عَلى أخِيهِ مِن قَبْلُ فاللَّهُ خَيْرٌ حافِظًا وهو أرْحَمُ الرّاحِمِينَ﴾ أيْ: رَجَعُوا مِن مِصْرَ مُمْتارِينَ، بادَرُوا بِما كانَ أهَمَّ الأشْياءِ عِنْدَهم مِنَ التَّوْطِئَةِ لِإرْسالِ أخِيهِمْ مَعَهم، وذَلِكَ قَبْلَ فَتْحِ مَتاعِهِمْ وعِلْمِهِمْ بِإحْسانِ العَزِيزِ إلَيْهِمْ مِن رَدِّ بِضاعَتِهِمْ، وأخْبَرُوا بِما جَرى لَهم مَعَ العَزِيزِ الَّذِي عَلى إهْراءِ مِصْرَ، وأنَّهُمُ اسْتَدْعى مِنهُمُ العَزِيزُ أنْ يَأْتُوا بِأخِيهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ صِدْقُهم أنَّهم لَيْسُوا جَواسِيسَ، وقَوْلُهم: ﴿مُنِعَ مِنّا الكَيْلُ﴾ إشارَةٌ إلى قَوْلِ يُوسُفَ: ﴿فَإنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكم عِنْدِي﴾ [يوسف: ٦٠] ويَكُونُ (مُنِعَ) يُرادُ بِهِ في المُسْتَأْنَفِ، وإلّا فَقَدَ كَيَّلَ لَهم، وجاءُوا أباهم بِالمِيرَةِ، لَكِنْ لَمّا أُنْذِرُوا بِمَنعِ الكَيْلِ قالُوا: (مُنِعَ) وقِيلَ: أشارُوا إلى بَعِيرِ بِنْيامِينَ الَّذِي مُنِعَ مِنَ المِيرَةِ، وهَذا أوْلى بِحَمْلِ (مُنِعَ) عَلى الماضِي حَقِيقَةً، ولِقَوْلِهِمْ: ﴿فَأرْسِلْ مَعَنا أخانا نَكْتَلْ﴾، ويُقَوِّيهِ قِراءَةُ (يَكْتَلْ) بِالياءِ أيْ: يَكْتَلْ أخُونا، فَإنَّما مُنِعَ كَيْلُ بَعِيرِهِ لِغَيْبَتِهِ، أوْ يَكُنْ سَبَبًا لِلِاكْتِيالِ، فَإنَّ امْتِناعَهُ في المُسْتَقْبَلِ تَشْبِيهٌ، وهي قِراءَةُ الأخَوَيْنِ، وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ بِالنُّونِ؛ أيْ: نَرْفَعُ المانِعَ مِنَ الكَيْلِ، أوْ نَكْتَلْ مِنَ الطَّعامِ ما نَحْتاجُ إلَيْهِ، وضَمِنُوا لَهُ حِفْظَهُ وحِياطَتَهُ، قالَ: ﴿هَلْ آمَنُكُمْ﴾ هَذا تَوْقِيفٌ وتَقْرِيرٌ، وتَألُّمٌ مِن فِراقِهِ بِنْيامِينَ، ولَمْ يُصَرِّحْ بِمَنعِهِ مِن حَمْلِهِ لَمّا رَأى في ذَلِكَ مِنَ المَصْلَحَةِ، وشَبَّهَ هَذا الِائْتِمانَ في ابْنِهِ هَذا بِائْتِمانِهِ إيّاهم في حَقِّ يُوسُفَ، قُلْتُمْ فِيهِ: ﴿وإنّا لَهُ لَحافِظُونَ﴾ [يوسف: ١٢] كَما قُلْتُمْ في هَذا، فَأخافُ أنْ تَكِيدُوا لَهُ كَما كِدْتُمْ لِذَلِكَ، لَكِنَّ يَعْقُوبَ لَمْ يَخَفْ عَلَيْهِ كَما خافَ عَلى يُوسُفَ، واسْتَسْلَمَ لِلَّهِ وقالَ: ﴿فاللَّهُ خَيْرٌ حافِظًا﴾ وقَرَأ الأخَوانِ وحَفْصٌ: (حافِظًا) اسْمُ فاعِلٍ، وانْتَصَبَ ”حِفْظًا، وحافِظًا“ عَلى التَّمْيِيزِ، والمَنسُوبُ لَهُ الخَيْرُ هو حِفْظُ اللَّهِ، والحافِظُ الَّذِي مِن جِهَةِ اللَّهِ، وأجازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أنْ يَكُونَ (حافِظًا) حالًا، ولَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ (p-٣٢٣)لِأنَّ فِيهِ تَقْيِيدُ (خَيْرٌ) بِهَذِهِ الحالِ، وقَرَأ الأعْمَشُ: (خَيْرُ حافِظٍ) عَلى الإضافَةِ، فاللَّهُ تَعالى مُتَّصِفٌ بِالحِفْظِ وزِيادَتِهِ عَلى كُلِّ حافِظٍ، وقَرَأ أبُو هُرَيْرَةَ: (خَيْرُ الحافِظِينَ) كَذا نَقَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ، (فاللَّهُ خَيْرٌ حافِظًا وهو خَيْرُ الحافِظِينَ) ويَنْبَغِي أنْ تُجْعَلَ هَذِهِ الجُمْلَةُ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ: ﴿فاللَّهُ خَيْرٌ حافِظًا﴾ لا أنَّها قُرْآنٌ. ﴿وهُوَ أرْحَمُ الرّاحِمِينَ﴾ اعْتِرافٌ بِأنَّ اللَّهَ هو ذُو الرَّحْمَةِ الواسِعَةِ، فَأرْجُو مِنهُ حِفْظَهُ، وأنْ لا يَجْمَعَ عَلى مُصِيبَتِهِ ومُصِيبَةِ أخِيهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب