الباحث القرآني
* (فصل)
من أسمائه (الملك) ومعنى الملك الحقيقي ثابت له سبحانه بكل وجه وهذه الصفة تستلزم سائر صفات الكمال إذ من المحال ثبوت الملك الحقيقي التام لمن ليس له حياة ولا قدرة ولا إرادة ولا سمع ولا بصر ولا كلام ولا فعل اختياري يقوم به وكيف يوصف بالملك من لا يأمر ولا ينهى ولا يثيب ولا يعاقب ولا يعطي ولا يمنع ولا يعز ويذل ويهين ويكرم وينعم وينتقم ويخفض ويرفع ويرسل الرسل إلى أقطار مملكته ويتقدم إلى عبيده بأوامره ونواهيه فأي ملك في الحقيقة لمن عدم ذلك وهذا يبين أن المعطلين لأسمائه وصفاته جعلوا مماليكه أكمل منه ويأنف أحدهم أن يقال في أمره وملكه ما يقوله هو في ربه فصفة ملكية الحق مستلزمة لوجود ما لا يتم التصرف إلا به والكل منه سبحانه فلم يتوقف كمال ملكه على غيره فإن كل ما سواه مسند إليه متوقف في وجوده على مشيئته وخلقه.
* (فصل)
قال ابن القيم - بعد كلام -:
وإذا عرفت هذان فإطلاق السلام على الله تعالى اسما من أسمائه هو أولى من هذا كله وأحق بهذا الاسم من كل مسمى به لسلامته سبحانه من كل عيب ونقص من كل وجه، فهو السلام الحق بكل اعتبار والمخلوق سلام بالإضافة فهو سبحانه سلام في ذاته عن كل عيب ونقص يتخيله، وهو سلام في صفاته من كل عيب ونقص وسلام في أفعاله من كل عيب ونقص وشر وظلم وفعل واقع على غير وجه الحكمة بل هو السلام الحق من كل وجه وبكل اعتبار فعلم أن استحقاقه تعالى لهذا الاسم أكمل من استحقاق كل ما يطلق عليه وهذا هو حقيقة التنزيه الذي نزه به نفسه ونزهه به رسوله فهو السلام من الصاحبة والولد والسلام من النظير والكفء والسمي والمماثل، والسلام من الشريك، ولذلك إذا نظرت إلى أفراد صفات كماله وجدت كل صفة سلاما مما يضاد كمالها فحياته سلام من الموت، ومن السنة والنوم، وكذلك قيوميته وقدرته سلام من التعب واللغوب وعلمه سلام من عزوب شيء عنه أو عروض نسيان أو حاجة إلى تذكر وتفكر وإرادته سلام من خروجها عن الحكمة والمصلحة وكلماته سلام من الكذب والظلم بل تمت كلماته صدقا وعدلا وغناه سلام من الحاجة إلى غيره بوجه ما بل كل ما سواه محتاج إليه وهو غني عن كل ما سواه وملكه سلام من منازع فيه أو مشارك أو معاون مظاهر أو شافع عنده بدون إذنه وإلهيته سلام من مشارك له فيها بل هو الله الذي لا إله إلا هو وحلمه وعفوه وصفحه ومغفرته وتجاوزه سلام من أن تكون عن حاجة منه أو ذلك أو مصانعة كما يكون من غيره بل هو محض جوده وإحسانه وكرمه وكذلك عذابه وانتقامه وشدة بطشه وسرعة عقابه سلام من أن يكون ظلما أو تشفيا أو غلظة أو قسوة بل هو محض حكمته وعدله ووضعه الأشياء مواضعها وهو مما يستحق عليه الحمد والثناء كما يستحقه علي إحسانه وثوابه ونعمه بل لو وضع الثواب موضع العقوبة لكان مناقضا لحكمته ولعزته، فوضعه العقوبة موضعها هو من عدله وحكمته وعزته.
فهو سلام مما يتوهم أعداؤه والجاهلون به من خلاف حكمته وقضاؤه وقدره.
سلام من العبث والجور والظلم ومن توهم وقوعه على خلاف الحكمة البالغة وشرعه ودينه.
سلام من التناقض والاختلاف والاضطراب وخلاف مصلحة العباد ورحمتهم والإحسان إليهم وخلاف حكمته، بل شرعه كله حكمة ورحمة ومصلحة وعدل، وكذلك عطاؤه سلام من كونه معاوضة أو لحاجة إلى المعطي، ومنعه سلام من البخل وخوف الإملاق بل عطاؤه إحسان محض لا لمعاوضة ولا لحاجة، ومنعه عدل محض وحكمة لا يشوبه بخل ولا عجز.
واستواؤه وعلوه على عرشه سلام من أن يكون محتاجا إلى ما يحمله أو يستوي عليه بل العرش محتاج إليه وحملته محتاجون إليه فهو الغني عن العرش وعن حملته وعن كل ما سواه، فهو استواء وعلو لا يشوبه حصر ولا حاجة إلى عرش ولا غيره ولا إحاطة شيء به سبحانه وتعالى، بل كان سبحانه ولا عرش ولم يكن به حاجة إليه وهو الغني الحميد بل استواؤه على عرشه واستيلاؤه على خلقه من موجبات ملكه وقهره من غير حاجة إلى عرض ولا غيره بوجه ما، ونزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا سلام مما يضاد علوه، وسلام مما يضاد غناه، وكماله سلام من كل ما يتوهم معطل أو مشبه، وسلام من أن يصير تحت شيء أو محصورا في شيء.
تعالى الله ربنا عن كل ما يضاد كماله وغناه وسمعه وبصره، سلام من كل ما يتخيله مشبه أو يتقوله معطل وموالاته لأوليائه.
سلام من أن تكون عن ذلك كما يوالي المخلوق المخلوق بل هي موالاة رحمة وخير وإحسان وبر كما قال: ﴿وَقُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ ولَدًا ولَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ في المُلْكِ ولَمْ يَكُنْ لَهُ ولِيٌّ مِنَ الذُّلِّ﴾
فلم ينف أن يكون له ولي مطلقا بل نفي أن يكون له ولي من الذل، وكذلك محبته لمحبيه وأوليائه سلام من عوارض محبة المخلوق للمخلوق من كونها محبة حاجة إليه أو تملق له أو انتفاع بقربه، وسلام مما يتقوله المعطلون فيها وكذلك ما أضافه إلى نفسه من اليد والوجه، فإنه سلام عما يتخيله مشبه أو يتقوله معطل.
فتأمل كيف تضمن اسمه السلام كل ما نزه عنه تبارك وتعالى، وكم ممن حفظ هذا الاسم لا يدري ما تضمنه من هذه الأسرار والمعاني والله المستعان المسئول أن يوفق للتعليق على الأسماء الحسنى على هذا النمط إنه قريب مجيب.
* (فصل)
وَمِن أسْمائِهِ تَعالى (المُؤْمِنُ) وهو - في أحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ - المُصَدِّقُ الَّذِي يُصَدِّقُ الصّادِقِينَ بِما يُقِيمُ لَهم مِن شَواهِدِ صِدْقِهِمْ، فَهو الَّذِي صَدَّقَ رُسُلَهُ وأنْبِياءَهُ فِيما بَلَّغُوا عَنْهُ، وشَهِدَ لَهم بِأنَّهم صادِقُونَ بِالدَّلائِلِ الَّتِي دَلَّ بِها عَلى صِدْقِهِمْ قَضاءً وخَلْقًا، فَإنَّهُ سُبْحانَهُ أخْبَرَ - وخَبَرُهُ الصِّدْقُ، وقَوْلُهُ الحَقُّ - أنَّهُ لابُدَّ أنْ يَرى العِبادُ مِنَ الآياتِ الأُفُقِيَّةِ والنَّفْسِيَّةِ ما يُبَيِّنُ لَهم أنَّ الوَحْيَ الَّذِي بَلَّغَتْهُ رُسُلُهُ حَقٌّ، فَقالَ تَعالى ﴿سَنُرِيهِمْ آياتِنا في الآفاقِ وفي أنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهم أنَّهُ الحَقُّ﴾ [فصلت: ٥٣] أيِ القُرْآنُ، فَإنَّهُ هو المُتَقَدِّمُ في قَوْلِهِ: ﴿قُلْ أرَأيْتُمْ إنْ كانَ مِن عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ﴾ [فصلت: ٥٢] ثُمَّ قالَ: ﴿أوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [فصلت: ٥٣] فَشَهِدَ سُبْحانَهُ لِرَسُولِهِ بِقَوْلِهِ: أنَّ ما جاءَ بِهِ حَقٌّ، ووَعَدَهُ أنْ يُرِيَ العِبادَ مِن آياتِهِ الفِعْلِيَّةِ الخَلْقَيَّةِ ما يَشْهَدُ بِذَلِكَ أيْضًا، ثُمَّ ذَكَرَ ما هو أعْظَمُ مِن ذَلِكَ وأجَلُّ، وهو شَهادَتُهُ سُبْحانَهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ، فَإنَّ مِن أسْمائِهِ الشَّهِيدَ الَّذِي لا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ، ولا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ في الأرْضِ ولا في السَّماءِ، بَلْ هو مُطَّلِعٌ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُشاهِدٌ لَهُ، عَلِيمٌ بِتَفاصِيلِهِ، وهَذا اسْتِدْلالٌ بِأسْمائِهِ وصِفاتِهِ، والأوَّلُ اسْتِدْلالٌ بِقَوْلِهِ وكَلِماتِهِ، والِاسْتِدْلالُ بِالآياتِ الأُفُقِيَّةِ والنَّفْسِيَّةِ اسْتِدْلالٌ بِأفْعالِهِ ومَخْلُوقاتِهِ.
فَإنْ قُلْتَ: قَدْ فَهِمْتُ الِاسْتِدْلالَ بِكَلِماتِهِ والِاسْتِدْلالَ بِمَخْلُوقاتِهِ، فَبَيِّنْ لِي كَيْفِيَّةَ الِاسْتِدْلالِ بِأسْمائِهِ وصِفاتِهِ، فَإنَّ ذَلِكَ أمْرٌ لا عَهْدَ لَنا بِهِ في تَخاطُبِنا وكُتُبِنا.
قُلْتُ: أجَلْ! هو لَعَمْرُ اللَّهِ كَما ذَكَرْتَ، وشَأْنُهُ أجَلُّ وأعْلى، فَإنَّ الرَّبَّ تَعالى هو المَدْلُولُ عَلَيْهِ، وآياتُهُ هي الدَّلِيلُ والبُرْهانُ.
فاعْلَمْ أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ في الحَقِيقَةِ هو الدّالُّ عَلى نَفْسِهِ بِآياتِهِ، فَهو الدَّلِيلُ لِعِبادِهِ في الحَقِيقَةِ بِما نَصَبَهُ لَهم مِنَ الدَّلالاتِ والآياتِ، وقَدْ أوْدَعَ في الفِطَرِ الَّتِي لَمْ تَتَنَجَّسْ بِالتَّعْطِيلِ والجُحُودِ: أنَّهُ سُبْحانَهُ الكامِلُ في أسْمائِهِ وصِفاتِهِ، وأنَّهُ المَوْصُوفُ بِكُلِّ كَمالٍ، المُنَزَّهُ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ ونَقْصٍ، فالكَمالُ كُلُّهُ، والجَمالُ والجَلالُ والبَهاءُ، والعِزَّةُ والعَظَمَةُ والكِبْرِياءُ: كُلُّهُ مِن لَوازِمِ ذاتِهِ، يَسْتَحِيلُ أنْ يَكُونَ عَلى غَيْرِ ذَلِكَ، فالحَياةُ كُلُّها لَهُ، والعِلْمُ كُلُّهُ لَهُ، والقُدْرَةُ كُلُّها لَهُ، والسَّمْعُ والبَصَرُ والإرادَةُ، والمَشِيئَةُ والرَّحْمَةُ والغِنى، والجُودُ والإحْسانُ والبِرُّ، كُلُّهُ خاصُّ لَهُ قائِمٌ بِهِ، وما خَفِيَ عَلى الخَلْقِ مِن كَمالِهِ أعْظَمُ وأعْظَمُ مِمّا عَرَفُوهُ مِنهُ، بَلْ لا نِسْبَةَ لِما عَرَفُوهُ مِن ذَلِكَ إلى ما لَمْ يَعْرِفُوهُ.
وَمِن كَمالِهِ المُقَدَّسِ: اطِّلاعُهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ، وشَهادَتُهُ عَلَيْهِ، بِحَيْثُ لا يَغِيبُ عَنْهُ وجْهٌ مِن وُجُوهِ تَفاصِيلِهِ، ولا ذَرَّةٌ مِن ذَرّاتِهِ، باطِنًا وظاهِرًا، ومَن هَذا شَأْنُهُ: كَيْفَ يَلِيقُ بِالعِبادِ أنْ يُشْرِكُوا بِهِ، وأنْ يَعْبُدُوا مَعَهُ غَيْرَهُ؟ وأنْ يَجْعَلُوا مَعَهُ إلَهًا آخَرَ؟ وكَيْفَ يَلِيقُ بِكَمالِهِ أنْ يُقِرَّ مَن يَكْذِبُ عَلَيْهِ أعْظَمَ الكَذِبِ، ويُخْبِرُ عَنْهُ بِخِلافِ ما الأمْرُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَنْصُرُهُ عَلى ذَلِكَ ويُؤَيِّدُهُ، ويُعْلِي كَلِمَتَهُ، ويَرْفَعُ شَأْنَهُ، ويُجِيبُ دَعْوَتَهُ، ويُهْلِكُ عَدُوَّهُ، ويُظْهِرُ عَلى يَدَيْهِ مِنَ الآياتِ والبَراهِينِ والأدِلَّةِ ما تَعْجِزُ عَنْ مِثْلِهِ قُوى البَشَرِ، وهو - مَعَ ذَلِكَ - كاذِبٌ عَلَيْهِ مُفْتَرٍ، ساعٍ في الأرْضِ بِالفَسادِ؟
وَمَعْلُومٌ أنَّ شَهادَتَهُ سُبْحانَهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ، وقُدْرَتَهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ، وحِكْمَتُهُ وعِزَّتُهُ وكَمالُهُ المُقَدَّسُ يَأْبى ذَلِكَ كُلَّ الإباءِ، ومَن ظَنَّ ذَلِكَ بِهِ، وجَوَّزَهُ عَلَيْهِ؛ فَهو مِن أبْعَدِ الخَلْقِ مِن مَعْرِفَتِهِ، وإنْ عُرِفَ مِنهُ بَعْضُ صِفاتِهِ، كَصِفَةِ القُدْرَةِ وصِفَةِ المَشِيئَةِ.
والقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِن هَذِهِ الطَّرِيقِ، وهي طَرِيقُ الخاصَّةِ، بَلْ خاصَّةُ الخاصَّةِ هم الَّذِينَ يَسْتَدِلُّونَ بِاللَّهِ عَلى أفْعالِهِ، وما يَلِيقُ بِهِ أنْ يَفْعَلَهُ وما لا يَفْعَلُهُ.
وَإذا تَدَبَّرْتَ القُرْآنَ رَأيْتَهُ يُنادِي عَلى ذَلِكَ، فَيُبْدِيهِ ويُعِيدُهُ لِمَن لَهُ فَهْمٌ وقَلْبٌ واعٍ عَنِ اللَّهِ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الأقاوِيلِ لَأخَذْنا مِنهُ بِاليَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنهُ الوَتِينَ فَما مِنكم مِن أحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ﴾ [الحاقة: ٤٤]
أفَلا تَراهُ كَيْفَ يُخْبِرُ سُبْحانَهُ: أنَّ كَمالَهُ وحِكْمَتَهُ وقُدْرَتَهُ تَأْبى أنْ يُقِرَّ مَن تَقَوَّلَ عَلَيْهِ بَعْضَ الأقاوِيلِ؟ بَلْ لابُدَّ أنْ يَجْعَلَهُ عِبْرَةً لِعِبادِهِ، كَما جَرَتْ بِذَلِكَ سُنَّتُهُ في المُتَقَوِّلِينَ عَلَيْهِ، وقالَ تَعالى: ﴿أمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا فَإنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ﴾ [الشورى: ٢٤]
هاهُنا انْتَهى جَوابُ الشَّرْطِ، ثُمَّ أخْبَرَ خَبَرًا جازِمًا غَيْرَ مُعَلَّقٍ: أنَّهُ ﴿يَمْحُ اللَّهُ الباطِلَ ويُحِقُّ الحَقَّ﴾ [الشورى: ٢٤]
وَقالَ تَعالى: ﴿وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إذْ قالُوا ما أنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٩١]
فَأخْبَرَ أنَّ مَن نَفى عَنْهُ الإرْسالَ والكَلامَ لَمْ يُقَدِّرْهُ حَقَّ قَدْرِهِ، ولا عَرَفَهُ كَما يَنْبَغِي، ولا عَظَّمَهُ كَما يَسْتَحِقُّ، فَكَيْفَ مَن ظَنَّ أنَّهُ يَنْصُرُ الكاذِبَ المُفْتَرِيَ عَلَيْهِ ويُؤَيِّدُهُ؟ ويُظْهِرُ عَلى يَدَيْهِ الآياتِ والأدِلَّةَ؟ وهَذا في القُرْآنِ كَثِيرٌ جِدًّا، يُسْتَدَلُّ بِكَمالِهِ المُقَدَّسِ، وأوْصافِهِ وجَلالِهِ عَلى صِدْقِ رُسُلِهِ، وعَلى وعْدِهِ ووَعِيدِهِ، ويَدْعُو عِبادَهُ إلى ذَلِكَ، كَما يُسْتَدَلُّ بِأسْمائِهِ وصِفاتِهِ عَلى وحْدانِيَّتِهِ، وعَلى بُطْلانِ الشِّرْكِ، كَما في قَوْلِهِ:
﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إلَهَ إلّا هو عالِمُ الغَيْبِ والشَّهادَةِ هو الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ - هو اللَّهُ الَّذِي لا إلَهَ إلّا هو المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمّا يُشْرِكُونَ﴾
وَأضْعافُ أضْعافِ ذَلِكَ في القُرْآنِ.
* (فصل)
وأما الجبار من أسماء الرب تعالى فقد فسره بأنه الذي يجبر الكسير ويغني الفقير والرب سبحانه كذلك ولكن ليس هذا معنى اسمه الجبار ولهذا قرنه باسمه المتكبر وإنما هو الجبروت وكان النبي ﷺ يقول:
"سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة"
فالجبار اسم من أسماء التعظيم كالمتكبر والملك والعظيم والقهار قال ابن عباس في قوله تعالى: ﴿الجَبّارُ المُتَكَبِّرُ﴾
هو العظيم وجبروت الله عظمته والجبار من أسماء الملوك والجبر الملك والجبابرة الملوك قال الشاعر:
وأنعم صباحا أيها الجبر
أي أيها الملك.
وقال السدي: "هو الذي يجبر الناس ويقهرهم على ما يريد"
وعلى هذا فالجبار معناه القهار.
وقال محمد بن كعب: "إنما سمي الجبار لأنه جبر الخلق على ما أراد، والخلق أدق شأنا من أن يعصوا ربهم طرفة عين إلا بمشيئته"
قال الزجاج: "الجبار الذي جبر الخلق على ما أراد"
وقال ابن الأنباري: "الجبار في صفة الرب سبحانه الذي لا ينال"
ومنه قولهم نخلة جبارة إذا فاتت يد المتناول فالجبار في صفة الرب سبحانه ترجع إلى ثلاثة معان:
(الملك والقهر والعلو) فإن النخلة إذا طالت وارتفعت وفاتت الأيدي سميت جبارة ولهذا جعل سبحانه اسمه الجبار مقرونا بالعزيز والمتكبر وكل واحد من هذه الأسماء الثلاثة تضمن الاسمين الآخرين.
وهذه الأسماء الثلاثة نظير الأسماء الثلاثة وهي (الخالق البارئ المصور)
فالجبار المتكبر يجريان مجرى التفصيل لمعنى اسم العزيز كما أن البارئ المصور تفصيل لمعنى اسم الخالق فالجبار من أوصافه يرجع إلى كمال القدرة والعزة والملك ولهذا كان من أسمائه الحسنى.
وأما المخلوق فاتصافه بالجبار ذم له ونقص كما قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبّارٍ﴾
وقال تعالى لرسوله ﷺ: ﴿وَما أنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبّار﴾
أي مسلط تقهرهم وتكرههم على الإيمان
وفي الترمذي وغيره عن النبي ﷺ: "يحشر الجبارون والمتكبرون يوم القيامة أمثال الذر يطأهم الناس".
وأما (الخالق والمصور) فإن استعملا مطلقين غير مقيدين لم يطلقا إلا على الرب كقوله ﴿الخالق البارئ المصور﴾
وإن استعملا مقيدين أطلقا على العبد كما يقال لمن قدر شيئا في نفيه أنه خلقه قال:
؎ولأنت تفري ما خلقت ∗∗∗ وبعض القوم يخلق ثم لا يفر
أي لك قدرة تمضي وتنفذ بها ما قدرته في نفسك وغيرك يقدر أشياء وهو عاجز عن إنفاذها وإمضائها وبهذا الاعتبار صح إطلاق خالق على العبد في قوله تعالى: ﴿فَتَبارَكَ اللَّهُ أحْسَنُ الخالِقِينَ﴾
أي أحسن المصورين والمقدرين والعرب تقول قدرت الأديم وخلقته إذا قسته لتقطع منه مزادة أو قربة ونحوها
قال مجاهد: "يصنعون ويصنع الله والله خير الصانعين"
وقال الليث: "رجل خالق أي صانع وهن الخالقات للنساء"
وقال مقاتل: "يقول تعالى هو أحسن خلقا من الذين يخلقون التماثيل وغيرها التي لا يتحرك منها شيء وأما البارئ فلا يصح إطلاقه إلا عليه سبحانه فإنه الذي برأ الخليقة وأوجدها بعد عدمها
والعبد لا تتعلق قدرته بذلك إذ غاية مقدوره التصرف في بعض صفات ما أوجده الرب تعالى وبراه وتغييرها من حال إلى حال على وجه مخصوص لا تتعداه قدرته.
ليس من هذا بريت القلم لأنه معتل لا مهموز ولا برأت من المرض لأنه فعل لازم غير متعد، وكذلك مبدع الشيء وبديعه لا يصح إطلاقه إلا على الرب كقوله: ﴿بَدِيعُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾
والإبداع إيجاد المبدع على غير مثال سبق والعبد يسمى مبتدعا لكونه أحدث قولا لم تمض به سنة، ثم يقال لمن اتبعه عليه مبتدع أيضا.
* (فائدة)
اعلمْ أنّهُ سُبْحانَهُ يسْتَدلّ بأسمائه على توحيده ونفي الشّرك عَنهُ ولَو كانَت أسماء لا معنى لَها لم تدل على ذَلِك كَقَوْل هارُون لعبدة العجل ﴿يا قَوْمِ إنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وإنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ﴾ [طه: ٩٠]
وَقَوله سُبْحانَهُ في القِصَّة ﴿إنَّما إلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إلَه إلّا هو وسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [طه: ٩٨]
وَقَوله تَعالى ﴿وَإلَهُكم إلَهٌ واحِدٌ لا إلَهَ إلّا هو الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: ١٦٣]
وَقَوله سُبْحانَهُ في آخر سُورَة الحَشْر ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إلَه إلّا هو عالم الغَيْب والشَّهادَة هو الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هو اللَّهُ الَّذِي لا إلَه إلّا هو المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ [الحشر: ٢٢: ٢٣]
فـ (سبح) نزه نَفسه عَن شرك المُشْركين بِهِ عقب تمدحه بأسمائه الحسنى المُقْتَضِيَة لتوحيده واستحالة إثْبات شريك لَهُ.
وَمن تدبر هَذا المَعْنى في القُرْآن هَبَط بِهِ على رياض من العلم حماها الله عَن كل أفاك معرض عَن كتاب الله واقتباس الهدى مِنهُ ولَو لم يكن في كتابنا هَذا إلّا هَذا الفَصْل وحده لكفى من لَهُ ذوق ومَعْرِفَة والله المُوفق للصَّواب.
((الجزء التاسع عشر))
{"ayahs_start":23,"ayahs":["هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِی لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡمَلِكُ ٱلۡقُدُّوسُ ٱلسَّلَـٰمُ ٱلۡمُؤۡمِنُ ٱلۡمُهَیۡمِنُ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡجَبَّارُ ٱلۡمُتَكَبِّرُۚ سُبۡحَـٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا یُشۡرِكُونَ","هُوَ ٱللَّهُ ٱلۡخَـٰلِقُ ٱلۡبَارِئُ ٱلۡمُصَوِّرُۖ لَهُ ٱلۡأَسۡمَاۤءُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ یُسَبِّحُ لَهُۥ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ"],"ayah":"هُوَ ٱللَّهُ ٱلۡخَـٰلِقُ ٱلۡبَارِئُ ٱلۡمُصَوِّرُۖ لَهُ ٱلۡأَسۡمَاۤءُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ یُسَبِّحُ لَهُۥ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق