الباحث القرآني
قال ابن السراج: "إذا كان الاستثناء منقطعا فلا بد من أن يكون الكلام الذي قبل (إلا) قد دل على ما يستثنى؛ فعلى الأول لا يحتاج إلى تقدير وعلى الثاني فلا بد من تقدير الرد ولنذكر لذلك أمثلة:
المثال الأول: قوله تعالى: ﴿ما لَهم بِهِ مِن عِلْمٍ إلاّ اتِّباعَ الظَّنّ﴾ فمن لم يشترط التقدير أجراه مجرى المفرغ والمعنى ما عندهم أو ما لهم إلا اتباع الظن وليس اتباع الظن متعلقا بالعلم أصلا ومن اشترط التقدير قال المعنى ما لهم من شعور إلا اتباع الظن والظن وإن لم يدخل في العلم تحقيقا فهو داخل فيه تقدير إذ هو مستحضر بذكره وقائم مقامه في كثير من المواضع فكان في اللفظ إشعاره به صح به دخوله وإخراجه وهذا بعد تقريره فيه ما فيه فإن المستثنى هو اتباع الظن لا الظن نفسه فهو غير داخل في المستثنى منه تحقيقا ولا تقديرا فالأحسن فيه عندي أن يكون التقدير ما لهم به من علم فيتبعونه ويلقون به إن يتبعون إلا الظن فليس اتباع الظن مستثنى من العلم وإنما هو مستثنى من المقصود بالعلم والمراد به هو اتباعه فتأمله.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا في مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ فَقِيلَ المَعْنى: ولَكِنْ شُبِّهَ لَهم لِلَّذِينِ صَلَبُوهُ، بِأنْ أُلْقِيَ شَبَهُهُ عَلى غَيْرِهِ فَصَلَبُوا الشَّبَهَ.
وَقِيلَ المَعْنى: ولَكِنْ شُبِّهَ لَهم لِلنَّصارى، أيْ حَصَلَتْ لَهُمُ الشُّبْهَةُ في أمْرِهِ ولَيْسَ لَهم عِلْمٌ بِأنَّهُ ما قُتِلَ ولا صُلِبَ، ولَكِنْ لَمّا قالَ أعْداؤُهُ: إنَّهم قَتَلُوهُ وصَلَبُوهُ واتَّفَقَ رَفْعُهُ مِنَ الأرْضِ وقَعَتِ الشُّبْهَةُ في أمْرِهِمْ وصَدَّقَهُمُ النَّصارى في صَلْبِهِ لِتَتِمَّ الشَّناعَةُ عَلَيْهِمْ.
وَكَيْفَ كانَ، فالمَسِيحُ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ، لَمْ يُقْتَلْ ولَمْ يُصْلَبْ يَقِينًا لا شَكَّ فِيهِ، ثُمَّ تَفَرَّقَ الحَوارِيُّونَ في البِلادِ بَعْدَ رَفْعِهِ عَلى دِينِهِ ومِنهاجِهِ يَدْعُونَ الأُمَمَ مِن بَنِي إسْرائِيلَ إلى تَوْحِيدِ اللَّهِ ودِينِهِ والإيمانِ بِعَبْدِهِ ورَسُولِهِ ومَسِيحِهِ، فَدَخَلَ كَثِيرٌ مِنَ النّاسِ في دِينِهِ ما بَيْنَ ظاهِرٍ ومَسْتُورٍ: ظاهِرٌ مَشْهُورٌ ومُخْتَفٍ مَسْتُورٌ.
وَأعْداءُ اللَّهِ اليَهُودُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ في غايَةِ الشِّدَّةِ والأذى لِأصْحابِهِ وأتْباعِهِ.
وَلَقِيَ تَلامِيذُ المَسِيحِ وأتْباعُهُ مِنَ اليَهُودِ ومِنَ الرُّومِ شِدَّةً شَدِيدَةً مِن قَتْلٍ وعَذابٍ وتَشْرِيدٍ وحَبْسٍ وغَيْرِ ذَلِكَ.
* (فَصْلٌ نفيس)
وَإنْ كانَ المُعَيِّرُ لِلْمُسْلِمِينَ مِن أُمَّةِ الضَّلالِ وعُبّادِ الصَّلِيبِ والصُّوَرِ المَدْهُونَةِ في الحِيطانِ والسُّقُوفِ فَيُقالُ لَهُ: ألا يَسْتَحِي مَن أصْلُ دِينِهِ الَّذِي يَدِينُ بِهِ ويَعْتَقِدُهُ: أنَّ رَبَّ السَّماواتِ والأرْضِ تَبارَكَ وتَعالى نَزَلَ عَنْ كُرْسِيِّ عَظْمَتِهِ وعَرْشِهِ ودَخَلَ في فَرْجِ امْرَأةٍ تَأْكُلُ وتَشْرَبُ وتَبُولُ وتَتَغَوَّطُ فالتَحَمَ بِبَطْنِها، وأقامَ هُناكَ تِسْعَةَ أشْهُرٍ يَتَلَبَّطُ بَيْنَ نَجْوٍ وبَوْلٍ ودَمِ طَمْثٍ، ثُمَّ خَرَجَ إلى القِماطِ والسَّرِيرِ كُلَّما بَكى ألْقَمَتْهُ أُمُّهُ ثَدْيَها، ثُمَّ انْتَقَلَ إلى المَكْتَبِ بَيْنَ الصِّبْيانِ، ثُمَّ آلَ أمْرُهُ إلى لَطْمِ اليَهُودِ خَدَّيْهِ، وصَفْعِهِمْ قَفاهُ، وبَصْقِهِمْ في وجْهِهِ، ووَضْعِهِمْ تاجًا مِنَ الشَّوْكِ عَلى رَأْسِهِ، والقَصَبَةِ في يَدِهِ اسْتِخْفافًا بِهِ وانْتِهاكًا لِحُرْمَتِهِ، ثُمَّ قَرَّبُوهُ مِن مَرْكَبٍ خُصَّ بِالبَلاءِ، فَشَدُّوهُ عَلَيْهِ ورَبَطُوهُ بِالحِبالِ، وسَمَّرُوا يَدَيْهِ ورِجْلَيْهِ، وهو يَصِيحُ ويَبْكِي ويَسْتَغِيثُ مِن حَرِّ الحَدِيدِ وألَمِ الصَّلِيبِ.
هَذا وهو بِزَعْمِهِمُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ، وقَسَّمَ الأرْزاقَ والآجالَ، ولَكِنِ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ ورَحِمْتُهُ أنْ مَكَّنَ أعْداءَهُ مِن نَفْسِهِ لِيَنالُوا مِنهُ ما نالُوا فَيَسْتَحِقُّوا بِذَلِكَ العَذابَ والسِّجْنَ في الجَحِيمِ، ويَفْدِي أنْبِياءَهُ ورُسُلَهُ وأوْلِياءَهُ، فَيُخْرِجُهم مِن سِجْنِ إبْلِيسَ، فَإنَّ رُوحَ آدَمَ وإبْراهِيمَ ونُوحٍ وسائِرِ النَّبِيِّينَ عِنْدَهم كانَتْ في سِجْنِ إبْلِيسَ في النّارِ حَتّى خَلَّصَها مِن سِجْنِهِ بِتَمْكِينِ أعْدائِهِ مِن صَلْبِهِ.
وَأمّا قَوْلُهم في مَرْيَمَ، فَإنَّهم يَقُولُونَ: إنَّها أُمٌّ المَسِيحِ ابْنِ اللَّهِ في الحَقِيقَةِ، ووالِدَتُهُ في الحَقِيقَةِ، لا أُمَّ لِابْنِ اللَّهِ إلّا هي والِدَةٌ، ولا والِدَةَ لَهُ غَيْرُها، ولا أبَ إلّا اللَّهُ، ولا والِدَ لَهُ سِواهُ، وإنَّ اللَّهَ اخْتارَها لِنَفْسِهِ ولِوِلادَةِ ولَدِهِ وابْنِهِ مِن بَيْنِ سائِرِ النِّساءِ، ولَوْ كانَتْ كَسائِرِ النِّساءِ لَما ولَدَتْ إلّا عَنْ وطْءِ الرِّجالِ لَها، ولَكِنِ اخْتُصَّتْ عَنِ النِّساءِ بِأنَّها حَبِلَتْ بِابْنِ اللَّهِ، ووَلَدَتِ ابْنَهُ الَّذِي لا ابْنَ لَهُ في الحَقِيقَةِ غَيْرُهُ، ولا والِدَ لَهُ سِواهُ، وإنَّها عَلى العَرْشِ جالِسَةٌ عَنْ يَسارِ الرَّبِّ تَعالى والِدِ ابْنِها، وابْنُها عَنْ يَمِينِهِ. والنَّصارى يَدْعُونَها ويَسْألُونَها سَعَةَ الرِّزْقِ، وصِحَّةَ البَدَنِ، وطُولَ العُمُرِ، ومَغْفِرَةَ الذُّنُوبِ، وأنْ يَكُونَ لَهم عِنْدَ ابْنِها ووالِدِهِ - الَّذِي يَعْتَقِدُ عامَّتُهم أنَّهُ زَوْجُها، ولا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ - سُورًا وسَنَدًا وذُخْرًا وشَفِيعًا ورُكْنًا، ويَقُولُونَ في دُعائِهِمْ:
يا والِدَةَ الإلَهِ اشْفَعِي لَنا!
وَهم يُعَظِّمُونَها ويَرْفَعُونَها عَلى المَلائِكَةِ وعَلى جَمِيعِ النَّبِيِّينَ والمُرْسَلِينَ، ويَسْألُونَها ما يُسْألُ الإلَهَ مِنَ العافِيَةِ والرِّزْقِ والمَغْفِرَةِ.
حَتّى أنَّ اليَعْقُوبِيَّةَ يَقُولُونَ في مُناجاتِهِمْ لَها: يا مَرْيَمُ، يا والِدَةَ الإلَهِ، كُونِي لَنا سُورًا وسَنَدًا وذُخْرًا ورُكْنًا.
والنَّسْطُورِيَّةُ تَقُولُ: يا والِدَةَ المَسِيحِ كَوْنِي لَنا كَذَلِكَ.
وَيَقُولُونَ لِلْيَعْقُوبِيَّةِ: لا تَقُولُوا: يا والِدَةَ الإلَهِ، وقُولُوا يا والِدَةَ المَسِيحِ، فَقالَتْ لَهُمُ اليَعْقُوبِيَّةُ: المَسِيحُ عِنْدَنا وعِنْدَكم إلَهٌ في الحَقِيقَةِ، فَأيُّ فَرْقٍ بَيْنَنا وبَيْنَكم في ذَلِكَ؟ ولَكِنَّكم أرَدْتُمْ مُصالَحَةَ المُسْلِمِينَ، ومُقارَنَتَهم في التَّوْحِيدِ.
هَذا والأوْقاحُ الَأرْجاسُ مِن هَذِهِ الأُمَّةِ الضّالَّةِ تَعْتَقِدُ أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى اخْتارَ مَرْيَمَ لِنَفْسِهِ، وتَخَطّاها كَما يَتَخَطّى الرَّجُلُ المَرْأةَ.
قالَ النَّظّامُ بَعْدَ أنْ حَكى ذَلِكَ عَنْهُمْ: وهم يُفْصِحُونَ بِهَذا عِنْدَ مَن يَثِقُونَ بِهِ، وقَدْ قالَ ابْنُ الإخْشِيدِ هَذا عَنْهم في المَعُونَةِ.
وَقالَ: إلَيْهِ يُشِيرُونَ، ألا تَرَوْنَ أنَّهم يَقُولُونَ: مَن لَمْ يَكُنْ والِدًا يَكُونُ عَقِيمًا والعُقْمُ آفَةٌ وعَيْبٌ.
وَهَذا قَوْلُ جَمِيعِهِمْ، وإلى المُباضَعَةِ يُشِيرُونَ، ومَن خالَطَ القَوْمَ وطاوَلَهم وباطَنَهم عَرَفَ ذَلِكَ مِنهم.
فَهَذا كُفْرُهم وشِرْكُهم بِرَبِّ العالَمِينَ ومَسَبَّتُهم لَهُ، ولِهَذا قالَ فِيهِمْ أحَدُ الخُلَفاءِ الرّاشِدِينَ: أهِينُوهم ولا تَظْلِمُوهُمْ، فَلَقَدْ سَبُّوا اللَّهَ مَسَبَّةً ما سَبَّهُ أحَدٌ مِنَ البَشَرِ.
وَقَدْ أخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ رَبِّهِ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ أنَّهُ قالَ: شَتَمَنِي ابْنُ آدَمَ ولَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وكَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ ولَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، أمّا شَتْمُهُ إيّايَ فَقَوْلُهُ: اتَّخَذَ اللَّهُ ولَدًا، وأنا الأحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ ألِدْ ولَمْ أُوَلَدْ ولَمْ يَكُنْ لِي كُفُوًا أحَدٌ، وأمّا تَكْذِيبُهُ إيّايَ فَقَوْلُهُ: لَنْ يُعِيدَنِي كَما بَدَأنِي، ولَيْسَ أوَّلُ الخَلْقِ بِأهْوَنَ عَلَيَّ مِن إعادَتِهِ.
فَلَوْ أتى المُوَحِّدُونَ بِكُلِّ ذَنْبٍ وفَعَلُوا كُلَّ قَبِيحٍ وارْتَكَبُوا كُلَّ مَعْصِيَةٍ، ما بَلَغَتْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ في جَنْبِ هَذا الكُفْرِ العَظِيمِ بِرَبِّ العالَمِينَ، ومَسَبَّتِهِ هَذا السَّبَّ، وقَوْلِ العَظائِمِ فِيهِ، فَما ظَنُّ هَذِهِ الطّائِفَةِ بِرَبِّ العالَمِينَ أنْ يَفْعَلَ بِهِمْ إذا لَقَوْهُ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ويُسْألُ المَسِيحُ عَلى رُءُوسِ الأشْهادِ وهم يَسْمَعُونَ ياعِيسى ابْنَ مَرْيَمَ أأنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتَّخِذُونِي وأُمِّيَ إلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولَ المَسِيحُ مُكَذِّبًا لَهُمْ: سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أنْ أقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما في نَفْسِي ولا أعْلَمُ ما في نَفْسِكَ إنَّكَ أنْتَ عَلّامُ الغُيُوبِ ما قُلْتُ لَهم إلّا ما أمَرْتَنِي بِهِ أنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي ورَبَّكم وكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وأنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.
* (فَصْلٌ)
فَهَذا أصْلُ دِينِهِمْ وأساسُهُ الَّذِي قامَ عَلَيْهِ.
وَأمّا فُرُوعُهُ وشَرائِعُهُ فَهم مُخالِفُونَ لِلْمَسِيحِ في جَمِيعِها، وأكْثَرُ ذَلِكَ بِشَهادَتِهِمْ وإقْرارِهِمْ ولَكِنْ يُحِيلُونَ عَلى البَتارِكَةِ والأساقِفَةِ، فَإنَّ المَسِيحَ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِ كانَ يَتَدَيَّنُ بِالطَّهارَةِ، ويَغْتَسِلُ مِنَ الجَنابَةِ، ويُوجِبُ غُسْلَ الحائِضِ، وطَوائِفُ النَّصارى عِنْدَهم أنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ غَيْرُ واجِبٍ، وأنَّ الإنْسانَ يَقُومُ مِن عَلى بَطْنِ المَرْأةِ يَبُولُ ويَتَغَوَّطُ ولا يَمَسُّ ماءً ولا يَسْتَنْجِي، والبَوْلُ والنَّجْوُ يَنْحَدِرُ عَلى ساقِهِ وفَخْذِهِ ويُصَلِّي كَذَلِكَ وصَلاتُهُ صَحِيحَةٌ تامَّةٌ، ولَوْ تَغَوَّطَ وبالَ وهو يُصَلِّي لَمْ يَضُرَّهُ، فَضْلًا عَنْ أنْ يَفْسُوَ ويَضْرَطَ.
وَيَقُولُونَ: إنَّ الصَّلاةَ بِالبَوْلِ والغائِطِ أفْضَلُ مِنَ الصَّلاةِ بِالطَّهارَةِ، لِأنَّها حِينَئِذٍ أبْعَدُ مِن صَلاةِ المُسْلِمِينَ واليَهُودِ وأقْرَبُ إلى مُخالَفَةِ الأُمَّتَيْنِ.
وَيَسْتَفْتِحُ الصَّلاةَ بِالتَّصْلِيبِ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وهَذِهِ الصَّلاةُ رَبُّ العالَمِينَ بَرِيءٌ مِنها، وكَذَلِكَ المَسِيحُ وسائِرُ الحَوارِيِّينَ المُبَيِّنِينَ، فَإنَّ هَذا بِالِاسْتِهْزاءِ أشْبَهُ مِنها بِالعِبادَةِ، وحاشا المَسِيحَ أنْ تَكُونَ هَذِهِ صَلاتُهُ أوْ صَلاةُ أحَدٍ مِنَ الحَوارِيِّينَ.
والمَسِيحُ كانَ يَقْرَأُ في صَلاتِهِ ما كانَ الأنْبِياءُ وبَنُو إسْرائِيلَ يَقْرَءُونَ في صَلاتِهِمْ مِنَ التَّوْراةِ، والزَّبُورِ.
وَطَوائِفُ النَّصارى إنَّما يَقْرَءُونَ في صَلاتِهِمْ كَلامًا قَدْ لَحَّنَهُ لَهُمُ الَّذِينَ يَتَقَدَّمُونَ ويُصَلُّونَ بِهِمْ، يَجْرِي مَجْرى النَّوْحِ والأغانِي، فَيَقُولُونَ: هَذا قُدّاسُ فُلانٍ يَنْسِبُونَهُ إلى الَّذِينَ وضَعُوهُ لَهم.
وَهم يُصَلُّونَ إلى الشَّرْقِ، وما صَلّى المَسِيحُ إلى الشَّرْقِ قَطُّ، وما صَلّى إلى أنْ تَوَفّاهُ اللَّهُ إلّا إلى بَيْتِ المَقْدِسِ، وهي قِبْلَةُ داوُدَ والأنْبِياءِ قَبْلَهُ، وقِبْلَةُ بَنِي إسْرائِيلَ.
والمَسِيحُ اخْتَتَنَ وأوْجَبَ الخِتانَ كَما أوْجَبَهُ مُوسى وهارُونُ والأنْبِياءُ قَبْلَهُ.
والمَسِيحُ حَرَّمَ الخِنْزِيرَ، ولَعَنَ آكِلَهُ، وبالَغَ في ذَمِّهِ - والنَّصارى تُصِرُّ بِذَلِكَ - ولَقَدْ رُفِعَ إلى اللَّهِ وما طَعِمَ مِن لَحْمِهِ وزْنَ شَعِيرَةٍ، والنَّصارى تَتَقَرَّبُ إلَيْهِ بِأكْلِهِ.
والمَسِيحُ ما شَرَعَ لَهم هَذا الصَّوْمَ الَّذِي يُصُومُونَهُ قَطُّ، ولا صامَهُ في عُمُرِهِ مَرَّةً واحِدَةً، ولا أحَدٌ مِن أصْحابِهِ، لا صامَ العَذارى في عُمُرِهِ، ولا أكْلَ في الصَّوْمِ ما يَأْكُلُونَهُ، ولا حَرَّمَ ما يُحَرِّمُونَهُ، ولا عَطَّلَ السَّبْتَ يَوْمًا واحِدًا حَتّى لَقِيَ اللَّهَ، ولا اتَّخَذَ الأحَدَ عِيدًا قَطُّ.
والنَّصارى تُقِرُّ أنَّهُ رَقى مَرْيَمَ المَجْدَلانِيَّةَ فَأخْرَجَ مِنها سَبْعَ شَياطِينٍ، وأنَّ الشَّياطِينَ قالَتْ لَهُ: أيْنَ تَأْوِي؟ فَقالَ لَها: اسْلُكِي هَذِهِ الدّابَّةَ النَّجِسَةَ يَعْنِي الخِنْزِيرَ. فَهَذِهِ حِكايَةُ النَّصارى عَنْهُ.
وَهم يَزْعُمُونَ أنَّ الخِنْزِيرَ مِن أطْهَرَ الدَّوابِّ وأجْمَلِها، وأطْيَبِها.
والمَسِيحُ سائِرٌ في الذَّبائِحِ والمُناكَحِ والطَّلاقِ والمَوارِيثِ سِيرَةَ الأنْبِياءِ قَبْلَهُ، ولَيْسَ عِنْدَ النَّصارى عَلى مَن زَنى أوْ لاطَ أوْ سَكِرَ حَدٌّ في الدُّنْيا أبَدًا، ولا عَذابٌ في الآخِرَةِ، لِأنَّ القِسَّ والرّاهِبَ يَغْفِرُهُ لَهُمْ، فَكُلَّما أذْنَبَ أحَدُهم ذَنْبًا أهْدى لِلْقِسِّ هَدِيَّةً وأعْطاهُ دِرْهَمًا أوْ غَيْرَها لِيَغْفِرَ لَهُ، وإذا أذْنَبَتِ امْرَأةُ أحَدِهِمْ بَيَّتَها عِنْدَ القِسِّ لِيُطَيِّبَها لَهُ، فَإذا انْصَرَفَتْ مِن عِنْدِهِ وأخْبَرَتْ زَوْجَها أنَّ القِسَّ طَيَّبَها، قَبِلَ ذَلِكَ مِنها وتَبَرَّكَ بِهِ.
وَهم يُقِرُّونَ أنَّ المَسِيحَ قالَ: إنَّما جِئْتُكم لَأعْمَلَ بِالتَّوْراةِ وبِوَصايا الأنْبِياءِ قَبْلِي، وما جِئْتُ ناقِضًا بَلْ مُتَمِّمًا، ولَأنْ تَقَعُ السَّماءُ عَلى الأرْضِ أيْسَرُ عَلى اللَّهِ مِن أنْ أنْقُضَ شَيْئًا مِن شَرِيعَةِ مُوسى، ومَن نَقَضَ شَيْئًا مِن ذَلِكَ يُدْعى ناقِضًا في مَلَكُوتِ السَّماءِ.
وَما زالَ هو وأصْحابُهُ كَذَلِكَ إلى أنْ خَرَجَ مِنَ الدُّنْيا، وقالَ لِأصْحابِهِ: اعْمَلُوا بِما رَأيْتُمُونِي أعْمَلُ، ووَصُّوا النّاسَ بِما وصَّيْتُكم بِهِ، وكُونُوا مَعَهم كَما كُنْتُ مَعَكُمْ، وكُونُوا لَهم كَما كُنْتُ لَكم.
وَما زالَ أصْحابُ المَسِيحِ بَعْدَهُ عَلى ذَلِكَ قَرِيبًا مِن ثَلاثِمِائَةِ سَنَةٍ، ثُمَّ أخَذَ القَوْمَ في التَّغْيِيرِ والتَّبْدِيلِ والتَّقَرُّبِ إلى النّاسِ بِما يَهْوَوْنَ وما تَكْرَهُ اليَهُودُ ومُناقَضَتِهِمْ بِما فِيهِ تَرْكُ دِينِ المَسِيحِ، والِانْسِلاخُ مِنهُ جُمْلَةً، فَرَأوُا اليَهُودَ أنَّهم قالُوا في المَسِيحِ: إنَّهُ ساحِرٌ مُمَخْرِقٌ ولَدُ زِنا، فَقالُوا: هو الرَّتامُ وهو ابْنُ اللَّهِ! ورَأوُا اليَهُودَ يَخْتَتِنُونَ فَتَرَكُوا الخِتانَ! ورَأوْهم يُبالِغُونَ في الطَّهارَةِ فَتَرَكُوها جُمْلَةً! ورَأوْهم يَجْتَنِبُونَ مِن مُؤاكَلَةِ الحائِضِ ومُلامَسَتِها، فَجامَعُوها هُمْ! ورَأوْهم يُحَرِّمُونَ الخِنْزِيرَ، فَأباحُوهُ وجَعَلُوهُ شِعارَ دِينِهِمْ، ورَأوْهم يُحَرِّمُونَ كَثِيرًا مِنَ الذَّبائِحِ والحَيَوانِ فَأباحُوا ما دُونُ الفِيلِ إلى البَعُوضَةِ، وقالُوا: كُلْ ما شِئْتَ ودَعْ ما شِئْتَ لا حَرَجَ.
وَرَأوْهم يَسْتَقْبِلُونَ بَيْتَ المَقْدِسِ في الصَّلاةِ فاسْتَقْبَلُوا هُمُ الشَّرْقَ، ورَأوْهم يُحَرِّمُونَ عَلى اللَّهِ نَسْخَ شَرِيعَةٍ شَرَعَها، فَجَوَّزُوا هم لِأساقِفَتِهِمْ وبَطارِكَتِهِمْ أنْ يَنْسَخُوا ما شاءُوا ويُحَلِّلُوا ما شاءُوا ويُحَرِّمُوا ما شاءُوا.
وَرَأوْهم يُحَرِّمُونَ السَّبْتَ ويَحْفَظُونَهُ فَحَرَّمُوا هُمُ الأحَدَ، وأحَلُّوا السَّبْتَ مَعَ إقْرارِهِمْ بِأنَّ المَسِيحَ كانَ يُعَظِّمُ السَّبْتَ ويَحْفَظُهُ.
وَرَأوْهم يَنْفِرُونَ مِنَ الصَّلِيبِ، فَإنَّ في التَّوْراةِ الَّتِي بِأيْدِيهِمْ مَلْعُونٌ مَن تَعَلَّقَ بِالصَّلِيبِ، والنَّصارى تُقِرُّ بِهَذا، فَعَبَدُوا هُمُ الصَّلِيبَ، كَما أنَّ في التَّوْراةِ تَحْرِيمَ الخِنْزِيرِ نَصًّا فَتَعَبَّدُوا هم بِأكْلِهِ.
وَفِيها الأمْرُ بِالِاخْتِتانِ، فَتَعَبَّدُوا بِتَرْكِهِ، مَعَ إقْرارِ النَّصارى أنَّ المَسِيحَ قالَ لِأصْحابِهِ: إنَّما جِئْتُكم لِأعْمَلَ بِالتَّوْراةِ ووَصايا الأنْبِياءِ قَبْلِي، وما جِئْتُ ناقِضًا بَلْ مُتَمِّمًا، ولَأنْ تَقَعَ السَّماءُ عَلى الأرْضِ، أيْسَرُ عِنْدَ اللَّهِ مِن أنْ أنْقُضَ شَيْئًا مِن شَرِيعَةِ مُوسى.
فَذَهَبَتِ النَّصارى تَنْقُضُها شَرِيعَةً شَرِيعَةً في مُكايَدَةِ اليَهُودِ ومُغايَظَتِهِمْ، وانْضافَ إلى هَذا السَّبَبِ ما في كِتابِهِمُ المَعْرُوفِ عِنْدَهم بِإفْراكِيسَ.
(أنَّ قَوْمًا مِنَ النَّصارى خَرَجُوا مِن بَيْتِ المَقْدِسِ وأتَوْا أنْطاكِيَةَ وغَيْرَها - مِنَ الشّامِ - فَدَعَوُا النّاسَ إلى دِينِ المَسِيحِ الصَّحِيحِ، فَدَعَوْهم إلى العَمَلِ في التَّوْراةِ، وتَحْرِيمِ ذَبائِحِ مَن لَيْسَ أهْلِها، وإلى الخِتانِ وإقامَةِ السَّبْتِ، وتَحْرِيمِ الخِنْزِيرِ، وتَحْرِيمِ ما حَرَّمَتْهُ التَّوْراةُ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلى الأُمَمِ واسْتَثْقَلُوهُ، فاجْتَمَعَ النَّصارى بِبَيْتِ المَقْدِسِ، وتَشاوَرُوا فِيما يَحْتالُونَ بِهِ عَلى الأُمَمِ لِيُجِيبُوهم إلى دِينِ المَسِيحِ، ويَدْخُلُوا فِيهِ، فاتَّفَقَ رَأْيُهم عَلى مُداخَلَةِ الأُمَمِ، والتَّرْخِيصِ لَهم والِاخْتِلاطِ بِهِمْ، وأكْلِ ذَبائِحِهِمْ، والِانْحِطاطِ في أهْوائِهِمْ، والتَّخَلُّقِ بِأخْلاقِهِمْ وإنْشاءِ شَرِيعَةٍ تَكُونُ بَيْنَ شَرِيعَةِ الإنْجِيلِ وما عَلَيْهِ الأُمَمُ، وأنْشَئُوا في ذَلِكَ كِتابًا، فَهَذا أحَدُ مَجامِعِهِمُ الكِبارِ - وكانُوا كُلَّما أرادُوا إحْداثَ شَيْءٍ اجْتَمَعُوا مَجْمَعًا - وافْتَرَوْا فِيهِ عَلى ما يُرِيدُونَ إحْداثَهُ إلى أنِ اجْتَمَعُوا المَجْمَعَ الَّذِي لَمْ يَجْتَمِعُ لَهم أكْبَرُ مِنهُ في زَمَنِ قُسْطَنْطِينَ الرُّومِيِّ ابْنِ هِيلانَةَ الحَرّانِيَّةِ الفَنْدَقِيَّةِ).
وَفِي زَمَنِهِ بُدِّلَ دِينُ المَسِيحِ وهو الَّذِي شادَ دِينَ النَّصْرانِيَّةِ المُبْتَدَعَ، وقامَ بِهِ وقَعَدَ، وكانَ عِدَّتُهم زُهاءَ ألْفَيْ رَجُلٍ، فَقَرَّرُوا تَقْرِيرًا ثُمَّ رَفَضُوهُ ولَمْ يَرْتَضُوهُ، ثُمَّ اجْتَمَعَ ثَلاثُمِائَةٍ وثَمانِيَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنهُمْ، والنَّصارى يُسَمُّونَهُمُ الآباءَ، فَقَرَّرُوا هَذا التَّقْرِيرَ الَّذِي هم عَلَيْهِ اليَوْمَ، وهو أصْلُ الأُصُولِ عِنْدَ جَمِيعِ طَوائِفِهِمْ، لا تَتِمُّ لِأحَدٍ مِنهم نَصْرانِيَّةٌ إلّا بِهِ، ويُسَمُّونَهُ سَنْهُودِسَ وهي الأمانَةُ! ولَفْظُها:
نُؤْمِنُ بِاللَّهِ الأبِّ الواحِدِ خالِقِ ما يُرى وما لا يُرى، وبِالرَّبِّ الواحِدِ يَسُوعَ المَسِيحِ ابْنِ اللَّهِ، بِكْرِ أبِيهِ ولَيْسَ بِمَصْنُوعٍ، إلَهٌ حَقٍّ مِن إلَهٍ حَقٍّ، مِن جَوْهَرِ أبِيهِ، الَّذِي بِيَدِهِ أُتْقِنَتِ العَوالِمُ وخالِقُ كُلَّ شَيْءٍ، الَّذِي مِن أجْلِنا مَعاشِرَ النّاسِ ومِن أجْلِ خَلاصِنا نَزَلَ مِنَ السَّماءِ، وتَجَسَّدَ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ، ومِن مَرْيَمَ البَتُولِ، وحَبِلَتْ بِهِ مَرْيَمُ البَتُولُ، وأُخِذَ وصُلِبَ أيّامَ بِلاطِسَ الرُّومِيِّ، وماتَ ودُفِنَ، وقامَ في اليَوْمِ الثّالِثِ - كَما هو مَكْتُوبٌ - وصَعِدَ إلى السَّماءِ وجَلَسَ عَنْ يَمِينِ أبِيهِ، وهو مُسْتَعِدٌّ لِلْمَجِيءِ تارَةً أُخْرى لِلْقَضاءِ بَيْنَ الأمْواتِ والأحْياءِ، ونُؤْمِنُ بِالرَّبِّ الواحِدِ الَّذِي يَخْرُجُ مِن أبِيهِ رُوحُ مَحَبَّتِهِ، وبِمَعْمُودِيَّةٍ واحِدَةٍ لِغُفْرانِ الخَطايا، وبِجَماعَةٍ واحِدَةٍ قِدِّيسِيَّةٍ سَلِيحِيَّةٍ جاثِلِيقِيَّةٍ، وبِقِيامِ أبْدانِنا، وبِالحَياةِ الدّائِمَةِ إلى أبَدَ الآبِدِينَ.
فَصَرَّحُوا فِيها بِأنَّ المَسِيحَ رَبٌّ، وأنَّهُ ابْنُ اللَّهِ وأنَّهُ بِكْرُهُ، وأنَّهُ لَيْسَ لَهُ ولَدٌ غَيْرَهُ، وأنَّهُ لَيْسَ بِمَصْنُوعٍ، أيْ لَيْسَ بِعَبْدٍ مَخْلُوقٍ بَلْ هو رَبٌّ خالِقٌ، وأنَّهُ إلَهٌ حَقٌّ اسْتُلَّ ووُلِدَ مِن إلَهٍ حَقٍّ، وأنَّهُ مُساوٍ لِأبِيهِ في الجَوْهَرِ، وأنَّهُ بِيَدِهِ أُتْقِنَتِ العَوالِمُ، وهَذِهِ اليَدُ الَّتِي أُتْقِنَتِ العَوالِمُ بِها عِنْدَهُمْ، هي الَّتِي ذاقَتْ حَرَّ المَسامِيرِ كَما صَرَّحُوا بِهِ في كُتُبِهِمْ، وهَذِهِ ألْفاظُهُمْ:
قالُوا: وقَدْ قالَ القُدْوَةُ عِنْدَنا: إنَّ اليَدَ الَّتِي سَمَّرَها اليَهُودُ في الخَشَبَةِ، هي اليَدُ الَّتِي عَجَنَتْ طِينَ آدَمَ وخَلَقَتْهُ، وهي اليَدُ الَّتِي شَبَرَتِ السَّماءَ، وهي اليَدُ الَّتِي كَتَبَتِ التَّوْراةَ لِمُوسى، قالُوا: وقَدْ وصَفُوا صَنِيعَ اليَهُودِ بِهِ - وهَذِهِ ألْفاظُهم - وإنَّهم لَطَمُوا الإلَهَ وضَرَبُوهُ عَلى رَأْسِهِ.
قالُوا: وفي بِشارَةِ الأنْبِياءِ بِهِ أنَّ الإلَهَ تَحْبَلُ بِهِ امْرَأةٌ عَذْراءُ وتَلِدُهُ ويُؤْخَذُ ويُصْلَبُ ويُقْتَلُ.
قالُوا: وأمّا سَنْهُودِسُ دُونَ الأُمَمِ، قَدِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ سَبْعُمِائَةٍ مِنَ الآباءِ وهُمُ القُدْوَةُ وفِيهِ: أنَّ مَرْيَمَ حَبِلَتْ بِالإلَهِ وأوْلَدَتْهُ وأرْضَعَتْهُ وسَقَتْهُ وأطْعَمَتْهُ، قالُوا: وعِنْدَنا أنَّ المَسِيحَ ابْنَ آدَمَ وهو رَبُّهُ وخالِقُهُ ورازِقُهُ، وابْنُ ولَدِهِ إبْراهِيمَ ورَبُّهُ وخالِقُهُ ورازِقُهُ، وابْنُ إسْرائِيلَ ورَبُّهُ وخالِقُهُ ورازِقُهُ، وابْنُ مَرْيَمَ ورَبُّها وخالِقُها ورازِقُها.
قالُوا: وقَدْ قالَ عُلَماؤُنا: ومَن هو القُدْوَةُ عِنْدَ جَمِيعِ طَوائِفِنا: يَسُوعُ في البَدْءِ لَمْ يَزَلْ كَلِمَةً، والكَلِمَةُ لَمْ تَزَلِ اللَّهَ، واللَّهُ هو الكَلِمَةُ، فَذاكَ الَّذِي ولَدَتْهُ مَرْيَمُ وعايَنَّهُ النّاسُ وكانَ بَيْنَهم هو اللَّهُ، وهو ابْنُ اللَّهِ وهو كَلِمَةُ اللَّهِ.
هَذِهِ ألْفاظُهُمْ، قالُوا: فالقَدِيمُ الأزَلِيُّ خالِقُ السَّماواتِ والأرْضِ هو الَّذِي عايَنَهُ النّاسُ بِأبْصارِهِمْ ولَمَسُوهُ بِأيْدِيهِمْ، وهو الَّذِي حَبِلَتْ بِهِ مَرْيَمُ وخاطَبَ النّاسَ مِن بَطْنِها، حَيْثُ قالَ لِلْأعْمى: أنْتَ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ؟ قالَ الأعْمى: ومَن هو حَتّى أُؤْمِنَ بِهِ؟ قالَ: هو المُخاطِبُ لَكَ. فَقالَ: آمَنتُ بِكَ وخَرَّ ساجِدًا.
قالُوا: فالَّذِي حَبِلَتْ بِهِ مَرْيَمُ هو اللَّهُ، وابْنُ اللَّهِ، وكَلِمَةُ اللَّهِ، قالُوا: وهو الَّذِي وُلِدَ ورَضَعَ وفُطِمَ وأُخِذَ وصُلِبَ وصُفِعَ وكُتِّفَتْ يَداهُ وسُمِّرَ في وجْهِهِ وماتَ ودُفِنَ وذاقَ ألَمَ الصَّلْبِ والتَّسْمِيرِ والقَتْلِ لِأجْلِ خَلاصِ النَّصارى مِن خَطاياهم.
قالُوا: ولَيْسَ المَسِيحُ عِنْدَ طَوائِفِنا الثَّلاثَةِ بِنَبِيٍّ ولا عَبْدٍ صالِحٍ بَلْ هو رَبُّ الأنْبِياءِ، وخالِقُهم وباعِثُهم ومُرْسِلُهم وناصِرُهم ومُؤَيِّدُهم ورَبُّ المَلائِكَةِ.
قالُوا: ولَيْسَ مَعَ أُمِّهِ بِمَعْنى الخَلْقِ والتَّدْبِيرِ واللُّطْفِ والمَعُونَةِ، فَإنَّهُ لا يَكُونُ لَها بِذَلِكَ مَزِيَّةٌ عَلى سائِرِ الإناثِ ولا الحَيَواناتِ، ولَكِنَّهُ مَعَها بِحَبَلِها بِهِ واحْتِواءِ بَطْنِها عَلَيْهِ، فَلِهَذا فارَقَتْ جَمِيعَ إناثِ الحَيَوانِ، وفارَقَ ابْنُها جَمِيعَ الخَلْقِ، فَصارَ اللَّهُ وابْنُهُ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّماءِ، وحَبِلَتْ بِهِ مَرْيَمُ ووَلَدْتُهُ إلَهًا واحِدًا ومَسِيحًا واحِدًا، ورَبًّا واحِدًا، وخالِقًا واحِدًا، لا يَقَعُ بَيْنَهُما فَرْقٌ، ولا يَبْطَلُ الِاتِّحادُ بَيْنَهُما بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ لا في حَبَلٍ، ولا في وِلادَةٍ، ولا في حالِ نَوْمٍ، ولا مَرَضٍ، ولا صَلْبٍ، ولا مَوْتٍ، ولا دَفْنٍ، بَلْ هو مُتَحِدٌ بِهِ في حالِ الحَبَلِ، فَهو في تِلْكَ الحالِ مَسِيحٌ واحِدٌ، وخالِقٌ واحِدٌ، وإلَهٌ واحِدٌ، ورَبٌّ واحِدٌ، وفي حالِ الوِلادَةِ كَذَلِكَ، وفي حالِ الصَّلْبِ والمَوْتِ كَذَلِكَ، قالُوا: فَمِنّا مَن يُطْلِقُ في لَفْظِهِ وعِبارَتِهِ حَقِيقَةَ هَذا المَعْنى فَيَقُولُ: مَرْيَمُ حَبِلَتْ بِالإلَهِ، ووَلَدَتِ الإلَهَ، وماتَ الإلَهُ، ومِنّا مَن يَمْتَنِعُ مِن هَذِهِ العِبارَةِ لِبَشاعَةِ لَفْظِها، ويُعْطى مَعْناها وحَقِيقَتَها، ويَقُولُ: مَرْيَمُ حَبِلَتْ بِالمَسِيحِ في الحَقِيقَةِ، ووَلَدَتِ المَسِيحَ في الحَقِيقَةِ، وهي أُمُّ المَسِيحِ في الحَقِيقَةِ، والمَسِيحُ إلَهٌ في الحَقِيقَةِ، ورَبٌّ في الحَقِيقَةِ، وابْنُ اللَّهِ في الحَقِيقَةِ، وكَلِمَةُ اللَّهِ في الحَقِيقَةِ، لا ابْنَ لِلَّهِ في الحَقِيقَةِ سِواهُ، ولا أبَّ لِلْمَسِيحِ في الحَقِيقَةِ إلّا هو.
قالُوا: فَهَؤُلاءِ يُوافِقُونَ في المَعْنى قَوْلَ مَن يَقُولُ حَبِلَتْ بِالإلَهِ، ووَلَدَتِ الإلَهَ، وقُتِلَ الإلَهُ، وصُلِبَ الإلَهُ ودُفِنَ الإلَهُ، وإنْ مَنَعُوا اللَّفْظَ والعِبارَةَ.
قالُوا: وإنَّما مَنَعْنا هَذِهِ العِبارَةَ الَّتِي أطْلَقَها إخْوانُنا، لِئَلّا يُتَوَهَّمَ عَلَيْنا إذا قُلْنا: حَبِلَتْ بِالإلَهِ، ووَلَدَتِ الإلَهَ، وأُمُّ إلَهٍ، أنَّ هَذا كُلَّهُ حَلَّ ونَزَلَ بِالإلَهِ الَّذِي هو أبٌ، ولَكِنّا نَقُولُ: حَلَّ هَذا كُلُّهُ ونَزَلَ بِالمَسِيحِ، والمَسِيحُ عِنْدَنا وعِنْدَ طَوائِفِنا إلَهٌ تامٌّ مِن إلَهٍ تامٍّ مِن جَوْهَرِ أبِيهِ، فَنَحْنُ وإخْوانُنا في الحَقِيقَةِ شَيْءٌ واحِدٌ لا فَرْقَ بَيْنَنا إلّا في العِبارَةِ فَقَطْ، قالُوا: فَهَذا حَقِيقَةُ دِينِنا وإيمانِنا، والآباءُ والقُدْوَةُ قَدْ قالُوا قَبْلَنا وسَنُّوهُ لَنا ومَهَّدُوهُ وهم أعْلَمُ بِالمَسِيحِ مِنّا.
وَلا يَخْتَلِفُ المُثَلِّثَةُ عُبّادُ الصَّلِيبِ مِن أوَّلِهِمْ إلى آخِرِهِمْ أنَّ المَسِيحَ لَيْسَ بِنَبِيٍّ ولا عَبْدٍ صالِحٍ، ولَكِنَّهُ إلَهٌ حَقٌّ مِن إلَهٍ حَقٍّ مِن جَوْهَرِ أبِيهِ، وأنَّهُ إلَهٌ تامٌّ مِن إلَهٍ تامٍّ، وأنَّهُ خالِقُ السَّماواتِ والأرْضِ، والأوَّلِينَ والآخَرِينَ، ورازِقُهم ومُحْيِيهم وُمُمِيتُهم وباعِثُهم مِنَ القُبُورِ، وحاشِرُهم ومُحاسِبُهُمْ، ومُثِيبُهم ومُعاقِبُهم.
والنَّصارى تَعْتَقِدُ أنَّ الأبَ انْخَلَعَ مِن مُلْكِهِ كُلِّهِ، وجَعْلُهُ لِابْنِهِ، فَهو الَّذِي يَخْلُقُ ويُرْزُقُ ويُمِيتُ ويُحْيِي ويُدَبِّرُ أمْرَ السَّماواتِ والأرْضِ.
ألا تَراهم يَقُولُونَ في أمانَتِهِمْ: ابْنُ اللَّهِ وبِكْرُ أبِيهِ، ولَيْسَ بِمَصْنُوعٍ - إلى قَوْلِهِمْ - بِيَدِهِ أُتْقِنَتِ العَوالِمُ وخَلَقَ كُلُّ شَيْءٍ - إلى قَوْلِهِمْ - وهو مُسْتَعِدٌّ لِلْمَجِيءِ تارَةً أُخْرى لِلْفَصْلِ بَيْنَ الأمْواتِ والأحْياءِ؟
وَيَقُولُونَ في صَلَواتِهِمْ ومُناجاتِهِمْ: أنْتَ أيُّها المَسِيحُ يَسُوعُ تُحْيِينا وتُمِيتُنا، وتَرْزُقُنا وتَخْلُقُ أوْلادَنا، وتُقِيمُ أجْسادَنا وتَبْعَثُنا وتُجازِينا.
وَقَدْ تَضْمَنُ هَذا كُلُّهُ تَكْذِيبَهُمُ الصَّرِيحَ لِلْمَسِيحِ، وإنْ أوْهَمَتْهم ظُنُونُهُمُ الكاذِبَةُ أنَّهم يُصَدِّقُونَهُ، فَإنَّ المَسِيحَ قالَ لَهُمْ: إنَّ اللَّهَ رَبِّي ورَبُّكُمْ، وإلَهِي وإلَهُكم.
فَشَهِدَ عَلى نَفْسِهِ أنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ مَرْبُوبٌ مَصْنُوعٌ، كَما أنَّهم كَذَلِكَ، وأنَّهُ مِثْلُهم في العُبُودِيَّةِ والحاجَةِ والفاقَةِ إلى اللَّهِ تَعالى.
وَذَكَرَ أنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ إلى خَلْقِهِ كَما أرْسَلَ الأنْبِياءَ قَبْلَهُ.
فَفِي إنْجِيلِ يُوحَنّا: أنَّ المَسِيحَ قالَ في دُعائِهِ: إنَّ الحَياةَ الدّائِمَةَ إنَّما تَجِبُ لِلنّاسِ بِأنْ يَشْهَدُوا أنَّكَ اللَّهُ الواحِدُ الحَقُّ، وأنَّكَ أرْسَلْتَ يَسُوعَ المَسِيحَ.
وَهَذا حَقِيقَةُ شَهادَةِ المُسْلِمِينَ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وقالَ لِبَنِي إسْرائِيلَ: بَلْ تُرِيدُونَ قَتْلِي وأنا رَجُلٌ قُلْتُ لَكُمُ الحَقَّ الَّذِي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ، فَذَكَرَ غايَتَهُ أنَّهُ رَجُلٌ بَلَّغَهم ما قالَهُ اللَّهُ، ولَمْ يَقُلْ وأنا إلَهٌ ولا ابْنُ إلَهٍ، عَلى مَعْنى التَّوالُدِ، وقالَ: إنِّي لَمْ أجِئْ لِأعْمَلَ بِمَشِيئَةِ نَفْسِي ولَكِنْ بِمَشِيئَةِ مَن أرْسَلَنِي، وقالَ: إنَّ الكَلامَ الَّذِي تَسْمَعُونَهُ مِنِّي لَيْسَ هو لِي، ولَكِنْ لِلَّذِي أرْسَلَنِي، والوَيْلُ لِي إنْ قُلْتُ شَيْئًا مِن تِلْقاءِ نَفْسِي، ولَكِنْ بِمَشِيئَةِ مَن أرْسَلَنِي.
وَكانَ يُواصِلُ العِبادَةَ مِنَ الصَّلاةِ والصَّوْمِ، ويَقُولُ: ما جِئْتُ لِأُخْدَمَ، بَلْ جِئْتُ لِأخْدِمَ، فَأنْزَلَ نَفْسَهُ بِالمَنزِلَةِ الَّتِي أنْزَلَهُ اللَّهُ بِها، وهي مَنزِلَةُ الخُدّامِ لِلَّهِ، وقالَ: لَسْتُ أُدِينُ العِبادَ بِأعْمالِهِمْ ولا أُحاسِبُهم بِأعْمالِهِمْ، ولَكِنَّ الَّذِي أرْسَلَنِي هو الَّذِي يَلِي ذَلِكَ مِنهم.
كُلُّ هَذا في الإنْجِيلِ الَّذِي بِأيْدِيهِمْ، وفِيهِ أنَّ المَسِيحَ قالَ: يا رَبُّ، قَدْ عَلِمُوا أنَّكَ قَدْ أرْسَلْتَنِي، وقَدْ ذَكَرْتُ لَهُمُ اسْمَكَ، فَأخْبَرَ أنَّ اللَّهَ رَبُّهُ وأنَّهُ عَبْدُهُ ورَسُولُهُ.
وَفِيهِ: إنَّ اللَّهَ الواحِدَ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، أرْسَلَ مَن أرْسَلَ مِنَ البَشَرِ إلى جَمِيعِ العالَمِ لِيُقْبِلُوا إلى الحَقِّ. وفِيهِ أنَّهُ قالَ: إنَّ الأعْمالَ الَّتِي أعْمَلُ هي الشّاهِداتُ لِي بِأنَّ اللَّهَ أرْسَلَنِي إلى هَذا العالَمِ. وفِيهِ ما أبْعَدَنِي وأتْعَبَنِي إنْ أحْدَثْتُ شَيْئًا مِن قِبَلِ نَفْسِي، ولَكِنْ أتَكَلَّمُ وأُجِيبُ بِما عَلَّمَنِي رَبِّي. وقالَ: إنَّ اللَّهَ مَسَحَنِي وأرْسَلَنِي، وإنَّما أعْبُدُ اللَّهَ الواحِدَ لِيَوْمِ الخَلاصِ.
قالَ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ ما أكَلَ ولا يَأْكُلُ وما شَرِبَ ولا يَشْرَبُ ولَمْ يَنَمْ ولا يَنامُ ولا ولَدَ ولا يَلِدُ، وما رَآهُ أحَدٌ إلّا ماتَ.
وَبِهَذا يَظْهَرُ لَكَ سِرُّ قَوْلِهِ تَعالى في القُرْآنِ العَظِيمِ: ما المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ، تَذْكِيرًا لِلنَّصارى بِما قالَ لَهُمُ المَسِيحُ.
وَقالَ في دُعائِهِ لَمّا سَألَ رَبَّهُ أنْ يُحْيِيَ المَيِّتَ: أنا أشْكُرُكَ وأحْمَدُكَ لِأنَّكَ تُجِيبُ دُعائِي في هَذا الوَقْتِ وفي كُلِّ وقْتٍ، فَأسْألُكَ أنْ تُحْيِيَ هَذا المَيِّتَ لِتَعْلَمَ بَنُو إسْرائِيلَ أنَّكَ أرْسَلْتَنِي وأنَّكَ تُجِيبُ دُعائِي.
وَفِي الإنْجِيلِ: إنَّ المَسِيحَ حِينَ خَرَجَ مِنَ السّامِرِيَّةِ ولَحِقَ بِجَلْجالَ قالَ: لَمْ يُكْرَمْ أحَدٌ مِنَ الأنْبِياءِ في وطَنٍ، فَلَمْ يَزِدْ عَلى دَعْوى النُّبُوَّةِ.
وَفِي إنْجِيلِ لُوقا: لَمْ يُقْبَلْ أحَدٌ مِنَ الأنْبِياءِ في وطَنِهِ، فَكَيْفَ تَقْبَلُونَنِي، وفي إنْجِيلِ مُرْقُسَ: أنَّ رَجُلًا أقْبَلُ إلى المَسِيحِ وقالَ: أيُّها المُعَلِّمُ الصّالِحُ، أيَّ خَيْرٍ أعْمَلُ لِأنالَ الحَياةَ الدّائِمَةَ؟ فَقالَ لَهُ المَسِيحُ: لِمَ قُلْتَ صالِحًا؟ إنَّما الصّالِحُ اللَّهُ وحْدَهُ، وقَدْ عَرَفْتَ الشُّرُوطَ، لا تَسْرِقْ ولا تَزْنِ ولا تَشْهَدْ بِالزُّورِ ولا تَخُنْ، وأكْرِمْ أباكَ وأُمَّكَ.
وَفِي إنْجِيلِ يُوحَنّا: أنَّ اليَهُودَ لَمّا أرادُوا قَبْضَهُ رَفَعَ بَصَرَهُ إلى السَّماءِ، وقالَ: قَدْ دَنا الوَقْتُ يا إلَهِي فَشَرِّفْنِي لَدَيْكَ، واجْعَلْ لِي سَبِيلًا أنْ أُمَلِّكَ كُلَّ مَن مَلَّكْتَنِي الحَياةَ الدّائِمَةَ. وإنَّما الحَياةُ الباقِيَةُ أنْ يُؤْمِنُوا بِكَ إلَهًا واحِدًا وبِالمَسِيحِ الَّذِي بَعَثْتَ، وقَدْ عَظَّمْتُكَ عَلى أهْلِ الأرْضِ، واحْتَمَلْتُ الَّذِي أمَرْتَنِي بِهِ فَشَرِّفْنِي.
فَلَمْ يَدَّعِ سِوى أنَّهُ عَبْدٌ مُرْسَلٌ مَأْمُورٌ مَبْعُوثٌ، وفي إنْجِيلِ مَتّى: لا تَنْسِبُوا أباكم عَلى الأرْضِ فَإنَّ أباكم واحِدٌ الَّذِي في السَّماءِ وحْدَهُ، ولا تَدْعُوا مُعَلِّمِينَ فَإنَّما مُعَلِّمُكُمُ المَسِيحُ وحْدَهُ.
والآبُّ في لُغَتِهِمُ الرَّبُّ المُرَبِّي، أيْ لا تَقُولُوا: إلَهُكم ورَبُّكم في الأرْضِ، ولَكِنَّهُ في السَّماءِ، ثُمَّ أنْزَلَ نَفْسَهُ المَنزِلَةَ الَّتِي أنْزَلَهُ بِها رَبُّهُ ومالِكُهُ، وهو أنَّ غايَتَهُ أنَّهُ يُعَلِّمُ في الأرْضِ، وإلَهُهم هو الَّذِي في السَّماءِ.
وَفِي إنْجِيلِ لُوقا، حِينَ دَعا اللَّهَ فَأحْيا ولَدَ المَرْأةِ، فَقالُوا: إنَّ هَذا النَّبِيَّ لَعَظِيمٌ، وإنَّ اللَّهَ قَدْ تَفَقَّدَ أُمَّتَهُ.
وَفِي إنْجِيلِ يُوحَنّا أنَّ المَسِيحَ أعْلى صَوْتَهُ في البَيْتِ، وقالَ لِلْيَهُودِ: قَدْ عَرَفْتُمُونِي ومَوْضِعِي، ولَمْ آتِ مِن ذاتِي، وقَدْ بَعَثَنِي الحَقُّ وأنْتُمْ تَجْهَلُونَهُ، فَإنْ قُلْتُ إنِّي أجْهَلُهُ كُنْتُ كاذِبًا مِثْلَكُمْ، وأنا أعْلَمُ أنِّي مِنهُ وهو بَعَثَنِي.
فَما زادَ في دَعْواهُ عَلى ما ادَّعاهُ الأنْبِياءُ فَأمْسَكَتِ المُثَلِّثَةُ قَوْلَهُ: إنِّي مِنهُ، وقالُوا: إلَهٌ حَقٌّ مِن إلَهٍ حَقٍّ، وفي القُرْآنِ: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ، وقالَ هُودٌ: ولَكِنِّي رَسُولٌ مِن رَبِّ العالَمِينَ، وكَذَلِكَ قالَ صالِحٌ! ولَكِنَّ أُمَّةَ الضَّلالِ كَما أخْبَرَ اللَّهُ عَنْهم يَتَّبِعُونَ المُتَشابِهَ ويَرُدُّونَ المُحْكَمَ. وفي الإنْجِيلِ أيْضًا أنَّهُ قالَ لِلْيَهُودِ، وقَدْ قالُوا لَهُ: نَحْنُ أبْناءُ اللَّهِ فَقالَ: لَوْ كانَ أباكم لَأطَعْتُمُونِي لِأنِّي رَسُولٌ مِنهُ، خَرَجْتُ مُقْبِلًا، ولَمْ أُقْبِلْ مِن ذاتِي، ولَكِنْ هو بَعَثَنِي، ولَكِنَّكم لا تَقْبَلُونَ وصِيَّتِي، وتَعْجِزُونَ عَنْ سَماعِ كَلامِي، إنَّما أنْتُمْ أبْناءُ الشَّيْطانِ، وتُرِيدُونَ إتْمامَ شَهَواتِهِ.
وَفِي الإنْجِيلِ أنَّ اليَهُودَ حاطَتْ بِهِ، وقالَتْ لَهُ: إلى مَتى تُخْفِي أمْرَكَ إنْ كُنْتَ المَسِيحَ الَّذِي نَنْتَظِرُهُ فَأعْلِمْناهُ بِذَلِكَ؟
وَلَمْ تَقُلْ إنْ كُنْتَ اللَّهَ أوِ ابْنَ اللَّهِ، فَإنَّهُ لَمْ يَدَّعِ ذَلِكَ، ولا فَهْمِهُ عَنْهُ أحَدٌ مِن أعْدائِهِ ولا أتْباعِهِ.
وَفِي الإنْجِيلِ أيْضًا: أنَّ اليَهُودَ أرادُوا القَبْضَ عَلَيْهِ فَبَعَثُوا الأعْوانَ وأنَّ الأعْوانَ رَجَعُوا إلى قُوّادِهِمْ، فَقالُوا لَهُمْ: لِمَ لَمْ تَأْخُذُوهُ؟ فَقالُوا: ما سَمِعْنا آدَمِيًّا أنْصَفَ مِنهُ، فَقالَتِ اليَهُودُ: وأنْتُمْ أيْضًا مَخْدُوعُونَ، أتَرَوْنَ أنَّهُ آمَنَ بِهِ أحَدٌ مِنَ القُوّادِ ومِن رُؤَساءِ أهْلِ الكِتابِ؟ فَقالَ لَهم بَعْضُ أكابِرِهِمْ: أتَرَوْنَ كِتابَكم يَحْكُمُ عَلى أحَدٍ قَبْلَ أنْ يَسْمَعَ مِنهُ؟ فَقالُوا لَهُ: اكْشِفِ الكُتُبَ تَرى أنَّهُ لا يَجِيءُ مِن جِلْجالَ نَبِيٌّ. فَما قالَتِ اليَهُودُ ذَلِكَ إلّا وقَدْ أنْزَلَ نَفْسَهُ بِالمَنزِلَةِ الَّتِي أنْزَلَهُ بِها رَبُّهُ ومالِكُهُ أنَّهُ نَبِيٌّ، ولَوْ عَلِمَتْ مِن دَعْواهُ الإلَهِيَّةِ لَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ وأنْكَرَتْهُ عَلَيْهِ، وكانَ أعْظَمَ أسْبابِ التَّنْفِيرِ عَنْ طاعَتِهِ، لِأنَّ كَذِبَهُ كانَ يُعْلَمُ بِالحِسِّ والعَقْلِ والفِطْرَةِ واتِّفاقِ الأنْبِياءِ.
وَلَقَدْ كانَ يَجِبُ لِلَّهِ سُبْحانَهُ - لَوْ سَبَقَ في حِكْمَتِهِ أنَّهُ يَبْرُزُ لِعِبادِهِ، ويَنْزِلُ عَنْ كُرْسِيِّ عَظَمَتِهِ، ويُباشِرُهم بِنَفْسِهِ - أنْ لا يَدْخُلَ في فَرْجِ امْرَأةٍ، ويُقِيمُ في بَطْنِها بَيْنَ البَوْلِ والنَّجْوِ والدَّمِ عِدَّةَ أشْهُرٍ، وإذْ قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ. لا يَخْرُجُ صَبِيًّا، يَرْضَعُ ويَبْكِي، وإذْ قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ، لا يَأْكُلُ مَعَ النّاسِ ولا يَشْرَبُ مَعَ النّاسِ ولا يَنامُ مَعَهُمْ، وإذْ قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَلا يَبُولُ ولا يَتَغَوَّطُ، ويَمْتَنِعُ مِنَ الخَرَأةِ إذْ هي مَنقَصَةٌ ابْتُلِيَ بِها الإنْسانُ في هَذِهِ الدّارِ لِنَقْصِهِ وحاجَتِهِ، وهو تَعالى المُخْتَصُّ بِصِفاتِ الكَمالِ، المَنعُوتِ بِنُعُوتِ الجَلالِ، الَّذِي ما وسِعَتْهُ سَماواتُهُ ولا أرْضُهُ، وكُرْسِيُّهُ وسِعَ السَّماواتِ والأرْضَ، فَكَيْفَ وسِعَهُ فَرْجُ امْرَأةٍ، تَعالى رَبُّ العالَمِينَ - وكُلُّكم مُتَّفِقُونَ عَلى أنَّ المَسِيحَ كانَ يَأْكُلُ ويَشْرَبُ ويَبُولُ ويَتَغَوَّطُ ويَنامُ.
فَيا مَعْشَرَ المُثَلِّثَةِ وعُبّادَ الصَّلِيبِ، أخْبِرُونا مَن كانَ المُمْسِكَ لِلسَّماواتِ والأرْضِ حِينَ كانَ رَبُّها وخالِقُها مَرْبُوطًا عَلى خَشَبَةِ الصَّلِيبِ، وقَدْ شُدَّتْ يَداهُ ورِجْلاهُ بِالحِبالِ، وسُمِّرَتِ اليَدُ الَّتِي أتْقَنَتِ العَوالِمَ؟ فَهَلْ بَقِيَتِ السَّماواتُ والأرْضُ خَلْوًا مِن إلَهِها وفاطِرِها؟
وَقَدْ جَرى عَلَيْهِ هَذا الأمْرُ العَظِيمُ؟ أمْ تَقُولُونَ اسْتَخْلَفَ عَلى تَدْبِيرِها غَيْرَهُ، وهَبَطَ عَنْ عَرْشِهِ لِرَبْطِ نَفْسِهِ عَلى خَشَبَةِ الصَّلِيبِ، ولِيَذُوقَ حَرَّ المَسامِيرِ ولِيُوجِبَ اللَّعْنَةَ عَلى نَفْسِهِ، حَيْثُ قالَ في التَّوْراةِ: مَلْعُونٌ مَن تَعَلَّقَ بِالصَّلِيبِ، أمْ تَقُولُونَ: - وهو في الحَقِيقَةِ قَوْلُكم - لا نَدْرِي ولَكِنْ هَذا في الكُتُبِ، وقَدْ قالَهُ الآباءُ، وهُمُ القُدْوَةُ، والجَوابُ عَلَيْهِمْ.
فَنَقُولُ لَكُمْ: وإلّا يا مَعاشِرَ المُثَلِّثَةِ عُبّادَ الصَّلِيبِ، ما الَّذِي دَلَّكم عَلى إلَهِيَّةِ المَسِيحِ؟
(الشُّبْهَةُ الأوْلى)
فَإنْ كُنْتُمُ اسْتَدْلَلْتُمْ عَلَيْها بِالقَبْضِ مِن أعْدائِهِ عَلَيْهِ بِزَعْمِكم وسَوْقِهِ إلى خَشَبَةِ الصَّلِيبِ وعَلى رَأْسِهِ تاجٌ مِنَ الشَّوْكِ، وهم يَبْصُقُونَ في وجْهِهِ ويَصْفَعُونَهُ، ثُمَّ أرْكَبُوهُ ذَلِكَ المَرْكَبَ الشَّنِيعَ، وشَدُّوا يَدَيْهِ ورَجْلَيْهِ بِالحِبالِ، وضَرَبُوا فِيها المَسامِيرَ، وهو يَسْتَغِيثُ وتَعَلَّقَ ثُمَّ فاضَتْ نَفْسُهُ وأوْدَعَ ضَرِيحَهُ.
فَما أصَحَّهُ مِنَ اسْتِدْلالٍ عِنْدَ أمْثالِكم مِمَّنْ هو أضَلُّ مِنَ الأنْعامِ، وهم عارٌ عَلى جَمِيعِ الأنامِ.
وَإنْ قُلْتُمْ: إنَّما اسْتَدْلَلْنا عَلى كَوْنِهِ إلَهًا بِأنَّهُ لَمْ يُوَلَدْ مِنَ البَشَرِ، ولَوْ كانَ مَخْلُوقًا لَكانَ مَوْلُودًا مِنَ البَشَرِ، فَإنْ كانَ هَذا الِاسْتِدْلالُ صَحِيحًا فَآدَمُ إلَهُ المَسِيحِ، وهو أحَقُّ بِأنْ يَكُونَ إلَهًا مِنهُ لِأنَّهُ لا أُمَّ لَهُ ولا أبَّ لَهُ والمَسِيحُ لَهُ أُمٌّ.
وَحَوّاءُ أيْضًا اجْعَلُوها إلَهًا خامِسًا؛ لِأنَّها لا أُمَّ لَها، وهي أعْجَبُ مِن خَلْقِ المَسِيحِ.
واللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى قَدْ نَوَّعَ خَلْقَ آدَمَ وبَنِيهِ إظْهارًا لِقُدْرَتِهِ وأنَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ، فَخَلَقَ آدَمَ لا مِن ذَكَرٍ ولا مِن أُنْثى، وخَلَقَ زَوْجَهُ حَوّاءَ مَن ذَكَرٍ لا مِن أُنْثى، وخَلَقَ عَبْدَهُ المَسِيحَ مِن أُنْثى لا مِن ذَكَرٍ، وخَلَقَ سائِرَ النَّوْعِ مِن ذِكْرٍ وأُنْثى.
وَإنْ قُلْتُمْ: اسْتَدْلَلْنا عَلى كَوْنِهِ إلَهًا بِأنَّهُ أحْيا المَوْتى، ولا يُحْيِيهِمْ إلّا اللَّهُ، فاجْعَلُوا مُوسى إلَهًا آخَرَ، فَإنَّهُ أتى مِن ذَلِكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَأْتِ المَسِيحُ بِنَظِيرِهِ ولا ما يُقارِبُهُ، وهو جَعْلُ الخَشَبَةِ حَيَوانًا عَظِيمًا، وهَذا أبْلَغُ مِن إعادَةِ الحَياةِ إلى جِسْمٍ كانَتْ فِيهِ أوَّلًا، فَإنْ قُلْتُمْ: هَذا غَيْرُ إحْياءِ المَوْتى، فَهَذا اليَسَعُ النَّبِيُّ أتى بِإحْياءِ المَوْتى، وهم يُقِرُّونَ بِذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ إيلِيا النَّبِيُّ أيْضًا أحْيا صَبِيًّا بِإذْنِ اللَّهِ، وهَذا مُوسى قَدْ أحْيا بِإذْنِ اللَّهِ السَّبْعِينَ الَّذِينَ ماتُوا مِن قَوْمِهِ.
وَفِي كُتُبِكم مِن ذَلِكَ كَثِيرٌ عَنِ الأنْبِياءِ والحَوارِيِّينَ: فَهَلْ صارَ أحَدٌ مِنهم إلَهًا بِذَلِكَ؟
وَإنْ قُلْتُمْ: جَعَلْناهُ إلَهًا لِلْعَجائِبِ الَّتِي ظَهَرَتْ عَلى يَدَيْهِ، فَعَجائِبُ مُوسى أعْجَبُ وأعْجَبُ.
وَهَذا إيلِياءُ النَّبِيُّ بارَكَ عَلى دَقِيقِ العَجُوزِ ودُهَنِها فَلَمْ يَنْفُذْ ما في جِرابِها مِنَ الدَّقِيقِ وما في قارُورَتِها مِنَ الدُّهْنِ سَبْعَ سِنِينَ.
وَإنْ جَعَلْتُمُوهُ إلَهًا لِكَوْنِهِ أطْعَمَ مِن أرْغِفَةٍ يَسِيرَةٍ آلافًا مِنَ النّاسِ، فَهَذا مُوسى قَدْ أطْعَمَ أُمَّتَهُ أرْبَعِينَ سَنَةً مِنَ المَنِّ والسَّلْوى! وهَذا مُحَمَّدٌ ﷺ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَدْ أطْعَمَ العَسْكَرَ كُلَّهُ مِن زادٍ يَسِيرُ جِدًّا حَتّى شَبِعُوا ومَلَئُوا أوْعِيَتَهُمْ، وسَقاهم كُلَّهم مِن ماءٍ يَسِيرٍ لا يَغْمُرُ اليَدَ حَتّى مَلَئُوا كُلَّ سِقاءٍ في العَسْكَرِ، وهَذا مَنقُولٌ عَنْهُ بِالتَّواتُرِ.
وَإنْ قُلْتُمْ: جَعَلْناهُ إلَهًا لِأنَّهُ صاحَ بِالبَحْرِ فَسَكَنَتْ أمْواجُهُ، فَقَدْ ضَرَبَ مُوسى البَحْرَ بِعَصاهُ فانْفَلَقَ اثْنَيْ عَشَرَ طَرِيقًا وقامَ الماءُ بَيْنَ الطُّرُقِ كالحِيطانِ، وفَجَّرَ مِنَ الحَجَرِ الصَّلْدِ اثْنَيْ عَشَرَ عَيْنًا سارِحَةً.
وَإنْ جَعَلْتُمُوهُ إلَهًا لِأنَّهُ أبْرَأ الأكْمَهَ والأبْرَصَ وأحْيى المَوْتى فَآياتُ مُوسى ومُحَمَّدٍ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ أعْجَبُ مِن ذَلِكَ.
وَإنْ جَعَلْتُمُوهُ إلَهًا لِأنَّهُ ادَّعى ذَلِكَ فَلا يَخْلُو إمّا أنْ يَكُونَ الأمْرُ كَما تَقُولُونَ عَنْهُ، أوْ يَكُونَ إنَّما ادَّعى العُبُودِيَّةَ والِافْتِقارَ وأنَّهُ مَرْبُوبٌ ومَصْنُوعٌ مَخْلُوقٌ، فَإنْ كَما كانَ كَما ادَّعَيْتُمْ عَلَيْهِ فَهَذا أخُو المَسِيحِ الدَّجّالِ، ولَيْسَ بِمُؤْمِنٍ ولا صادِقٍ فَضْلًا عَنْ أنْ يَكُونَ نَبِيًّا كَرِيمًا، وجَزاؤُهُ جَهَنَّمَ وبِئْسَ المَصِيرُ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وَمَن يَقُلْ مِنهم إنِّي إلَهٌ مِن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ﴾.
وَكُلُّ مَنِ ادَّعى الإلَهِيَّةَ مَن دُونِ اللَّهِ فَهو مَن أعْظَمِ أعْداءِ اللَّهِ، كَفِرْعَوْنَ ونَمْرُودَ وأمْثالِهِما مِن أعْداءِ اللَّهِ، فَأخْرَجْتُمُ المَسِيحَ عَنْ كَرامَةِ اللَّهِ ونُبُوَّتِهِ ورِسالَتِهِ، وجَعَلْتُمُوهُ أعْظَمَ أعْداءِ اللَّهِ، ولِهَذا كُنْتُمْ أشَدَّ النّاسِ عَداوَةً لِلْمَسِيحِ في صُورَةِ مُحِبٍّ مُوالٍ! ومِن أعْظَمِ ما يُعْرَفُ بِهِ كَذِبُ المَسِيحِ الدَّجّالِ أنَّهُ يَدَّعِي الإلَهِيَّةَ فَيَبْعَثُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَبْدَهُ ورَسُولَهُ مَسِيحَ الهُدى ابْنَ مَرْيَمَ فَيَقْتُلُهُ، ويُظْهِرُ لِلْخَلائِقِ أنَّهُ كانَ كاذِبًا مُفْتَرِيًا، ولَوْ كانَ إلَهًا لَمْ يُقْتَلْ، فَضْلًا عَنْ أنْ يُصْلَبَ ويُسَمَّرَ ويُبْصَقَ في وجْهِهِ!
وَإنْ كانَ المَسِيحُ إنَّما ادَّعى أنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ ورَسُولُهُ كَما شَهِدَتْ بِهِ الأناجِيلُ كُلُّها ودَلَّ عَلَيْهِ العَقْلُ والفِطْرَةُ وشَهِدْتُمْ أنْتُمْ لَهُ بِالإلَهِيَّةِ - وهَذا هو الواقِعُ - فَلَمْ تَأْتُوا عَلى إلَهِيَّتِهِ بِبَيِّنَةٍ غَيْرِ تَكْذِيبِهِ في دَعْواهُ، وقَدْ ذَكَرْتُمْ عَنْهُ في أناجِيلِكم في مَواضِعَ عَدِيدَةٍ ما يُصَرِّحُ بِعُبُودِيَّتِهِ، وأنَّهُ مَرْبُوبٌ مَخْلُوقٌ، وأنَّهُ ابْنُ البَشَرِ، وأنَّهُ لَمْ يَدَّعِ غَيْرَ النُّبُوَّةِ والرِّسالَةِ، فَكَذَّبْتُمُوهُ في ذَلِكَ كُلِّهِ، وصَدَّقْتُمْ مَن كَذَبَ عَلى اللَّهِ وعَلَيْهِ!
وَإنْ قُلْتُمْ: إنَّما جَعَلْناهُ إلَهًا لِأنَّهُ أخْبَرَ بِما يَكُونُ بَعْدَهُ مِنَ الأُمُورِ، كَذَلِكَ كانَ الأنْبِياءُ، بَلْ وكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ يُخْبِرُ بِما يَكُونُ بَعْدَهُ مِنَ الأُمُورِ ويُخْبِرُ عَنْ حَوادِثَ في المُسْتَقْبَلِ جُزْئِيَّةٍ ويَكُونُ ذَلِكَ كَما أخْبَرَ بِهِ.
وَيَقَعُ مِن ذَلِكَ كَثِيرٌ لِلْكُهّانِ والمُنَجِّمِينَ والسَّحَرَةِ! وإنْ قُلْتُمْ: إنَّما جَعَلْناهُ إلَهًا لِأنَّهُ سَمّى نَفْسَهُ ابْنَ اللَّهِ في غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الإنْجِيلِ، كَقَوْلِهِ: إنِّي ذاهِبٌ إلى أبِي، وإنِّي سائِلُ أبِي، ونَحْوَ ذَلِكَ، وابْنُ الإلَهِ إلَهٌ، قِيلَ: فاجْعَلُوا أنْفُسَكم آلِهَةً كُلُّكُمْ، فَإنَّ في الإنْجِيلِ في غَيْرِ مَوْضِعٍ أنَّهُ سَمّاهُ أباهُ وأباهُمْ، كَقَوْلِهِ: إنِّي ذاهِبٌ إلى أبِي وأبِيكم.
وَفِيهِ: لا تَنَسِبُوا أباكم عَلى الأرْضِ فَإنَّ أباكُمُ الَّذِي في السَّماءِ وحْدَهُ، وهَذا كَثِيرٌ في الإنْجِيلِ وهو يَدُلُّ عَلى أنَّ الأبَّ عِنْدَهُمْ: الرَّبُّ.
وَإنْ جَعَلْتُمُوهُ إلَهًا لِأنَّ تَلامِيذَهُ ادَّعَوْا ذَلِكَ، وهم أعْلَمُ النّاسِ بِهِ كَذَّبَتْكم أناجِيلُكُمُ الَّتِي بِأيْدِيكُمْ، وكُلُّها صَرِيحَةٌ أظْهَرَ صَراحَةٍ بِأنَّهم ما ادَّعَوْا لَهُ إلّا ما ادَّعاهُ لِنَفْسِهِ مِن أنَّهُ عَبْدٌ.
فَهَذا مَتّى يَقُولُ في الفَصْلِ التّاسِعِ مِن إنْجِيلِهِ مُحْتَجًا بِنُبُوَّةِ أشْعِيا في المَسِيحِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ: هَذا عَبْدِي الَّذِي اصْطَفَيْتُ وحَبِيبِي الَّذِي ارْتاحَتْ نَفْسِي لَهُ.
وَفِي الفَصْلِ الحادِي عَشَرَ مِن إنْجِيلِهِ: إنِّي أشْكُرُكَ يا رَبَّ السَّماواتِ والأرْضِ.
وَهَذا لُوقا يَقُولُ في آخِرِ إنْجِيلِهِ: إنَّ المَسِيحَ عَرَضَ لَهُ ولِآخَرَ مِن تَلامِيذِهِ في الطَّرِيقِ مَلَكٌ وهُما مَحْزُونانِ، فَقالَ لَهُما وهُما لا يَعْرِفانِهِ: ما بالِكُما مَحْزُونَيْنِ؟ فَقالا: كَأنَّكَ غَرِيبٌ في بَيْتِ المَقْدِسِ، إذْ كُنْتَ لا تَعْلَمُ ما حَدَثَ فِيها في هَذِهِ الأيّامِ مِن أمْرِ يَسُوعَ النّاصِرِيِّ، فَإنَّهُ كانَ رَجُلًا نَبِيًّا قَوِيًّا تَقِيًّا في قَوْلِهِ وفِعْلِهِ عِنْدَ اللَّهِ وعِنْدَ الأُمَّةِ، أخَذُوهُ وقَتَلُوهُ. وهَذا كَثِيرٌ جِدًّا في الإنْجِيلِ! وإنْ قُلْتُمْ: إنَّما جَعَلْناهُ إلَهًا لِأنَّهُ صَعِدَ إلى السَّماءِ فَهَذا أخْنُوخُ وإلْياسُ قَدْ صَعِدا إلى السَّماءِ وهُما حَيّانِ مُكَرَّمانِ لَمْ تَشُكْهُما شَوْكَةٌ ولا طَمَعَ فِيهِما طامِعٌ.
والمُسْلِمُونَ مُجْمِعُونَ عَلى أنَّ مُحَمَّدًا ﷺ صَعِدَ إلى السَّماءِ وهو عَبْدٌ مَحْضٌ وهَذِهِ المَلائِكَةُ تَصْعَدُ إلى السَّماءِ، وهَذِهِ أرْواحُ المُؤْمِنِينَ تَصْعَدُ إلى السَّماءِ بَعْدَ مُفارَقَتِها الأبْدانُ، ولا تَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنِ العُبُودِيَّةِ، وهَلْ كانَ الصُّعُودُ إلى السَّماءِ مُخْرِجٌ عَنِ العُبُودِيَّةِ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ؟
وَإنْ جَعَلْتُمُوهُ إلَهًا لِأنَّ الأنْبِياءَ سَمَّتْهُ إلَهًا ورَبًّا وسَيِّدًا ونَحْوَ ذَلِكَ فَلَمْ يَزَلْ كَثِيرٌ مِن أسْماءِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ تَقَعُ عَلى غَيْرِهِ عِنْدَ جَمِيعِ الأُمَمِ وفي سائِرِ الكُتُبِ، وما زالَتِ الرُّومُ والفُرْسُ والهِنْدُ والسُّرْيانِيُّونَ والعِبْرانِيُّونَ والقِبْطُ وغَيْرُهم يُسَمُّونَ مُلُوكَهم آلِهَةً وأرْبابًا.
وَفِي السِّفْرِ الأوَّلِ مِنَ التَّوْراةِ: أنَّ بَنِي اللَّهِ دَخَلُوا عَلى بَناتِ النّاسِ ورَأوْهُنَّ بارِعاتِ الجَمالِ فَتَزَوَّجُوا مِنهُنَّ.
وَفِي السِّفْرِ الثّانِي مِنَ التَّوْراةِ قِصَّةُ المَخْرَجِ مِن مِصْرَ إنِّي جَعَلْتُكَ إلَهًا لِفِرْعَوْنَ، وفي المَزْمُورِ الثّانِي والثَّمانِينَ: وقامَ اللَّهُ في جَمِيعِ الآلِهَةِ.
هَذا في العِبْرانِيَّةِ، وأمّا مَن نَقَلَهُ إلى السُّرْيانِيَّةِ فَإنَّهُ حَرَّفَهُ، فَقالَ: قامَ اللَّهُ في جَماعَةِ المَلائِكَةِ، وقالَ في هَذا المَزْمُورِ وهو يُخاطِبُ قَوْمًا بِالرُّوحِ: لَقَدْ ظَنَنْتُ أنَّكم آلِهَةً وأنَّكم أبْناءُ اللَّهِ كُلُّكُمْ، وقَدْ سَمّى اللَّهُ عَبْدَهُ بِالمَلِكِ كَما سَمّى نَفْسَهُ بِذَلِكَ.
وَسَمّى نَبِيَّهُ بِالرَّءُوفِ الرَّحِيمِ كَما سَمّى نَفْسَهُ بِذَلِكَ، وسَمّاهُ بِالعَزِيزِ وسَمّى نَفْسَهُ كَذَلِكَ، واسْمُ الرَّبِّ واقِعٌ عَلى غَيْرِ اللَّهِ تَعالى في لُغَةِ أُمَّةِ التَّوْحِيدِ، كَما يُقالُ: هو رَبُّ الدّارِ، ورَبُّ المَنزِلِ، ورَبُّ الإبِلِ، ورَبُّ هَذا المَتاعِ.
وَقَدْ قالَ أشْعِيا: عَرَفَ الثَّوْرُ مَنِ اقْتَناهُ، والحِمارُ مَرْبَطَ رَبِّهِ، ولَمْ تَعْرِفْ بَنُو إسْرائِيلَ - يَعْنِي مَن خَلَقَهم.
وَإنْ جَعَلْتُمُوهُ إلَهًا لِأنَّهُ صَنَعَ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ أيْ: صُورَةَ طائِرٍ ثُمَّ نَفَخَ فِيها وصارَتْ لَحْمًا ودَمًا وطائِرًا حَقِيقَةً ولا يَفْعَلُ هَذا إلّا اللَّهُ.
قِيلَ: فاجْعَلُوا مُوسى بْنَ عِمْرانَ إلَهَ الآلِهَةِ فَإنَّهُ ألْقى عَصًا فَصارَتْ ثُعْبانًا عَظِيمًا، ثُمَّ أمْسَكَها بِيَدِهِ فَصارَتْ عَصًا كَما كانَ.
وَإنْ قُلْتُمْ: جَعَلْناهُ إلَهًا بِشَهادَةِ الأنْبِياءِ الرُّسُلِ لَهُ بِذَلِكَ، قالَ عِزْرا حَيْثُ سَباهم بُخْتَ نَصَّرُ إلى أرْضِ بابِلَ، إلى أرْبَعِمِائَةٍ واثْنَيْنِ وثَمانِينَ سَنَةً: يَأْتِي المَسِيحُ ويُخَلِّصُ الشُّعُوبَ والأُمَمَ، وعِنْدَ انْتِهاءِ هَذِهِ المُدَّةِ أتى المَسِيحُ، ومَن يُطِيقُ يُخَلِّصُ الأُمَمَ والشُّعُوبَ غَيْرَ الإلَهِ التّامِّ، قِيلَ لَكُمْ: فاجْعَلُوا جَمِيعَ الرُّسُلِ آلِهَةً فَإنَّهم خَلَّصُوا الأُمَمَ مِنَ الكُفْرِ والشِّرْكِ وخَلَّصُوهم مِنَ النّارِ بِإذْنِ اللَّهِ وحْدَهُ.
وَلا شَكَّ أنَّ المَسِيحَ خَلَّصَ مَن آمَنَ بِهِ واتَّبَعَهُ مَن ذَلِّ الدُّنْيا وعَذابِ الآخِرَةِ، كَما خَلَّصَ مُوسى بَنِي إسْرائِيلَ مِن فِرْعَوْنِ وقَوْمِهِ، وخَلَّصَهم بِالإيمانِ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ مِن عَذابِ النّارِ في الآخِرَةِ.
وَخَلَّصَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى بِمُحَمَّدٍ ﷺ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَبْدِهِ ورَسُولِهِ مِنَ الأُمَمِ والشُّعُوبِ ما لَمْ يُخَلِّصْهُ نَبِيٌّ سِواهُ، فَإنْ وجَبَتْ بِذَلِكَ الإلَهِيَّةُ لِعِيسى بِذَلِكَ فَمُوسى ومُحَمَّدٌ أحَقُّ بِها مِنهُ.
وَإنْ قُلْتُمْ: أوْجَبْنا لَهُ بِذَلِكَ الإلَهِيَّةَ لِقَوْلِ أرْمِيا النَّبِيِّ عَنْ وِلادَتِهِ: وفي ذَلِكَ الزَّمانِ (يَقُومُ لِداودَ ابْنٌ)، وهو ضَوْءُ النَّهارِ، يَمْلِكُ المُلْكَ، ويُقِيمُ الحَقَّ والعَدْلَ في الأرْضِ، ويُخَلِّصُ مَن آمَنَ بِهِ مِنَ اليَهُودِ ومِن بَنِي إسْرائِيلَ ومِن غَيْرِهِمْ، ويَبْقى بَيْتُ المَقْدِسِ بِغَيْرِ مُقابِلٍ، ويُسَمّى الإلَهَ.
فَقَدْ تَقَدَّمَ أنَّ اسْمَ الإلَهِ في الكُتُبِ المُتَقَدِّمَةِ وغَيْرِها قَدْ أُطْلِقَ عَلى غَيْرِهِ وهو بِمَنزِلَةِ الرَّبِّ والسَّيِّدِ والآبِ، ولَوْ كانَ عِيسى هو اللَّهُ لَكانَ أجَلَّ مَن أنْ يُقالَ: ويُسَمّى الإلَهَ، وكانَ يَقُولُ وهو اللَّهُ، فَإنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى لا يُعْرَفُ بِمِثْلِ هَذا، وفي هَذا الدَّلِيلِ الَّذِي جَعَلْتُمُوهُ بِهِ إلَهًا أعْظَمُ الأدِلَّةِ عَلى أنَّهُ عَبْدٌ، وأنَّهُ ابْنُ البَشَرِ، فَإنَّهُ قالَ: ويَقُومُ لِداوُدَ ابْنٌ، فَهَذا الَّذِي قامَ لِداوُدَ هو الَّذِي سَمّى بِالإلَهِ، فَعُلِمَ أنَّ هَذا الِاسْمَ لِمَخْلُوقٍ مَصْنُوعٍ مَوْلُودٍ لا لِرَبِّ العالَمِينَ وخالِقِ السَّماواتِ والأرَضِينَ.
فَإنْ قُلْتُمْ: إنَّما جَعَلْناهُ إلَهًا مِن جِهَةِ قَوْلِ أشْعِيا النَّبِيِّ: قُلْ لِصَهْيُونَ يَفْرَحُ ويَتَهَلَّلُ فَإنَّ اللَّهَ يَأْتِي ويُخَلِّصُ الشُّعُوبَ، ويُخَلِّصُ مَن آمَنَ بِهِ، ويُخَلِّصُ مَدِينَةَ بَيْتِ المَقْدِسِ، ويُظْهِرُ اللَّهُ ذِراعَهُ الطّاهِرَ فِيها لِجَمِيعِ الأُمَمِ المُتَبَدِّدِينَ، ويَجْعَلُهم أُمَّةً واحِدَةٍ، ويُبْصِرُ جَمِيعُ أهْلِ الأرْضِ خَلاصَ اللَّهِ، لِأنَّهُ يَمْشِي مَعَهم وبَيْنَ أيْدِيهِمْ ويَجْمَعُهم إلَهُ إسْرائِيلَ.
قِيلَ لَكُمْ: هَذا يَحْتاجُ أوَّلًا إلى أنْ يُعْلَمَ أنَّ ذَلِكَ في نُبُوَّةِ أشْعِيا بِهَذا اللَّفْظِ مِن غَيْرِ تَحْرِيفٍ لِلَفْظِهِ ولا غَلَطٍ في التَّرْجَمَةِ، وهَذا غَيْرُ مَعْلُومٍ.
وَإنْ ثَبَتَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ إلَهٌ تامٌّ، وأنَّهُ غَيْرُ مَصْنُوعٍ ولا مَخْلُوقٍ، فَإنَّهُ نَظِيرُ ما في التَّوْراةِ مِن قَوْلِهِ: جاءَ اللَّهُ مِن طُورِ سَيْناءَ، وأشْرَقَ مِن ساعِيرَ، واسْتَعْلَنَ مِن جِبالِ فارانَ، ولَيْسَ في هَذا ما يَدُلُّ عَلى أنَّ مُوسى ومُحَمَّدًا إلَهَيْنِ.
والمُرادُ مَجِيءُ دِينِهِ وكِتابِهِ وشَرْعِهِ وهُداهُ ونُورِهِ.
وَأمّا قَوْلُهُ: ويُظْهِرُ اللَّهُ ذِراعَهُ الطّاهِرَ لِجَمِيعِ الأُمَمِ المُتَبَدَّدِينَ، فَفي التَّوْراةِ مِثْلَ هَذا وأبْلَغُ مِنهُ في غَيْرِ مَوْضِعٍ.
وَأمّا قَوْلُهُ: ويُبْصِرُ جَمِيعُ أهْلِ الأرْضِ خَلاصَ اللَّهِ لِأنَّهُ يَمْشِي مَعَهم وبَيْنَ يَدَيْهِمْ، فَقَدْ قالَ في التَّوْراةِ في السِّفْرِ الخامِسِ لِبَنِي إسْرائِيلَ: لا تَهابُوهم ولا تَخافُوهُمْ، لِأنَّ اللَّهَ رَبُّكُمُ السّائِرُ بَيْنَ أيْدِيكم وهو مُحارِبٌ عَنْكم.
وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ قالَ مُوسى: إنَّ الشَّعْبَ هو شَعْبُكَ، فَقالَ أنا أمْضِي أمامَكَ.
فَقالَ: إنْ لَمْ تَمْضِ أنْتَ أمامَنا، وإلّا فَلا تُصْعِدْنا مِن هاهُنا، وكَيْفَ أعْلَمُ أنا وهَذا الشَّعْبُ أنِّي وجَدْتُ نِعْمَةَ كَذا إلّا بِسَيْرِكَ مَعَنا؟
وَفِي السِّفْرِ الرّابِعِ: إنْ أصْعَدْتَ هَؤُلاءِ بِقُدْرَتِكَ فَيَقُولُونَ لِأهْلِ الأرْضِ الَّذِينَ سَمِعُوا مِنكَ: اللَّهُ فِيما بَيْنَ هَؤُلاءِ القَوْمِ يَرَوْنَهُ عَيْنًا بِعَيْنٍ، وغَمامُكَ يُقِيمُ عَلَيْهِمْ، ويَعُودُ غَمامٌ يَسِيرُ بَيْنَ أيْدِيهِمْ نَهارًا ويَعُودُ نارًا لَيْلًا.
وَفِي التَّوْراةِ أيْضًا يَقُولُ اللَّهُ لِمُوسى: إنِّي آتٍ إلَيْكَ في غِلْظِ الغَمامِ لِكَيْ يَسْمَعَ القَوْمُ مُخاطَبَتِي لَكَ.
وَفِي الكُتُبِ الإلَهِيَّةِ وكَلامِ الأنْبِياءِ مِن هَذا كَثِيرٌ، وفِيما حَكى خاتَمُ الأنْبِياءِ عَنْ رَبِّهِ تَعالى أنَّهُ قالَ: ولا يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوافِلِ حَتّى أُحِبَّهُ، فَإذا أحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، ويَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِها، ورِجْلُهُ الَّتِي يَمْشِي بِها، فَبِي يَسْمَعُ، وبِي يَبْطِشُ، وبِي يَمْشِي.
وَإنْ قُلْتُمْ جَعَلْناهُ إلَهًا لِقَوْلِ زَكَرِيّا في نُبُوَّتِهِ: افْرَحِي يا بِنْتَ صَهْيُونَ لِأنِّي آتِيكِ وأحُلُّ فِيكِ وأتَراءى، وتُؤْمِنُ بِاللَّهِ في ذَلِكَ اليَوْمِ الأُمَمُ الكَثِيرَةُ، ويَكُونُونَ لَهُ شَعْبًا واحِدًا، ويَحِلُّ هو فِيهِمْ ويَعْرِفُونَ أنِّي أنا اللَّهُ القَوِيُّ السّاكِنُ فِيكَ، ويَأْخُذُ اللَّهُ في ذَلِكَ اليَوْمِ المُلْكَ مَن يَهُوَدا ويَمْلِكُ عَلَيْهِمْ إلى الأبَدِ.
قِيلَ لَكُمْ: إنْ وجَبَتْ لَهُ الإلَهِيَّةُ بِهَذا فَتَجِبُ لِإبْراهِيمَ وغَيْرِهِ مِنَ الأنْبِياءِ، فَإنَّ عِنْدَ أهْلِ الكِتابِ وأنْتُمْ مَعَهُمْ، أنَّ اللَّهَ تَجَلّى عَلى إبْراهِيمَ واسْتَعْلَنَ لَهُ وتَراءى لَهُ.
وَأمّا قَوْلُهُ: وأحِلُّ فِيكِ، لَمْ يُرِدِ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى حُلُولَ ذاتِهِ الَّتِي لَمْ تَسَعْها السَّماواتُ والأرْضُ في بَيْتِ المَقْدِسِ، وكَيْفَ تَحِلُّ ذاتُهُ في مَكانٍ يَكُونُ فِيهِ مَقْهُورًا مَغْلُوبًا مَعَ شَرارِ الخَلْقِ؟ كَيْفَ وقَدْ قالَ: ويَعْرِفُونَ أنِّي أنا اللَّهُ القَوِيُّ السّاكِنُ فِيكِ؟ أفَتَرى عَرَفُوا قُوَّتَهُ بِالقَبْضِ عَلَيْهِ، وشَدِّ يَدَيْهِ بِالحِبالِ، ورَبْطِهِ عَلى خَشَبَةِ الصَّلِيبِ، ودَقِّ المَسامِيرِ في يَدَيْهِ ورَجْلَيْهِ، ووَضْعِ تاجِ الشَّوْكِ عَلى رَأْسِهِ، وهو يَسْتَغِيثُ ولا يُغاثُ؟ وما كانَ المَسِيحُ يَدْخُلُ بَيْتَ المَقْدِسِ إلّا وهو مَغْلُوبٌ مَقْهُورٌ مُسْتَخْفٍ في غالِبِ أحْوالِهِ.
وَلَوْ صَحَّ مَجِيءُ هَذِهِ الألْفاظِ صِحَّةً لا تُدْفَعُ، وصَحَّتْ تَرْجَمَتُها كَما ذَكَرُوهُ، لَكانَ مَعْناها أنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ والإيمانَ بِهِ، وذِكْرَهُ ودِينَهُ وشَرْعَهُ حَلَّ في تِلْكَ البُقْعَةِ، وبَيْتُ المَقْدِسِ، لَمّا ظَهَرَ فِيهِ دِينُ المَسِيحِ بَعْدَ رَفْعِهِ حَصَلَ فِيهِ مِنَ الإيمانِ بِاللَّهِ ومَعْرِفَتِهِ ما لَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَجِماعُ الأمْرِ أنَّ النُّبُوّاتِ المُتَقَدِّمَةَ والكُتُبَ الإلَهِيَّةَ لَمْ تَنْطِقْ بِحَرْفٍ واحِدٍ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ ابْنُ البَشَرِ إلَهًا تامًّا، إلَهَ حَقٍّ، وأنَّهُ غَيْرُ مَصْنُوعٍ ولا مَرْبُوبٍ، بَلْ لَمْ يَخُصَّهُ إلّا بِما خُصَّ بِهِ أخُوهُ وأوْلى النّاسِ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ﷺ في قَوْلِهِ: إنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ ورَسُولُهُ، وكَلِمَتُهُ ألْقاها إلى مَرْيَمَ ورُوحٌ مِنهُ.
وَكُتُبُ الأنْبِياءِ المُتَقَدِّمَةُ وسائِرُ النُّبُوّاتِ مُوافِقَةٌ بِما أخْبَرَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ، وذَلِكَ كُلُّهُ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وجَمِيعُ ما تَسْتَدِلُّ بِهِ المُثَلِّثَةُ عُبّادُ الصَّلِيبِ عَلى إلَهِيَّةِ المَسِيحِ مِن ألْفاظٍ وكَلِماتٍ في الكُتُبِ فَإنَّها مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ المَسِيحِ وغَيْرِهِ، كَتَسْمِيَتِهِ ابْنًا وكَلِمَةً ورُوحَ الحَقِّ وإلَهًا، وكَذَلِكَ هو رُوحُ القُدُسِ، أمّا رُوحُ القُدُسِ فَهي سِرُّ اللَّهِ وأمْرُهُ، وقَدْ ورَدَ في الكُتُبِ الإلَهِيَّةِ لِغَيْرِ المَسِيحِ.
وَقَدْ أُطْلِقَتْ لِمَعانٍ مِنها جِبْرِيلُ، ومِنها اسْمُ اللَّهِ الأعْظَمُ، ومِنها الوَحْيُ، وقَدْ أُطْلِقَتْ عَلى المَسِيحِ لِأنَّ رُوحَهُ لَمْ تُخالِطْ نُطْفَةً، والقُدُّوسُ هو الطّاهِرُ، ولِذَلِكَ أُطْلِقَ عَلى المَسِيحِ رُوحُ اللَّهِ، وهَذِهِ الإضافَةُ إضافَةُ تَعْظِيمٍ كَقَوْلِهِ: بَيْتُ اللَّهِ وناقَةُ اللَّهِ وكَما كانَتِ الأُمَمُ الماضِيَةُ يُطْلِقُونَ عَلى أنْفُسِهِمْ أبْناءَ اللَّهِ، ومِنها القُرْآنُ الَّذِي هو أعَمُّ مِنَ القُرْآنِ المُنَزَّلِ عَلى مُحَمَّدٍ الشّامِلُ لِكُلِّ كِتابٍ مُنَزَّلٍ.
وَأمّا الرُّوحُ الَّتِي بِها الحَياةُ فَهي النَّفْسُ عَلى قاعِدَةِ أهْلِ السُّنَّةُ، وهي جِسْمٌ لَطِيفٌ ويُشاكِلُ الأجْسامَ المَحْسُوسَةَ تُحْدَثُ، ويُخْرَجُ بِها إلى السَّماءِ بِفَرَحٍ، لا تَمُوتُ ولا تَفْنى، وهي مِمّا لَهُ أوَّلٌ ولَيْسَ لَهُ آخِرٌ كالجَنَّةِ والنّارِ، واَلْأجْسادُ في المَعادِ وهي بِعَيْنَيْنِ ويَدِينِ، وهي ذُو رِيحَةٍ طَيِّبَةٍ أوْ كَرِيهَةٍ بِحَسْبَ مَحَلِّها، وهي إمّا مُنَعَّمَةٌ أوْ مُعَذَّبَةٌ، وذَلِكَ غايَةُ الدَّلِيلِ عَلى حُدُوثِها.
وَإنَّما سُمِّيَ المَسِيحُ رُوحَ اللَّهِ، لِأنَّهُ ذُو رُوحٍ وجَدٍّ مِن غَيْرِ جُزْءٍ مِن ذِي رُوحٍ، كالنُّطْفَةِ المُنْفَصِلَةِ مِنَ الأبِّ الحَيِّ، وإنَّما اخْتُرِعَ اخْتِراعًا مِن عِنْدِ اللَّهِ، وقُدْرَتُهُ خالِصَةٌ.
وَسُمِّيَ كَلِمَةَ اللَّهِ لِأنَّهُ وُجِدَ بِكَلِمَتِهِ وأمْرِهِ مِن غَيْرِ واسِطَةِ أبٍّ ولا نُطْفَةٍ وهَذا ظاهِرٌ.
وَكَذَلِكَ ما أُطْلِقَ مِن حُلُولِ رُوحِ القُدُسِ فِيهِ، وظُهُورِ الرَّبِّ فِيهِ أوْ في مَكانِهِ، وقَدْ وقَعَ في نَظِيرِ شِرْكِهِمْ وكُفْرِهِمْ طَوائِفُ مِنَ المُنْتَسِبِينَ إلى الإسْلامِ، واشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ ما يَحِلُّ في قُلُوبِ العارِفِينَ مِنَ الإيمانِ بِهِ ومَعْرِفَتِهِ ونُورِهِ وهُداهُ، فَظَنُّوا أنَّ ذَلِكَ نَفْسُ ذاتِ الرَّبِّ، وقَدْ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وَلَهُ المَثَلُ الأعْلى في السَّماواتِ والأرْضِ وهو العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾، وهو ما في قُلُوبِ المَلائِكَةِ وأنْبِيائِهِ وعِبادِهِ المُؤْمِنِينَ مِنَ الإيمانِ بِهِ ومَعْرِفَتِهِ ومَحَبَّتِهِ وإجْلالِهِ وتَعْظِيمِهِ، وهو نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾ وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَهُوَ اللَّهُ في السَّماواتِ وفي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكم وجَهْرَكم ويَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ﴾
وَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي في السَّماءِ إلَهٌ وفي الأرْضِ إلَهٌ وهو الحَكِيمُ العَلِيمُ﴾
فَأوْلِياءُ اللَّهِ يَعْرِفُونَهُ ويُحِبُّونَهُ، ويُجِلُّونَهُ أنْ يُقالَ هو ما في قُلُوبِهِمْ، والمُرادُ مَحَبَّتُهُ ومَعْرِفَتُهُ والمَثَلُ الأعْلى في قُلُوبِهِمْ لا نَفْسَ ذاتِهِ، وهَذا أمُرُّ تَعْتادُهُ النّاسُ في مُخاطَباتِهِمْ ومُحاوَراتِهِمْ، يَقُولُ الإنْسانُ لِغَيْرِهِ: أنْتَ في قَلْبِي ولا زِلْتَ في عَيْنِي كَما قالَ القائِلُ: ومِن عَجَبٍ أنِّي أحِنُّ إلَيْهُمُ ... وأسْألُ عَنْهم مَن لَقِيتُ، وهم مَعِي ... وتَطْلُبُهم عَيْنِي، وهم في سَوادِها
وَيَشْتاقُهم قَلْبِي، وهم بَيْنَ أضْلُعِي
وَقالَ آخَرُ:
؎خَيالُكَ في عَيْنِي وذِكْرُكَ في فَمِي ∗∗∗ ومَثْواكَ في عَيْنِي فَأيْنَ تَغِيبُ
وَقالَ آخَرُ في المَعْنى وأجادَ:
؎إنْ قُلْتُ غِبْتِ فَقَلْبِي لا يُصَدِّقُنِي ∗∗∗ إذْ أنْتِ فِيهِ فَدَتْكِ النَّفْسُ لَمْ تَغِبِ
؎أوْ قُلْتُ ما غِبْتِ قالَ الطَّرْفُ ذا كَذِبٌ ∗∗∗ فَقَدْ تَحَيَّرْتُ بَيْنَ الصِّدْقِ والكَذِبِ
وَقالَ آخَرُ: (فِي المَعْنى مُفْرَدٌ)
؎أحِنُّ إلَيْهِ وهْوَ في القَلْبِ ساكِنٌ ∗∗∗ فَيا عَجَبًا لِمَن يَحِنُّ لِقَلْبِهِ
وَمَن غَلُظَ طَبْعُهُ، وكَشَفَ فَهْمُهُ عَنْ فَهْمِ مِثْلِ هَذا، لَمْ يَكْثُرْ عَلَيْهِ أنْ يَفْهَمَ مِن ألْفاظِ الكُتُبِ أنَّ ذاتَ اللَّهِ سُبْحانَهُ تَحِلُّ في الصُّورَةِ البَشَرِيَّةِ وتَتَّحِدُ بِها وتَمْتَزِجُ بِها، تَعالى اللَّهُ عَمّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَإنْ قُلْتُمْ: أوْجَبْنا لَهُ الإلَهِيَّةَ مِن قَوْلِ أشْعِيا: مِن أعْجَبِ الأعاجِيبِ أنَّ رَبَّ المَلائِكَةِ سَيُولَدُ مِنَ البَشَرِ.
قِيلَ: لَكم هَذا، مَعَ أنَّ هَذا يَحْتاجُ إلى صِحَّةِ الكَلامِ عَنْ أشْعِيا، وأنَّهُ لَمْ يُحَرَّفْ بِالنَّقْلِ مِن تَرْجَمَةٍ إلى تَرْجَمَةٍ، وأنَّهُ كَلامٌ مُنْقَطِعٌ عَمّا قَبْلَهُ وبَعْدَهُ، تَنْبِيهٌ ودَلِيلٌ عَلى أنَّهُ مَخْلُوقٌ مَصْنُوعٌ، وأنَّهُ ابْنُ البَشَرِ يُوَلَدُ مِنهُ، لا مِنَ الأحَدِ الصَّمَدِ الَّذِي لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحَدٌ.
وَإنْ قُلْتُمْ: جَعَلْناهُ إلَهًا مِن قَوْلِ مَتّى في الإنْجِيلِ: إنَّ ابْنَ الإنْسانِ يُرْسِلُ مَلائِكَتَهُ ويَجْمَعُونَ كُلَّ المُلُوكِ فَيُلْقُونَهم في أتُونِ النّارِ.
قِيلَ: هَذا كالَّذِي قَبْلَهُ، ولَمْ يُرِدْ أنَّ المَسِيحَ هو رَبُّ الأرْبابِ ولا أنَّهُ خالِقُ المَلائِكَةِ، ومِمّا يَشْهَدُ لِذَلِكَ وأنَّ الضَّمِيرَ في الهاءِ مِنَ المَلائِكَةِ راجِعٌ إلى اللَّهِ لا إلى المَسِيحِ، قَوْلُ مُرْقُسَ في إنْجِيلِهِ في هَذا المَحَلِّ في هَذا المَعْنى: فابْنُ الإنْسانِ يَفْضَحُهُ إذا جاءَ في مِحْرابِهِ ومَلائِكَتِهِ المُقَدِّسِينَ، فافْهَمْ ذَلِكَ.
وَيُمْكِنُ أنْ يَجْعَلَ اللَّهُ المَسِيحَ سَفِيرًا بَيْنَهُ وبَيْنَ بَعْضِ مَلائِكَةِ العَذابِ في جَمِيعِ مُلُوكِ الكُفْرِ مِنَ المُنْتَسِبِينَ لِدِينِهِ مِن عَرَصاتِ القِيامَةِ وإدْخالِهِمُ النّارَ.
والضَّمِيرُ في المَلائِكَةِ عائِدٌ إلى اللَّهِ لا إلى المَسِيحِ، وإنَّما القَوْمُ جَهَلَةٌ بِمَقامِ الرُّبُوبِيَّةِ ومَقامِ المَلائِكَةِ، واللِّسانِ العَرَبِيِّ المُتَرْجَمِ بِهِ عَنْ لُغَتِهِمْ ومَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِن هادٍ وحاشَ لِلَّهِ أنْ يُطْلِقَ عَلَيْهِ أنَّهُ رَبُّ المَلائِكَةِ بَلْ هَذا مِن أقْبَحِ الكَذِبِ والِافْتِراءِ، بَلْ ورَبُّ المَلائِكَةِ أوْصاهم بِحِفْظِ المَسِيحِ وتَأْيِيدِهِ بِشَهادَةِ النَّبِيِّ القائِلِ عِنْدَهُمْ: إنَّ اللَّهَ يُوصِي مَلائِكَتَهُ بِكَ لِيَحْفَظُوكَ. ثُمَّ بِشَهادَةِ لُوقا: إنَّ اللَّهَ أرْسَلَ لَهُ مَلَكًا مِنَ السَّماءِ لِيُقَوِّيَهُ.
هَذا الَّذِي نَطَقَتْ بِهِ الكُتُبُ، فَحَرَّفَ الكَذّابُونَ عَلى اللَّهِ وعَلى مَسِيحِهِ ذَلِكَ، ونَسَبُوا إلى الأنْبِياءِ أنَّهم قالُوا: هو رَبُّ المَلائِكَةِ.
وَإذا شَهِدَ الإنْجِيلُ واتَّفَقَ الأنْبِياءُ والرُّسُلُ أنَّ اللَّهَ يُوصِي مَلائِكَتَهُ بِالمَسِيحِ لِيَحْفَظُوهُ، عُلِمَ أنَّ المَلائِكَةَ والمَسِيحَ عَبِيدُ اللَّهِ مُنْقادُونَ لِأمْرِهِ، لَيْسُوا أرْبابًا ولا آلِهَةً.
وَقالَ المَسِيحُ لِتَلامِذَتِهِ: مَن قَبِلَكم فَقَدْ قَبِلَنِي، ومَن قَبِلَنِي فَقَدْ قَبِلَ مَن أرْسَلَنِي.
وَقالَ المَسِيحُ لِتَلامِذَتِهِ أيْضًا: مَن أنْكَرَنِي قُدّامَ النّاسِ أنْكَرْتُهُ قُدّامَ المَلائِكَةِ.
وَقالَ لِلَّذِي يَضْرِبُ عِنْدَ رَئِيسِ الكَهَنَةِ: اغْمِدْ سَيْفَكَ. ولا تَظُنُّ أنِّي لا أسْتَطِيعُ أنْ أدْعُوَ اللَّهَ الأبَ فَيُقِيمَ لِي أكْثَرَ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ مِنَ المَلائِكَةِ.
فَهَلْ يَقُولُ هَذا مَن هو رَبُّ المَلائِكَةِ وإلَهُهم وخالِقُهُمْ؟
وَإنْ أوْجَبْتُمْ لَهُ الإلَهِيَّةَ بِما نَقَلْتُمُوهُ عَنْ أشْعِيا: تَخْرُجُ عَصا مِن بَيْتِ نَبِيٍّ ويَخْرُجُ مِنها نُورٌ ويَحِلُّ فِيهِ رُوحُ القُدُسِ، رُوحُ اللَّهِ، رُوحُ الكَلِمَةِ والفَهْمِ، رُوحُ الحِيَلِ والقُوَّةِ، رَوْحُ الحِلْمِ وخَوْفُ اللَّهِ وبِهِ يُؤْمِنُونَ وعَلَيْهِ يَتَّكِلُونَ ويَكُونُ لَهُمُ التّاجُ والكَرامَةُ إلى دَهْرِ الدّاهِرَيْنِ.
قِيلَ لَكُمْ: هَذا الكَلامُ بَعْدَ المُطالَبَةِ بِصِحَّةِ نَقْلِهِ عَنْ أشْعِيا، وصِحَّةِ التَّرْجَمَةِ لَهُ بِاللِّسانِ العَرَبِيِّ، وأنَّهُ لَمْ تُحَرِّفْهُ التَّراجِمُ، هو حُجَّةٌ عَلى المُثَلِّثَةِ عُبّادِ الصَّلِيبِ لا لَهُمْ، فَإنَّهُ لا يَدُلُّ عَلى أنَّ المَسِيحَ هو خالِقُ السَّماواتِ والأرْضِ، بَلْ يَدُلُّ عَلى مِثْلِ ما دَلَّ عَلَيْهِ القُرْآنُ، وأنَّ المَسِيحَ أُيِّدَ بِرُوحِ القُدُسِ، فَإنَّهُ قالَ: ويَحِلُّ فِيهِ رُوحُ اللَّهِ، رُوحُ الكَلِمَةِ والفَهْمِ، رُوحُ الحِيَلِ والقُوَّةِ، رُوحُ العِلْمِ وخَوْفُ اللَّهِ. ولَمْ يَقُلْ: تَحِلُّ فِيهِ حَياةُ اللَّهِ فَضْلًا عَنْ أنْ يَحِلَّ اللَّهُ فِيهِ ويَتَّحِدَ بِهِ، ويَتَّخِذَ حِجابًا مِن ناسُوتِهِ. وهَذِهِ الرُّوحُ تَكُونُ مَعَ الأنْبِياءِ والصِّدِّيقِينَ، وعِنْدَهم في التَّوْراةِ: إنَّ الَّذِينَ كانُوا يَعْمَلُونَ في قُبَّةِ الزَّمانِ حَلَّتْ فِيهِمْ رُوحُ الحِكْمَةِ ورُوحُ الفَهْمِ والعِلْمِ وهي ما يَحْصُلُ بِهِ الهُدى والنَّصْرُ والتَّأْيِيدُ.
وَقَوْلُهُ: رُوحُ اللَّهِ لا تَدُلُّ عَلى أنَّها صِفَتُهُ، فَضْلًا أنْ يَكُونَ هو اللَّهُ، وجِبْرِيلُ يُسَمّى رُوحُ اللَّهِ، والمَسِيحُ اسْمُهُ رُوحُ اللَّهِ.
والمُضافُ إلى اللَّهِ إذا كانَ ذاتًا قائِمَةً بِنَفْسِها فَهو إضافَةُ مَمْلُوكٍ إلى مالِكٍ كَبَيْتِ اللَّهِ، وناقَةِ اللَّهِ ورُوحِ اللَّهِ، لَيْسَ المُرادُ بِهِ بَيْتًا يَسْكُنُهُ، ولا ناقَةً يَرْكَبُها، ولا رُوحًا قائِمَةً بِهِ، وقَدْ قالَ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإيمانَ وأيَّدَهم بِرُوحٍ مِنهُ، وقالَ تَعالى: {وَكَذَلِكَ أوْحَيْنا إلَيْكَ رُوحًا مِن أمْرِنا﴾.
فَهَذِهِ الرُّوحُ أيَّدَ بِها عِبادَهُ المُؤْمِنِينَ.
وَأمّا قَوْلُهُ: وبِهِ يُؤْمِنُونَ وعَلَيْهِ يَتَوَكَّلُونَ فَهو عائِدٌ إلى اللَّهِ تَعالى لا إلى العَصا الَّتِي تَنْبُتُ مِن بَيْتِ النُّبُوَّةِ.
وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ هَذَيْنِ الأصْلَيْنِ قُلْ هو الرَّحْمَنُ آمَنّا بِهِ وعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا
وَقالَ مُوسى ﴿ياقَوْمِ إنْ كُنْتُمْ آمَنتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ﴾.
وَهُوَ كَثِيرٌ في القُرْآنِ، وقَدْ أخْبَرَ أنَّهُ أيَّدَهُ اللَّهُ بِرُوحِ العِلْمِ وخَوْفِ اللَّهِ، فَجَمَعَ بَيْنَ العِلْمِ والخَشْيَةِ وهُما الأصْلانِ اللَّذانِ جَمَعَ القُرْآنُ بَيْنَهُما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّما يَخْشى اللَّهَ مِن عِبادِهِ العُلَماءُ﴾.
وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: أنا أعْلَمُكم بِاللَّهِ وأشَدُّكم لَهُ خَشْيَةً.
وَهَذا شَأْنُ العَبْدِ المَحْضِ. وأمّا الإلَهُ الحَقُّ رَبُّ العالَمِينَ فَلا يَلْحَقُهُ خَوْفٌ ولا خَشْيَةٌ ولا يَعْبُدُ غَيْرَهُ، والمَسِيحُ كانَ قائِمًا بِأوْرادِ العِباداتِ لِلَّهِ أتَمَّ القِيامِ.
وَإنْ أوْجَبْتُمْ لَهُ الإلَهِيَّةُ بِقَوْلٍ أشْعِيا: إنَّ غُلامًا وُلِدَ لَنا، وإَنَّنا أعْطَيْناهُ كَذا وكَذا رِئاسَةً عَلى عاتِقَيْهِ وبَيْنَ مَنكِبَيْهِ، ويُدْعى اسْمُهُ مَلِكًا عَظِيمًا إلَهًا قَوِيًّا مُسَلَّطًا رَئِيسًا، قَوِيَّ السَّلامَةِ في كُلِّ الدُّهُورِ، وسُلْطانُهُ كامِلٌ لَيْسَ لَهُ فَناءٌ. قِيلَ لَكُمْ: لَيْسَ في هَذِهِ البِشارَةِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ بِها المَسِيحُ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ.
وَلَوْ كانَ المُرادُ بِها المَسِيحَ لَمْ يَدُلَّ عَلى مَطْلُوبِهِمْ، أمّا المَقامُ الأوَّلُ: فَدَلالَتُها عَلى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أظْهَرُ مِن دَلالَتِها عَلى المَسِيحِ، فَإنَّهُ هو الَّذِي رِئاسَتُهُ عَلى عاتِقِهِ وبَيْنَ مَنكِبَيْهِ مِن جِهَتَيْنِ: مِن جِهَةِ أنَّ خاتَمَ النُّبُوَّةِ عَلى بَعْضِ كَتِفَيْهِ، وهو مِن أعْلامِ النُّبُوَّةِ الَّتِي أخْبَرَتْ بِهِ الأنْبِياءُ، وعَلامَةُ خَتْمِ دِيوانِهِمْ، ولِذَلِكَ كانَ في ظَهْرِهِ مِن جِهَةِ أنَّهُ بُعِثَ بِالسَّيْفِ الَّذِي تَقَلَّدَ بِهِ عَلى عاتِقِهِ، ويَرْفَعُهُ إذا ضَرَبَ بِهِ عَلى عاتِقِهِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: رَئِيسٌ مُسَلَّطٌ قَوِيُّ السَّلامَةِ، وهَذِهِ صِفَةُ مُحَمَّدٍ ﷺ المُؤَيَّدِ المَنصُورِ المُسَلَّطِ رَئِيسِ السَّلامَةِ، فَإنَّ دِينَهُ الإسْلامُ، ومَنِ اتَّبَعَهُ سَلِمَ مِن خِزْيِ الدُّنْيا وعَذابِ الآخِرَةِ ومِنَ اسْتِيلاءِ عَدُوِّهِ عَلَيْهِ.
والمَسِيحُ لَمْ يُسَلَّطْ عَلى أعْدائِهِ كَما سُلِّطَ مُحَمَّدٌ ﷺ، بَلْ كانَ أعْداؤُهُ مُسَلَّطِينَ عَلَيْهِ قاهِرِينَ لَهُ حَتّى عَمِلُوا بِهِ ما عَمِلُوا عِنْدَ المُثَلِّثَةِ عُبّادِ الصَّلِيبِ. فَأيْنَ مُطابَقَةُ هَذِهِ الصِّفاتِ لِلْمَسِيحِ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ؟ وهي مُطابِقَةٌ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ﷺ مِن كُلِّ وجْهٍ، وهو الَّذِي سُلْطانُهُ كامِلٌ لَيْسَ لَهُ فَناءٌ إلى آخِرِ الدَّهْرِ.
فَإنْ قِيلَ: إنَّكم لا تَدْعُونَ مُحَمَّدًا إلَهًا بَلْ هو عِنْدَكم عَبْدٌ مَحْضٌ؟ قِيلَ: نَعَمْ، واللَّهِ إنَّهُ لَكَذَلِكَ عَبْدٌ مَحْضٌ، والعُبُودِيَّةُ أجَلُّ مَراتِبِهِ، واسْمُ الإلَهِ مِن جِهَةِ التَّراجِمِ جاءَ، والمُرادُ بِهِ السَّيِّدُ المُطاعُ لا إلَهَ لَهُ، المَعْبُودُ الخالِقُ الرّازِقُ.
وَإنْ أوْجَبْتُمْ لَهُ الإلَهِيَّةَ مِن قَوْلٍ أشْعِيا فِيما زَعَمْتُمْ: ها هي العَذْراءُ تَحْبَلُ وتَلِدُ ابْنًا يُدْعى اسْمَهُ عَمانْوِيلَ، وعَمانُوئِيلُ كَلِمَةٌ عِبْرانِيَّةٌ تَفْسِيرُها بِالعَرَبِيَّةِ: إلَهُنا مَعَنا.
فَقَدْ شَهِدَ لَهُ النَّبِيُّ أنَّهُ إلَهٌ.
قِيلَ لَكم بَعْدَ ثُبُوتِ هَذا الكَلامِ وتَفْسِيرِهِ: لا يَدُلُّ عَلى أنَّ العَذْراءَ ولَدَتْ رَبَّ العالَمِينَ وخالِقَ السَّماواتِ والأرَضِينَ، فَإنَّهُ قالَ: تَلِدُ ابْنًا وهَذا دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ نَبِيٌّ مِن جُمْلَةِ النَّبِيِّينَ لَيْسَ هو رَبُّ العالَمِينَ.
وَأمّا قَوْلُهُ: ويُدْعى اسْمَهُ عَمانْوِيلَ فَإنَّما يَدُلُّ عَلى أنَّهُ يُسَمّى بِهَذا الِاسْمِ كَما تُسَمِّي النّاسُ أبْناءَهم بِأنْواعٍ مِنَ الصِّفاتِ والأسْماءِ والأفْعالِ والجُمَلِ المُرَكَّبَةِ مِنَ اسْمَيْنِ أوِ اسْمٍ وفِعْلٍ، وكَثِيرٌ مِن أهْلِ الكِتابِ يُسَمُّونَ أوْلادَهم عَمانْوِيلَ.
وَمِن عُلَمائِكم مَن يَقُولُ: المُرادُ بِالعَذْراءِ هاهُنا غَيْرُ مَرْيَمَ، ويَذْكُرُ في ذَلِكَ قِصَّةً، ويَدُلُّ عَلى هَذا أنَّ المَسِيحَ لا يُعْرَفُ اسْمُهُ عَمانْوِيلُ، وإنْ كانَ ذَلِكَ اسْمُهُ، فَكَوْنُهُ يُسَمّى " إلَهُنا مَعَنا " أوْ " بِاللَّهِ حَسْبِي "، أوِ اللَّهُ وحْدَهُ، ونَحْوَ ذَلِكَ لا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ إلَهٌ.
وَقَدْ حَرَّفَ بَعْضُ المُثَلِّثَةِ عُبّادُ الصَّلِيبِ هَذِهِ الكَلِمَةَ وقالَ: مَعْناها اللَّهُ مَعَنا، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ بَعْضُ مَن أنْصَفَ مِن عُلَمائِهِمْ وحَكَّمَ رُشْدَهُ عَلى هَواهُ، وهَداهُ اللَّهُ لِلْحَقِّ وبَصَّرَهُ مِن عَماهُ، وقالَ: (أهَذا هو القائِلُ: أنا الرَّبُّ، ولا إلَهَ غَيْرِي، وأنا أُحْيِي وأُمِيتُ وأخْلُقُ وأرْزُقُ؟
أمْ هو القائِلُ لِلَّهِ: إنَّكَ أنْتَ الإلَهُ الحَقُّ وحْدَكَ الَّذِي أرْسَلْتَ يُوسَعَ المَسِيحَ).
قالَ: والأوَّلُ باطِلٌ، والثّانِي هو الَّذِي شَهِدَ بِهِ الإنْجِيلُ، ويَجِبُ تَصْدِيقُ الإنْجِيلِ وتَكْذِيبُ مَن زَعَمَ أنَّ المَسِيحَ إلَهٌ مَعْبُودٌ.
قالَ: ولَيْسَ المَسِيحُ مَخْصُوصًا بِهَذا الِاسْمِ، بَلْ عَمانُوئِيلُ اسْمٌ تُسَمِّي بِهِ النَّصارى واليَهُودُ أوْلادَها. قالَ: وهَذا مَوْجُودٌ في عَصْرِنا هَذا، ومَعْنى هَذِهِ التَّسْمِيَةِ بَيْنَهم شَرِيفُ القَدْرِ.
قالَ: وكَذَلِكَ السُّرْيانُ يُسَمُّونَ أوْلادَهم عَمانْوِيلَ والمُسْلِمُونَ وغَيْرُهم يَقُولُونَ لِلرَّجُلِ: اللَّهُ مَعَكَ، فَإذا سُمِّيَ الرَّجُلُ بِقَوْلِ: اللَّهُ مَعَكَ، أوِ: اللَّهُ مَعَنا، كانَ هَذا تَبَرُّكًا بِمَعْنى هَذِهِ الِاسْمِ.
وَإنْ أوْجَبْتُمْ لَهُ الإلَهِيَّةَ بِقَوْلِ حَبْقُوقَ فِيما حَكاهُ عَنْهُ: إنَّ اللَّهَ في الأرْضِ يَتَزَيّا ويَخْتَلِطُ مَعَ النّاسِ ويَمْشِي مَعَهم.
وَيَقُولُ أرْمِيا أيْضًا بَعْدَ هَذا: اللَّهُ يَظْهَرُ في الأرْضِ ويَتَقَلَّبُ مَعَ البَشَرِ، قِيلَ لَكُمْ: هَذا بَعْدَ احْتِياجِهِ إلى ثُبُوتِ هَذَيْنِ الشَّخْصَيْنِ أوَّلًا، وإلى ثُبُوتِ هَذا النَّقْلِ عَنْهُما، وإلى مُطابَقَةِ التَّرْجَمَةِ مِن غَيْرِ تَحْرِيفٍ - وهَذِهِ ثَلاثُ مَقاماتٍ يَعِزُّ عَلَيْكم إثْباتُها - لا تَدُلُّ عَلى أنَّ المَسِيحَ هو خالِقُ السَّماواتِ والأرْضِ، وأنَّهُ إلَهٌ حَقٌّ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ ولا مَصْنُوعٍ، فَفي التَّوْراةِ ما هو مِن هَذا الجِنْسِ وأبْلَغُ ولَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ مُوسى إلَهٌ، ولا أنَّهُ خارِجٌ عَنْ جُمْلَةِ العَبِيدِ لِلَّهِ.
وَقَوْلُهُ يَتَزَيّا مِثْلَ: تَجَلّى اللَّهُ وظَهَرَ واسْتَعْلَنَ ونَحْوَ ذَلِكَ مِن ألْفاظِ التَّوْراةِ وغَيْرِها مِنَ الكُتُبِ الإلَهِيَّةِ.
وَقَدْ ذُكِرَ في التَّوْراةِ أنَّ اللَّهَ تَعالى تَجَلّى وتَزَيّا لِإبْراهِيمَ وغَيْرِهِ مِنَ الأنْبِياءِ، ولَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلى الإلَهِيَّةِ لِأحَدٍ مِنهُمْ، ولَمْ يَزَلْ في عُرْفِ النّاسِ ومُخاطَبَتِهِمْ أنْ يَقُولُوا: فُلانٌ مَعَنا وهو بَيْنَ أظْهُرِنا ولَمْ يَمُتْ، إذا كانَ عَمَلُهُ وسُنَّتُهُ وسِيرَتُهُ بَيْنَهم ووَصاياهُ يُعْمَلُ بِها بَيْنَهم.
وَكَذَلِكَ يَقُولُ القائِلُ لِمَن ماتَ والِدُهُ: ما ماتَ مَن خَلَّفَ مِثْلَكَ، وأنا والِدُكَ. وإذا رَأوْا تِلْمِيذَ العالِمِ يُعَلِّمُ عِلْمَهُ قالُوا: هَذا فُلانٌ باسِمِ أُسْتاذِهِ، كَما كانَ يُقالُ عَنْ عِكْرِمَةَ: هَذا ابْنُ عَبّاسٍ، وعَنْ أبِي حامِدٍ: هَذا الشّافِعِيُّ.
وَإذا بَعَثَ المَلِكُ نائِبًا يَقُومُ مَقامَهُ في بَلَدٍ يَقُولُ النّاسَ: جاءَ المَلِكُ وحَكَمَ ورَسَمَ المَلِكُ.
وَفِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ الإلَهِيِّ: يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ يَوْمَ القِيامَةِ: عَبْدِي مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، فَيُقالُ: يا رَبِّ وكَيْفَ أعُودُكَ وأنْتَ رَبُّ العالَمِينَ؟ قالَ: أما عَلِمْتَ أنَّ عَبْدِي فُلانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أما لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ، عَبْدِي جُعْتُ فَلَمْ تُطْعِمْنِي، فَيَقُولُ: يا رَبِّ كَيْفَ أُطْعِمُكَ وأنْتَ رَبُّ العالَمِينَ؟ قالَ: أما إنَّ عَبْدِي فُلانًا اسْتَطْعَمَكَ فَلَمْ تُطْعِمْهُ، أمّا لَوْ أطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي. عَبْدِي اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي، فَيَقُولُ: يا رَبِّ وكَيْفَ أسْقِيكَ وأنْتَ رَبُّ العالَمِينَ؟ فَيَقُولُ: أما إنَّ عَبْدِي فُلانًا عَطِشَ فاسْتَقاكَ فَلَمْ تَسْقِهِ، أمّا لَوْ سَقَيْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي. وأبْلَغُ مِن هَذا قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أيْدِيهِمْ، ومِن هَذا قَوْلُهُ تَعالى: {مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أطاعَ اللَّهَ﴾، فَلَوِ اسْتَحَلَّ المُسْلِمُونَ ما اسْتَحْلَلْتُمْ لَكانَ اسْتِدْلالُهم بِذَلِكَ عَلى أنَّ مُحَمَّدًا إلَهٌ مِن جِنْسِ اسْتِدْلالِكم لا فَرْقَ بَيْنَهُما!.
وَإنْ أوْجَبْتُمْ لَهُ الإلَهِيَّةَ بِقَوْلِهِ في السِّفْرِ الثّالِثِ مِن أسْفُرِ المُلُوكِ: والآنَ يا رَبِّ إلَهَ إسْرائِيلَ، يَتَحَقَّقُ كَلامُكَ لِداوُدَ لِأنَّهُ حَقٌّ أنْ يَكُونَ آيَةً، سَيَسْكُنُ اللَّهُ مَعَ النّاسِ عَلى الأرْضِ، اسْمَعُوا أيَّتُها الشُّعُوبُ كُلُّكُمْ، ولْتَنْصِتِ الأرْضُ وكُلُّ مَن فِيها، فَيَكُونُ الرَّبُّ عَلَيْهِمْ شاهِدًا، ويَخْرُجُ مِن مَوْضِعِهِ، ويَنْزِلُ ويَطَأُ عَلى مَشارِقِ الأرْضِ في شَأْنِ خَطِيئَةِ بَنِي يَعْقُوبَ.
قِيلَ لَكُمْ: هَذا السِّفْرُ يَحْتاجُ أوَّلًا إلى أنْ يُثْبَتَ، وأنَّ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ نَبِيٌّ، وأنَّ هَذا لَفَظَهُ، وأنَّ التَّرْجَمَةَ مُطابِقَةٌ لَهُ ولَيْسَ ذَلِكَ بِمَعْلُومٍ. وبَعْدَ ذَلِكَ فالقَوْلُ في هَذا الكَلامِ كالقَوْلِ في نَظِيرِهِ مِمّا ذَكَرْتُمُوهُ وما لَمْ تَذْكُرُوهُ ولَيْسَ في هَذا الكَلامِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّ المَسِيحَ خالِقُ السَّماواتِ والأرْضِ كَأنَّهُ إلَهٌ غَيْرُ مَصْنُوعٍ ولا مَخْلُوقٍ، وإنَّ قَوْلَهُ:
إنَّ اللَّهَ سَيَسْكُنُ مَعَ النّاسِ في الأرْضِ، هو مِثْلَ كَوْنِهِ مَعَهُمْ، وإذا صارَ في الأرْضِ نُورُهُ وهُداهُ ودِينُهُ ونَبِيُّهُ كانَتْ هَذِهِ سُكْناهُ، لا أنَّهُ بِذاتِهِ المُقَدَّسَةِ يَنْزِلُ عَنْ عَرْشِهِ ويَسْكُنُ مَعَ أهْلِ الأرْضِ، ولَوْ قُدِّرَ تَقْدِيرُ المُحالاتِ أنَّ ذَلِكَ واقِعٌ لَمْ يَلْزَمْ أنْ يَكُونَ هو المَسِيحُ، فَقَدْ سَكَنَ الرُّسُلُ والأنْبِياءُ قَبْلَهُ وبَعْدَهُ فَما المُوجَبُ لِأنْ يَكُونَ المَسِيحُ هو الإلَهُ دُونَ إخْوانِهِ مِنَ المُرْسَلِينَ، أتَرى ذَلِكَ لِلْقُوَّةِ والسُّلْطانِ الَّذِي كانَ لَهُ وهو في الأرْضِ، وقَدْ قُلْتُمْ إنَّهُ قُبِضَ عَلَيْهِ وفُعِلَ بِهِ ما فُعِلَ مِن غايَةِ الإهانَةِ والإذْلالِ والقَهْرِ، فَهَذا ثَمَرَةُ سُكْناهُ في الأرْضِ مَعَ خَلْقِهِ؟
وَإنْ قُلْتُمْ: سُكْناهُ في الأرْضِ مَعَ خَلْقِهِ هو ظُهُورُهُ في ناسُوتِ المَسِيحِ، قِيلَ لَكُمْ: أمّا الظُّهُورُ المُمْكِنُ المَعْقُولُ وهو ظُهُورُ مَحَبَّتِهِ ومَعْرِفَتِهِ ودِينِهِ وكَلامِهِ، فَهَذا لا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ ناسُوتِ المَسِيحِ وناسُوتِ سائِرِ الأنْبِياءِ والمُرْسَلِينَ، ولَيْسَ في هَذا اللَّفْظِ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ ما يَدُلُّ عَلى اخْتِصاصِهِ بِناسُوتِ المَسِيحِ.
وَأمّا الظُّهُورُ المُسْتَحِيلُ الَّذِي تَأْباهُ العُقُولُ والفِطَرُ والشَّرائِعُ وجَمِيعُ النُّبُوّاتِ، وهو ظُهُورُ ذاتِ الرَّبِّ في ناسُوتِ مَخْلُوقٍ مِن مَخْلُوقاتِهِ، واتِّحادِهِ بِهِ وامْتِزاجِهِ واخْتِلاطِهِ فَهَذا مُحالٌ عَقْلًا وشَرْعًا، فَلا يُمْكِنُ أنْ تَنْطِقَ بِهِ نُبُوَّةٌ أصْلًا، بَلِ النُّبُوّاتُ مِن أوَّلِها إلى آخِرِها مُتَّفِقَةٌ عَلى أُصُولٍ:
أحَدُها: أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى قَدِيمٌ واحِدٌ لا شَرِيكَ لَهُ في مُلْكِهِ ولا نِدَّ ولا ضِدَّ ولا وزِيرَ ولا مُشِيرَ ولا ظَهِيرَ ولا شافِعَ إلّا مِن بَعْدِ إذْنِهِ.
الثّانِي: أنَّهُ لا والِدَ لَهُ ولا ولَدَ ولا كُفْؤَ ولا نَسِيبَ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ ولا زَوْجَةَ.
الثّالِثُ: أنَّهُ غَنِيٌّ بِذاتِهِ فَلا يَأْكُلُ ولا يَشْرَبُ ولا يَحْتاجُ إلى شَيْءٍ مِمّا يَحْتاجُ إلَيْهِ خَلْقُهُ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ.
الرّابِعُ: أنَّهُ لا يَتَغَيَّرُ ولا تَعْرِضُ لَهُ الآفاتُ مِنَ الهَرَمِ والمَرَضِ والسِّنَةِ والنَّوْمِ والنِّسْيانِ والنَّدَمِ والخَوْفِ والهَمِّ والحُزْنِ ونَحْوَ ذَلِكَ.
الخامِسُ: أنَّهُ لا يُماثِلُ شَيْئًا مِن مَخْلُوقاتِهِ بَلْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لا في ذاتِهِ ولا في صِفاتِهِ.
السّادِسُ: أنَّهُ لا يَحِلُّ في شَيْءٍ مِن مَخْلُوقاتِهِ، ولا يَحِلُّ في ذاتِهِ شَيْءٌ مِنها، بَلْ هو بائِنٌ عَنْ خَلْقِهِ بِذاتِهِ، والخَلْقُ بائِنُونَ عَنْهُ.
السّابِعُ: أنَّهُ أعْظَمُ مِن كُلِّ شَيْءٍ وأكْبَرُ مِن كُلِّ شَيْءٍ وفَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ وغالِبٌ عَلى كُلِّ شَيْءٍ ولَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ ألْبَتَّةَ.
الثّامِنُ: أنَّهُ قادِرٌ عَلى كُلِّ شَيْءٍ فَلا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ يُرِيدُهُ بَلْ هو الفَعّالُ لِما يُرِيدُ.
التّاسِعُ: أنَّهُ عَلّامٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، يَعْلَمُ السِّرَّ وأخْفى ويَعْلَمُ ما كانَ وما يَكُونُ وما لَمْ يَكُنْ لَوْ كانَ كَيْفَ يَكُونُ وما تَسْقُطُ مِن ورَقَةٍ إلّا يَعْلَمُها ولا حَبَّةٍ في ظُلُماتِ الأرْضِ ولا رَطْبٍ ولا يابِسٍ ولا ساكِنٍ ولا مُتَحَرِّكٍ إلّا وهو يَعْلَمُهُ عَلى حَقِيقَتِهِ.
العاشِرُ: أنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ يَسْمَعُ ضَجِيجَ الأصْواتِ بِاخْتِلافِ اللُّغاتِ عَلى تَفَنُّنِ الحاجاتِ، ويَرى دَبِيبَ النَّمْلَةِ السَّوْداءِ عَلى الصَّخْرَةِ الصَّمّاءِ في اللَّيْلَةِ الظَّلْماءِ، قَدْ أحاطَ سَمْعُهُ بِجَمِيعِ المَسْمُوعاتِ، وبَصَرُهُ بِجَمِيعِ المُبْصِراتِ، وعِلْمُهُ بِجَمِيعِ المَعْلُوماتِ، وقُدْرَتُهُ بِجَمِيعِ المَقْدُوراتِ، ونَفَذَتْ مَشِيئَتُهُ في جَمِيعِ البَرِيّاتِ، وعَمَّتْ رَحْمَتُهُ جَمِيعَ المَخْلُوقاتِ، ووَسِعَ كُرْسِيُّهُ الأرْضَ والسَّماواتِ.
الحادِي عَشَرَ: أنَّهُ الشّاهِدُ الَّذِي لا يَغِيبُ ولا يَسْتَخْلِفُ أحْدًا عَلى تَدْبِيرِ مُلْكِهِ، ولا يَحْتاجُ إلى مَن يَرْفَعُ إلَيْهِ حَوائِجَ عِبادِهِ أوْ يُعاوِنُهُ عَلَيْها، أوْ يَسْتَعْطِفُهُ عَلَيْهِمْ ويَسْتَرْحِمُهُ لَهم.
الثّانِي عَشَرَ: أنَّهُ الأبَدِيُّ الباقِي الَّذِي لا يَضْمَحِلُّ ولا يَتَلاشى ولا يُعْدَمُ ولا يَمُوتُ.
الثّالِثَ عَشَرَ: أنَّهُ المُتَكَلِّمُ المُكَلِّمُ الآمِرُ النّاهِي قائِلُ الحَقِّ وهادِي السَّبِيلِ ومُرْسِلُ الرُّسُلِ ومُنْزِلُ الكُتُبِ والقائِمُ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ مِنَ الخَيْرِ والشَّرِّ، ويُجازِي المُحْسِنَ عَلى إحْسانِهِ، والمُسِيءَ بِإساءَتِهِ.
الرّابِعَ عَشَرَ: أنَّهُ الصّادِقُ في وعْدِهِ وخَبَرِهِ، فَلا أصْدَقَ مِنهُ قِيلًا. ولا أصْدَقَ مِنهُ حَدِيثًا، وهو لا يُخْلِفُ المِيعادَ.
الخامِسَ عَشَرَ: أنَّهُ تَعالى صَمَدٌ، بِجَمِيعِ مَعانِي الصَّمَدِيَّةِ، فَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ ما يُناقِضُ صَمَدِيَّتَهُ.
السّادِسَ عَشَرَ: أنَّهُ قُدُّوسٌ سَلامٌ، فَهو المُبَرَّأُ مِن كُلِّ عَيْبٍ ونَقْصٍ وآفَةٍ.
السّابِعَ عَشَرَ: أنَّهُ الكامِلُ الَّذِي لَهُ الكَمالُ المُطْلَقُ مِن جَمِيعِ الوُجُوهِ.
الثّامِنَ عَشَرَ: أنَّهُ العَدْلُ الَّذِي لا يَجُورُ ولا يَظْلِمُ ولا يَخافُ عِبادُهُ مِنهُ ظُلْمًا.
فَهَذا مِمّا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ جَمِيعُ الكُتُبِ والرُّسُلِ، وهو مِنَ المُحْكَمِ الَّذِي لا يَجُوزُ أنْ تَأْتِيَ شَرِيعَةٌ بِخِلافِهِ ولا يُخْبِرَ نَبِيٌّ بِخِلافِهِ أصْلًا.
فَتَرَكَ المُثَلِّثَةُ عُبّادُ الصَّلِيبِ هَذا كُلَّهُ، وتَمَسَّكُوا بِالمُتَشابِهِ مِنَ المَعانِي والمُجْمَلِ مِنَ الألْفاظِ، وأقْوالِ مَن ضَلُّوا مِن قَبْلُ، وأضَلُّوا كَثِيرًا وضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ.
وَأُصُولُ المُثَلِّثَةِ ومَقالَتُهم في رَبِّ العالَمِينَ تُخالِفُ هَذا كُلَّهُ أشَدَّ المُخالَفَةِ وتُبايِنُهُ أعْظَمَ المُبايَنَةِ.
* فَصْلٌ: في أنَّهُ لَوْ لَمْ يَظْهَرْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ﷺ لَبَطَلَتْ نُبُوَّةُ سائِرِ الأنْبِياءِ، فَظُهُورُ نُبُوَّتِهِ تَصْدِيقٌ لِشَهادَتِهِمْ وشَهادَةٌ لَهم بِالصِّدْقِ، فَإرْسالُهُ مِن آياتِ الأنْبِياءِ قَبْلَهُ، وقَدْ أشارَ سُبْحانَهُ إلى هَذا المَعْنى بِعَيْنِهِ في قَوْلِهِ: بَلْ جاءَ بِالحَقِّ وصَدَّقَ المُرْسَلِينَ.
فَإنَّ المُرْسَلِينَ بَشَّرُوا بِهِ وأخْبَرُوا بِمَجِيئِهِ، فَمَجِيئُهُ هو نَفْسُ صِدْقِ خَبَرِهِ، فَكَأنَّ مَجِيئَهُ تَصْدِيقٌ لَهم إذْ هو تَأْوِيلُ ما أخْبَرُوا بِهِ، ولا تَنافِي بَيْنَ هَذا وبَيْنَ القَوْلِ الآخَرِ: إنَّ تَصْدِيقَهُ المُرْسَلِينَ بِشَهادَتِهِ بِصِدْقِهِمْ وإيمانِهِ بِهِمْ، فَإنَّهُ صَدَّقَهم بِقَوْلِهِ ومَجِيئِهِ فَشَهِدَ بِصِدْقِهِمْ بِنَفْسِ مَجِيئِهِ، وشَهِدَ بِصِدْقِهِمْ بِقَوْلِهِ. ومِثْلُ هَذا قَوْلُ المَسِيحِ: مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ ومُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أحْمَدُ.
فَإنَّ التَّوْراةَ لَمّا بَشَّرَتْ بِهِ وبِنُبُوَّتِهِ كانَ نَفْسُ ظُهُورِهِ تَصْدِيقًا لَها، ثُمَّ بَشَّرَ بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِهِ، فَكانَ ظُهُورُ الرَّسُولِ المُبَشَّرِ بِهِ تَصْدِيقًا لَهُ، كَما كانَ ظُهُورُهُ تَصْدِيقًا لِلتَّوْراةِ، فَعادَةُ اللَّهِ في رُسُلِهِ أنَّ السّابِقَ يُبَشِّرُ بِاللّاحِقِ، واللّاحِقَ يُصَدِّقُ السّابِقَ، فَلَوْ لَمْ يَظْهَرْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ﷺ ولَوْ لَمْ يُبْعَثْ لَبَطَلَتْ نُبُوَّةُ الأنْبِياءِ قَبْلَهُ.
واللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى لا يُخْلِفُ وعْدَهُ ولا يَكْذِبُ خَبَرُهُ وقَدْ كانَ بَشَّرَ إبْراهِيمَ وهاجَرَ بِبِشاراتٍ بَيِّناتٍ ولَمْ نَرَها تَمَّتْ ولا ظَهَرَتْ إلّا بِظُهُورِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَدَ بُشِّرَتْ هاجَرُ مِن ذَلِكَ بِما لَمْ تُبَشَّرْ بِهِ امْرَأةٌ مِنَ العالَمِينَ غَيْرُ مَرْيَمَ ابْنَةِ عِمْرانَ بِالمَسِيحِ، عَلى أنَّ مَرْيَمَ بُشِّرَتْ بِهِ مَرَّةً واحِدَةً، وبُشِّرَتْ هاجَرُ بِإسْماعِيلَ مَرَّتَيْنِ، وبُشِّرَ بِهِ إبْراهِيمُ مِرارًا.
ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ هاجَرَ وبَعْدَ وفاتِها كالمُخاطِبِ لَها عَلى ألْسِنَةِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فَفي التَّوْراةِ أنَّ اللَّهَ قالَ لِإبْراهِيمَ: قَدْ أجَبْتُ دَعاكَ في إسْماعِيلَ، وبارَكْتُ عَلَيْهِ، وكَثَّرْتُهُ، وعَظَّمْتُهُ جِدًّا جِدًّا. وسَيَلِدُ اثْنَيْ عَشَرَ عَظِيمًا، هَكَذا تَرْجَمَةُ بَعْضِ المُتَرْجِمِينَ.
وَأمّا في التَّرْجَمَةِ الَّتِي تَرْجَمَها اثْنانِ وسَبْعُونَ حَبْرًا مِن أحْبارِ اليَهُودِ فَإنَّهُ يَقُولُ: وسَيَلِدُ اثْنَيْ عَشَرَ أُمَّةً مِنَ الأُمَمِ وفِيها: لَمّا هَرَبَتْ هاجَرُ مِن سارَّةَ تَزايا لَها مَلَكُ اللَّهِ، وقالَ: يا هاجَرُ أمَةَ سارَّةَ مِن أيْنَ أقْبَلْتِ؟ وإلى أيْنَ تَذْهَبِينَ؟ قالَتْ: هَرَبْتُ مِن سَيِّدَتِي، فَقالَ لَها المَلَكُ:
ارْجِعِي إلى سَيِّدَتِكِ واخْضَعِي لَها، فَإنِّي سَأُكَثِّرُ ذُرِّيَّتَكِ وزَرْعَكِ حَتّى لا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، ها أنْتِ تَحْبَلِينَ وتَلِدِينَ ابْنًا تُسَمِّيهِ إسْماعِيلَ، لِأنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ تَذَلُّلَكِ وخُضُوعَكِ وخُشُوعَكِ، وهو يَكُونُ عَيْنَ النّاسِ، وتَكُونُ يَدُهُ فَوْقَ الجَمِيعِ مَبْسُوطَةً إلَيْهِ بِالخُضُوعِ، ويَكُونُ مَسْكَنُهُ عَلى تُخُومِ جَمِيعِ إخْوَتِهِ.
وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ قِصَّةُ إسْكانِها وابْنِها إسْماعِيلَ في بَرِّيَّةِ فارانَ، وفِيها: فَقالَ المَلَكُ: يا هاجَرُ لِيَفْرَحْ رَوْعُكِ. فَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ تَعالى صَوْتَ الصَّبِيِّ، قُومِي فاحْمِلِيهِ وتَمَسَّكِي بِهِ، فَإنَّ اللَّهَ تَعالى جاعِلُهُ لِأُمَّةٍ عَظِيمَةٍ، وأنَّ اللَّهَ تَعالى فَتَحَ عَلَيْها فَإذا بِئْرُ ماءٍ فَذَهَبَتْ ومَلَأتِ المَزادَةَ مِنهُ، وسَقَتِ الصَّبِيَّ مِنهُ، وكانَ اللَّهُ مَعَها ومَعَ الصَّبِيِّ حَتّى تَرَبّى، وكانَ مَسْكَنُهُ في بَرِّيَّةِ فارانَ.
فَهَذِهِ أرْبَعُ بِشاراتٍ خالِصَةٍ لِأُمِّ إسْماعِيلَ، نَزَلَتِ اثْنَتانِ مِنها عَلى إبْراهِيمَ واثْنَتانِ عَلى هاجَرَ. وفي التَّوْراةِ بِشاراتٌ أُخْرى بِإسْماعِيلَ ووَلَدِهِ وأنَّهم أُمَّةٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا، وأنَّ نُجُومَ السَّماءِ تُحْصى ولا يُحْصَوْنَ، وهَذِهِ البِشارَةُ إنَّما تَمَّتْ بِظُهُورِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ﷺ وأُمَّتِهِ. وإنَّ بَنِي إسْحاقَ كانُوا لَمْ يَزالُوا مَطْرُودِينَ مُشَرَّدِينَ خَوَلًا لِلْفَراعِنَةِ والقِبْطِ حَتّى أنْقَذَهُمُ اللَّهُ بِنَبِيِّهِ وكَلِيمِهِ مُوسى بْنِ عِمْرانَ، وأوْرَثَهم أرْضَ الشّامِ، فَكانَتْ كُرْسِيَّ مَمْلَكَتِهِمْ، ثُمَّ سَلَبَهم ذَلِكَ وقَطَّعَهم في الأرْضِ أُمَمًا مَسْلُوبًا عِزُّهم ومُلْكُهُمْ، قَدْ أخَذَتْهم سُيُوفُ السُّودانِ، وعَلَتْهم أعْلاجُ الحُمْرانِ حَتّى ظَهَرَتْ تِلْكَ البِشاراتُ بَعْدَ دَهْرٍ طَوِيلٍ وعَلَتْ وانْتَشَرَتْ في آفاقِ الدُّنْيا، ومُدَّتْ وعَلَتْ بَنُو إسْماعِيلَ عَلى مَن حَوْلَهم فَهَشَّمُوهم هَشْمًا، وطَحَنُوهم طِحْنًا، وانْتَشَرُوا في آفاقِ الدُّنْيا، ومَدَّتِ الأُمَمُ أيْدِيَهم إلَيْهِمْ بِالذُّلِّ والخُضُوعِ، وعَلَوْهم عُلُوَّ الثُّرَيّا فِيما بَيْنَ الهِنْدِ والحَبَشَةِ والسُّوسِ الأقْصى وبِلادِ التُّرْكِ والصَّقالِبَةِ والخَزَرِ، ومَلَكُوا ما بَيْنَ الخافِقَيْنِ وحَيْثُ مُلْتَقى أمْواجِ البَحْرَيْنِ. وظَهَرَ ذِكْرُ إبْراهِيمَ عَلى ألْسِنَةِ الأُمَمِ، فَلَيْسَ صَبِيٌّ مِن بَعْدِ ظُهُورِ النَّبِيِّ ﷺ ولا امْرَأةٌ ولا حُرٌّ ولا عَبْدٌ ولا ذَكَرٌ ولا أُنْثى إلّا وهو يَعْرِفُ إبْراهِيمَ والِدَ إسْماعِيلِ.
وَأمّا النَّصْرانِيَّةُ وإنْ كانَتْ قَدْ ظَهَرَتْ في أُمَمٍ كَثِيرَةٍ جَلِيلَةٍ، فَإنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهم في مَحَلِّ إسْماعِيلَ وأُمِّهِ هاجَرَ سُلْطانٌ ظاهِرٌ ولا عِزٌّ قاهِرٌ ألْبَتَّةَ، ولا صارَتْ أيْدِي هَذِهِ الأُمَّةِ فَوْقَ أيْدِي الجَمِيعِ، ولا امْتَدَّتْ إلَيْهِمْ أيْدِي الأُمَمُ بِالخُضُوعِ، وكَذَلِكَ سائِرُ ما تَقَدَّمَ مِنَ البِشاراتِ، ويُفِيدُ مَجْمُوعُها العِلْمَ القَطْعِيَّ بِأنَّ المُرادَ بِها مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ﷺ وعَلى أُمَّتِهِ. فَإنَّهُ لَوْ لَمْ يَقَعْ تَأْوِيلُها بِظُهُورِهِ ﷺ لَبَطَلَتِ النُّبُوّاتُ.
وَلِهَذا لَمّا عَلِمَ الكُفّارُ مِن أهْلِ الكِتابِ أنَّهُ لا يُمْكِنُ الإيمانُ بِالأنْبِياءِ المُتَقَدِّمِينَ إلّا بِالإيمانِ بِالنَّبِيِّ ﷺ الَّذِي بُشِّرُوا بِهِ، قالُوا: نَحْنُ في انْتِظارِهِ ولَمْ يَجِئْ بَعْدُ.
وَلَمّا عَلِمَ بَعْضُ الغُلاةِ في كُفْرِهِ وتَكْذِيبِهِ مِنهم أنَّ هَذا النَّبِيَّ في ولَدِ إسْماعِيلَ أنْكَرُوا أنْ يَكُونَ لِإبْراهِيمَ ابْنٌ اسْمُهُ إسْماعِيلُ، وأنَّ هَذا لَمْ يَخْلُقْهُ اللَّهُ تَعالى.
وَلا يَكْثُرُ عَلى أُمَّةِ البَهْتِ وإخْوانِ القُرُودِ وقَتَلَةِ الأنْبِياءِ مِثْلُ ذَلِكَ، كَما لَمْ يَكْثُرْ عَلى المُثَلِّثَةِ وعُبّادِ الصَّلِيبِ الَّذِينَ سَبُّوا رَبَّ العالَمِينَ أعْظَمَ مِسَبَّةٍ أنْ يَطْعَنُوا في دِينِنا، ويَنْتَقِصُوا نَبِيَّنا ﷺ.
{"ayah":"وَقَوۡلِهِمۡ إِنَّا قَتَلۡنَا ٱلۡمَسِیحَ عِیسَى ٱبۡنَ مَرۡیَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـٰكِن شُبِّهَ لَهُمۡۚ وَإِنَّ ٱلَّذِینَ ٱخۡتَلَفُوا۟ فِیهِ لَفِی شَكࣲّ مِّنۡهُۚ مَا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٍ إِلَّا ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّۚ وَمَا قَتَلُوهُ یَقِینَۢا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق