﴿وَٱذۡكُرۡ عِبَـٰدَنَاۤ إِبۡرَ ٰهِیمَ وَإِسۡحَـٰقَ وَیَعۡقُوبَ أُو۟لِی ٱلۡأَیۡدِی وَٱلۡأَبۡصَـٰرِ ٤٥ إِنَّاۤ أَخۡلَصۡنَـٰهُم بِخَالِصَةࣲ ذِكۡرَى ٱلدَّارِ ٤٦ وَإِنَّهُمۡ عِندَنَا لَمِنَ ٱلۡمُصۡطَفَیۡنَ ٱلۡأَخۡیَارِ ٤٧﴾ [ص ٤٥-٤٧]
فالأيدي: القوى والعزائم في ذات الله، والأبصار: البصائر في أمر الله.
وعبارات السلف تدور على ذلك.
قال ابن عباس "أولي القوة في طاعة الله، والمعرفة بالله".
وقال الكلبى "أولي القوة في العبادة، والبصر فيها".
وقال مجاهد "الأيدي: القوة في طاعة الله، والأبصار: البصر في الحق".
وقال سعيد بن جبير "الأيدي: القوة في العمل، والأبصار: بصرهم بما هم فيه من دينهم".
وقد جاء في حديث مرسل "إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات".
فبكمال العقل والصبر تدفع فتنة الشهوة، وبكمال البصيرة واليقين تدفع فتنة الشبهة. والله المستعان.
قوله تعالى:
﴿إنّا أخْلَصْناهم بِخالِصَةٍ ذِكْرى الدّارِ﴾أيْ: خَصَصْناهم بِخِصِّيصَةٍ، وهو الذِّكْرُ الجَمِيلُ الَّذِي يُذْكَرُونَ بِهِ في هَذِهِ الدّارِ، وهو لِسانُ الصِّدْقِ الَّذِي سَألَهُ إبْراهِيمُ الخَلِيلُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ حَيْثُ قالَ:
﴿واجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ في الآخِرِينَ﴾ [الشعراء: ٨٤].
وَقالَ سُبْحانَهُ وتَعالى عَنْهُ وعَنْ بَنِيهِ:
﴿وَوَهَبْنا لَهم مِن رَحْمَتِنا وجَعَلْنا لَهم لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا﴾ [مريم: ٥٠].
وَقالَ لِنَبِيِّهِ ﷺ:
﴿وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ [الشرح: ٤].
فَأتْباعُ الرُّسُلِ لَهم نَصِيبٌ مِن ذَلِكَ بِحَسَبِ مِيراثِهِمْ مِن طاعَتِهِمْ ومُتابَعَتِهِمْ، وكُلُّ مَن خالَفَهم فَإنَّهُ بَعِيدٌ مِن ذَلِكَ بِحَسَبِ مُخالَفَتِهِمْ ومَعْصِيَتِهِمْ.
* وقال في (طريق الهجرتين)فهذه الآية يخبر فيها سبحانه عما أخلص له أنبياؤه ورسله من اختصاصهم بالآخرة، وفيها قولان:
أحدهما أن المعنى نزعنا من قلوبهم حب الدنيا وذكرها وإيثارها والعمل بها.
والقول الثاني: إنا أخلصناهم بأفضل ما في الدار الآخرة واختصصناهم به عن العالمين.
* [فَصْلٌ: المَعاصِي تُعْمِي القَلْبَ]
وَمِن عُقُوباتِها أنَّها تُعْمِي القَلْبَ، فَإنْ لَمْ تُعْمِهِ أضْعَفَتْ بَصِيرَتَهُ ولابُدَّ، وقَدْ تَقَدَّمَ بَيانُ أنَّها تُضْعِفُهُ ولابُدَّ، فَإذا عَمِيَ القَلْبُ وضَعُفَ، فاتَهُ مِن مَعْرِفَةِ الهُدى وقُوَّتِهِ عَلى تَنْفِيذِهِ في نَفْسِهِ وفي غَيْرِهِ، بِحَسَبِ ضَعْفِ بَصِيرَتِهِ وقُوَّتِهِ.
فَإنَّ الكَمالَ الإنْسانِيَّ مَدارُهُ عَلى أصْلَيْنِ: مَعْرِفَةِ الحَقِّ مِنَ الباطِلِ، وإيثارِهِ عَلَيْهِ.
وَما تَفاوَتَتْ مَنازِلُ الخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى في الدُّنْيا والآخِرَةِ إلّا بِقَدْرِ تَفاوُتِ مَنازِلِهِمْ في هَذَيْنِ
الأمْرَيْنِ، وهُما اللَّذانِ أثْنى اللَّهُ بِهِما سُبْحانَهُ عَلى أنْبِيائِهِ بِهِما في قَوْلِهِ تَعالى:
﴿واذْكُرْ عِبادَنا إبْراهِيمَ وإسْحاقَ ويَعْقُوبَ أُولِي الأيْدِي والأبْصارِ﴾ [ص: ٤٥].
فالأيْدِي: القُوَّةُ في تَنْفِيذِ الحَقِّ، والأبْصارُ: البَصائِرُ في الدِّينِ، فَوَصَفَهم بِكَمالِ إدْراكِ الحَقِّ وكَمالِ تَنْفِيذِهِ، وانْقَسَمَ النّاسُ في هَذا المَقامِ أرْبَعَةَ أقْسامٍ، فَهَؤُلاءِ أشْرَفُ الأقْسامِ مِنَ الخَلْقِ وأكْرَمُهم عَلى اللَّهِ تَعالى.
القِسْمُ الثّانِي: عَكْسُ هَؤُلاءِ، مَن لا بَصِيرَةَ لَهُ في الدِّينِ، ولا قُوَّةَ عَلى تَنْفِيذِ الحَقِّ، وهم أكْثَرُ هَذا الخَلْقِ، وهُمُ الَّذِينَ رُؤْيَتُهم قَذى العُيُونِ وحُمّى الأرْواحِ وسَقَمُ القُلُوبِ، يُضَيِّقُونَ الدِّيارَ ويُغْلُونَ الأسْعارَ، ولا يُسْتَفادُ مِن صُحْبَتِهِمْ إلّا العارُ والشَّنارُ.
القِسْمُ الثّالِثُ: مَن لَهُ بَصِيرَةٌ بِالحَقِّ ومَعْرِفَةٌ بِهِ، لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ لا قُوَّةَ لَهُ عَلى تَنْفِيذِهِ ولا الدَّعْوَةِ إلَيْهِ، وهَذا حالُ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، والمُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وأحَبُّ إلى اللَّهِ مِنهُ.
القِسْمُ الرّابِعُ: مَن لَهُ قُوَّةٌ وهِمَّةٌ وعَزِيمَةٌ، لَكِنَّهُ ضَعِيفُ البَصِيرَةِ في الدِّينِ، لا يَكادُ يُمَيِّزُ بَيْنَ أوْلِياءِ الرَّحْمَنِ وأوْلِياءِ الشَّيْطانِ، بَلْ يَحْسَبُ كُلَّ سَوْداءَ تَمْرَةً وكُلَّ بَيْضاءَ شَحْمَةً، يَحْسَبُ الوَرَمَ شَحْمًا والدَّواءَ النّافِعَ سُمًّا.
وَلَيْسَ في هَؤُلاءِ مَن يَصْلُحُ لِلْإمامَةِ في الدِّينِ، ولا هو مَوْضِعٌ لَها سِوى القِسْمِ الأوَّلِ، قالَ اللَّهُ تَعالى:
﴿وَجَعَلْنا مِنهم أئِمَّةً يَهْدُونَ بِأمْرِنا لَمّا صَبَرُوا وكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: ٢٤].
فَأخْبَرَ سُبْحانَهُ أنَّ بِالصَّبْرِ واليَقِينِ نالُوا الإمامَةَ في الدِّينِ، وهَؤُلاءِ هُمُ الَّذِينَ اسْتَثْناهُمُ اللَّهُ سُبْحانَهُ مِن جُمْلَةِ الخاسِرِينَ، وأقْسَمَ بِالعَصْرِ - الَّذِي هو زَمَنُ سَعْيِ الخاسِرِينَ والرّابِحِينَ - عَلى أنَّ مَن عَداهم فَهو مِنَ الخاسِرِينَ، فَقالَ تَعالى
﴿والعَصْرِ - إنَّ الإنْسانَ لَفي خُسْرٍ - إلّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ وتَواصَوْا بِالحَقِّ وتَواصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: ١-٣].
وَلَمْ يَكْتَفِ مِنهم بِمَعْرِفَةِ الحَقِّ والصَّبْرِ عَلَيْهِ، حَتّى يُوصِيَ بَعْضُهم بَعْضًا بِهِ ويُرْشِدَهُ إلَيْهِ ويَحُضَّهُ عَلَيْهِ.
وَإذا كانَ مَن عَدا هَؤُلاءِ فَهو خاسِرٌ، فَمَعْلُومٌ أنَّ المَعاصِيَ والذُّنُوبَ تُعْمِي بَصِيرَةَ القَلْبِ فَلا يُدْرِكُ الحَقَّ كَما يَنْبَغِي، وتَضْعُفُ قُوَّتُهُ وعَزِيمَتُهُ فَلا يَصْبِرُ عَلَيْهِ، بَلْ قَدْ يَتَوارَدُ عَلى القَلْبِ حَتّى يَنْعَكِسَ إدْراكُهُ كَما يَنْعَكِسُ سَيْرُهُ، فَيُدْرِكُ الباطِلَ حَقًّا والحَقَّ باطِلًا، والمَعْرُوفَ مُنْكَرًا والمُنْكَرَ مَعْرُوفًا، فَيَنْتَكِسُ في سَيْرِهِ ويَرْجِعُ عَنْ سَفَرِهِ إلى اللَّهِ والدّارِ الآخِرَةِ، إلى سَفَرِهِ إلى مُسْتَقَرِّ النُّفُوسِ المُبْطِلَةِ الَّتِي رَضِيَتْ بِالحَياةِ الدُّنْيا، واطْمَأنَّتْ بِها، وغَفَلَتْ عَنِ اللَّهِ وآياتِهِ، وتَرَكَتْ الِاسْتِعْدادَ لِلِقائِهِ، ولَوْ لَمْ يَكُنْ في عُقُوبَةِ الذُّنُوبِ إلّا هَذِهِ وحْدَها لَكانَتْ داعِيَةً إلى تَرْكِها والبُعْدِ مِنها، واللَّهُ المُسْتَعانُ.
وَهَذا كَما أنَّ الطّاعَةَ تُنَوِّرُ القَلْبَ وتَجْلُوهُ وتَصْقُلُهُ، وتُقَوِّيهِ وتُثَبِّتُهُ حَتّى يَصِيرَ كالمِرْآةِ المَجْلُوَّةِ في جَلائِها وصَفائِها فَيَمْتَلِئَ نُورًا، فَإذا دَنا الشَّيْطانُ مِنهُ أصابَهُ مِن نُورِهِ ما يُصِيبُ مُسْتَرِقَ السَّمْعِ مِنَ الشُّهُبِ الثَّواقِبِ، فالشَّيْطانُ يَفْرَقُ مِن هَذا القَلْبِ أشَدَّ مِن فَرَقِ الذِّئْبِ مِنَ الأسَدِ، حَتّى إنَّ صاحِبَهُ لَيَصْرَعُ الشَّيْطانَ فَيَخِرُّ صَرِيعًا، فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ الشَّياطِينُ، فَيَقُولُ بَعْضُهم لِبَعْضٍ: ما شَأْنُهُ؟
فَيُقالُ: أصابَهُ إنْسِيٌّ، وبِهِ نَظْرَةٌ مِنَ الإنْسِ:
فَيا نَظْرَةً مِن قَلْبِ حُرٍّ مُنَوَّرٍ ∗∗∗ يَكادُ لَها الشَّيْطانُ بِالنُّورِ يُحْرَقُ
أفَيَسْتَوِي هَذا القَلْبُ وقَلْبٌ مُظْلِمٌ أرْجاؤُهُ، مُخْتَلِفَةٌ أهْواؤُهُ، قَدِ اتَّخَذَهُ الشَّيْطانُ وطَنَهُ وأعَدَّهُ مَسْكَنَهُ، إذا تَصَبَّحَ بِطَلْعَتِهِ حَيّاهُ، وقالَ: فَدَيْتُ مَن لا يُفْلِحُ في دُنْياهُ ولا في أُخْراهُ؟
قَرِينُكَ في الدُّنْيا وفي الحَشْرِ بَعْدَها ∗∗∗ فَأنْتَ قَرِينٌ لِي بِكُلِّ مَكانِ
فَإنْ كُنْتَ في دارِ الشَّقاءِ فَإنَّنِي ∗∗∗ وأنْتَ جَمِيعًا في شَقا وهَوانِ
قالَ اللَّهُ تَعالى:
﴿وَمَن يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطانًا فَهو لَهُ قَرِينٌ - وإنَّهم لَيَصُدُّونَهم عَنِ السَّبِيلِ ويَحْسَبُونَ أنَّهم مُهْتَدُونَ - حَتّى إذا جاءَنا قالَ يالَيْتَ بَيْنِي وبَيْنَكَ بُعْدَ المَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ القَرِينُ - ولَنْ يَنْفَعَكُمُ اليَوْمَ إذْ ظَلَمْتُمْ أنَّكم في العَذابِ مُشْتَرِكُونَ﴾ [الزخرف: ٣٦-٣٩].
* [فَصْلٌ: مَنزِلَةُ الصَّفاءِ]
قالَ صاحِبُ المَنازِلِ:
بابُ الصَّفاءِ. قالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ
﴿وَإنَّهم عِنْدَنا لَمِنَ المُصْطَفَيْنَ الأخْيارِ﴾الصَّفاءُ اسْمٌ لِلْبَراءَةِ مِنَ الكَدَرِ. وهو في هَذا البابِ سُقُوطُ التَّلْوِينِ.
أمّا الِاسْتِشْهادُ بِالآيَةِ: فَوَجْهُهُ أنَّ المُصْطَفى مُفْتَعَلٌ مِنَ الصَّفْوَةِ.
وَهِيَ خُلاصَةُ الشَّيْءِ، وتَصْفِيَتُهُ مِمّا يَشُوبُهُ. ومِنهُ: اصْطَفى الشَّيْءَ لِنَفْسِهِ. أيْ خَلَّصَهُ مِن شَوْبِ شَرِكَةِ غَيْرِهِ لَهُ فِيهِ. ومِنهُ الصَّفِيُّ وهو السَّهْمُ الَّذِي كانَ يَصْطَفِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِنَفْسِهِ مِنَ الغَنِيمَةِ. ومِنهُ: الشَّيْءُ الصّافِي. وهو الخالِصُ مِن كَدَرِ غَيْرِهِ.
قَوْلُهُ: الصَّفاءُ: اسْمٌ لِلْبَراءَةِ مِنَ الكَدَرِ.
البَراءَةُ: هي الخَلاصُ. والكَدَرُ امْتِزاجُ الطَّيِّبِ بِالخَبِيثِ.
قَوْلُهُ: وهو في هَذا البابِ: سُقُوطُ التَّلْوِينِ.
التَّلْوِينُ هو التَّرَدُّدُ والتَّذَبْذُبُ، كَما قِيلَ:
كُلَّ يَوْمٍ تَتَلَوَّنُ ∗∗∗ تَرْكُ هَذا بِكَ أجْمَلُ
[دَرَجاتُ الصَّفاءِ]
[الدَّرَجَةُ الأُولى: صَفاءُ عِلْمٍ يُهَذِّبُ لِسُلُوكِ الطَّرِيقِ]
قالَ: وهو عَلى ثَلاثِ دَرَجاتٍ.
الدَّرَجَةُ الأُولى: صَفاءُ عِلْمٍ يُهَذِّبُ لِسُلُوكِ الطَّرِيقِ. ويُبَصِّرُ غايَةَ الجِدِّ. ويُصَحِّحُ هِمَّةَ القاصِدِ.
ذَكَرَ الشَّيْخُ لَهُ في هَذِهِ الدَّرَجَةِ ثَلاثَ فَوائِدَ.
الفائِدَةُ الأُولى: عِلْمٌ يُهَذِّبُ لِسُلُوكِ الطَّرِيقِ، وهَذا العِلْمُ الصّافِي - الَّذِي أشارَ إلَيْهِ - هو العِلْمُ الَّذِي جاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ.
وَكانَ الجُنَيْدُ يَقُولُ دائِمًا: عِلْمُنا هَذا مُقَيَّدٌ بِالكِتابِ والسُّنَّةِ. فَمَن لَمْ يَحْفَظِ القُرْآنَ، ويَكْتُبِ الحَدِيثَ، ولَمْ يَتَفَقَّهْ: لا يُقْتَدى بِهِ.
وَقالَ غَيْرُهُ مِنَ العارِفِينَ: كُلُّ حَقِيقَةٍ لا تَتْبَعُها شَرِيعَةٌ فَهي كُفْرٌ.
وَقالَ الجُنَيْدُ: عِلْمُنا هَذا مُتَشَبِّكٌ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
وَقالَ أبُو سُلَيْمانَ الدّارانِيُّ: إنَّهُ لَتَمُرُّ بِقَلْبِي النُّكْتَةُ مِن نُكَتِ القَوْمِ. فَلا أقْبَلُها إلّا بِشاهِدَيْ عَدْلٍ، مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ. وقالَ النَّصْرابادِيُّ: أصْلُ هَذا المَذْهَبِ: مُلازَمَةُ الكِتابِ والسُّنَّةِ. وتَرْكُ الأهْواءِ والبِدَعِ، والِاقْتِداءُ بِالسَّلَفِ، وتَرْكُ ما أحْدَثَهُ الآخَرُونَ. والإقامَةُ عَلى ما سَلَكَهُ الأوَّلُونَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَعْضِ ذَلِكَ.
فَهَذا العِلْمُ الصّافِي، المُتَلَقّى مِن مِشْكاةِ الوَحْيِ والنُّبُوَّةِ: يُهَذِّبُ صاحِبَهُ لِسُلُوكِ طَرِيقِ العُبُودِيَّةِ. وحَقِيقَتُها: التَّأدُّبُ بِآدابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ باطِنًا وظاهِرًا. وتَحْكِيمُهُ باطِنًا وظاهِرًا. والوُقُوفُ مَعَهُ حَيْثُ وقَفَ بِكَ. والمَسِيرُ مَعَهُ حَيْثُ سارَ بِكَ. بِحَيْثُ تَجْعَلُهُ بِمَنزِلَةِ شَيْخِكَ الَّذِي قَدْ ألْقَيْتَ إلَيْهِ أمْرَكَ كُلَّهُ سِرَّهُ وظاهِرَهُ، واقْتَدَيْتَ بِهِ في جَمِيعِ أحْوالِكَ. ووَقَفْتَ مَعَ ما يَأْمُرُكَ بِهِ. فَلا تُخالِفُهُ ألْبَتَّةَ. فَتَجْعَلُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَكَ شَيْخًا، وإمامًا وقُدْوَةً وحاكِمًا، وتُعَلِّقُ قَلْبَكَ بِقَلْبِهِ الكَرِيمِ، ورُوحانِيَّتَكَ بِرُوحانِيَّتِهِ، كَما يُعَلِّقُ المُرِيدُ رُوحانِيَّتَهُ بِرُوحانِيَّةِ شَيْخِهِ. فَتُجِيبُهُ إذا دَعاكَ. وتَقِفُ مَعَهُ إذا اسْتَوْقَفَكَ. وتَسِيرُ إذا سارَ بِكَ. وتُقِيلُ إذا قالَ، وتَنْزِلُ إذا نَزَلَ. وتَغْضَبُ لِغَضَبِهِ. وتَرْضى لِرِضاهُ. وإذا أخْبَرَكَ عَنْ شَيْءٍ أنْزَلْتَهُ مَنزِلَةَ ما تَراهُ بِعَيْنِكَ. وإذا أخْبَرَكَ عَنِ اللَّهِ بِخَبَرٍ أنْزَلْتَهُ مَنزِلَةَ ما تَسْمَعُهُ مِنَ اللَّهِ بِأُذُنِكَ.
وَبِالجُمْلَةِ: فَتَجْعَلُ الرَّسُولَ شَيْخَكَ وأُسْتاذَكَ، ومُعَلِّمَكَ ومُرَبِّيكَ ومُؤَدِّبَكَ. وتَسْقُطُ الوَسائِطَ بَيْنَكَ وبَيْنَهُ إلّا في التَّبْلِيغِ. كَما تَسْقُطُ الوَسائِلُ بَيْنَكَ وبَيْنَ المُرْسَلِ في العُبُودِيَّةِ. ولا تَثْبُتُ وساطَةٌ إلّا في وُصُولِ أمْرِهِ ونَهْيِهِ ورِسالَتِهِ إلَيْكَ.
وَهَذانَ التَّجْرِيدانِ: هُما حَقِيقَةُ شَهادَةِ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسُولُهُ. واللَّهُ وحْدَهُ هو المَعْبُودُ المَأْلُوهُ، الَّذِي لا يَسْتَحِقُّ العِبادَةَ سِواهُ، ورَسُولُهُ: المُطاعُ المُتَّبَعُ، المُهْتَدى بِهِ، الَّذِي لا يَسْتَحِقُّ الطّاعَةَ سِواهُ. ومَن سِواهُ: فَإنَّما يُطاعُ إذا أمَرَ الرَّسُولُ بِطاعَتِهِ. فَيُطاعُ تَبَعًا لِلْأصْلِ.
وَبِالجُمْلَةِ: فالطَّرِيقُ مَسْدُودَةٌ إلّا عَلى مَنِ اقْتَفى آثارَ الرَّسُولِ ﷺ، واقْتَدى بِهِ في ظاهِرِهِ وباطِنِهِ.
فَلا يَتَعَنّى السّالِكُ عَلى غَيْرِ هَذا الطَّرِيقِ. فَلَيْسَ حَظُّهُ مِن سُلُوكِهِ إلّا التَّعَبَ، وأعْمالُهُ
﴿كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتّى إذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ووَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفّاهُ حِسابَهُ واللَّهُ سَرِيعُ الحِسابِ﴾ [النور: ٣٩].
وَلا يَتَعَنّى السّالِكُ عَلى هَذا الطَّرِيقِ. فَإنَّهُ واصِلٌ ولَوْ زَحَفَ زَحْفًا. فَأتْباعُ الرَّسُولِ ﷺ: إذا قَعَدَتْ بِهِمْ أعْمالُهُمْ، قامَتْ بِهِمْ عَزائِمُهم وهِمَمُهم ومُتابَعَتُهم لِنَبِيِّهِمْ. كَما قِيلَ:
مَن لِي بِمِثْلِ سَيْرِكَ المُدَلَّلِ ∗∗∗ تَمْشِي رُوَيْدًا وتَجِي في الأوَّلِ
والمُنْحَرِفُونَ عَنْ طَرِيقِهِ، إذا قامَتْ بِهِمْ أعْمالُهم واجْتِهاداتُهُمْ: قَعَدَ بِهِمْ عُدُولُهم عَنْ طَرِيقِهِ.
فَهم في السُّرى لَمْ يَبْرَحُوا مِن مَكانِهِمْ ∗∗∗ وما ظَعَنُوا في السَّيْرِ عَنْهُ وقَدْ كَلُّوا
قَوْلُهُ " ويُبَصِّرُ غايَةَ الجِدِّ " الجِدُّ: الِاجْتِهادُ والتَّشْمِيرُ، والغايَةُ: النِّهايَةُ.
يُرِيدُ: أنَّ صَفاءَ العِلْمِ يَهْدِي صاحِبَهُ إلى الغايَةِ المَقْصُودَةِ بِالِاجْتِهادِ والتَّشْمِيرِ. فَإنَّ كَثِيرًا مِنَ السّالِكِينَ - بَلْ أكْثَرَهم - سالِكٌ بِجِدِّهِ واجْتِهادِهِ، غَيْرُ مُنْتَبِهٍ إلى المَقْصُودِ.
وَأضْرِبُ لَكَ في هَذا مَثَلًا حَسَنًا جِدًّا، وهُوَ: أنَّ قَوْمًا قَدِمُوا مِن بِلادٍ بَعِيدَةٍ عَلَيْهِمْ أثَرُ النَّعِيمِ والبَهْجَةِ، والمَلابِسُ السَّنِيَّةُ، والهَيْئَةُ العَجِيبَةُ. فَعَجِبَ النّاسُ لَهم. فَسَألُوهم عَنْ حالِهِمْ؟ فَقالُوا: بِلادُنا مِن أحْسَنِ البِلادِ. وأجْمَعِها لِسائِرِ أنْواعِ النَّعِيمِ. وأرْخاها، وأكْثَرِها مِياهًا، وأصَحِّها هَواءً، وأكْثَرِها فاكِهَةً، وأعْظَمِها اعْتِدالًا، وأهْلُها كَذَلِكَ أحْسَنُ النّاسِ صُوَرًا وأبْشارًا. ومَعَ هَذا، فَمَلِكُها لا يَنالُهُ الوَصْفُ جَمالًا وكَمالًا، وإحْسانًا، وعِلْمًا وحِلْمًا، وجُودًا، ورَحْمَةً لِلرَّعِيَّةِ، وقُرْبًا مِنهم. ولَهُ الهَيْبَةُ والسَّطْوَةُ عَلى سائِرِ مُلُوكِ الأطْرافِ. فَلا يَطْمَعُ أحَدٌ مِنهم في مُقاوَمَتِهِ ومُحارَبَتِهِ. فَأهْلُ بَلَدِهِ في أمانٍ مِن عَدُوِّهِمْ. لا يَحِلُّ الخَوْفُ بِساحَتِهِمْ. ومَعَ هَذا: فَلَهُ أوْقاتٌ يَبْرُزُ فِيها لِرَعِيَّتِهِ، ويُسَهِّلُ لَهُمُ الدُّخُولَ عَلَيْهِ، ويَرْفَعُ الحِجابَ بَيْنَهُ وبَيْنَهم. فَإذا وقَعَتْ أبْصارُهم عَلَيْهِ: تَلاشى عِنْدَهم كُلُّ ما هم فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ واضْمَحَلَّ، حَتّى لا يَلْتَفِتُونَ إلى شَيْءٍ مِنهُ. فَإذا أقْبَلَ عَلى واحِدٍ مِنهُمْ: أقْبَلَ عَلَيْهِ سائِرُ أهْلِ المَمْلَكَةِ بِالتَّعْظِيمِ والإجْلالِ. ونَحْنُ رُسُلُهُ إلى أهْلِ البِلادِ، نَدْعُوهم إلى حَضْرَتِهِ. وهَذِهِ كُتُبُهُ إلى النّاسِ. ومَعَنا مِنَ الشُّهُودِ ما يُزِيلُ سُوءَ الظَّنِّ بِنا. ويَدْفَعُ اتِّهامَنا بِالكَذِبِ عَلَيْهِ.
فَلَمّا سَمِعَ النّاسُ ذَلِكَ، وشاهَدُوا أحْوالَ الرُّسُلِ: انْقَسَمُوا أقْسامًا.
فَطائِفَةٌ قالَتْ: لا نُفارِقُ أوْطانَنا، ولا نَخْرُجُ مِن دِيارِنا، ولا نَتَجَشَّمُ مَشَقَّةَ السَّفَرِ البَعِيدِ، ونَتْرُكُ ما ألِفْناهُ مِن عَيْشِنا ومَنازِلِنا، ومُفارَقَةِ آبائِنا وأبْنائِنا، وإخْوانِنا لِأمْرٍ وُعِدْنا بِهِ في غَيْرِ هَذِهِ البِلادِ، ونَحْنُ لا نَقْدِرُ عَلى تَحْصِيلِ ما نَحْنُ فِيهِ إلّا بَعْدَ الجَهْدِ والمَشَقَّةِ. فَكَيْفَ نَنْتَقِلُ عَنْهُ؟
وَرَأتْ هَذِهِ الفِرْقَةُ مُفارَقَتَها لِأوْطانِها وبِلادِها: كَمُفارَقَةِ أنْفُسِها لِأبْدانِها. فَإنَّ النَّفْسَ - لِشِدَّةِ إلْفِها لِلْبَدَنِ - أكْرَهُ ما إلَيْها مُفارَقَتُهُ. ولَوْ فارَقَتْهُ إلى النَّعِيمِ المُقِيمِ.
فَهَذِهِ الطّائِفَةُ غَلَبَ عَلَيْها داعِي الحِسِّ والطَّبْعِ عَلى داعِي العَقْلِ والرُّشْدِ.
والطّائِفَةُ الثّانِيَةُ: لَمّا رَأتْ حالَ الرُّسُلِ، وما هم فِيهِ مِنَ البَهْجَةِوَحُسْنِ الحالِ، وعَلِمُوا صِدْقَهُمْ: تَأهَّبُوا لِلسَّيْرِ إلى بِلادِ المَلِكِ. فَأخَذُوا في المَسِيرِ. فَعارَضَهم أهْلُوهُمْ، وأصْحابُهُمْ، وعَشائِرُهم مِنَ القاعِدِينَ. وعارَضَهم إلْفُهم مَساكِنَهم ودُورَهم وبَساتِينَهم. فَجَعَلُوا يُقَدِّمُونَ رِجْلًا ويُؤَخِّرُونَ أُخْرى. فَإذا تَذَكَّرُوا طِيبَ بِلادِ المَلِكِ وما فِيها مِن سَلْوَةِ العَيْشِ: تَقَدَّمُوا نَحْوَها. وإذا عارَضَهم ما ألِفُوهُ واعْتادُوهُ مِن ظِلالِ بِلادِهِمْ وعَيْشِها، وصُحْبَةِ أهْلِهِمْ وأصْحابِهِمْ: تَأخَّرُوا عَنِ المَسِيرِ، والتَفَتُوا إلَيْهِمْ. فَهم دائِمًا بَيْنَ الدّاعِيَيْنِ والجاذِبَيْنِ، إلى أنْ يَغْلِبَ أحَدُهُما ويَقْوى عَلى الآخَرِ. فَيَصِيرُونَ إلَيْهِ.
والطّائِفَةُ الثّالِثَةُ: رَكِبَتْ ظُهُورَ عَزائِمِها، ورَأتْ أنَّ بِلادَ المَلِكِ أوْلى بِها. فَوَطَّنَتْ أنْفُسَها عَلى قَصْدِها. ولَمْ يَثْنِها لَوْمُ اللُّوّامِ. لَكِنْ في سَيْرِها بُطْءٌ بِحَسَبِ ضَعْفِ ما كُشِفَ لَها مِن أحْوالِ تِلْكَ البِلادِ وحالِ المَلِكِ.
والطّائِفَةُ الرّابِعَةُ: جَدَّتْ في السَّيْرِ وواصَلَتْهُ. فَسارَتْ سَيْرًا حَثِيثًا. فَهم كَما قِيلَ:
وَرَكْبٍ سَرَوْا واللَّيْلُ مُرْخٍ سُدُولَهُ ∗∗∗ عَلى كُلِّ مُغْبَرِّ المَطالِعِ قاتِمِ
حَدَوْا عَزَماتٍ ضاعَتِ الأرْضُ بَيْنَها ∗∗∗ فَصارَ سُراهم في ظُهُورِ العَزائِمِ
تُرِيهِمْ نُجُومُ اللَّيْلِ ما يَطْلُبُونَهُ ∗∗∗ عَلى عاتِقِ الشِّعْرى وهامِ النَّعائِمِ
فَهَؤُلاءِ هِمَمُهم مَصْرُوفَةٌ إلى السَّيْرِ. وقُواهم مَوْقُوفَةٌ عَلَيْهِ مِن غَيْرِ تَثْنِيَةٍ مِنهم إلى المَقْصُودِ الأعْظَمِ، والغايَةِ العُلْيا.
والطّائِفَةُ الخامِسَةُ: أخَذُوا في الجِدِّ في المَسِيرِ. وهِمَّتُهم مُتَعَلِّقَةٌ بِالغايَةِ، فَهم في سَيْرِهِمْ ناظِرُونَ إلى المَقْصُودِ بِالمَسِيرِ. فَكَأنَّهم يُشاهِدُونَهُ مِن بُعْدٍ، وهو يَدْعُوهم إلى نَفْسِهِ وإلى بِلادِهِ. فَهم عامِلُونَ عَلى هَذا الشّاهِدِ الَّذِي قامَ بِقُلُوبِهِمْ.
وَعَمَلُ كُلِّ أحَدٍ مِنهم عَلى قَدْرِ شاهِدِهِ. فَمَن شاهَدَ المَقْصُودَ بِالعَمَلِ في عِلْمِهِ كانَ نُصْحُهُ فِيهِ، وإخْلاصُهُ وتَحْسِينُهُ، وبَذْلُ الجُهْدِ فِيهِ أتَمَّ مِمَّنْ لَمْ يُشاهِدْهُ ولَمْ يُلاحِظْهُ. ولَمْ يَجِدْ مِن مَسِّ التَّعَبِ والنَّصَبِ ما يَجِدُهُ الغائِبُ، والوُجُودُ شاهِدٌ بِذَلِكَ. فَمَن عَمِلَ عَمَلًا لِمَلِكٍ بِحَضْرَتِهِ، وهو يُشاهِدُهُ: لَيْسَ حالُهُ كَحالِ مَن عَمِلَ في غَيْبَتِهِ وبُعْدِهِ عَنْهُ، وهو غَيْرُ مُتَيَقِّنٍ وُصُولَهُ إلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ " ويُصَحِّحُ هِمَّةَ القاصِدِ " أيْ ويُصَحِّحُ لَهُ صَفاءُ هَذا العِلْمِ هِمَّتَهُ، ومَتى صَحَّتِ الهِمَّةُ عَلَتْ وارْتَفَعَتْ. فَإنَّ سُقُوطَها ودَناءَتَها مِن عِلَّتِها وسَقَمِها، وإلّا فَهي كالنّارِ تَطْلُبُ الصُّعُودَ والِارْتِفاعَ ما لَمْ تُمْنَعْ.
وَأعْلى الهِمَمِ: هِمَّةٌ اتَّصَلَتْ بِالحَقِّ سُبْحانَهُ طَلَبًا وقَصْدًا. وأوْصَلَتِ الخَلْقَ إلَيْهِ دَعْوَةً ونُصْحًا. وهَذِهِ هِمَّةُ الرُّسُلِ وأتْباعِهِمْ. وصِحَّتُها: بِتَمْيِيزِها مِنِ انْقِسامِ طَلَبِها وانْقِسامِ مَطْلُوبِها وانْقِسامِ طَرِيقِها. بَلْ تَوَحَّدَ مَطْلُوبُها بِالإخْلاصِ، وطَلَبُها بِالصِّدْقِ، وطَرِيقُها بِالسُّلُوكِ خَلْفَ الدَّلِيلِ الَّذِي نَصَبَهُ اللَّهُ دَلِيلًا. لا مَن نَصَبَهُ هو دَلِيلًا لِنَفْسِهِ.
وَلِلَّهِ الهِمَمُ! ما أعْجَبَ شَأْنَها، وأشَدَّ تَفاوُتَها. فَهِمَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَن فَوْقَ العَرْشِ. وهِمَّةٌ حائِمَةٌ حَوْلَ الأنْتانِ والحُشِّ. والعامَّةُ تَقُولُ: قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ ما يُحْسِنُهُ. والخاصَّةُ تَقُولُ: قِيمَةُ المَرْءِ ما يَطْلُبُهُ. وخاصَّةُ الخاصَّةِ تَقُولُ: هِمَّةُ المَرْءِ إلى مَطْلُوبِهِ.
وَإذا أرَدْتَ أنْ تَعْرِفَ مَراتِبَ الهِمَمِ، فانْظُرْ إلى هِمَّةِ
«رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الأسْلَمِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقَدْ قالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سَلْنِي - فَقالَ: أسْألُكَ مُرافَقَتَكَ في الجَنَّةِ». وكانَ غَيْرُهُ يَسْألُهُ ما يَمْلَأُ بَطْنَهُ، أوْ يُوارِي جِلْدَهُ.
وانْظُرْ إلى هِمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حِينَ عُرِضَتْ عَلَيْهِ مَفاتِيحُ كُنُوزِ الأرْضِ - فَأباها. ومَعْلُومٌ أنَّهُ لَوْ أخَذَها لِأنْفَقَها في طاعَةِ رَبِّهِ تَعالى. فَأبَتْ لَهُ تِلْكَ الهِمَّةُ العالِيَةُ: أنْ يَتَعَلَّقَ مِنها بِشَيْءٍ مِمّا سِوى اللَّهِ ومَحابِّهِ. وعُرِضَ عَلَيْهِ أنْ يَتَصَرَّفَ بِالمُلْكِ، فَأباهُ. واخْتارَ التَّصَرُّفَ بِالعُبُودِيَّةِ المَحْضَةِ. فَلا إلَهَ إلّا اللَّهُ، خالِقُ هَذِهِ الهِمَّةِ، وخالِقُ نَفْسٍ تَحْمِلُها، وخالِقُ هِمَمٍ لا تَعْدُو هِمَمَ أخَسِّ الحَيَواناتِ.
* [فَصْلٌ: الدَّرَجَةُ الثّانِيَةُ صَفاءُ حالٍ يُشاهَدُ بِهِ شَواهِدُ التَّحْقِيقِ]
قالَ: الدَّرَجَةُ الثّانِيَةُ: صَفاءُ حالٍ، يُشاهَدُ بِهِ شَواهِدُ التَّحْقِيقِ. ويُذاقُ بِهِ حَلاوَةُ المُناجاةِ. ويُنْسى بِهِ الكَوْنُ.
هَذِهِ الدَّرَجَةُ إنَّما كانَتْ أعْلى مِمّا قَبْلَها لِأنَّها هِمَّةُ حالٍ. والحالُ ثَمَرَةُ العِلْمِ، ولا يَصْفُو حالٌ إلّا بِصَفاءِ العِلْمِ المُثْمِرِ لَهُ. وعَلى حَسَبِ شَوْبِ العِلْمِ يَكُونُ شَوْبُ الحالِ. وإذا صَفا الحالُ: شاهَدَ العَبْدُ - بِصَفائِهِ - آثارَ الحَقائِقِ. وهي الشَّواهِدُ فِيهِ، وفي غَيْرِهِ، وعَلَيْهِ، وعَلى غَيْرِهِ. ووَجَدَ حَلاوَةَ المُناجاةِ. وإذا تَمَكَّنَ في هَذِهِ الدَّرَجَةِ: نَسِيَ الكَوْنَ وما فِيهِ مِنَ المُكَوِّناتِ.
وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ تَخْتَصُّ بِصَفاءِ الحالِ كَما اخْتَصَّتِ الأُولى بِصَفاءِ العِلْمِ.
والحالُ هو تَكَيُّفُ القَلْبِ وانْصِباغُهُ بِحُكْمِ الوارِداتِ عَلى اخْتِلافِها، والحالُ يَدْعُو صاحِبَهُ إلى المَقامِ الَّذِي جاءَ مِنهُ الوارِدُ، كَما تَدْعُوهُ رائِحَةُ البُسْتانِ الطَّيِّبَةُ إلى دُخُولِهِ والمَقامِ فِيهِ. فَإذا كانَ الوارِدُ مِن حَضْرَةٍ صَحِيحَةٍ - وهي حَضْرَةُ الحَقِيقَةِ الإلَهِيَّةِ، لا الحَقِيقَةِ الخَيالِيَّةِ الذِّهْنِيَّةِ - شاهَدَ السّالِكُ بِصَفائِهِ شَواهِدَ التَّحْقِيقِ، وهي عَلاماتُهُ: والتَّحْقِيقُ هو حُكْمُ الحَقِيقَةِ، وتَأثُّرُ القَلْبِ والرُّوحِ بِها، والحَقِيقَةُ ما تَعَلَّقَ بِالحَقِّ المُبِينِ سُبْحانَهُ. فاللَّهُ هو الحَقُّ. والحَقِيقَةُ ما نُسِبَ إلَيْهِ وتَعَلَّقَ بِهِ. والتَّحْقِيقُ تَأثُّرُ القَلْبِ بِآثارِ الحَقِيقَةِ. ولِكُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةٌ، ولِكُلِّ حَقِيقَةٍ تَحْقِيقٌ يَقُومُ بِمُشاهَدَةِ الحَقِيقَةِ.
قَوْلُهُ " ويُذاقُ بِهِ حَلاوَةُ المُناجاةِ " المُناجاةُ: مُفاعَلَةٌ مِنَ النَّجْوى. وهو الخِطابُ في سِرِّ العَبْدِ وباطِنِهِ. والشَّيْخُ ذَكَرَ في هَذِهِ الدَّرَجَةِ ثَلاثَةَ أُمُورٍ.
أحَدُها: مُشاهَدَةُ شَواهِدِ التَّحْقِيقِ.
الثّانِي: ذَوْقُ حَلاوَةَ المُناجاةِ. فَإنَّهُ مَتى صَفا لَهُ حالُهُ مِنَ الشَّوائِبِ، خَلُصَتْ لَهُ حَلاوَتُهُ مِن مَرارَةِ الأكْدارِ. فَذاقَ تِلْكَ الحَلاوَةَ في حالِ مُناجاتِهِ. فَلَوْ كانَ الحالُ مَشُوبًا مُكَدَّرًا لَمْ يَجِدْ حَلاوَةَ المُناجاةِ.
والحالُ المُسْتَنِدَةُ إلى وارِدٍ تُذاقُ بِهِ حَلاوَةُ المُناجاةِ: هو مِن حَضْرَةِ الأسْماءِ والصِّفاتِ، بِحَسَبِ ما يُصادِفُ القَلْبَ مِن ظُهُورِها وكَشْفِ مَعانِيها.
فَمَن ظَهَرَ لَهُ اسْمُ الوَدُودِ - مَثَلًا - وكُشِفَ لَهُ عَنْ مَعانِي هَذا الِاسْمِ، ولُطْفِهِ، وتَعَلُّقِهِ بِظاهِرِ العَبْدِ وباطِنِهِ: كانَ الحالُ الحاصِلُ لَهُ مِن حَضْرَةِ هَذا الِاسْمِ مُناسِبًا لَهُ.
فَكانَ حالَ اشْتِغالِ حُبٍّ وشَوْقٍ، ولَذَّةِ مُناجاةٍ، لا أحْلى مِنها ولا أطْيَبَ، بِحَسَبِ اسْتِغْراقِهِ في شُهُودِ مَعْنى هَذا الِاسْمِ. وحَظِّهِ مِن أثَرِهِ.
فَإنَّ الوَدُودَ - وإنْ كانَ بِمَعْنى المَوْدُودِ، كَما قالَ البُخارِيُّ في صَحِيحِهِ: الوَدُودُ الحَبِيبُ - واسْتِغْراقُ العَبْدِ في مُطالَعَةِ صِفاتِ الكَمالِ الَّتِي تَدْعُو العَبْدَ إلى حُبِّ المَوْصُوفِ بِها: أثْمَرَ لَهُ صَفاءَ عِلْمِهِ بِها، وصَفاءَ حالِهِ في تَعَبُّدِهِ بِمُقْتَضاها: ما ذَكَرَهُ الشَّيْخُ مِن هَذِهِ الأُمُورِ الثَّلاثَةِ وغَيْرِها.
وَكَذَلِكَ إنْ كانَ اسْمُ فاعِلٍ بِمَعْنى الوادِّ وهو المُحِبُّ: أثْمَرَتْ لَهُ مُطالَعَةُ ذَلِكَ حالًا تُناسِبُهُ.
فَإنَّهُ إذا شاهَدَ بِقَلْبِهِ غَنِيًّا كَرِيمًا جَوادًا، عَزِيزًا قادِرًا، كُلُّ أحَدٍ مُحْتاجٌ إلَيْهِ بِالذّاتِ. وهو غَنِيٌّ بِالذّاتِ عَنْ كُلِّ ما سِواهُ. وهو - مَعَ ذَلِكَ - يَوَدُّ عِبادَهُ ويُحِبُّهُمْ، ويَتَوَدَّدُ إلَيْهِمْ بِإحْسانِهِ إلَيْهِمْ وتَفَضُّلِهِ عَلَيْهِمْ -: كانَ لَهُ مِن هَذا الشُّهُودِ حالَةٌ صافِيَةٌ خالِصَةٌ مِنَ الشَّوائِبِ.
وَكَذَلِكَ سائِرُ الأسْماءِ والصِّفاتِ. فَصَفاءُ الحالِ بِحَسَبِ صَفاءِ المَعْرِفَةِ بِها وخُلُوصِها مِن دَمِ التَّعْطِيلِ وفَرْثِ التَّمْثِيلِ. فَتَخْرُجُ المَعْرِفَةُ مِن بَيْنِ ذَلِكَ فِطْرَةً خالِصَةً سائِغَةً لِلْعارِفِينَ. كَما يَخْرُجُ اللَّبَنُ مِن بَيْنِ فَرْثٍ ودَمٍ لَبَنًا خالِصًا سائِغًا لِلشّارِبِينَ.
والأمْرُ الثّالِثُ: قَوْلُهُ " ويُنْسى بِهِ الكَوْنُ " أيْ يُنْسى الكَوْنُ بِما يَغْلِبُ عَلى قَلْبِهِ مِنِ اشْتِغالِهِ بِهَذِهِ الحالِ المَذْكُورَةِ. والمُرادُ بِالكَوْنِ: المَخْلُوقاتُ. أيْ يَشْتَغِلُ بِالحَقِّ عَنِ الخَلْقِ.
* [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثّالِثَةُ صَفاءُ اتِّصالٍ]
* فَصْلٌقالَ: الدَّرَجَةُ الثّالِثَةُ: صَفاءُ اتِّصالٍ. يُدْرِجُ حَظَّ العُبُودِيَّةِ في حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ. ويُغْرِقُ نِهاياتِ الخَبَرِ في بِداياتِ العِيانِ، ويَطْوِي خِسَّةَ التَّكالِيفِ في عَيْنِ الأزَلِ.
فِي هَذا اللَّفْظِ قَلَقٌ وسُوءُ تَعْبِيرٍ. يَجْبُرُهُ حُسْنُ حالِ صاحِبِهِ وصِدْقُهُ، وتَعْظِيمُهُ لِلَّهِ ورَسُولِهِ. ولَكِنْ أبى اللَّهُ أنْ يَكُونَ الكَمالُ إلّا لَهُ. ولا رَيْبَ أنَّ بَيْنَ أرْبابِ الأحْوالِ وبَيْنَ أصْحابِ التَّمَكُّنِ تَفاوُتًا عَظِيمًا. وانْظُرْ إلى غَلَبَةِ الحالِ عَلى الكَلِيمِ عَلَيْهِ السَّلامُ، لَمّا شاهَدَ آثارَ التَّجَلِّي الإلَهِيِّ عَلى الجَبَلِ، كَيْفَ خَرَّ صَعِقًا؟ وصاحِبُ التَّمَكُّنِ - صَلَواتُ
اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِ - لَمّا أُسْرِيَ بِهِ ورَأى ما رَأى: لَمْ يُصْعَقْ ولَمْ يَخِرَّ، بَلْ ثَبَتَ فُؤادُهُ وبَصَرُهُ.
وَمُرادُ القَوْمِ بِالِاتِّصالِ والوُصُولِ: اتِّصالُ العَبْدِ بِرَبِّهِ، ووُصُولُهُ إلَيْهِ. لا بِمَعْنى اتِّصالِ ذاتِ العَبْدِ بِذاتِ الرَّبِّ، كَما تَتَّصِلُ الذّاتانِ إحْداهُما بِالأُخْرى. ولا بِمَعْنى انْضِمامِ إحْدى الذّاتَيْنِ إلى الأُخْرى والتِصاقِها بِها. وإنَّما مُرادُهم بِالِاتِّصالِ والوُصُولِ: إزالَةُ النَّفْسِ والخَلْقِ مِن طَرِيقِ السَّيْرِ إلى اللَّهِ. ولا تَتَوَهَّمْ سِوى ذَلِكَ. فَإنَّهُ عَيْنُ المُحالِ.
فَإنَّ السّالِكَ لا يَزالُ سائِرًا إلى اللَّهِ تَعالى حَتّى يَمُوتَ. فَلا يَنْقَطِعُ سَيْرُهُ إلّا بِالمَوْتِ. فَلَيْسَ في هَذِهِ الحَياةِ وُصُولٌ يَفْرَغُ مَعَهُ السِّرُّ ويَنْتَهِي. ولَيْسَ ثَمَّ اتِّصالٌ حِسِّيٌّ بَيْنَ ذاتِ العَبْدِ وذاتِ الرَّبِّ. فالأوَّلُ: تَعْطِيلٌ وإلْحادٌ. والثّانِي: حُلُولٌ واتِّحادٌ. وإنَّما حَقِيقَةُ الأمْرِ: تَنْحِيَةُ النَّفْسِ والخَلْقِ عَنِ الطَّرِيقِ. فَإنَّ الوُقُوفَ مَعَهُما: هو الِانْقِطاعُ. وتَنْحِيَتَهُما هو الِاتِّصالُ.
وَأمّا المَلاحِدَةُ القائِلُونَ بِوَحْدَةِ الوُجُودِ، فَإنَّهم قالُوا: العَبْدُ مِن أفْعالِ اللَّهِ، وأفْعالُهُ مِن صِفاتِهِ. وصِفاتُهُ مِن ذاتِهِ. فَأنْتَجَ لَهم هَذا التَّرْكِيبُ: أنَّ العَبْدَ مِن ذاتِ الرَّبِّ. تَعالى اللَّهُ وتَقَدَّسَ عَمّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَمَوْضِعُ الغَلَطِ: أنَّ العَبْدَ مِن مَفْعُولاتِ الرَّبِّ تَعالى، لا مِن أفْعالِهِ القائِمَةِ بِذاتِهِ. ومَفْعُولاتُهُ آثارُ أفْعالِهِ. وأفْعالُهُ مِن صِفاتِهِ القائِمَةِ بِذاتِهِ، فَذاتُهُ سُبْحانَهُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِصِفاتِهِ وأفْعالِهِ. ومَفْعُولاتُهُ مُنْفَصِلَةٌ عَنْهُ، تِلْكَ مَخْلُوقَةٌ مُحْدَثَةٌ. والرَّبُّ تَعالى هو الخالِقُ بِذاتِهِ وصِفاتِهِ وأفْعالِهِ.
فَإيّاكَ ثُمَّ إيّاكَ والألْفاظَ المُجْمَلَةَ المُشْتَبِهَةَ الَّتِي وقَعَ اصْطِلاحُ القَوْمِ عَلَيْها. فَإنَّها أصْلُ البَلاءِ. وهي مَوْرِدُ الصِّدِّيقِ والزِّنْدِيقِ.
فَإذا سَمِعَ الضَّعِيفُ المَعْرِفَةِ والعِلْمِ بِاللَّهِ تَعالى لَفْظَ " اتِّصالٍ وانْفِصالٍ، ومُسامَرَةٍ، ومُكالَمَةٍ، وأنَّهُ لا وُجُودَ في الحَقِيقَةِ إلّا وُجُودُ اللَّهِ، وأنَّ وُجُودَ الكائِناتِ خَيالٌ ووَهْمٌ، وهو بِمَنزِلَةِ وُجُودِ الظِّلِّ القائِمِ بِغَيْرِهِ " فاسْمَعْ مِنهُ ما يَمْلَأُ الآذانَ مِن حُلُولٍ واتِّحادٍ وشَطَحاتٍ.
والعارِفُونَ مِنَ القَوْمِ أطْلَقُوا هَذِهِ الألْفاظَ ونَحْوَها، وأرادُوا بِها مَعانِيَ صَحِيحَةً في أنْفُسِها. فَغَلِطَ الغالِطُونَ في فَهْمِ ما أرادُوهُ. ونَسَبُوهم إلى إلْحادِهِمْ وكُفْرِهِمْ. واتَّخَذُوا كَلِماتِهِمُ المُتَشابِهَةَ تُرْسًا لَهُ وجُنَّةً، حَتّى قالَ قائِلُهُمْ:
وَمِنكَ بَدا حُبٌّ بِعِزٍّ تَمازَجا ∗∗∗ بِنا ووِصالًا كُنْتَ أنْتَ وصَلْتَهُ
ظَهَرْتَ لِمَن أبْقَيْتَ بَعْدَ فَنائِهِ ∗∗∗ وكانَ بِلا كَوْنٍ لِأنَّكَ كُنْتَهُ
فَيَسْمَعُ الغِرُّ " التَّمازُجَ والوِصالَ " فَيَظُنُّ أنَّهُ سُبْحانَهُ نَفْسُ كَوْنِ العَبْدِ. فَلا يَشُكُّ أنَّ هَذا هو غايَةُ التَّحْقِيقِ، ونِهايَةُ الطَّرِيقِ. ثُمَّ لِنَرْجِعْ إلى شَرْحِ كَلامِهِ.
قَوْلُهُ: يُدْرِجُ حَظَّ العُبُودِيَّةِ في حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ.
المَعْنى الصَّحِيحُ، الَّذِي يُحْمَلُ عَلَيْهِ هَذا الكَلامُ: أنَّ مَن تَمَكَّنَ في قَلْبِهِ شُهُودُ الأسْماءِ والصِّفاتِ، وصَفا لَهُ عِلْمُهُ وحالُهُ: انْدَرَجَ عَمَلُهُ جَمِيعُهُ وأضْعافُهُ وأضْعافُ أضْعافِهِ في حَقِّ رَبِّهِ تَعالى ورَآهُ في جَنْبِ حَقِّهِ أقَلَّ مِن خَرْدَلَةٍ بِالنِّسْبَةِ إلى جِبالِ الدُّنْيا. فَسَقَطَ مِن قَلْبِهِ اقْتِضاءُ حَظِّهِ مِنَ المُجازاةِ عَلَيْهِ. لِاحْتِقارِهِ لَهُ، وقِلَّتِهِ عِنْدَهُ، وصِغَرِهِ في عَيْنِهِ.
قالَ الإمامُ أحْمَدُ: حَدَّثَنا هاشِمُ بْنُ القاسِمِ حَدَّثَنا صالِحٌ عَنْ أبِي عِمْرانَ الجَوْنِيِّ عَنْ أبِي الجِلْدِ أنَّ اللَّهَ تَعالى أوْحى إلى داوُدَ: يا داوُدَ، أنْذِرْ عِبادِيَ الصّادِقِينَ. فَلا يُعْجِبُنَّ بِأنْفُسِهِمْ، ولا يَتَّكِلُنَّ عَلى أعْمالِهِمْ. فَإنَّهُ لَيْسَ أحَدٌ مِن عِبادِي أنْصِبُهُ لِلْحِسابِ، وأُقِيمُ عَلَيْهِ عَدْلِي إلّا عَذَّبْتَهُ، مِن غَيْرِ أنْ أظْلِمَهُ. وبَشِّرْ عِبادِيَ الخَطّائِينَ: أنَّهُ لا يَتَعاظَمُنِي ذَنْبٌ أنْ أغْفِرَهُ وأتَجاوَزَ عَنْهُ.
وَقالَ الإمامُ أحْمَدُ: وحَدَّثَنا سَيّارٌ حَدَّثَنا جَعْفَرٌ حَدَّثَنا ثابِتٌ البُنانِيُّ قالَ: تَعَبَّدَ رَجُلٌ سَبْعِينَ سَنَةً. وكانَ يَقُولُ في دُعائِهِ: رَبِّ اجْزِنِي بِعَمَلِي. فَماتَ فَأُدْخِلَ الجَنَّةَ. فَكانَ فِيها سَبْعِينَ عامًا. فَلَمّا فَرَغَ وقْتُهُ، قِيلَ لَهُ: اخْرُجْ، فَقَدِ اسْتَوْفَيْتَ عَمَلَكَ، فَقَلَّبَ أمْرَهُ: أيُّ شَيْءٍ كانَ في الدُّنْيا أوْثَقَ في نَفْسِهِ؟ فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا أوْثَقَ في نَفْسِهِ مِن دُعاءِ اللَّهِ، والرَّغْبَةِ إلَيْهِ. فَأقْبَلَ يَقُولُ في دُعائِهِ: رَبِّ سَمِعْتُكَ - وأنا في الدُّنْيا - وأنْتَ تُقِيلُ العَثَراتِ. فَأقِلِ اليَوْمَ عَثْرَتِي. فَتُرِكَ في الجَنَّةِ.
وَقالَ أحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنا هاشِمٌ حَدَّثَنا صالِحٌ عَنْ أبِي عِمْرانَ الجَوْنِيِّ عَنْ أبِي الجِلْدِ قالَ: قالَ مُوسى: إلَهِي، كَيْفَ أشْكُرُكَ، وأصْغَرُ نِعْمَةٍ وضَعْتَها عِنْدِي مِن نِعْمَتِكَ لا يُجازِيها عَمَلِي كُلُّهُ؟ فَأوْحى اللَّهُ تَعالى إلَيْهِ: يا مُوسى، الآنَ شَكَرْتَنِي.
فَهَذا المَعْنى الصَّحِيحُ مِنِ انْدِراجِ حَظِّ العُبُودِيَّةِ في حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ.
وَلَهُ مَحْمَلٌ آخَرُ صَحِيحٌ أيْضًا، وهو أنَّ ذاتَ العَبْدِ وصِفاتِهِ وأفْعالَهُ وقُواهُ وحَرَكاتِهِ: كُلَّها مَفْعُولَةٌ لِلرَّبِّ، مَمْلُوكَةٌ لَهُ، لَيْسَ يَمْلِكُ العَبْدُ مِنها شَيْئًا. بَلْ هو مَحْضُ مُلْكِ اللَّهِ. فَهو المالِكُ لَها، المُنْعِمُ عَلى عَبْدِهِ بِإعْطائِهِ إيّاها. فالمالُ مالُهُ. والعَبْدُ عَبْدُهُ. والخِدْمَةُ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهِ بِحَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ. وهي مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْهِ. فالفَضْلُ كُلُّهُ لِلَّهِ، ومِنَ اللَّهِ، وبِاللَّهِ.
قَوْلُهُ " ويَعْرِفُ نِهاياتِ الخَبَرِ في بِداياتِ العِيانِ " الخَبَرُ: مُتَعَلَّقُ الغَيْبِ. والعِيانُ مُتَعَلَّقُ الشَّهادَةِ. وهو إدْراكُ عَيْنِ البَصِيرَةِ لِصِحَّةِ الخَبَرِ، وثُبُوتِ مَخْبَرِهِ.
وَمُرادُهُ بِ " بِداياتِ العِيانِ " أوائِلُ الكَشْفِ الحَقِيقِيِّ الَّذِي يَدْخُلُ مِنهُ إلى مَقامِ الفَناءِ. ومَقْصُودُهُ: أنْ يَرى الشّاهِدُ ما أخْبَرَ بِهِ الصّادِقُ بِقَلْبِهِ عِيانًا. قالَ اللَّهُ تَعالى
﴿وَيَرى الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ هو الحَقَّ﴾ [سبأ: ٦] وقالَ تَعالى
﴿أفَمَن يَعْلَمُ أنَّما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحَقُّ كَمَن هو أعْمى﴾ [الرعد: ١٩] فَقَدْ قالَ: أفَمَن رَأى بِعَيْنِ قَلْبِهِ أنَّ ما أنْزَلَ اللَّهُ إلى رَسُولِهِ هو الحَقُّ كَمَن هو أعْمى لا يُبْصِرُ ذَلِكَ؟ وقالَ النَّبِيُّ ﷺ في مَقامِ الإحْسانِ
«أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَراهُ» ولا رَيْبَ أنَّ تَصْدِيقَ الخَبَرِ واليَقِينَ بِهِ يُقَوِّي القَلْبَ، حَتّى يَصِيرَ الغَيْبُ بِمَنزِلَةِ المُشاهَدِ بِالعَيْنِ. فَصاحِبُ هَذا المَقامِ: كَأنَّهُ يَرى رَبَّهُ سُبْحانَهُ فَوْقَ سَماواتِهِ عَلى عَرْشِهِ، مُطَّلِعًا عَلى عِبادِهِ ناظِرًا إلَيْهِمْ، يَسْمَعُ كَلامَهم. ويَرى ظَواهِرَهم وبَواطِنَهم.
وَكَأنَّهُ يَسْمَعُهُ وهو يَتَكَلَّمُ بِالوَحْيِ. ويُكَلِّمُ بِهِ عَبْدَهُ جِبْرِيلَ، ويَأْمُرُهُ ويَنْهاهُ بِما يُرِيدُ، ويُدَبِّرُ أمْرَ المَمْلَكَةِ. وأمْلاكُهُ صاعِدَةٌ إلَيْهِ بِالأمْرِ، نازِلَةٌ مِن عِنْدِهِ بِهِ.
وَكَأنَّهُ يُشاهِدُهُ، وهو يَرْضى ويَغْضَبُ، ويُحِبُّ ويُبْغِضُ، ويُعْطِي ويَمْنَعُ، ويَضْحَكُ ويَفْرَحُ، ويُثْنِي عَلى أوْلِيائِهِ بَيْنَ مَلائِكَتِهِ، ويَذُمُّ أعْداءَهُ.
وَكَأنَّهُ يُشاهِدُهُ ويُشاهِدُ يَدَيْهِ الكَرِيمَتَيْنِ، وقَدْ قَبَضَتْ إحْداهُما السَّماواتِ السَّبْعَ، والأُخْرى الأرَضِينَ السَّبْعَ. وقَدْ طَوى السَّماواتِ السَّبْعَ بِيَمِينِهِ، كَما يُطْوى السِّجِلُّ عَلى أسْطُرِ الكِتابِ.
وَكَأنَّهُ يُشاهِدُهُ، وقَدْ جاءَ لِفَصْلِ القَضاءِ بَيْنَ عِبادِهِ. فَأشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِهِ.
وَنادى - وهو مُسْتَوٍ عَلى عَرْشِهِ - بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَن بَعُدَ كَما يَسْمَعُهُ مَن قَرُبَ " وعِزَّتِي وجَلالِي: "
«لا يُجاوِزُنِي اليَوْمَ ظُلْمُ ظالِمٍ» ".
وَكَأنَّهُ يُسْمِعُ نِداءَهُ لِآدَمَ "
«يا آدَمُ، قُمْ فابْعَثْ بَعْثَ النّارِ» " بِإذْنِهِ الآنَ، وكَذَلِكَ نِداؤُهُ لِأهْلِ المَوْقِفِ
﴿ماذا أجَبْتُمُ المُرْسَلِينَ﴾ [القصص: ٦٥] وماذا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟
وَبِالجُمْلَةِ: فَيُشاهِدُ بِقَلْبِهِ رَبًّا عَرَّفَتْ بِهِ الرُّسُلُ، كَما عَرَّفَتْ بِهِ الكُتُبُ، ودِينًا دَعَتْ إلَيْهِ الرُّسُلُ. وحَقائِقَ أخْبَرَتْ بِها الرُّسُلُ. فَقامَ شاهِدُ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ كَما قامَ شاهِدُ ما أخْبَرَ بِهِ أهْلُ التَّواتُرِ - وإنْ لَمْ يَرَهُ - مِنَ البِلادِ والوَقائِعِ. فَهَذا إيمانُهُ يَجْرِي مَجْرى العِيانِ، وإيمانُ غَيْرِهِ فَمَحْضُ تَقْلِيدِ العُمْيانِ.
قَوْلُهُ " ويَطْوِي خِسَّةَ التَّكالِيفِ " لَيْتَ الشَّيْخَ عَبَّرَ عَنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ بِغَيْرِها. فَواللَّهِ إنَّها لَأقْبَحُ مِن شَوْكَةٍ في العَيْنِ، وشَجًى في الحَلْقِ. وحاشا التَّكالِيفَ أنْ تُوصَفَ بِخِسَّةٍ، أوْ تَلْحَقَها خِسَّةٌ. وإنَّما هي قُرَّةُ عَيْنٍ، وسُرُورُ قَلْبٍ، وحَياةُ رُوحٍ. صَدَرَ التَّكْلِيفُ بِها عَنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ. فَهي أشْرَفُ ما وصَلَ إلى العَبْدِ مِن رَبِّهِ، وثَوابُهُ عَلَيْها أشْرَفُ ما أعْطاهُ اللَّهُ لِلْعَبْدِ.
نَعَمْ لَوْ قالَ: يَطْوِي ثِقَلَ التَّكالِيفِ ويُخَفِّفُ أعْباءَها ونَحْوَ ذَلِكَ. فَلَعَلَّهُ كانَ أوْلى، ولَوْلا مَقامُهُ في الإيمانِ والمَعْرِفَةِ والقِيامِ بِالأوامِرِ لَكُنّا نُسِيءُ بِهِ الظَّنَّ.
والَّذِي يَحْتَمِلُ أنْ يُصَرَّفَ كَلامُهُ إلَيْهِ وجْهانِ:
أحَدُهُما: أنَّ الصَّفاءَ - المَذْكُورَ في هَذِهِ الدَّرَجَةِ - لَمّا انْطَوَتْ في حُكْمِهِ الوَسائِطُ والأسْبابُ. وانْدَرَجَ فِيهِ حَظُّ العُبُودِيَّةِ في حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ: انْطَوَتْ فِيهِ رُؤْيَةُ كَوْنِ العِبادَةِ تَكْلِيفًا. فَإنَّ رُؤْيَتَها تَكْلِيفًا خِسَّةٌ مِنَ الرّائِي. لِأنَّهُ رَآها بِعَيْنِ أنَفَتِهِ وقِيامِهِ بِها. ولَمْ يَرَها بِعَيْنِ الحَقِيقَةِ. فَإنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلى مَقامِ " فَبِي يَسْمَعُ، وبِي يُبْصِرُ، وبِي يَبْطِشُ، وبِي يَمْشِي " ولَوْ وصَلَ إلى ذَلِكَ لَرَآها بِعَيْنِ الحَقِيقَةِ، ولا خِسَّةَ فِيها هُناكَ ألْبَتَّةَ.
فَإنَّ نَظَرَهُ قَدْ تَعَدّى مِن قِيامِهِ بِها إلى قِيامِها بِالقَيُّومِ الَّذِي قامَ بِهِ كُلُّ شَيْءٍ.
فَكانَ لَها وجْهانِ.
أحَدُهُما: هي بِهِ خَسِيسَةٌ. وهو وجْهُ قِيامِها بِالعَبْدِ، وصُدُورِها مِنهُ.
والثّانِي: هي بِهِ شَرِيفَةٌ. وهو وجْهُ كَوْنِها بِالرَّبِّ تَعالى وأوَّلِيَّتِهِ، أمْرًا وتَكْوِينًا وإعانَةً. فالصَّفاءُ يَطْوِيها مِن ذَلِكَ الوَجْهِ خاصَّةً.
والمَعْنى الثّانِي، الَّذِي يَحْتَمِلُهُ كَلامُهُ: أنْ يَكُونَ مُرادُهُ: أنَّ الصَّفاءَ يَشْهَدُهُ عَيْنُ الأزَلِ، وسَبْقُ الرَّبِّ تَعالى، وأوَّلِيَّتُهُ لِكُلِّ شَيْءٍ. فَتَنْطَوِي في هَذا المَشْهَدِ أعْمالُهُ الَّتِي عَمِلَها. ويَراها خَسِيسَةً جِدًّا بِالنِّسْبَةِ إلى عَيْنِ الأزَلِ. فَكَأنَّهُ قالَ: تَنْطَوِي أعْمالُهُ، وتَصِيرُ - بِالنِّسْبَةِ إلى هَذِهِ العَيْنِ - خَسِيسَةً جِدًّا لا تُذْكَرُ. بَلْ تَكُونُ في عَيْنِ الأزَلِ هَباءً مَنثُورًا، لا حاصِلَ لَها.
فَإنَّ الوَقْتَ الَّذِي هو ظَرْفُ التَّكْلِيفِ يَتَلاشى جِدًّا بِالنِّسْبَةِ إلى الأزَلِ. وهو وقْتٌ خَسِيسٌ حَقِيرٌ، حَتّى كَأنَّهُ لا حاصِلَ لَهُ. ولا نِسْبَةَ لَهُ إلى الأزَلِ والأبَدِ في مِقْدارِ الأعْمالِ الواقِعَةِ فِيهِ. وهي يَسِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلى مَجْمُوعِ ذَلِكَ الوَقْتِ الَّذِي هو يَسِيرٌ جِدًّا. بِالنِّسْبَةِ إلى مَجْمُوعِ الزَّمانِ الَّذِي هو يَسِيرٌ جِدًّا. بِالنِّسْبَةِ إلى عَيْنِ الأزَلِ.
فَهَذا أقْرَبُ ما يُحْمَلُ عَلَيْهِ كَلامُهُ مَعَ قَلَقِهِ. وقَدِ اعْتَراهُ فِيهِ سُوءُ تَعْبِيرٍ. وكَأنَّهُ أطْلَقَ عَلَيْها الخِسَّةَ لِقِلَّتِها وخِفَّتِها. بِالنِّسْبَةِ إلى عَظَمَةِ المُكَلِّفِ بِها سُبْحانَهُ. وما يَسْتَحِقُّهُ. واللَّهُ سُبْحانَهُ أعْلَمُ.