الباحث القرآني
وَهَذا يتَضَمَّن أمريْن أحدهما أنه يهدي بِهِ من اتَّقى ما خطه قبل نزُول الكتاب فَإن النّاس على اخْتِلاف مللهم ونحلهم قد اسْتَقر عِنْدهم أن الله سُبْحانَهُ يكره الظُّلم والفَواحِش والفساد في الأرْض ويمقت فاعل ذَلِك ويُحب العدْل والإحْسان والجود والصدق والإصلاح في الأرْض ويُحب فاعل ذَلِك فَلَمّا نزل الكتاب أثاب سُبْحانَهُ أهل البر بِأن وفقهم للْإيمان بِهِ جَزاء لَهُم على برهم وطاعتهم وخذل أهل الفُجُور والفُحْش والظُّلم بِأن حال بَينهم وبَين الاهتداء بِهِ والأمر الثّانِي أن العَبْد إذا آمن بِالكتاب واهتدى بِهِ مُجملا وقبل أوامره وصدق بأخباره كانَ ذَلِك سَببا لهداية أُخْرى تحصل لَهُ على التَّفْصِيل فَإن الهِدايَة لا نِهايَة لَها ولَو بلغ العَبْد فِيها ما بلغ ففوق هدايته هِدايَة أُخْرى وفَوق تِلْكَ الهِدايَة هِدايَة أُخْرى إلى غير غايَة فَكلما اتَّقى العَبْد ربه ارْتقى إلى هِدايَة أُخْرى فَهو في مزِيد هِدايَة ما دامَ في مزِيد من التَّقْوى وكلما فوّت خطا من التَّقْوى فاتَهُ حَظّ من الهِدايَة بِحَسبِهِ فَكلما اتَّقى زاد هداه وكلما اهْتَدى زادَت تقواه قالَ تَعالى ﴿قَدْ جاءَكم مِنَ اللَّهِ نُورٌ وكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ ويُخْرِجُهم مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ بِإذْنِهِ ويَهْدِيهِمْ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ وقالَ تَعالى ﴿اللَّهُ يَجْتَبِي إلَيْهِ مَن يَشاءُ ويَهْدِي إلَيْهِ مَن يُنِيبُ﴾ وقالَ ﴿سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشى﴾ وقالَ ﴿وَما يَتَذَكَّرُ إلّا مَن يُنِيبُ﴾ وقالَ ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهم بِإيمانِهِمْ﴾ فهداهم أولا للْإيمان فَلَمّا آمنُوا هداهُم للْإيمان هِدايَة بعد هِدايَة ونَظِير هَذا قَوْله ﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهتدوا هدى﴾.
* (فائدة)
الفرق بين الشك والريب من وجوه:
أحدها: أنه يقال شك مريب لا يقال ريب مشكك.
الثاني: أن يقال رابني أمر كذا ولا يقال شككني.
الثالث: أنه يقال رابه يريبه إذا أزعجه وأقلقه ومنه قول النبي ﷺ وقد مر بظني خافت في أصل شجرة "لا يريبه أحد" ولا يحسن هنا لا يشككه أحد.
الرابع: أنه لا يقال للشاك في طلوع الشمس أو في غروبها أو دخول الشهر أو وقت الصلاة هو مرتاب في ذلك وأن كان شاكا فيه.
الخامس: إن الريب ضد الطمأنينة واليقين فهو قلق واضطراب وانزعاج كما أن اليقين والطمأنينة ثبات واستقرار.
السادس: يقال رابني مجيئه وذهابه وفعله ولا يقال شككني فالشك سبب الريب فإنه يشك أولا فيوقعه شكه في الريب فالشك مبتد االريب كما أن العلم مبتدأ اليقين الاستنجاء.
(فائدة أخرى)
قوله: "هذا بصائر من ربكم" عام مطلق، وقوله: "وهدى ورحمة لقوم يوقنون" خاص بأهل اليقين.
ونظير ذلك قوله ﴿يا أيُّها النّاسُ قَدْ جاءَتْكم مَوْعِظَة مِن رَبِّكم وشِفاءٌ لَمِا فِى الصُّدُورِ وهُدى ورَحْمَةٌ لِلْمُؤمِنِينَ﴾ [يونس: ٥٧].
ونظيره في الخصوص قوله تعالى: ﴿هُدًى لِلْمُتّقِينَ﴾ وقوله: ﴿يَهْدِى بِهِ اللهُ مَنِ اتَبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ﴾ [المائدة: ١٦].
ونظيره أيضا قوله: ﴿هذا بَيانٌ لِلنّاسِ وهُدًى ومَوْعِظَةٌ لِلْمُتّقِينَ﴾ [آل عمران: ١٣٨].
وقد أخبر أنه هدى عام لجميع المكلفين. فقال: ﴿إنْ يَتّبِعُونَ إلا الظَّنَّ وما تَهْوى الأنْفُسُ ولَقَدْ جاءهم مِن رَبِّهِمُ الهُدْى﴾ [النجم: ٢٣].
فأخبر سبحانه أن القرآن بصائر لجميع الناس. والبصائر جمع بصيرة، وهى فعيلة بمعنى مفعلة، أي مبصرة لمن تبصر. ومنه قوله تعالى: ﴿وَآتَيْنا ثُمودَ النّاقَةَ مُبْصِرَةً﴾ [الإسراء: ٥٩].
أي مبينة موجبة للتبصر. وفعل الإبصار يستعمل لازما ومتعديا. يقال: أبصرته، بمعنى أريته، وأبصرته، بمعنى رأيته، فمبصرة في الآية: بمعنى مرئية، لا بمعنى رائية، والذين ظنوها بمعنى رائية غلطوا في الآية، وتحيروا في معناها.
فإنه يقال: بصر به، وأبصره، فيعدى بالباء تارة، والهمزة تارة. ثم يقال: أبصرته كذا، أي أريته إياه، كما يقال: بصرته به. وبصر هو به.
فهاهنا بصيرة، وتبصرة، ومبصرة. فالبصيرة: المبينة التي تبصر، والتبصرة مصدر مثل التذكرة، وسمى بها ما يوجب التبصرة، فيقال: هذه الآية تبصرة، لكونها آلة التبصر، وموجبه.
فالقرآن بصيرة وتبصرة، وهدى وشفاء، ورحمة، بمعنى عام، وبمعنى خاص. ولهذا يذكر الله سبحانه هذا وهذا، فهو هدى للعالمين، وموعظة للمتقين، وهدى للمتقين، وشفاء للعالمين، وشفاء للمؤمنين، وموعظة للعالمين، وموعظة للمتقين، فهو في نفسه هدى ورحمة، وشفاء وموعظة.
فمن اهتدى به واتعظ واشتفى، كان بمنزلة من استعمل الدواء الذي يحصل به الشفاء فهو دواء له بالفعل. وإن لم يستعمله، فهو دواء له بالقوة، وكذلك الهدى.
فالقرآن هدى بالفعل لمن اهتدى به، وبالقوة لمن يهتد به، فإنما يهتدى به ويرحم ويتعظ المتقون الموقنون.
والهدى في الأصل: مصدر هدى يهدى هدى.
فمن لم يعمل بعلمه لم يكن مهتديا، كما في الأثر "من ازداد علما ولم يزدد هدى لم يزدد من الله تعالى إلا بعدا" ولكن يسمى هدى، لأن من شأنه أن يهدى.
وهذا أحسن من قول من قال: إنه هدى، بمعنى هاد، فهو مصدر بمعنى الفاعل، كعدل بمعنى العادل، وزور بمعنى الزائر، ورجل صوم أي بمعنى صائم، فإن الله سبحانه قد أخبر أنه يهدى به.
فالله الهادى، وكتابه الهدى الذي يهدى به على لسان رسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم.
فهاهنا ثلاثة أشياء: فاعل وقابل وآله. فالفاعل: هو الله تعالى، والقابل: قلب العبد، والآلة: هو الذي يحصل به الهدى، وهو الكتاب المنزل، والله سبحانه يهدى خلقه هدى، كما يقال: دلهم دلالة، وأرشدهم إرشادا، وبين لهم بيانا.
والمقصود: أن المحل القابل هو قلب العبد المتقى، المنيب إلى ربه، الخائف منه، الذي يبتغى رضاه، ويهرب من سخطه، فإذا هداه الله فكأنه وصل أثر فعله إلى محل قابل، فيتأثر به، فصار هدى له وشفاء ورحمة وموعظة بالوجود والفعل والقبول، وإذا لم يكن المحل قابلا وصل إليه الهدى فلم يؤثر فيه، كما يصل الغذاء إلى محل غير قابل للاغتذاء، فإنه لا يؤثر فيه شيئا، بل لا يزيده إلا ضعفا وفسادا إلى فساده، كما قال تعالى في السورة التي نزلها: ﴿فَأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهم إيمانًا وهم يَسْتَبْشِروُنَ وأمّا الّذِينَ فِى قُلُوبِهمْ مَرَضٌ فَزادَتْهم رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ﴾ [التوبة: ١٢٤-١٢٥]، وقال: ﴿وَنُنَزَّلُ مِنَ القُرْآنِ ما هو شِفاءٌ ورَحْمَةٌ لِلْمُؤمِنِينَ، ولا يزِيدُ الظّالمِينَ إلا خَسارًا﴾ [الإسراء: ٨٢].
فتخلف الاهتداء يكون لعدم قبول المحل تارة، ولعدم آلة الهدى تارة، ولعدم فعل الفاعل، وهو الهادى تارة، ولا يحصل الهدى على الحقيقة إلا عند اجتماع هذه الأمور الثلاثة.
وقد قال سبحانه: ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ، ولَوْ أسْمَعَهم لَتَوَلّوْا وهم مُعْرِضُونَ﴾ [الأنفال: ٢٣].
فأخبر سبحانه أنه قطع عنهم مادة الاهتداء، وهو إسماع قلوبهم وإفهامها ما ينفعها، لعدم قبول المحل، فإنه لا خير فيه، فإن الرجل إنما ينقاد للحق بالخير الذي فيه، والميل إليه، والطلب له، ومحبته، والحرص عليه، والفرح بالظفر به، وهؤلاء ليس في قلوبهم شيء من ذلك، فوصل الهدى إليها ووقع عليها كما يصل الغيث النازل من السماء ويقع على الأرض الغليظة العالية، والتي لا تمسك ماء، ولا تنبت كلاء، فلا هى قابلة للماء ولا للنبات، فالماء في نفسه رحمة وحياة، ولكن ليس فيها قبول له.
ثم أكد الله هذا المعنى في حقهم بقوله: ﴿وَلَوْ أسْمَعَهم لَتَوَلّوْا وهم مُعْرِضُونَ﴾ [الأنفال: ٢٣].
فأخبر أن فيهم مع عدم القبول والفهم آفة أخرى، وهى الكبر والإعراض، وفساد القصد، فلو فهموا لم ينقادوا، ولم يتبعوا الحق. ولم يعملوا به، فالهدى في حق هؤلاء هدى بيان وإقامة حجة، لا هدى توفيق وإرشاد، فلم يتصل الهدى في حقهم بالرحمة.
وأما المؤمنون: فاتصل الهدى في حقهم بالرحمة، فصار القرآن لهم هدى ورحمة ولأولئك هدى بلا رحمة.
والرحمة المقارنة للهدى في حق المؤمنين عاجلة وآجلة.
فأما العاجلة فما يعطيهم الله تعالى في الدنيا من محبة الخير والبر، وذوق طعم الإيمان، ووجد حلاوته، والفرح والسرور بأن هداهم الله تعالى لما أضل عنه غيرهم، ولما اختلف فيه من الحق، فهم يتقلبون في نور هداه، ويمشون به في الناس، ويرون غيرهم متحيرا في الظلمات، فهم أشد الناس فرحا بما آتاهم ربهم من الهدى، قال تعالى: ﴿قلْ بِفَضْل اللهِ وبِرَحْمَتِهِ فَبِذلكَ فَلْيَفْرَحُوا هو خَيْرٌ مَّمِا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: ٥٨].
فأمر سبحانه عباده المؤمنين المهتدين أن يفرحوا بفضله ورحمته.
{"ayah":"ذَ ٰلِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق