الباحث القرآني
(بحول الله وكرمه، لا رب سواه) وَأَوَّلُ مَبْدُوءٍ بِهِ
الْكَلَامُ فِي نُزُولِهَا وَفَضْلِهَا وَمَا جَاءَ فِيهَا،
وَهَكَذَا كُلُّ سُورَةٍ إِنْ وَجَدْنَا لَهَا ذَلِكَ، فَنَقُولُ: سُورَةُ الْبَقَرَةِ مَدَنِيَّةٌ، نَزَلَتْ فِي مُدَدٍ شَتَّى. وَقِيلَ: هِيَ أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ، إِلَّا قَوْلَهُ تَعَالَى:" وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ [[راجع ج ٣ ص ٣٧٥.]] إِلَى اللَّهِ" [البقرة: ٢٨١] فَإِنَّهُ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ، وَنَزَلَتْ يَوْمَ النَّحْرِ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ بِمِنًى، وَآيَاتُ الرِّبَا أَيْضًا مِنْ أَوَاخِرِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ. وَهَذِهِ السُّورَةُ فَضْلُهَا عَظِيمٌ وَثَوَابُهَا جَسِيمٌ. وَيُقَالُ لَهَا: فُسْطَاطُ الْقُرْآنِ، قَالَهُ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ. وَذَلِكَ لِعِظَمِهَا وَبِهَائِهَا، وَكَثْرَةِ أَحْكَامِهَا وَمَوَاعِظِهَا. وَتَعَلَّمَهَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِفِقْهِهَا وَمَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ فِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ فِي ثَمَانِي سِنِينَ كَمَا تَقَدَّمَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: سَمِعْتُ بَعْضَ أَشْيَاخِي يَقُولُ: فِيهَا أَلْفُ أَمْرٍ وَأَلْفُ نَهْيٍ وَأَلْفُ حُكْمٍ وَأَلْفُ خَبَرٍ. وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَعْثًا وَهُمْ ذَوُو عَدَدٍ وَقَدَّمَ عَلَيْهِمْ أَحْدَثَهُمْ سِنًّا لِحِفْظِهِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، وَقَالَ لَهُ: (اذْهَبْ فَأَنْتَ أَمِيرُهُمْ) أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَصَحَّحَهُ. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: (اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ وَلَا يَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ)، قَالَ مُعَاوِيَةُ: [[معاوية هذا، هو أحد رواة سند هذا الحديث.]] بَلَغَنِي أَنَّ الْبَطَلَةَ: السَّحَرَةُ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: (لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ). وَرَوَى الدَّارِمِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: مَا مِنْ بَيْتٍ يُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ إِلَّا خَرَجَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ. وَقَالَ: إِنَّ لِكُلِ شي سَنَامًا وَإِنَّ سَنَامَ الْقُرْآنِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ، وَإِنَّ لكل شي لُبَابًا وَإِنَّ لُبَابَ الْقُرْآنِ الْمُفَصَّلُ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الدَّارِمِيُّ. اللُّبَابُ: الْخَالِصُ. وَفِي صَحِيحِ الْبَسْتِيِّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (إِنَّ لِكُلِ شي سَنَامًا وَإِنَّ سَنَامَ الْقُرْآنِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَمَنْ قَرَأَهَا فِي بَيْتِهِ لَيْلًا لَمْ يَدْخُلِ الشَّيْطَانُ بَيْتَهُ ثَلَاثَ لَيَالٍ وَمَنْ قَرَأَهَا نَهَارًا لَمْ يَدْخُلِ الشَّيْطَانُ بَيْتَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ (. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الْبَسْتِيُّ: قَوْلُهُ ﷺ:) لَمْ يَدْخُلِ الشَّيْطَانُ بَيْتَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) أَرَادَ: مَرَدَةَ الشَّيَاطِينِ. وَرَوَى الدَّارِمِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: مَنْ قَرَأَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ لَمْ يَدْخُلْ ذَلِكَ الْبَيْتَ شَيْطَانٌ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى يُصْبِحَ، أَرْبَعًا مِنْ أَوَّلِهَا وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ وَآيَتَيْنِ بَعْدَهَا وَثَلَاثًا خَوَاتِيمَهَا، أَوَّلُهَا: ﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ﴾ [البقرة: ٢٨٤]. وَعَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْهُ: لَمْ يَقْرَبْهُ وَلَا أَهْلَهُ يومئذ شيطان ولا شي يَكْرَهُهُ، وَلَا يُقْرَأْنَ عَلَى مَجْنُونٍ إِلَّا أَفَاقَ. وَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ سُبَيْعٍ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ: لَمْ يَنْسَ الْقُرْآنَ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى: لَمْ يَنْسَ مَا قَدْ حَفِظَ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الدَّارِمِيُّ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْمُغِيرَةُ بْنُ سُمَيْعٍ. وَفِي كِتَابِ الِاسْتِيعَابِ لِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: وَكَانَ لَبِيَدُ بْنُ رَبِيعَةَ [بْنِ عامر [[الزيادة عن كتاب الاستيعاب (ج ١ ص ٢٣٥) طبع الهند.]]] بن مالك بن جعفر ابن كِلَابِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ مِنْ شُعَرَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ، أَدْرَكَ الْإِسْلَامَ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ وَتَرَكَ قَوْلَ الشِّعْرِ فِي الْإِسْلَامِ، وَسَأَلَهُ عُمَرُ فِي خِلَافَتِهِ عَنْ شِعْرِهِ وَاسْتَنْشَدَهُ، فَقَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَقَالَ: إِنَّمَا سَأَلْتُكَ عَنْ شِعْرِكَ، فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَقُولَ بَيْتًا مِنَ الشِّعْرِ بَعْدَ إِذْ عَلَّمَنِي اللَّهُ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، فَأَعْجَبَ عُمَرَ قَوْلُهُ، وَكَانَ عَطَاؤُهُ أَلْفَيْنِ فَزَادَهُ خَمْسَمِائَةٍ. وَقَدْ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْأَخْبَارِ: إِنَّ لَبِيدًا لَمْ يَقُلْ شِعْرًا مُنْذُ أَسْلَمَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يَقُلْ فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا قَوْلَهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ إِذْ لَمْ يَأْتِنِي أَجَلِي حَتَّى اكْتَسَيْتُ مِنَ الْإِسْلَامِ سِرْبَالَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَقَدْ قِيلَ إِنَّ هَذَا الْبَيْتَ لِقَرَدَةَ بْنِ نُفَاثَةَ السَّلُولِيِّ، وَهُوَ أَصَحُّ عِنْدِي. وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلِ الْبَيْتُ الَّذِي قَالَهُ فِي الْإِسْلَامِ: مَا عَاتَبَ الْمَرْءَ الْكَرِيمَ كَنَفْسِهِ وَالْمَرْءُ يُصْلِحُهُ الْقَرِينُ الصَّالِحُ وَسَيَأْتِي مَا وَرَدَ فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَخَوَاتِيمِ الْبَقَرَةِ [[راجع ج ٣ ص ٢٦٨، ٤٣١.]]، وَيَأْتِي فِي أَوَّلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [[راجع ج ٤ ص ٢]] زِيَادَةُ بَيَانٍ لِفَضْلِ هَذِهِ السُّورَةِ، إن شاء الله تعالى.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (رب يسر وأعن)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢)
[بيان الأقوال الواردة في الحروف المقطعة التي في أوائل السور]
اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْحُرُوفِ الَّتِي فِي أوائل السور، فَقَالَ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ: هِيَ سِرُّ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ، وَلِلَّهِ فِي كُلِّ كِتَابٍ مِنْ كُتُبِهِ سِرٌّ. فَهِيَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي انْفَرَدَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهِ، وَلَا يَجِبُ [[في نسخة من الأصل: (ولا يجوز أن نتكلم فيها ... وتمر كما) إلخ. وفي نسخة: (وتقر كما جاءت).]] أَنْ يُتَكَلَّمَ فِيهَا، وَلَكِنْ نُؤْمِنُ بِهَا وَنَقْرَأُ كَمَا جَاءَتْ. وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَذَكَرَ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: الْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةُ مِنَ الْمَكْتُومِ الَّذِي لَا يُفَسَّرُ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَمْ نَجِدِ الْحُرُوفَ الْمُقَطَّعَةَ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي أَوَائِلِ السور، ولا ندري ما أراد الله عز وجل بِهَا. قُلْتُ: وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْحُبَابِ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي طَالِبٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْمُنْذِرِ الْوَاسِطِيُّ عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ [[قال صاحب تهذيب التهذيب: (في التقريب الربيع بن خثيم، بضم المعجمة وفتح المثلثة. ولكن في الخلاصة بفتح المعجمة والمثلثة بينهما تحتانية ساكنة.]] قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآنَ فَاسْتَأْثَرَ مِنْهُ بِعِلْمِ مَا شَاءَ، وَأَطْلَعَكُمْ عَلَى مَا شَاءَ، فَأَمَّا مَا اسْتَأْثَرَ بِهِ لِنَفْسِهِ فَلَسْتُمْ بِنَائِلِيهِ فَلَا تَسْأَلُوا عَنْهُ، وَأَمَّا الَّذِي أَطْلَعَكُمْ عَلَيْهِ فَهُوَ الَّذِي تَسْأَلُونَ عَنْهُ وَتُخْبَرُونَ [[في نسخة من الأصل: (تجزون به).]] بِهِ، وَمَا بِكُلِ الْقُرْآنِ تَعْلَمُونَ، وَلَا بِكُلِ مَا تَعْلَمُونَ تَعْمَلُونَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَهَذَا يُوَضِّحُ أَنَّ حُرُوفًا مِنَ الْقُرْآنِ سُتِرَتْ مَعَانِيهَا عَنْ جَمِيعِ الْعَالَمِ، اخْتِبَارًا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَامْتِحَانًا، فَمَنْ آمَنَ بِهَا أُثِيبَ وَسَعِدَ، وَمَنْ كَفَرَ وَشَكَّ أَثِمَ وَبَعُدَ. حَدَّثَنَا أَبُو يُوسُفَ بْنُ يَعْقُوبَ الْقَاضِي حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عُمَارَةَ عَنْ حُرَيْثِ بْنِ ظُهَيْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: مَا آمَنَ مُؤْمِنٌ أَفْضَلُ مِنْ إِيمَانٍ بغيب، ثم قرأ: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [البقرة: ٣].
قُلْتُ: هَذَا الْقَوْلُ فِي الْمُتَشَابِهِ وَحُكْمِهِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي (آلِ عِمْرَانَ) إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى [[راجع ج ٤ ص ٢]]. وَقَالَ جَمْعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ كَبِيرٌ: بَلْ يَجِبُ أَنْ نَتَكَلَّمَ فِيهَا، وَنَلْتَمِسَ الْفَوَائِدَ الَّتِي تَحْتَهَا، وَالْمَعَانِيَ الَّتِي تَتَخَرَّجُ عَلَيْهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى أَقْوَالٍ عَدِيدَةٍ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَلِيٍّ أَيْضًا: أَنَّ الْحُرُوفَ الْمُقَطَّعَةَ فِي الْقُرْآنِ اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمِ، إِلَّا أَنَّا لَا نَعْرِفُ تَأْلِيفَهُ مِنْهَا. وَقَالَ قُطْرُبٌ وَالْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُمَا: هِيَ إِشَارَةٌ إِلَى حُرُوفِ الْهِجَاءِ أَعْلَمَ اللَّهُ بِهَا الْعَرَبَ حِينَ تَحَدَّاهُمْ بِالْقُرْآنِ أَنَّهُ مُؤْتَلَفٌ مِنْ حُرُوفٍ هِيَ الَّتِي مِنْهَا بِنَاءُ كَلَامِهِمْ، لِيَكُونَ عَجْزُهُمْ عَنْهُ أَبْلَغَ فِي الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ إِذْ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَلَامِهِمْ. قَالَ قُطْرُبٌ: كَانُوا يَنْفِرُونَ عِنْدَ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ، فَلَمَّا سَمِعُوا: "الم" وَ "المص" اسْتَنْكَرُوا هَذَا اللَّفْظَ، فَلَمَّا أَنْصَتُوا لَهُ ﷺ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِالْقُرْآنِ الْمُؤْتَلَفِ لِيُثَبِّتَهُ فِي أَسْمَاعِهِمْ وَآذَانِهِمْ وَيُقِيمَ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ قَوْمٌ: رُوِيَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا أَعْرَضُوا عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ بِمَكَّةَ وَقَالُوا:" لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [[راجع ج ١٥ ص ٣٥٦]] " [فصلت: ٢٦] نَزَلَتْ لِيَسْتَغْرِبُوهَا فَيَفْتَحُونَ لَهَا أَسْمَاعَهُمْ فَيَسْمَعُونَ الْقُرْآنَ بَعْدَهَا فَتَجِبُ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: هِيَ حُرُوفٌ دَالَّةٌ عَلَى أَسْمَاءٍ أُخِذَتْ مِنْهَا وَحُذِفَتْ بَقِيَّتُهَا، كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ: الْأَلِفُ مِنَ اللَّهِ، وَاللَّامُ مِنْ جِبْرِيلَ، وَالْمِيمُ مِنْ مُحَمَّدٍ ﷺ. وَقِيلَ: الْأَلِفُ مِفْتَاح اسْمِهِ اللَّهِ، وَاللَّامُ مِفْتَاح اسْمِهِ لَطِيفٍ، وَالْمِيمُ مِفْتَاح اسْمِهِ مَجِيدٍ. وَرَوَى أَبُو الضُّحَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: "الم" قَالَ: أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ، "الر" أَنَا اللَّهُ أَرَى، "المص" أَنَا اللَّهُ أَفْصِلُ. فَالْأَلِفُ تُؤَدِّي عَنْ مَعْنَى أَنَا، وَاللَّامُ تُؤَدِّي عَنِ اسْمِ اللَّهِ، وَالْمِيمُ تُؤَدِّي عَنْ مَعْنَى أَعْلَمَ. وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ الزَّجَّاجُ وَقَالَ: أَذْهَبُ إِلَى أَنَّ كُلَّ حَرْفٍ مِنْهَا يُؤَدِّي عَنْ مَعْنًى، وَقَدْ تَكَلَّمَتِ الْعَرَبُ بِالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ نَظْمًا لَهَا وَوَضْعًا بَدَلَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي الْحُرُوفُ مِنْهَا، كَقَوْلِهِ:
فَقُلْتُ لَهَا قِفِي فَقَالَتْ قَافْ
أَرَادَ: قَالَتْ وَقَفْتُ. وَقَالَ زُهَيْرٌ:
بِالْخَيْرِ خَيْرَاتٍ وَإِنْ شَرًّا فَا ... وَلَا أُرِيدُ الشَّرَّ إِلَّا أَنْ تَا
أَرَادَ: وَإِنْ شَرًّا فشر. وأراد: إلا أن تشاء.
وَقَالَ آخَرُ:
نَادَوْهُمْ أَلَا الْجِمُوا أَلَا تَا ... قَالُوا جَمِيعًا كُلُّهُمْ أَلَا فَا
أَرَادَ: أَلَا تَرْكَبُونَ، قَالُوا: أَلَا فَارْكَبُوا. وَفِي الْحَدِيثِ: (مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ) قَالَ شَقِيقٌ: هُوَ أَنْ يَقُولَ فِي اقْتُلْ: اقْ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ (كَفَى بِالسَّيْفِ شَا) مَعْنَاهُ: شَافِيًا. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: هِيَ أَسْمَاءٌ لِلسُّوَرِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هِيَ أَقْسَامٌ أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا لِشَرَفِهَا وَفَضْلِهَا، وَهِيَ مِنْ أَسْمَائِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَرَدَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هَذَا الْقَوْلَ فَقَالَ: لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ قَسَمًا لِأَنَّ الْقَسَمَ مَعْقُودٌ عَلَى حُرُوفٍ مِثْلَ: إِنَّ وَقَدْ وَلَقَدْ وَمَا، وَلَمْ يُوجَدْ ها هنا حَرْفٌ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَمِينًا. وَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: مَوْضِعُ الْقَسَمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ فَلَوْ أَنَّ إِنْسَانًا حَلَفَ فَقَالَ: وَاللَّهِ هَذَا الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ، لَكَانَ الْكَلَامُ سَدِيدًا، وَتَكُونُ "لَا" جَوَابَ الْقَسَمِ. فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَ الْكَلْبِيِّ وَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ سَدِيدٌ صَحِيحٌ. فَإِنْ قِيلَ: مَا الْحِكْمَةُ فِي الْقَسَمِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ الْقَوْمُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ عَلَى صِنْفَيْنِ: مُصَدِّقٌ، وَمُكَذِّبٌ، فَالْمُصَدِّقُ يُصَدِّقُ بِغَيْرِ قَسَمٍ، وَالْمُكَذِّبُ لَا يُصَدِّقُ مَعَ الْقَسَمِ؟. قِيلَ لَهُ: الْقُرْآنُ نَزَلَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَالْعَرَبُ إِذَا أَرَادَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُؤَكِّدَ كَلَامَهُ أَقْسَمَ عَلَى كَلَامِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يُؤَكِّدَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ فَأَقْسَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: "الم" أَيْ أَنْزَلْتُ عَلَيْكَ هَذَا الْكِتَابَ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: "الم" قَالَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ التِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْدَعَ جَمِيعَ مَا فِي تِلْكَ السُّورَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْقَصَصِ فِي الْحُرُوفِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَلَا يَعْرِفُ ذَلِكَ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ وَلِيٌّ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ السُّورَةِ لِيُفَقِّهَ النَّاسَ. وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا مِنَ الْأَقْوَالِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْوَقْفُ عَلَى هَذِهِ الْحُرُوفِ عَلَى السُّكُونِ لِنُقْصَانِهَا إِلَّا إِذَا أَخْبَرْتَ عَنْهَا أَوْ عَطَفْتَهَا فَإِنَّكَ تُعْرِبُهَا. وَاخْتُلِفَ: هَلْ لَهَا مَحَلٌّ مِنَ الْإِعْرَابِ؟ فَقِيلَ: لَا، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ أَسْمَاءً مُتَمَكِّنَةً، وَلَا أَفْعَالًا مُضَارِعَةً، وَإِنَّمَا هِيَ بِمَنْزِلَةِ حُرُوفِ التَّهَجِّي فَهِيَ مَحْكِيَّةٌ. هَذَا مَذْهَبُ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ.
وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا أَسْمَاءُ السُّوَرِ فَمَوْضِعُهَا عِنْدَهُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهَا عِنْدَهُ خَبَرُ ابْتِدَاءٍ مُضْمَرٍ، أَيْ هَذِهِ "الم"، كَمَا تَقُولُ: هَذِهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ. أَوْ تَكُونُ رَفْعًا عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ ذَلِكَ، كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ ذَلِكَ الرَّجُلُ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ النَّحْوِيُّ: "الم" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، كَمَا تَقُولُ: اقْرَأْ "الم" أَوْ عَلَيْكَ "الم". وَقِيلَ: فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بِالْقَسَمِ، لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّهَا أَقْسَامٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ذلِكَ الْكِتابُ﴾ قِيلَ: الْمَعْنَى هَذَا الْكِتَابُ. وَ "ذلِكَ" قَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي الْإِشَارَةِ إِلَى حَاضِرٍ، وَإِنْ كَانَ مَوْضُوعًا لِلْإِشَارَةِ إِلَى غَائِبٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْإِخْبَارِ عَنْ نَفْسِهِ جَلَّ وَعَزَّ:" ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [[سورة السجدة آية ٦.]] "، وَمِنْهُ قَوْلُ خُفَافِ بْنِ نُدْبَةَ:
أَقُولُ لَهُ وَالرُّمْحُ يَأْطِرُ مَتْنَهُ ... تَأَمَّلْ خُفَافًا إِنَّنِي أَنَا ذَلِكَا [[يأطر: يثنى.]]
أَيْ أَنَا هَذَا. فَ "ذلِكَ" إِشَارَةٌ إِلَى الْقُرْآنِ، مَوْضُوعٌ مَوْضِعَ هَذَا، تَلْخِيصُهُ: الم هَذَا الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَعِكْرِمَةَ وَغَيْرِهِمَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها [[سورة الانعام آية ٨٣.]] إِبْراهِيمَ "... " تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ [[سورة البقرة آية ٢٥٢.]] "أَيْ هَذِهِ، لَكِنَّهَا لَمَّا انْقَضَتْ صَارَتْ كَأَنَّهَا بَعُدَتْ فَقِيلَ تِلْكَ. وَفِي الْبُخَارِيِّ" وَقَالَ مَعْمَرٌ ذلِكَ الْكِتابُ هَذَا الْقُرْآنُ". "هُدىً لِلْمُتَّقِينَ" بَيَانٌ وَدَلَالَةٌ، كَقَوْلِهِ: "ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ" [[سورة الممتحنة آية ١٠]] هَذَا حُكْمُ اللَّهِ. قُلْتُ: وَقَدْ جَاءَ "هَذَا" بِمَعْنَى "ذَلِكَ"، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حَدِيثِ أُمِّ حَرَامٍ: (يَرْكَبُونَ ثَبَجَ [[ثبج البحر: وسطه ومعظمه.]] هَذَا الْبَحْرِ) أَيْ ذَلِكَ الْبَحْرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى بَابِهِ إِشَارَةٌ إِلَى غَائِبٍ. وَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ الْغَائِبِ عَلَى أَقْوَالٍ عَشَرَةٍ، فَقِيلَ: "ذلِكَ الْكِتابُ" أَيِ الْكِتَابُ الَّذِي كَتَبْتُ عَلَى الْخَلَائِقِ بِالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ وَالْأَجَلِ وَالرِّزْقِ لَا رَيْبَ فِيهِ، أَيْ لَا مُبَدِّلَ لَهُ. وَقِيلَ: ذلِكَ الْكِتابُ، أَيِ الَّذِي كَتَبْتُ عَلَى نَفْسِي فِي الْأَزَلِ (أَنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي). وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ أَنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي) فِي رِوَايَةٍ: (سَبَقَتْ). وَقِيلَ:
إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ كَانَ وَعَدَ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِ كِتَابًا لَا يَمْحُوهُ الْمَاءُ، فَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْوَعْدِ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَالَ إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِي بِكَ وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ) الْحَدِيثَ. وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى مَا قَدْ نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ بِمَكَّةَ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمَّا أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ بِمَكَّةَ:" إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ [[سورة المزمل آية ٥.]] قَوْلًا ثَقِيلًا "لَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مُسْتَشْرِفًا لِإِنْجَازِ هَذَا الْوَعْدِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ:" الم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ" [البقرة: ٢ ١] كَانَ فِيهِ مَعْنَى هَذَا الْقُرْآنِ الَّذِي أَنْزَلْتُهُ عَلَيْكَ بِالْمَدِينَةِ، ذَلِكَ الْكِتَابُ الَّذِي وَعَدْتُكَ أَنْ أُوحِيَهُ إِلَيْكَ بِمَكَّةَ. وَقِيلَ: إِنَّ "ذلِكَ" إِشَارَةٌ إِلَى مَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. وَ "الم" اسْمٌ لِلْقُرْآنِ، وَالتَّقْدِيرُ هَذَا الْقُرْآنُ ذَلِكَ الْكِتَابُ الْمُفَسَّرُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، يَعْنِي أَنَّ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ يَشْهَدَانِ بِصِحَّتِهِ وَيَسْتَغْرِقُ مَا فِيهِمَا وَيَزِيدُ عَلَيْهِمَا مَا لَيْسَ فِيهِمَا. وَقِيلَ: إِنَّ "ذلِكَ الْكِتابُ" إِشَارَةٌ إِلَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ كِلَيْهِمَا، وَالْمَعْنَى: الم ذانك الكتابان أو مثل ذلك الْكِتَابَيْنِ، أَيْ هَذَا الْقُرْآنُ جَامِعٌ لِمَا فِي ذَيْنِكَ الْكِتَابَيْنِ، فَعَبَّرَ بِ "ذلِكَ" عَنِ الِاثْنَيْنِ بِشَاهِدٍ مِنَ الْقُرْآنِ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿إِنَّها بَقَرَةٌ لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ﴾ [البقرة: ٦٨] أَيْ عَوَانٌ بَيْنَ تَيْنِكَ: الْفَارِضِ وَالْبِكْرِ، وَسَيَأْتِي [[آية ٦٨ راجع ص ٤٤٨ من هذا الجزء.]]. وَقِيلَ: إِنَّ "ذلِكَ" إِشَارَةٌ إِلَى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: "ذلِكَ" إِشَارَةٌ إِلَى الْقُرْآنِ الَّذِي فِي السَّمَاءِ لَمْ يَنْزِلْ بَعْدُ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ كَانَ وَعَدَ أَهْلَ الْكِتَابِ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ كِتَابًا، فَالْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ الْوَعْدِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: الْمَعْنَى هَذَا الْقُرْآنُ ذَلِكَ الْكِتَابُ الَّذِي كُنْتُمْ تَسْتَفْتِحُونَ بِهِ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا. وَقِيلَ: إِلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ: "الم" الْحُرُوفُ الَّتِي تَحَدَّيْتُكُمْ بِالنَّظْمِ مِنْهَا. وَالْكِتَابُ مَصْدَرٌ مِنْ كَتَبَ يَكْتُبُ إِذَا جَمَعَ، وَمِنْهُ قِيلَ: كَتِيبَةٌ، لِاجْتِمَاعِهَا. وَتَكَتَّبَتِ الْخَيْلُ صَارَتْ كَتَائِبَ. وَكَتَبْتُ الْبَغْلَةَ: إِذَا جَمَعْتُ بَيْنَ شُفْرَيْ رَحِمِهَا بِحَلْقَةٍ أَوْ سَيْرٍ، قَالَ:
لَا تَأْمَنَنَّ فَزَارِيًا حللت به ... على قلوصك واكتبها بأسيار
وَالْكُتْبَةُ (بِضَمِّ الْكَافِ): الْخُرْزَةُ، وَالْجَمْعُ كُتَبٌ. وَالْكُتْبُ: الْخُرْزُ. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
وَفْرَاءُ غَرْفِيَّةٌ أَثَأَى خَوَارِزُهَا ... مُشَلْشِلٌ ضَيَّعَتْهُ بَيْنَهَا الْكُتَبُ [[قوله: (وفراء) أي واسعة. و (غرفية): مدبوغة بالغرف، وهو نبت تدبغ به الجلود. والثأي والثأي (بسكون الهمزة وفتحها): خرم خرز الأديم. والمشلشل: الذي يكاد يتصل قطره وسيلانه لتتابعه.]]
وَالْكِتَابُ: هُوَ خَطُّ الْكَاتِبِ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ مَجْمُوعَةً أَوْ مُتَفَرَّقَةً، وَسُمِّيَ كِتَابًا وَإِنْ كَانَ مَكْتُوبًا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
تُؤُمِّلُ رَجْعَةً مِنِّي وَفِيهَا ... كِتَابٌ مِثْلَ مَا لَصِقَ الْغِرَاءُ
وَالْكِتَابُ: الْفَرْضُ وَالْحُكْمُ وَالْقَدَرُ، قال الجعدي:
يا ابنة عَمِّي كِتَابُ اللَّهِ أَخْرَجَنِي ... عَنْكُمْ وَهَلْ أَمْنَعَنَّ اللَّهَ مَا فَعَلَا
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَا رَيْبَ﴾ نَفْيٌ عَامٌّ، وَلِذَلِكَ نُصِبَ الرَّيْبُ بِهِ. وَفِي الرَّيْبِ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ: أَحَدُهَا الشَّكُّ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى:
لَيْسَ فِي الْحَقِّ يَا أُمَيْمَةُ رَيْبٌ ... إِنَّمَا الرَّيْبُ مَا يَقُولُ الْجَهُولُ
وَثَانِيهَا التُّهَمَةُ، قَالَ جَمِيلٌ:
بُثَيْنَةُ قَالَتْ يَا جَمِيلُ أَرَبْتَنِي ... فَقُلْتُ كِلَانَا يَا بُثَيْنُ مُرِيبُ
وثالثها: الحاجة، قال: [[هو كعب بن مالك الأنصاري، كما في اللسان مادة (ريب).]]
قَضَيْنَا مِنْ تَهَامَةَ كُلَّ رَيْبٍ ... وَخَيْبَرَ ثُمَّ أَجْمَعْنَا السُّيُوفَا
فَكِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى لَا شَكٌّ فِيهِ وَلَا ارْتِيَابٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ فِي ذَاتِهِ حَقٌّ وَأَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَصِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ، غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَا مُحْدَثٌ، وَإِنْ وَقَعَ رَيْبٌ لِلْكُفَّارِ. وَقِيلَ: هُوَ خَبَرٌ وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ، أَيْ لَا تَرْتَابُوا، وَتَمَّ الْكَلَامُ كَأَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ الْكِتَابَ حَقًّا. وَتَقُولُ: رَابَنِي هَذَا الْأَمْرُ إِذَا أَدْخَلَ عَلَيْكَ شَكًّا وَخَوْفًا. وَأَرَابَ: صَارَ ذَا رِيبَةٍ، فَهُوَ مُرِيبٌ. وَرَابَنِي أَمْرُهُ. وريب الدهر: صروفه.
[الكلام على هداية القرآن وفيه ست مسائل]
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ﴾ فِيهِ سِتُّ مسائل: الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فِيهِ﴾ الْهَاءُ فِي "فِيهِ" فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بِفِي، وَفِيهِ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ، أَجْوَدُهَا: فِيهِ هُدًى وَيَلِيهِ فِيهُ هُدًى (بِضَمِّ الْهَاءِ بِغَيْرِ وَاوٍ) [[أي بعد الهاء من (فيه).]] وَهِيَ قِرَاءَةُ الزُّهْرِيِّ وَسَلَّامٍ أَبِي الْمُنْذِرِ. وَيَلِيهِ فِيهِي هُدًى (بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ) وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ. وَيَجُوزُ فِيهُو هُدًى (بِالْوَاوِ). وَيَجُوزُ فِيهْ هُدًى (مُدْغَمًا) وَارْتَفَعَ "هُدىً" عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ "فِيهِ". وَالْهُدَى فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَعْنَاهُ الرُّشْدُ وَالْبَيَانُ، أَيْ فِيهِ كَشْفٌ لِأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَرُشْدٌ وَزِيَادَةُ بَيَانٍ وَهُدًى. الثَّانِيَةُ الْهُدَى هُدَيَانِ: هُدَى دَلَالَةٍ، وَهُوَ الَّذِي تَقْدِرُ عَلَيْهِ الرُّسُلُ وَأَتْبَاعُهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ [[راجع ج ٩ ص ٢٨٥.]] " [الرعد: ٧]. وقال:" وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [[راجع ج ١٦ ص ٦٠.]] " [الشورى: ٥٢] فَأَثْبَتَ لَهُمُ الْهُدَى الَّذِي مَعْنَاهُ الدَّلَالَةُ وَالدَّعْوَةُ وَالتَّنْبِيهُ، وَتَفَرَّدَ هُوَ سُبْحَانَهُ بِالْهُدَى الَّذِي مَعْنَاهُ التَّأْيِيدُ وَالتَّوْفِيقُ، فَقَالَ لِنَبِيِّهِ ﷺ:" إِنَّكَ لَا تَهْدِي [[راجع ج ١٣ ص ٢٩٩.]] مَنْ أَحْبَبْتَ" [القصص: ٥٦] فالهدى على هذا يجئ بِمَعْنَى خَلْقِ الْإِيمَانِ فِي الْقَلْبِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: ﴿أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٥] وقوله: ﴿وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ﴾ [فاطر: ٨] وَالْهُدَى: الِاهْتِدَاءُ، وَمَعْنَاهُ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الْإِرْشَادِ كَيْفَمَا تَصَرَّفَتْ. قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: وَقَدْ تَرِدُ الْهِدَايَةُ وَالْمُرَادُ بِهَا إِرْشَادُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَسَالِكِ الْجِنَانِ وَالطُّرُقِ الْمُفْضِيَةِ إِلَيْهَا، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْمُجَاهِدِينَ:" فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ [[راجع ج ١٦ ص ٢٣٠.]]. سَيَهْدِيهِمْ" [محمد: ٥ ٤] وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ [[راجع ج ١٥ ص ٧٣.]] " [الصافات: ٢٣] مَعْنَاهُ فَاسْلُكُوهُمْ إِلَيْهَا. الثَّالِثَةُ الْهُدَى لَفْظٌ مُؤَنَّثٌ قَالَ الْفَرَّاءُ: بَعْضُ بَنِي أَسَدٍ تُؤَنِّثُ الْهُدَى فَتَقُولُ: هَذِهِ هُدًى حَسَنَةٌ. وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: هُوَ مُذَكَّرٌ، وَلَمْ يُعْرَبْ لِأَنَّهُ مَقْصُورٌ وَالْأَلِفُ لَا تَتَحَرَّكُ، وَيَتَعَدَّى بِحَرْفٍ وَبِغَيْرِ حَرْفٍ وَقَدْ مَضَى فِي" الْفَاتِحَةِ [[راجع ص ١٤٦ من هذا الجزء.]] "، تَقُولُ: هَدَيْتُهُ الطَّرِيقَ وَإِلَى الطَّرِيقِ وَالدَّارَ وَإِلَى الدَّارِ، أَيْ عَرَّفْتُهُ. الْأُولَى لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَالثَّانِيَةُ حَكَاهَا الْأَخْفَشُ. وَفِي التَّنْزِيلِ:" اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [[راجع ص ١٤٦ من هذا الجزء.]] "وَ" الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا [[راجع ج ٧ ص ٢٠٨]] " [الأعراف: ٤٣] وَقِيلَ: إِنَّ الْهُدَى اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ النَّهَارِ، لِأَنَّ النَّاسَ يَهْتَدُونَ فِيهِ لِمَعَايِشِهِمْ وَجَمِيعِ مَآرِبِهِمْ، ومنه قول ابن مقبل: حَتَّى اسْتَبَنْتُ الْهُدَى وَالْبِيدُ هَاجِمَةٌ ... يَخْشَعْنَ فِي الْآلِ غُلْفًا أَوْ يُصَلِّينَا [[هذا البيت ساقط في جميع الأصول، والزيادة من اللسان مادة (هدى) والبحر المحيط في هذا الموضوع.]]
[الرَّابِعَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى الْمُتَّقِينَ بِهِدَايَتِهِ وَإِنْ كَانَ هُدًى لِلْخَلْقِ أَجْمَعِينَ تَشْرِيفًا لَهُمْ، لِأَنَّهُمْ آمَنُوا وَصَدَّقُوا بِمَا فِيهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي رَوْقٍ أَنَّهُ قَالَ: "هُدىً لِلْمُتَّقِينَ" أَيْ كَرَامَةٌ لَهُمْ، يَعْنِي إِنَّمَا أَضَافَ إِلَيْهِمْ إِجْلَالًا لَهُمْ وَكَرَامَةً لَهُمْ وَبَيَانًا لِفَضْلِهِمْ. وَأَصْلُ "لِلْمُتَّقِينَ": لِلْمُوتَقِيِينَ بِيَاءَيْنِ مُخَفَّفَتَيْنِ، حُذِفَتِ الْكَسْرَةُ مِنَ الْيَاءِ الْأُولَى لِثِقَلِهَا ثُمَّ حُذِفَتِ الْيَاءُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ تَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ فِي اجْتِمَاعِ الْوَاوِ وَالتَّاءِ وَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي التَّاءِ فَصَارَ لِلْمُتَّقِينَ. الْخَامِسَةُ: التَّقْوَى يُقَالُ أَصْلُهَا فِي اللُّغَةِ قِلَّةُ الْكَلَامِ، حَكَاهُ ابْنُ فَارِسٍ. قُلْتُ: وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: (التَّقِيُّ مُلْجَمٌ وَالْمُتَّقِي فَوْقَ الْمُؤْمِنِ وَالطَّائِعِ) وَهُوَ الَّذِي يَتَّقِي بِصَالِحِ عَمَلِهِ وَخَالِصِ دُعَائِهِ عَذَابَ اللَّهِ تَعَالَى، مَأْخُوذٌ مِنَ اتِّقَاءِ الْمَكْرُوهِ بِمَا تَجْعَلُهُ حَاجِزًا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ:
سَقَطَ النَّصِيفُ [[النصيف: ثوب تتجلل به المرأة فوق ثيابها كلها، سمى نصيفا لأنه نصف بين الناس وبينها فحجز أبصارهم عنها.]] وَلَمْ تُرِدْ إِسْقَاطَهُ ... فَتَنَاوَلَتْهُ وَاتَّقَتْنَا بِالْيَدِ
وَقَالَ آخَرُ:
فَأَلْقَتْ قِنَاعًا دُونَهُ الشَّمْسُ وَاتَّقَتْ ... بِأَحْسَنِ مَوْصُولَيْنِ كَفٍّ وَمِعْصَمِ
وَخَرَّجَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْغَنِيِّ الْحَافِظُ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ زَرْبِيٍّ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قال قال يوما لابن أخيه: يا بن أَخِي تَرَى النَّاسَ مَا أَكْثَرَهُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: لَا خَيْرَ فِيهِمْ إِلَّا تَائِبٌ أَوْ تقي ثم قال: يا بن أَخِي تَرَى النَّاسَ مَا أَكْثَرَهُمْ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: لَا خَيْرَ فِيهِمْ إِلَّا عَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ. وَقَالَ أَبُو يَزِيدَ الْبِسْطَامِيُّ: الْمُتَّقِي مَنْ إِذَا قَالَ قَالَ لِلَّهِ، وَمَنْ إِذَا عَمِلَ عَمِلَ لِلَّهِ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: الْمُتَّقُونَ الَّذِينَ نَزَعَ اللَّهُ عَنْ قُلُوبِهِمْ حُبَّ الشَّهَوَاتِ. وَقِيلَ: الْمُتَّقِي الَّذِي اتَّقَى الشِّرْكَ وَبَرِئَ مِنَ النِّفَاقِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ كَذَلِكَ وَهُوَ فَاسِقٌ. وَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُبَيًّا عَنِ التَّقْوَى، فَقَالَ: هَلْ أَخَذْتَ طَرِيقًا ذَا شَوْكٍ؟ قال: نعم، قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهِ؟ قَالَ: تَشَمَّرْتُ وَحَذِرْتُ، قَالَ: فَذَاكَ التَّقْوَى. وَأَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى ابْنُ الْمُعْتَزِّ فَنَظَمَهُ:
خَلِّ الذُّنُوبَ صَغِيرَهَا ... وَكَبِيرَهَا ذَاكَ التُّقَى
وَاصْنَعْ كَمَاشٍ فَوْقَ أَرْ ... ضِ الشَّوْكِ يَحْذَرُ مَا يَرَى
لَا تُحَقِرَنَّ صَغِيرَةً ... إِنَّ الجبال من الحصى
السادسة التقوى فيها جماع الْخَيْرِ كُلِّهِ، وَهِيَ وَصِيَّةُ اللَّهِ فِي الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَهِيَ خَيْرُ مَا يَسْتَفِيدُهُ الْإِنْسَانُ، كَمَا قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَقَدْ قِيلَ لَهُ: إِنَّ أَصْحَابَكَ يَقُولُونَ الشِّعْرَ وَأَنْتَ مَا حُفِظَ عَنْكَ شي، فَقَالَ:
يُرِيدُ الْمَرْءُ أَنْ يُؤْتَى مُنَاهُ ... وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا مَا أَرَادَا
يَقُولُ الْمَرْءُ فَائِدَتِي وَمَالِي ... وَتَقْوَى اللَّهِ أَفْضَلُ مَا اسْتَفَادَا
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: (مَا اسْتَفَادَ الْمُؤْمِنُ بَعْدَ تَقْوَى اللَّهِ خَيْرًا لَهُ مِنْ زَوْجَةٍ صَالِحَةٍ إِنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ وَإِنْ نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ وَإِنْ أَقْسَمَ عَلَيْهَا أَبَرَّتْهُ وَإِنْ غَابَ عَنْهَا نَصَحَتْهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ (. وَالْأَصْلُ فِي التَّقْوَى: وَقْوَى عَلَى وَزْنِ فَعْلَى فَقُلِبَتِ الْوَاوُ تَاءً مِنْ وَقَيْتُهُ أَقِيِهُ أَيْ مَنَعْتُهُ، وَرَجُلٌ تَقِيٌّ أَيْ خَائِفٌ، أَصْلُهُ وَقَى، وَكَذَلِكَ تُقَاةٌ كَانَتْ فِي الْأَصْلِ وُقَاةٌ، كَمَا قَالُوا: تُجَاهَ وَتُرَاثَ، وَالْأَصْلُ وجاه ووراث.
{"ayahs_start":1,"ayahs":["الۤمۤ","ذَ ٰلِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ"],"ayah":"ذَ ٰلِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق