الباحث القرآني
قالَ شَقِيق بن إبْراهِيم أغلق باب التَّوْفِيق عَن الخلق من سِتَّة أشْياء:
اشتغالهم بِالنعْمَةِ عَن شكرها ورغبتهم في العلم وتركهم العَمَل والمسارعة إلى الذَّنب وتَأْخِير التَّوْبَة والاغترار بِصُحْبَة الصّالِحين وترك الِاقْتِداء بفعالهم وإدبار الدُّنْيا عَنْهُم وهم يتبعونها وإقبال الآخِرَة عَلَيْهِم وهم معرضون عَنْها.
قلت وأصل ذَلِك عدم الرَّغْبَة والرهبة وأصله ضعف اليَقِين وأصله ضعف البصيرة وأصله مهانة النَّفس ودناءتها واستبدال الَّذِي هو أدنى بِالَّذِي هو خير وإلّا فَلَو كانَت النَّفس شريفة كَبِيرَة لم ترض بالدون فَأصل الخَيْر كُله بِتَوْفِيق الله ومشيئته وشرف النَّفس ونبلها وكبرها وأصل الشَّرّ خستها ودناءتها وصغرها قالَ تَعالى قَدْ أفْلح من زكاها وقد خابَ من دساها أي أفْلح من كبرها وكثرها ونماها بِطاعَة الله وخاب من صغرها وحقرها بمعاصي الله فالنفوس الشَّرِيفَة لا ترْضى من الأشْياء إلّا بِأعْلاها وأفضلها وأحمدها عاقِبَة والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات وتَقَع عَلَيْها كَما يَقع الذُّباب على الأقذار فالنَّفْس الشَّرِيفَة العلية لا ترْضى بالظلم ولا بالفواحش ولا بِالسَّرقَةِ والخيانة لِأنَّها أكبر من ذَلِك وأجلّ والنَّفس المهينة الحقيرة والخسيسة بالضد من ذَلِك فَكل نفس تميل إلى ما يُناسِبها ويشاكلها وهَذا معنى قَوْله تَعالى ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِه﴾
أي على ما يشاكله ويناسبه فَهو يعْمل على طَرِيقَته الَّتِي تناسب أخلاقه وطبيعته وكل إنْسان يجْرِي على طَرِيقَته ومذهبه وعادته الَّتِي ألفها وجبل عَلَيْها فالفاجر يعْمل بِما يشبه طَرِيقَته من مُقابلَة النعم بِالمَعاصِي والإعراض عَن النعم والمُؤمن يعْمل بِما يشاكله من شكر النعم ومحبته والثناء عَلَيْهِ والتودد إلَيْهِ والحياء مِنهُ والمراقبة لَهُ وتعظيمه وإجلاله.
* (لطيفة)
علمت كلبك فَهو يتْرك شَهْوَته في تناول ما صاده احتراما لنعمتك، وخوفا من سطوتك.
وَكم علمك معلم الشَّرْع وأنت لا تقبل.
حرم صيد الجاهِل والممسك لنَفسِهِ فَما ظن الجاهِل الَّذِي أعماله لهوى نَفسه؟
جمع فِيك عقل الملَك، وشهوة البَهِيمَة، وهوى الشَّيْطان.
وَأنت للْغالِب عَلَيْك من الثَّلاثَة.
إن غلبت شهوتك وهواك زِدْت على مرتبَة ملك.
وَإن غلبك هَواك وشهوتك نقصت عَن مرتبَة كلب.
لما صاد الكَلْب لرَبه أُبِيح صَيْده.
وَلما أمسك على نَفسه حرم ما صاده.
* (فصل لَذَّة كل أحد على حسب قدره وهمّته وشرف نَفسه)
فَأشْرَف النّاس نفسا وأعْلاهم همّة وأرفعهم قدرا من لذّته في معرفَة الله ومحبته والشوق إلى لِقائِه والتودد إلَيْهِ بِما يُحِبهُ ويرضاه، فلذته في إقباله عَلَيْهِ وعكوف همته عَلَيْهِ ودون ذَلِك مَراتِب لا يحصيها إلّا الله حَتّى تَنْتَهِي إلى من لذته في أخس الأشْياء من القاذورات والفَواحِش في كل شَيْء من الكَلام والفعال والأشغال فَلَو عرضت عَلَيْهِ ما يلتذ بِهِ الأول لم تسمح نَفسه بقبوله ولا الِالتِفات إلَيْهِ ورُبما تألمت من ذَلِك كَما أن الأول إذا عرض عَلَيْهِ ما يلتذ بِهِ هَذا لم تسمح نَفسه بِهِ ولم تلْتَفت إلَيْهِ ونفرت نَفسه مِنهُ وأكمل النّاس لَذَّة من جمع لَهُ بَين لَذَّة القلب والروح ولَذَّة البدن فَهو يتَناوَل لذاته المُباحَة على وجه لا ينقص حَظه من الدّار والآخِرَة ولا يقطع عَلَيْهِ لَذَّة المعرفَة والمحبة والأنس بربه فَهَذا مِمَّن قالَ تَعالى فِيهِ قُلْ مَن حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أخْرَجَ لِعِبادِهِ والطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قل هَل هي لِلَّذِينَ آمَنُوا في الحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ القِيامَةِ وأبخسهم حظا من اللَّذَّة من تناولها على وجه يحول بَينه وبَين لذات الآخِرَة فَيكون مِمَّن يُقال لَهُم يَوْم اسْتِيفاء اللَّذّات أذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكم في حَياتِكُمُ الدُّنْيا واسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَهَؤُلاءِ تمَتَّعُوا بالطيبات وأُولَئِكَ تمَتَّعُوا بالطيبات وافترقوا في وجه التَّمَتُّع فَأُولَئِك تمَتَّعُوا بها على الوَجْه الَّذِي أذن لَهُم فِيهِ فَجمع لَهُم بَين لَذَّة الدُّنْيا والآخِرَة وهَؤُلاء تمَتَّعُوا بها على الوَجْه الَّذِي دعاهم إلَيْهِ الهوى والشهوة وسَواء أذن لَهُم فِيهِ أم لا فانْقَطَعت عَنْهُم لَذَّة الدُّنْيا وفاتتهم لَذَّة الآخِرَة فَلا لَذَّة الدُّنْيا دامَت لَهُم ولا لَذَّة الآخِرَة حصلت لَهُم فَمن أحب اللَّذَّة ودوامها والعيش الطيّب فليجعل لَذَّة الدُّنْيا موصلا لَهُ إلى لَذَّة الآخر بِأن يَسْتَعِين بها على فراغ قلبه لله وإرادته وعبادته فيتناولها بِحكم الِاسْتِعانَة والقُوَّة على طلبه لا بِحكم مُجَرّد الشَّهْوَة والهوى وإن كانَ مِمَّن زويت عَنهُ لذات الدُّنْيا وطيباتها فليجعل ما نقص مِنها زِيادَة في لَذَّة الآخِرَة ويجم نَفسه هاهُنا بِالتّرْكِ ليستوفيها كامِلَة هُناكَ فطيبات الدُّنْيا ولذاتها نعم العون لمن صَحَّ طلبه لله والدّار الآخِرَة وكانَت همه لما هُناكَ وبئسَ القاطِع لمن كانَت هي مَقْصُوده وهمته وحولها يدندن وفواتها في الدُّنْيا نعم العون لطالب الله والدّار الآخِرَة وبئسَ القاطِع النازع من الله والدّار الآخِرَة فَمن أخذ مَنافِع الدُّنْيا على وجه لا ينقص حَظه من الآخِرَة ظفر بهما جَمِيعًا وإلّا خسرهما جَمِيعًا.
سُبْحانَ الله رب العالمين لَو لم يكن في ترك الذُّنُوب والمعاصي إلّا إقامَة المُرُوءَة وصون العرض وحفظ الجاه وصيانة المال الَّذِي جعله الله قواما لمصالح الدُّنْيا والآخِرَة ومحبة الخلق وجوار القَوْل بَينهم وصَلاح المعاش وراحة البدن وقُوَّة القلب وطيب النَّفس ونعيم القلب وانشراح الصَّدْر والأمن من مخاوف الفُسّاق والفجار وقلة الهم والغَم والحزن وعز النَّفس عَن احْتِمال الذل وصون نور القلب أن تطفئه ظلمَة المعْصِيَة وحُصُول المخْرج لَهُ مِمّا ضاقَ على الفُسّاق والفجار وتيسر الرزق عَلَيْهِ من حَيْثُ لا يحْتَسب وتيسير ما عسر على أرْباب الفسوق والمعاصي وتسهيل الطّاعات عَلَيْهِ وتيسير العلم والثناء الحسن في النّاس وكَثْرَة الدُّعاء لَهُ والحلاوة الَّتِي يكتسبها وجهه المهابة الَّتِي تلقى لَهُ في قُلُوب النّاس وانتصارهم وحميتهم لَهُ إذا أوذي وظلم وذبهم عَن عرضه إذا اغتابه مغتاب وسُرْعَة إجابَة دُعائِهِ وزَوال الوحشة الَّتِي بَينه وبَين الله وقرب المَلائِكَة مِنهُ وبعد شياطين الإنْس والجِنّ مِنهُ وتنافس النّاس على خدمته وقَضاء حَوائِجه وخطبتهم لمودته وصحبته وعدم خَوفه من المَوْت بل يفرح بِهِ لقدومه على ربه ولقائه لَهُ ومصيره إلَيْهِ وصغر الدُّنْيا في قلبه وكبر الآخِرَة عِنْده وحرصه على الملك الكَبِير والفوز العَظِيم فِيها وذوق حلاوة الطّاعَة ووجد حلاوة الإيمان ودُعاء حَملَة العَرْش ومن حوله من المَلائِكَة لَهُ وفَرح الكاتِبين بِهِ ودعائهم لَهُ كل وقت والزِّيادَة في عقله وفهمه وإيمانه ومعرفته وحُصُول محبَّة الله لَهُ وإقباله عَلَيْهِ وفرحه بتويته وهَكَذا يجازيه بفرح وسرور لا نِسْبَة لَهُ إلى فرحه وسروره بالمعصية بِوَجْه من الوُجُوه
فَهَذِهِ بعض آثار ترك المعاصِي في الدُّنْيا فَإذا ماتَ تَلَقَّتْهُ المَلائِكَة بالبشرى من ربه بِالجنَّةِ وبِأنَّهُ لا خوف عَلَيْهِ ولا حزن وينتقل من سجن الدُّنْيا وضيقها إلى رَوْضَة من رياض الجنَّة ينعم فِيها إلى يَوْم القِيامَة فَإذا كانَ يَوْم القِيامَة كانَ النّاس في الحر والعرق وهو في ظلّ العَرْش فَإذا انصرفوا من بَين يَدي الله أخذ بِهِ ذات اليَمين مَعَ أوليائه المُتَّقِينَ وحزبه المفلحين وذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ واللَّهُ ذُو فضل عَظِيم.
* [فَصْلٌ تَعْرِيفُ الإرادَةِ]
قالَ صاحِبُ " المَنازِلِ " رَحِمَهُ اللَّهُ:
بابُ الإرادَةِ: قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ﴾ [الإسراء: ٨٤].
فِي تَصْدِيرِهِ البابَ بِهَذِهِ الآيَةِ دَلالَةٌ عَلى عِظَمِ قَدْرِهِ. وجَلالَةِ مَحِلِّهِ مِن هَذا العِلْمِ. فَإنَّ مَعْنى الآيَةِ: كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى كُلِّ ما يُشاكِلُهُ، ويُناسِبُهُ، ويَلِيقُ بِهِ. فالفاجِرُ يَعْمَلُ عَلى ما يَلِيقُ بِهِ. وكَذَلِكَ الكافِرُ والمُنافِقُ، ومُرِيدُ الدُّنْيا وجِيفَتِها عامِلٌ عَلى ما يُناسِبُهُ، ولا يَلِيقُ بِهِ سِواهُ. ومُحِبُّ الصُّوَرِ: عامِلٌ عَلى ما يُناسِبُهُ ويَلِيقُ بِهِ.
فَكُلُّ امْرِئٍ يَهْفُو إلى ما يُحِبُّهُ وكُلُّ امْرِئٍ يَصْبُو إلى ما يُناسِبُهُ فالمُرِيدُ الصّادِقُ المُحِبُّ لِلَّهِ: يَعْمَلُ ما هو اللّائِقُ بِهِ والمُناسِبُ لَهُ. فَهو يَعْمَلُ عَلى شاكِلَةِ إرادَتِهِ. وما هو الألْيَقُ بِهِ، والأنْسَبُ لَها.
قالَ: الإرادَةُ مِن قَوانِينِ هَذا العِلْمِ، وجَوامِعِ أبْنِيَتِهِ. وهي الإجابَةُ لِدَواعِي الحَقِيقَةِ، طَوْعًا أوْ كَرْهًا.
يُرِيدُ: أنَّ هَذا العِلْمَ مَبْنِيٌّ عَلى الإرادَةِ. فَهي أساسُهُ، ومَجْمَعُ بِنائِهِ. وهو مُشْتَمِلٌ عَلى تَفاصِيلِ أحْكامِ الإرادَةِ. وهي حَرَكَةُ القَلْبِ. ولِهَذا سُمِّيَ عِلْمَ الباطِنِ كَما أنَّ عِلْمَ الفِقْهِ يَشْتَمِلُ عَلى تَفاصِيلِ أحْكامِ الجَوارِحِ. ولِهَذا سَمَّوْهُ عِلْمَ الظّاهِرِ
فَهاتانِ حَرَكَتانِ اخْتِيارِيَّتانِ. ولِلْعَبْدِ حَرَكَةٌ طَبِيعِيَّةٌ اضْطِرارِيَّةٌ. فالعِلْمُ المُشْتَمِلُ عَلى تَفاصِيلِها، وأحْكامِها: هو عِلْمُ الطِّبِّ. فَهَذِهِ العُلُومُ الثَّلاثَةُ: هي الكَفِيلَةُ بِمَعْرِفَةِ حَرَكاتِ النَّفْسِ والقَلْبِ. وحَرَكاتِ اللِّسانِ والجَوارِحِ، وحَرَكاتِ الطَّبِيعَةِ.
فالطَّبِيبُ: يَنْظُرُ في تِلْكَ الحَرَكاتِ مِن جِهَةِ تَأثُّرِ البَدَنِ عَنْها صِحَّةً واعْتِلالًا، وفي لَوازِمِ ذَلِكَ ومُتَعَلِّقاتِهِ.
والفَقِيهُ: يَنْظُرُ في تِلْكَ الحَرَكاتِ مِن جِهَةِ مُوافَقَتِها لِأمْرِ الشَّرْعِ، ونَهْيِهِ وإذْنِهِ، وكَراهَتِهِ، ومُتَعَلِّقاتِ ذَلِكَ.
والصُّوفِيُّ: يَنْظُرُ في تِلْكَ الحَرَكاتِ مِن جِهَةِ كَوْنِها مُوَصِّلَةً لَهُ إلى مُرادِهِ. أوْ قاطِعَةً عَنْهُ، ومُفْسِدَةً لِقَلْبِهِ، أوْ مُصَحِّحَةً لَهُ.
وَأمّا قَوْلُهُ: وهي الإجابَةُ لِداعِي الحَقِيقِيَّةِ
فالإجابَةُ هي الِانْقِيادُ، والإذْعانُ. والحَقِيقَةُ عِنْدَهُمْ: مُشاهَدَةُ الرُّبُوبِيَّةِ. والشَّرِيعَةُ التِزامُ العُبُودِيَّةِ.
فالشَّرِيعَةُ: أنْ تَعْبُدَه. والحَقِيقَةُ: أنْ تَشَهَدُهُ.
فالشَّرِيعَةُ: قِيامُكَ بِأمْرِهِ. والحَقِيقَةُ: شُهُودُكَ لِوَصْفِهِ. وداعِي الحَقِيقَةِ: هو صِحَّةُ المَعْرِفَةِ. فَإنَّ مَن عَرَفَ اللَّهَ أحَبَّهُ ولا بُدَّ.
وَلا بُدَّ في هَذِهِ الإجابَةِ مِن ثَلاثَةِ أشْياءَ: نَفْسٌ مُسْتَعِدَّةٌ قابِلَةٌ. لا تُعْوِزُ إلّا الدّاعِيَ. ودَعْوَةٌ مُسْتَمَعَةٌ، وتَخْلِيَةُ الطَّرِيقِ مِنَ المانِعِ.
فَما انْقَطَعَ مَنِ انْقَطَعَ إلّا مِن جِهَةٍ مِن هَذِهِ الجِهاتِ الثَّلاثِ.
وَقَوْلُهُ: طَوْعًا أوْ كَرْهًا يُشِيرُ إلى المَجْذُوبِ، المُخْتَطَفِ مِن نَفْسِهِ، والسّالِكِ إرادَةً واخْتِيارًا ومُجاهَدَةً.
* (فائدة)
من الناس من يكون سيد عمله وطريقه الذي يعد سلوكه إلى الله طريق العلم والتعليم، قد وفر عليه زمانه مبتغيًا به وجه الله فلا يزال كذلك عاكفًا على طريق العلم والتعليم حتى يصل من تلك الطريق إلى الله ويفتح له فيها الفتح الخاص أو يموت في طريق طلبه فيرجى له الوصول إلى مطلبه بعد مماته.
قال تعالى: ﴿وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهاجِرًا إلى الله ورَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وقَعَ أجْرُهُ على الله﴾ [النساء: ١٠٠].
وقد حكي عن جماعة كثيرة ممن أدركه الأجل وهو حريص طالب للقرآن أنه رؤي بعد موته وأخبره أنه في تكميل مطلوبه وأنه يتعلم في البرزخ، فإن العبد يموت على ما عاش عليه.
ومن الناس من يكون سيد عمله الذكر وقد جعله زاده لمعاده ورأْس ماله لمآله، فمتى فتر عنه أو قصر رأى أنه قد غبن وخسر، ومن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الصلاة، فمتى قصر في ورده منها أو مضى عليه وقت وهو غير مشغول بها أو مستعد لها أظلم عليه وقته وضاق صدره.
ومن الناس من يكون طريقه الإحسان والنفع المتعدى، كقضاءِ الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وأنواع الصدقات، قد فتح له في هذا وسلك منه طريقًا إلى ربه. ومن الناس من يكون طريقه تلاوة القرآن وهي الغالب على أوقاته وهي أعظم أورداه. ومن الناس من يكون طريقه الصوم، فهو متى أفطر تغير عليه قلبه وساءَت حاله.
ومنهم يكون طريقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد فتح الله له فيه ونفذ منه إلى ربه، ومنهم من يكون طريقه الذي نفذ فيه الحج والاعتمار. ومنهم من يكون طريقه قطع العلائق وتجريد الهمة ودوام المراقبة ومراعاة الخواطر وحفظ الأوقات أن تذهب ضائعة.
ومنهم من جامع المنفذ السالك إلى الله في كل واد الواصل إليه من كل طريق، فهو جعل وظائف عبوديته قبلة قلبه ونصب عينه يؤمها أين كانت ويسير معها حيث سارت قد ضرب من كل فريق بسهم، فأين كانت العبودية وجدته هناك: إن كان علم وجدته مع أهله، أو جهاد وجدته في صف المجاهدين، أو صلاة وجدته في القانتين، أو ذكر وجدته في الذاكرين، أو إحسان ونفع وجدته في زمرة المحسنين، أو ومراقبة ومحبه وإنابة إلى الله وجدته في زمرة المحبين المنيبين، يدين بدين العبودية أنّى استقلت ركائبها، ويتوجه إليها حيث استقرت مضاربها، لو قيل له: ما تريد من الأعمال؟ لقال: أريد أن أنفذ أوامر ربي حيث كانت وأين كانت، جالبة ما جلبت مقتضية ما اقتضت جمعيتين أو فرقتين أو فرقتني، ليس لي مراد إلا تنفيذها والقيام بأدائها مراقبًا له فيها عاكفًا عليه بالروح والقلب والبدن والسر، قد سلمت إليه المبيع منتظرًا منه تسليم الثمن: ﴿إنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ المُؤْمِنِينَ أنْفُسَهم وأمْوالَهم بِأنَّ لَهُمُ الجَنَّة﴾ [التوبة: ١١١]، فهذا هو العبد السالك إلى ربه النافذ إليه حقيقة.
ومعنى النفوذ إليه أن يتصل به قلبه ويعلق به تعلق المحب التام المحبه بمحبوبه فيسلو به عن جميع
المطالب سواه، فلا يبقى في قلبه إلا محبة الله وأمره وطلب التقريب إليه.
فإذا سلك العبد على هذا الطريق عطف عليه ربه فقربه واصطفاه وأخذ بقلبه إليه وتولاه في جميع أموره في معاشه ودينه وتولى تربيته أحسن وأبلغ مما يربي الوالد الشفيق ولده، فإنه سبحانه القيوم المقيم لكل شيء من المخلوقات طائعها وعاصيها، فكيف تكون قيوميته بمن أحبه وتولاه وآثره على ما سواه، ورضي به من الناس حبيبًا وربًا، ووكيلًا وناصرًا ومعينًا وهاديًا، فلو كشف الغطاءَ عن ألطافه وبره وصنعه له من حيث يعلم ومن حيث لا يعلم لذاب قلبه حبا ًله وشوقًا إليه ويقع شكرًا له، ولكن حجب القلوب عن مشاهدة ذلك إخلادها إلى عالم الشهوات والتعلق بالأسباب، فصدت عن كمال نعيمها، وذلك تقدير العزيز العليم.
وإلا فأي قلب يذوق حلاوة معرفة الله ومحبته ثم يركن إلى غيره ويسكن إلى ما سواه؟
هذا ما لا يكون أبدًا، ومن ذاق شيئًا من ذلك وعرف طريقًا موصلة إلى الله ثم تركها وأقبل على إرادته وراحاته وشهواته ولذاته وقع في آثار المعاطب وأودع قلبه سجون المضايق وعذب في حياته عذابًا لم يعذبه أحد من العالمين، فحياته عجز وغم وحزن، وموته كدر وحسرة، ومعاده أسف وندامة، قد فرط عليه أمره وشتت عليه شمله، وأحضرت نفسه الغموم والأحزان، فلا لذة الجاهلين ولا راحة العارفين، يستغيث فلا يغاث ويشتكي فلا يشكى، فقد ترحلت أفراحه وسروره مدبرة وأقبلت آلامه، وأحزانه وحسراته مقبلة، فقد أُبدل بأُنسه وحشه وبعزه ذلًا وبغناه فقرًا وبجمعيته تشتيتًا، وأبعدوه فلم يظفر بقربهم، وأبدلوه مكان الأنس إيحاشًا، ذلك بأنه عرف طريقه إلى الله ثم تركها وناكبًا عنها مكبًا على وجهه، فأبصر ثم عمي، وعرف ثم أنكر، وأقبل ثم أدبر ودعى فما أجاب، وفتح له فولى ظهره الباب، قد ترك طريق مولاه وأقبل بكليته على هواه، فلو نال بعض حظوظه وتلذذ براحاته وشئونه فهو مقيد القلب عن انطلاقه في فسيح التوحيد وميادين الأُنس ورياض المحبة وموائد القرب، قد انحط بسبب إعراضه عن إلهه الحق إلى أسفل السافلين، وحصل في عداد الهالكين فنار الحجاب تطلع كل وقت على فؤاده، وإعراض الكون عنه - إذ أعرض عن ربه - حائل بينه وبين مراده، فهو قبر يمشي على وجه الأرض فروحه في وحشة من جسمه وقلبه في ملال من حياته، يتمنى الموت ويشتهيه ولو كان فيه ما فيه، حتى إذا جاءه الموت على تلك الحال والعياذ بالله فلا تسأل عما يحل به من العذاب الأليم بسب وقوع الحجاب بينه وبين مولاه الحق وإحداقه بنار البعد عن قربه والإعراض عنه وقد حيل بينه وبين سعادته وأمنيته.
فلو توهم العبد المسكين هذه الحال وصورتها له نفسه وأرته إياها على حقيقتها لتقطع والله قلبه ولم يلتذ بطعام ولا شراب، ولخرج إلى الصعدات يجأر إلى الله ويستغيث به ويستعتبه في زمن الاستعتاب، هذا مع أنه إذا آثر شهواته ولذاته الفانية التي كخيال طيف أو مزنة صيف نغصت عليه لذاتها أحوج ما كان إليها، وحيل بينه وبينها أقدر ما كان عليه، وتلك سنة الله في خلقه كما قال تعالى: ﴿حَتّى إذا أخَذَتِ الأرْضِ زُخْرُفَها وازَّيَّنَتْ وظَنَّ أهْلُها أنَّهم قادِرُونَ عَلَيْها أتاها أمرُنا لَيْلًا أوْ نَهارًا فَجَعَلْناها حَصِيدًا كَأنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ، كَذَلِكَ نُفصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾.
{"ayah":"قُلۡ كُلࣱّ یَعۡمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِۦ فَرَبُّكُمۡ أَعۡلَمُ بِمَنۡ هُوَ أَهۡدَىٰ سَبِیلࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق