الباحث القرآني
قد مدح الله سبحانه وتعالى الفراسة وأهلها في مواضع من كتابه. هذا منها.
والمتوسمون: هم المتفرسون الذين يأخذون بالسيماء، وهي العلامة.
يقال: توسمت فيك كذا، أي تفرسته، كأنها أخذت من السيماء، وهي فعلاء من السمة، وهي العلامة.
وقال تعالى: ﴿وَلَوْ نَشاءُ لَأرَيْناكَهم فَلَعَرَفْتَهم بِسِيماهُمْ﴾ وقال تعالى: ﴿يَحْسَبُهُمُ الجاهِلُ أغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهم بِسِيماهُمْ﴾
وفي الترمذي مرفوعا «اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله» «١» ثم قرأ إنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ.
وَكانَ أبُو الدَّرْداءِ يَقُولُ: إيّاكم وفِراسَةَ العُلَماءِ، احْذَرُوا أنْ يَشْهَدُوا عَلَيْكم شَهادَةً تَكُبُّكم عَلى وُجُوهِكم في النّارِ، فَواللَّهِ إنّهُ لَلْحَقُّ يَقْذِفُهُ اللَّهُ في قُلُوبِهِمْ.
قُلْت: وأصْلُ هَذا في التِّرْمِذِيِّ مَرْفُوعًا: «اتَّقُوا فِراسَةَ المُؤْمِنِ؛ فَإنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ، ثُمَّ قَرَأ ﴿إنَّ في ذَلِكَ لآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾ [الحجر: ٧٥]»
* [فصل: الفرق بين الفراسة، والظن]
والفرق بين الفراسة، والظن أن الظن يخطئ ويصيب وهو يكون مع ظلمة القلب ونوره وطهارته ونجاسته ولهذا أمر تعالى باجتناب كثير منه وأخبر أن بعضه إثم.
وأما الفراسة: فأثنى على أهلها مدحهم في قوله تعالى: ﴿إنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾
قال ابن عباس رضي اللّه عنهما وغيره أي للمتفرسين وقال تعالى: ﴿يَحْسَبُهُمُ الجاهِلُ أغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهم بِسِيماهُمْ﴾ وقال تعالى: ﴿ولَوْ نَشاءُ لَأرَيْناكَهم فَلَعَرَفْتَهم بِسِيماهم ولَتَعْرِفَنَّهم في لَحْنِ القَوْلِ﴾
فالفراسة الصادقة لقلب قد تطهر وتصفى وتنزه من الأدناس وقرب من اللّه فهو ينظر بنور اللّه الذي جعله في قلبه.
وفي الترمذي وغيره من حديث أبي سعيد قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللّه).
وهذه الفراسة نشأت له من قربه من اللّه فإن القلب إذا قرب من اللّه انقطعت عنه معارضات السوء المانعة من معرفة الحق وإدراكه وكان تلقيه من مشكاة قريبة من اللّه بحسب قربه منه وأضاء له النور بقدر قربه فرأى في ذلك النور ما لم يره البعيد والمحجوب، كما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فيما يروي عنه ربه عز وجل أنه: قال ما تقرب إلي عبدي بمثل ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي، فأخبر سبحانه أن تقرب عبده منه يفيده محبته له فإذا أحبه قرب من سمعه وبصره ويده ورجله فسمع به وأبصر به وبطش به ومشى به فصار قلبه كالمرآة الصافية تبدو فيها صور الحقائق على ما هي عليه فلا تكاد تخطئ له فراسة فإن العبد إذا أبصر باللّه أبصر الأمر على ما هو عليه، فإذا سمع باللّه سمع على ما هو عليه، وليس هذا من علم الغيب بل علّام الغيوب قذف الحق في قلب قريب مستبشر بنوره غير مشغول بنقوش الأباطيل والخيالات والوساوس التي تمنعه من حصول صور الحقائق فيه وإذا غلب على القلب النور فاض على الأركان وبادر من القلب إلى العين فكشف بعين بصره يحسب ذلك النور وقد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يرى أصحابه به في الصلاة وهم خلفه كما يراهم وهم أمامه، ورأى بيت المقدس عيانا وهو بمكة، ورأى قصور الشام، وأبواب صنعاء، ومدائن كسرى وهو بالمدينة يحفر الخندق، ورأى أمراءه بمؤتة وقد أصيبوا وهو بالمدينة، ورأى النجاشي بالحبشة لما مات وهو بالمدينة فخرج إلى المصلي فصلى عليه، ورأى عمر سارية بنهاوند من أرض فارس هو وعساكر المسلمين وهم يقاتلون عدوهم فناداه يا سارية الجبل، ودخل عليه نفر من مذحج فيهم الأشتر النخعي فصعد فيه البصر وصوبه وقال أيهم هذا؟
قال مالك بن الحارث فقال ما له قاتله اللّه إني لأرى للمسلمين منه يوما عصيبا.
ودخل عمرو بن عبيد على الحسن فقال هذا سيد الفتيان إن لم يحدث.
وقيل إن الشافعي ومحمد بن الحسن جلسا في المسجد الحرام فدخل رجل فقال محمد أتفرس أنه نجار، فقال الشافعي أتفرس أنه حداد، فسألاه فقال كنت حدادا وأنا اليوم أنجر، ودخل أبو الحسن البوسنجي والحسن الحداد على أبي القاسم المناوي يعودانه فاشتريا في طريقهما بنصف درهم تفاحا نسيئة فلما دخلا عليه قال ما هذه الظلمة؟ فخرجا وقالا ما علمنا لعل هذا من قبل ثمن التفاح فأعطيا القمن ثم عادا إليه وقع بصره عليهما فقال يمكن الإنسان أن يخرج من الظلمة بهذه السرعة؟
أخبراني عن شأنكما فأخبراه بالقصة فقال نعم كان كل واحد منكما يعتمد على صاحبه في إعطاء الثمن والرجل مستح منكما في التقاضي، وكان بين أبي زكريا النخشبي وبين امرأة سبب قبل توبته فكان يوما واقفا على رأس أبي عثمان الحيري فتفكر في شأنها فرفع أبو عثمان إليه رأسه وقال ألا يستحي، وكان شاه الكرماني جيد الفراسة لا تخطئ فراسته وكان يقول من غض بصره عن المحارم وأمسك نفسه عن الشهوات وعمر باطنه بدوام المراقبة وظاهره باتباع السنة وتعود أكل الخلال لم تخطئ فراسته.
وكان شاب يصحب الجنيد يتكلم على الخواطر فذكر للجنيد فقال إيش هذا الذي ذكر لي عنك؟ فقال له أعتقد شيئا، فقال له الجنيد اعتقدت فقال الشاب اعتقدت كذا وكذا فقال الجنيد لا، فقال فاعتقد ثانيا قال اعتقدت فقال الشاب اعتقدت كذا وكذا فقال الجنيد لا، قال فاعتقد ثالثا قال اعتقدت قال الشاب هو كذا وكذا قال لا، فقال الشاب هذا عجب وأنت صدوق، وأنا أعرف قلبي، فقال الجنيد صدقت في الأولى والثانية والثالثة لكن أردت أن أمتحنك هل يتغير قلبك؟
وقال أبو سعيد الخراز دخلت المسجد الحرام فدخل فقير عليه خرقتان يسأل شيئا فقلت في نفسي مثل هذا كَلٌّ على الناس، فنظر إليَّ وقال: ﴿اعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما في أنْفُسِكم فاحْذَرُوهُ﴾
قال فاستغفرت في سري فناداني وقال: ﴿وهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ﴾.
وقال إبراهيم الخواص كنت في الجامع فأقبل شاب طيب الرائحة حسن الوجه حسن الحرمة فقلت لأصحابنا يقع لي أنه يهودي! فكلهم كره ذلك فخرجت وخرج الشاب ثم رجع إليهم فقال: إيش قال الشيخ في؟
فاحتشموه فألح عليهم فقالوا قال إنك يهودي فجاء فأكب على يدي فأسلم فقلت ما السبب؟ فقال نجد في كتابنا أن الصديق لا تخطئ فراسته فقلت أمتحن المسلمين فتأملتهم.
فقلت: إن كان فيهم صديق ففي هذه الطائفة فلبست عليكم فلما اطلع هذا الشيخ علي وتفرسني علمت أنه صديق.
وهذا عثمان بن عفان دخل عليه رجل من الصحابة، وقد رأى امرأة في الطريق فتأمل محاسنها، فقال له عثمان: يدخل أحدكم وأثر الزنا ظاهر على عينيه فقلت: أوحى بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم؟
فقال لا ولكن تبصرة وبرهان وفراسة صادقة.
فهذا شأن الفراسة وهي نور يقذفه اللّه في القلب فيخطر له الشيء فيكون كما خطر له وينفذ إلى العين فيرى ما لا يراه غيرها.
* [فَصْلٌ في عَجائِب الفِراسَة]
وَمِن عَجِيبِ الفِراسَةِ ما ذُكِرَ عَنْ أحْمَدَ بْنِ طُولُونَ: أنَّهُ بَيْنَما هو في مَجْلِسٍ لَهُ يَتَنَزَّهُ فِيهِ، إذْ رَأى سائِلًا في ثَوْبٍ خَلِقٍ، فَوَضَعَ دَجاجَةً في رَغِيفٍ وحَلْوى وأمَرَ بَعْضَ الغِلْمانِ بِدَفْعِهِ إلَيْهِ، فَلَمّا وقَعَ في يَدِهِ لَمْ يَهَشَّ، ولَمْ يَعْبَأْ بِهِ، فَقالَ لِلْغُلامِ: جِئْنِي بِهِ، فَلَمّا وقَفَ قُدّامَهُ اسْتَنْطَقَهُ، فَأحْسَنَ الجَوابَ، ولَمْ يَضْطَرِبْ مِن هَيْبَتِهِ، فَقالَ: هاتِ الكُتُبَ الَّتِي مَعَك، واصْدُقْنِي مَن بَعَثَك، فَقَدْ صَحَّ عِنْدِي أنَّك صاحِبُ خَبَرٍ. وأحْضَرَ السِّياطَ، فاعْتَرَفَ، فَقالَ بَعْضُ جُلَسائِهِ: هَذا واللَّهِ السِّحْرُ، قالَ: ما هو بِسِحْرٍ، ولَكِنْ فِراسَةٌ صادِقَةٌ، رَأيْت سُوءَ حالِهِ، فَوَجَّهْت إلَيْهِ بِطَعامٍ يَشْرَهُ إلى أكْلِهِ الشَّبْعانُ، فَما هَشَّ لَهُ، ولا مَدَّ يَدَهُ إلَيْهِ، فَأحْضَرْته فَتَلَقّانِي بِقُوَّةِ جَأْشٍ، فَلَمّا رَأيْت رَثاثَةَ حالِهِ، وقُوَّةَ جَأْشِهِ، عَلِمْت أنَّهُ صاحِبُ خَبَرٍ، فَكانَ كَذَلِكَ.
وَرَأى يَوْمًا حَمّالًا يَحْمِلُ صِنًّا وهو يَضْطَرِبُ تَحْتَهُ، فَقالَ: لَوْ كانَ هَذا الِاضْطِرابُ مِن ثِقَلِ المَحْمُولِ لَغاصَتْ عُنُقُ الحَمّالِ، وأنا أرى عُنُقَهُ بارِزَةً، وما أرى هَذا الأمْرَ إلّا مِن خَوْفٍ، فَأمَرَ بِحَطِّ الصِّنِّ، فَإذا فِيهِ جارِيَةٌ قَدْ قُتِلَتْ وقُطِّعَتْ، فَقالَ: اصْدُقْنِي عَنْ حالِها، فَقالَ: أرْبَعَةُ نَفَرٍ في الدّارِ الفُلانِيَّةِ أعْطَوْنِي هَذِهِ الدَّنانِيرَ، وأمَرُونِي بِحَمْلِ هَذِهِ المَقْتُولَةِ. فَضَرَبَهُ وقَتَلَ الأرْبَعَةَ.
وَكانَ يَتَنَكَّرُ ويَطُوفُ بِالبَلَدِ يَسْمَعُ قِراءَةَ الأئِمَّةِ فَدَعا ثِقَتَهُ، وقالَ: خُذْ هَذِهِ الدَّنانِيرَ، وأعْطِها إمامَ مَسْجِدِ كَذا، فَإنَّهُ فَقِيرٌ مَشْغُولُ القَلْبِ.
فَفَعَلَ، وجَلَسَ مَعَهُ وباسَطَهُ، فَوَجَدَ زَوْجَتَهُ قَدْ ضَرَبَها الطَّلْقُ، ولَيْسَ مَعَهُ ما يَحْتاجُ إلَيْهِ فَقالَ: صَدَقَ، عَرَفْت شُغْلَ قَلْبِهِ في كَثْرَةِ غَلَطِهِ في القِراءَةِ ومِن ذَلِكَ: أنَّ اللُّصُوصَ أخَذُوا في زَمَنِ المُكْتَفِي مالًا عَظِيمًا، فَألْزَمَ المُكْتَفِي صاحِبَ الشُّرْطَةِ بِإخْراجِ اللُّصُوصِ.
، أوْ غَرامَةِ المالِ؛ فَكانَ يَرْكَبُ وحْدَهُ، ويَطُوفُ لَيْلًا ونَهارًا، إلى أنْ اجْتازَ يَوْمًا في زُقاقٍ خالٍ في بَعْضِ أطْرافِ البَلَدِ، فَدَخَلَهُ فَوَجَدَهُ مُنْكَرًا، ووَجَدَهُ لا يَنْفُذُ، فَرَأى عَلى بَعْضِ أبْوابِهِ شَوْكَ سَمَكٍ كَثِيرٍ، وعِظامَ الصُّلْبِ.
فَقالَ لِشَخْصٍ: كَمْ يَكُونُ تَقْدِيرُ ثَمَنِ هَذا السَّمَكِ الَّذِي هَذِهِ عِظامُهُ؟ قالَ: دِينارٌ، قالَ: أهْلُ الزُّقاقِ لا تَحْتَمِلُ أحْوالُهم مُشْتَرِيَ مِثْلِ هَذا، لِأنَّهُ زُقاقٌ بَيِّنُ الِاخْتِلالِ إلى جانِبِ الصَّحْراءِ، لا يَنْزِلُهُ مَن مَعَهُ شَيْءٌ يَخافُ عَلَيْهِ، أوْ لَهُ مالٌ يُنْفِقُ مِنهُ هَذِهِ النَّفَقَةَ، وما هي إلّا بَلِيَّةٌ، يَنْبَغِي أنْ يُكْشَفَ عَنْها، فاسْتَبْعَدَ الرَّجُلُ هَذا، وقالَ: هَذا فِكْرٌ بَعِيدٌ، فَقالَ: اطْلُبُوا لِي امْرَأةً مِن الدَّرْبِ أُكَلِّمُها.
فَدَقَّ بابًا غَيْرَ الَّذِي عَلَيْهِ الشَّوْكُ واسْتَسْقى ماءً، فَخَرَجَتْ عَجُوزٌ ضَعِيفَةٌ.
فَما زالَ يَطْلُبُ شَرْبَةً بَعْدَ شَرْبَةٍ، وهي تَسْقِيهِ، وهو في خِلالِ ذَلِكَ يَسْألُ عَنْ الدَّرْبِ وأهْلِهِ، وهي تُخْبِرُهُ غَيْرَ عارِفَةٍ بِعَواقِبِ ذَلِكَ، إلى أنْ قالَ لَها: وهَذِهِ الدّارُ مَن يَسْكُنُها؟ - وأوْمَأ إلى الَّتِي عَلَيْها عِظامُ السَّمَكِ - فَقالَتْ: فِيها خَمْسَةُ شَبابٍ أعْفارٍ، كَأنَّهم تُجّارٌ، وقَدْ نَزَلُوا مُنْذُ شَهْرٍ لا نَراهم نَهارًا إلّا في كُلِّ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، ونَرى الواحِدَ مِنهم يَخْرُجُ في الحاجَةِ ويَعُودُ سَرِيعًا، وهم في طُولِ النَّهارِ يَجْتَمِعُونَ فَيَأْكُلُونَ ويَشْرَبُونَ، ويَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ والنَّرْدِ، ولَهم صَبِيٌّ يَخْدُمُهُمْ، فَإذا كانَ اللَّيْلُ انْصَرَفُوا إلى دارٍ لَهم بِالكَرْخِ، ويَدَعُونَ الصَّبِيَّ في الدّارِ يَحْفَظُها.
فَإذا كانَ سَحَرًا جاءُوا ونَحْنُ نِيامٌ لا نَشْعُرُ بِهِمْ فَقالَتْ لِلرَّجُلِ: هَذِهِ صِفَةُ لُصُوصٍ أمْ لا؟ قالَ: بَلى، فَأنْفَذَ في الحالِ، فاسْتَدْعى عَشَرَةً مِن الشُّرَطِ، وأدْخَلَهم إلى أسْطِحَةِ الجِيرانِ، ودَقَّ هو البابَ، فَجاءَ الصَّبِيُّ فَفَتَحَ.
فَدَخَلَ الشُّرَطُ مَعَهُ، فَما فاتَهُ مِن القَوْمِ أحَدٌ فَكانُوا هم أصْحابُ الجِنايَةِ بِعَيْنِهِمْ ومِن ذَلِكَ: أنَّ بَعْضَ الوُلاةِ سَمِعَ في بَعْضِ لَيالِي الشِّتاءِ صَوْتًا بِدارٍ يَطْلُبُ ماءً بارِدًا، فَأمَرَ بِكَبْسِ الدّارِ، فَأخْرَجُوا رَجُلًا وامْرَأةً، فَقِيلَ لَهُ: مِن أيْنَ عَلِمْت؟ قالَ: الماءُ لا يُبَرَّدُ في الشِّتاءِ، إنّما ذَلِكَ عَلامَةٌ بَيْنَ هَذَيْنِ.
وَأحْضَرَ بَعْضُ الوُلاةِ شَخْصَيْنِ مُتَّهَمَيْنِ بِسَرِقَةٍ، فَأمَرَ أنْ يُؤْتى بِكُوزٍ مِن ماءٍ، فَأخَذَهُ بِيَدِهِ ثُمَّ ألْقاهُ عَمْدًا فانْكَسَرَ، فارْتاعَ أحَدُهُما، وثَبَتَ الآخَرُ فَلَمْ يَتَغَيَّرْ، فَقالَ لِلَّذِي انْزَعَجَ: اذْهَبْ، وقالَ لِلْآخَرِ: أحْضِرْ العُمْلَةَ.
فَقِيلَ لَهُ: ومِن أيْنَ عَرَفْت ذَلِكَ؟ فَقالَ: اللِّصُّ قَوِيُّ القَلْبِ لا يَنْزَعِجُ، والبَرِيءُ يَرى أنَّهُ لَوْ تَحَرَّكَتْ في البَيْتِ فَأْرَةٌ لَأزْعَجَتْهُ، ومَنَعَتْهُ مِن السَّرِقَةِ.
* [فَصْلٌ مَنزِلَةُ الفِراسَةِ]
وَمِن مَنازِلِ ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥] مَنزِلَةُ الفِراسَةِ.
قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾ [الحجر: ٧٥]
قالَ مُجاهِدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: المُتَفَرِّسِينَ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: لِلنّاظِرِينَ. وقالَ قَتادَةُ: لِلْمُعْتَبِرِينَ. وقالَ مُقاتِلٌ: لِلْمُتَفَكِّرِينَ.
وَلا تَنافِي بَيْنَ هَذِهِ الأقْوالِ، فَإنَّ النّاظِرَ مَتى نَظَرَ في آثارِ دِيارِ المُكَذِّبِينَ ومَنازِلِهِمْ، وما آلَ إلَيْهِ أمْرُهُمْ: أوْرَثَهُ فِراسَةً وعِبْرَةً وفِكْرَةً. وقالَ تَعالى في حَقِّ المُنافِقِينَ: ﴿وَلَوْ نَشاءُ لَأرَيْناكَهم فَلَعَرَفْتَهم بِسِيماهم ولَتَعْرِفَنَّهم في لَحْنِ القَوْلِ﴾ [محمد: ٣٠]. فالأوَّلُ: فِراسَةُ النَّظَرِ والعَيْنِ. والثّانِي: فِراسَةُ الأُذُنِ والسَّمْعِ.
وَسَمِعْتُ شَيْخَ الإسْلامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: عَلَّقَ مَعْرِفَتَهُ إيّاهم بِالنَّظَرِ عَلى المَشِيئَةِ، ولَمْ يُعَلِّقْ تَعْرِيفَهم بِلَحْنِ خِطابِهِمْ عَلى شَرْطٍ. بَلْ أخْبَرَ بِهِ خَبَرًا مُؤَكَّدًا بِالقَسَمِ. فَقالَ: ولَتَعْرِفَنَّهم في لَحْنِ القَوْلِ وهو تَعْرِيضُ الخِطابِ، وفَحْوى الكَلامِ ومَغْزاهُ.
واللَّحْنُ ضَرْبانِ: صَوابٌ وخَطَأٌ. فَلَحْنُ الصَّوابِ نَوْعانِ. أحَدُهُما: الفِطْنَةُ.
وَمِنهُ الحَدِيثَ «وَلَعَلَّ بَعْضَكم أنْ يَكُونَ ألْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِن بَعْضٍ».
والثّانِي: التَّعْرِيضُ والإشارَةُ. وهو قَرِيبٌ مِنَ الكِنايَةِ. ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ:
؎وَحَدِيثٌ ألَذُّهُ وهْوَ مِمّا ∗∗∗ يَشْتَهِي السّامِعُونَ يُوزَنُ وزْنًا
؎مَنطِقٌ صائِبٌ. وتَلْحَنُ أحْيا ∗∗∗ نًا وخَيْرُ الحَدِيثِ ما كانَ لَحْنًا
والثّالِثُ: فَسادُ المَنطِقِ في الإعْرابِ. وحَقِيقَتُهُ: تَغْيِيرُ الكَلامِ عَنْ وجْهِهِ: إمّا إلى خَطَأٍ، وإمّا إلى مَعْنًى خَفِيٍّ لَمْ يُوضَعْ لَهُ اللَّفْظُ.
والمَقْصُودُ: أنَّهُ سُبْحانَهُ أقْسَمَ عَلى مَعْرِفَتِهِمْ مِن لَحْنِ خِطابِهِمْ. فَإنَّ مَعْرِفَةَ المُتَكَلِّمِ وما في ضَمِيرِهِ مِن كَلامِهِ: أقْرَبُ مِن مَعْرِفَتِهِ بِسِيماهُ وما في وجْهِهِ. فَإنَّ دَلالَةَ الكَلامِ عَلى قَصْدِ قائِلِهِ وضَمِيرِهِ أظْهَرُ مِنَ السِّيماءِ المَرْئِيَّةِ. والفِراسَةُ تَتَعَلَّقُ بِالنَّوْعَيْنِ بِالنَّظَرِ والسَّماعِ. وفي التِّرْمِذِيِّ مِن حَدِيثِ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «اتَّقَوْا فِراسَةَ المُؤْمِنِ. فَإنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ. ثُمَّ تَلا قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾ [الحجر: ٧٥].»
* [فَصْلٌ أنْواعُ الفِراسَةِ]
والفِراسَةُ ثَلاثَةُ أنْواعٍ: إيمانِيَّةٌ. وهي المُتَكَلَّمُ فِيها في هَذِهِ المَنزِلَةِ.
وَسَبَبُها: نُورُ يَقْذِفُهُ اللَّهُ في قَلْبِ عَبْدِهِ. يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ، والحالِي والعاطِلِ، والصّادِقِ والكاذِبِ.
وَحَقِيقَتُها: أنَّها خاطِرٌ يَهْجُمُ عَلى القَلْبِ يَنْفِي ما يُضادُّهُ. يَثِبُ عَلى القَلْبِ كَوُثُوبِ الأسَدِ عَلى الفَرِيسَةِ. لَكِنَّ الفَرِيسَةَ فَعِيلَةٌ بِمَعْنى مُفَعُولَةٌ. وبِناءُ الفِراسَةِ كَبِناءِ الوِلايَةِ والإمارَةِ والسِّياسَةِ.
وَهَذِهِ الفِراسَةُ عَلى حَسَبِ قُوَّةِ الإيمانِ. فَمَن كانَ أقْوى إيمانًا فَهو أحَدُّ فِراسَةً.
قالَ أبُو سَعِيدٍ الخَرّازُ: مَن نَظَرَ بِنُورِ الفِراسَةِ نَظَرَ بِنُورِ الحَقِّ، وتَكُونُ مَوادُّ عِلْمِهِ مَعَ الحَقِّ بِلا سَهْوٍ ولا غَفْلَةٍ. بَلْ حُكْمُ حَقٍّ جَرى عَلى لِسانِ عَبْدِهِ.
وَقالَ الواسِطِيُّ: الفِراسَةُ شَعاشِعُ أنْوارٍ لَمَعَتْ في القُلُوبِ، وتَمَكُّنُ مُعْرِفَةِ جُمْلَةِ السَّرائِرِ في الغُيُوبِ مَن غَيْبٍ إلى غَيْبٍ، حَتّى يَشْهَدَ الأشْياءَ مِن حَيْثُ أشْهَدَهُ الحَقُّ إيّاها، فَيَتَكَلَّمَ عَنْ ضَمِيرِ الخَلْقِ.
وَقالَ الدّارانِيُّ: الفِراسَةُ مُكاشَفَةُ النَّفْسِ ومُعايَنَةُ الغَيْبِ، وهي مِن مَقاماتِ الإيمانِ.
وَسُئِلَ بَعْضُهم عَنِ الفِراسَةِ؟ فَقالَ: أرْواحٌ تَتَقَلَّبُ في المَلَكُوتِ. فَتُشْرِفُ عَلى مَعانِي الغُيُوبِ. فَتَنْطِقُ عَنْ أسْرارِ الخَلْقِ، نُطْقَ مُشاهَدَةٍ لا نُطْقَ ظَنٍّ وحُسْبانٍ.
وَقالَ عَمْرُو بْنُ نُجِيدٍ: كانَ شاهُ الكِرْمانِيُّ حادَّ الفِراسَةِ لا يُخْطِئُ. ويَقُولُ: مَن غَضَّ بَصَرَهُ عَنِ المَحارِمِ، وأمْسَكَ نَفْسَهُ عَنِ الشَّهَواتِ، وعَمَّرَ باطِنَهُ بِالمُراقَبَةِ وظاهِرَهُ بِاتِّباعِ السُّنَّةِ، وتَعَوَّدَ أكْلَ الحَلالِ: لَمْ تُخْطِئْ فِراسَتُهُ.
وَقالَ أبُو جَعْفَرٍ الحَدّادُ: الفِراسَةُ أوَّلُ خاطِرٍ بِلا مُعارِضٍ، فَإنْ عارَضَهُ مُعارِضٌ آخَرُ مِن جِنْسِهِ. فَهو خاطِرٌ وحَدِيثُ نَفْسٍ.
وَقالَ أبُو حَفْصٍ النَّيْسابُورِيُّ: لَيْسَ لِأحَدٍ أنْ يَدَّعِيَ الفِراسَةَ. ولَكِنْ يَتَّقِي الفِراسَةَ مِنَ الغَيْرِ. لِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «اتَّقَوْا فِراسَةَ المُؤْمِنِ. فَإنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ». ولَمْ يَقُلْ: تَفَرَّسُوا. وكَيْفَ يَصِحُّ دَعْوى الفِراسَةِ لِمَن هو في مَحَلِّ اتِّقاءِ الفِراسَةِ؟
وَقالَ أحْمَدُ بْنُ عاصِمٍ الأنْطاكِيُّ: إذا جالَسْتُمْ أهْلَ الصِّدْقِ فَجالِسُوهم بِالصِّدْقِ. فَإنَّهم جَواسِيسُ القُلُوبِ، يَدْخُلُونَ في قُلُوبِكم ويَخْرُجُونَ مِن حَيْثُ لا تَحْتَسِبُونَ.
وَكانَ الجُنَيْدُ يَوْمًا يَتَكَلَّمُ عَلى النّاسِ. فَوَقَفَ عَلَيْهِ شابٌّ نَصْرانِيٌّ مُتَنَكِّرًا. فَقالَ: أيُّها الشَّيْخُ ما مَعْنى قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ «اتَّقَوْا فِراسَةَ المُؤْمِنِ فَإنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ» فَأطْرَقَ الجُنَيْدُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إلَيْهِ. وقالَ: أسْلِمْ. فَقَدْ حانَ وقْتُ إسْلامِكَ. فَأسْلَمَ الغُلامُ.
وَيُقالُ في بَعْضِ الكُتُبِ القَدِيمَةِ: إنَّ الصِّدِّيقَ لا تُخْطِئُ فِراسَتُهُ.
وَقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أفْرَسُ النّاسِ ثَلاثَةٌ: العَزِيزُ في يُوسُفَ، حَيْثُ قالَ لِامْرَأتِهِ: ﴿أكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أنْ يَنْفَعَنا أوْ نَتَّخِذَهُ ولَدًا﴾ [يوسف: ٢١]. وابْنَةُ شُعَيْبٍ حِينَ قالَتْ لِأبِيها في مُوسى: اسْتَأْجِرْهُ وأبُو بَكْرٍ في عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، حَيْثُ اسْتَخْلَفَهُ. وفي رِوايَةٍ أُخْرى: وامْرَأةُ فِرْعَوْنَ حِينَ قالَتْ: ﴿قُرَّةُ عَيْنٍ لِي ولَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أنْ يَنْفَعَنا أوْ نَتَّخِذَهُ ولَدًا﴾ [القصص: ٩].
وَكانَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أعْظَمَ الأُمَّةِ فِراسَةً. وبَعْدَهُ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. ووَقائِعُ فِراسَتِهِ مَشْهُورَةٌ. فَإنَّهُ ما قالَ لِشَيْءٍ أظُنُّهُ كَذا إلّا كانَ كَما قالَ. ويَكْفِي في فِراسَتِهِ: مُوافَقَتُهُ رَبَّهُ في المَواضِعِ المَعْرُوفَةِ.
وَمَرَّ بِهِ سَوّادُ بْنُ قارِبٍ، ولَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهُ. فَقالَ: لَقَدْ أخْطَأ ظَنِّي، أوْ أنَّ هَذا كاهِنٌ، أوْ كانَ يَعْرِفُ الكِهانَةَ في الجاهِلِيَّةِ. فَلَمّا جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ قالَ لَهُ ذَلِكَ عُمَرُ. فَقالَ: سُبْحانَ اللَّهِ، يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ، ما اسْتَقْبَلْتَ أحَدًا مِن جُلَسائِكَ بِمِثْلِ ما اسْتَقْبَلْتَنِي بِهِ. فَقالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ما كُنّا عَلَيْهِ في الجاهِلِيَّةِ أعْظَمُ مِن ذَلِكَ. ولَكِنْ أخْبِرْنِي عَمّا سَألْتُكَ عَنْهُ. فَقالَ: صَدَقْتَ يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ. كُنْتُ كاهِنًا في الجاهِلِيَّةِ. ثُمَّ ذَكَرَ القِصَّةَ.
وَكَذَلِكَ عُثْمانُ بْنُ عَفّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صادِقُ الفِراسَةِ. وقالَ أنَسُ بْنُ مالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: دَخَلْتُ عَلى عُثْمانَ بْنِ عَفّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وكُنْتُ رَأيْتُ امْرَأةً في الطَّرِيقِ تَأمَّلْتُ مَحاسِنَها. فَقالَ عُثْمانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَدْخُلُ عَلَيَّ أحَدُكم وأثَرُ الزِّنا ظاهِرٌ في عَيْنَيْهِ. فَقُلْتُ: أوَحْيٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؟ فَقالَ: ولَكِنْ تَبْصِرَةٌ وبُرْهانٌ وفِراسَةٌ صادِقَةٌ.
وَفِراسَةُ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أصْدَقُ الفِراسَةِ.
وَأصْلُ هَذا النَّوْعِ مِنَ الفِراسَةِ: مِنَ الحَياةِ والنُّورِ اللَّذَيْنِ يَهَبُهُما اللَّهُ تَعالى لِمَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ، فَيَحْيا القَلْبُ بِذَلِكَ ويَسْتَنِيرُ، فَلا تَكادُ فِراسَتُهُ تُخْطِئُ. قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿أوَمَن كانَ مَيْتًا فَأحْيَيْناهُ وجَعَلْنا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ في النّاسِ كَمَن مَثَلُهُ في الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنها﴾ [الأنعام: ١٢٢] كانَ مَيْتًا بِالكُفْرِ والجَهْلِ، فَأحْياهُ اللَّهُ بِالإيمانِ والعِلْمِ. وجَعَلَ لَهُ بِالقُرْآنِ والإيمانِ نُورًا يَسْتَضِيءُ بِهِ في النّاسِ عَلى قَصْدِ السَّبِيلِ. ويَمْشِي بِهِ في الظُّلَمِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
* [فَصْلٌ: الثّانِيَةُ فِراسَةُ الرِّياضَةِ والجُوعِ]
الفِراسَةُ الثّانِيَةُ: فِراسَةُ الرِّياضَةِ والجُوعِ، والسَّهَرِ والتَّخَلِّي. فَإنَّ النَّفْسَ إذا تَجَرَّدَتْ عَنِ العَوائِقِ صارَ لَها مِنَ الفِراسَةِ والكَشْفِ بِحَسَبِ تَجَرُّدِها. وهَذِهِ فِراسَةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ المُؤْمِنِ والكافِرِ. ولا تَدُلُّ عَلى إيمانٍ ولا عَلى وِلايَةٍ. وكَثِيرٌ مِنَ الجُهّالِ يَغْتَرُّ بِها. ولِلرُّهْبانِ فِيها وقائِعُ مَعْلُومَةٌ. وهي فِراسَةٌ لا تَكْشِفُ عَنْ حَقٍّ نافِعٍ. ولا عَنْ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ. بَلْ كَشْفُها جُزْئِيٌّ مِن جِنْسِ فِراسَةِ الوُلاةِ، وأصْحابِ عِبارَةِ الرُّؤْيا والأطِبّاءِ ونَحْوِهِمْ.
وَلِلْأطِبّاءِ فِراسَةٌ مَعْرُوفَةٌ مِن حِذْقِهِمْ في صِناعَتِهِمْ. ومَن أحَبَّ الوُقُوفَ عَلَيْها فَلْيُطالِعْ تارِيخَهم وأخْبارَهم. وقَرِيبٌ مِن نِصْفِ الطِّبِّ فِراسَةٌ صادِقَةٌ، يَقْتَرِنُ بِها تَجْرِبَةٌ. واللَّهُ سُبْحانَهُ أعْلَمُ.
* [فَصْلٌ الثّالِثَةُ الفِراسَةُ الخَلْقِيَّةُ]
* فَصْلٌ
الفِراسَةُ الثّالِثَةُ: الفِراسَةُ الخَلْقِيَّةُ. وهي الَّتِي صَنَّفَ فِيها الأطِبّاءُ وغَيْرُهم. واسْتَدَلُّوا بِالخَلْقِ عَلى الخُلُقِ لِما بَيْنَهُما مِن الِارْتِباطِ الَّذِي اقْتَضَتْهُ حِكْمَةُ اللَّهِ. كالِاسْتِدْلالِ بِصِغَرِ الرَّأْسِ الخارِجِ عَنِ العادَةِ عَلى صِغَرِ العَقْلِ. وبِكِبَرِهِ، وبِسِعَةِ الصَّدْرِ، وبُعْدِ ما بَيْنَ جانِبَيْهِ: عَلى سَعَةِ خُلُقِ صاحِبِهِ. واحْتِمالِهِ وبِسْطَتِهِ. وبِضِيقِهِ عَلى ضِيقِهِ، وبِخُمُودِ العَيْنِ وكَلالِ نَظَرِها عَلى بَلادَةِ صاحِبِها، وضَعْفِ حَرارَةِ قَلْبِهِ. وبِشِدَّةِ بَياضِها مَعَ إشْرابِهِ بِحُمْرَةٍ - وهو الشَّكْلُ - عَلى شَجاعَتِهِ وإقْدامِهِ وفِطْنَتِهِ. وبِتَدْوِيرِها مَعَ حُمْرَتِها وكَثْرَةِ تَقَلُّبِها عَلى خِيانَتِهِ ومَكْرِهِ وخِداعِهِ.
وَمُعْظَمُ تَعَلُّقِ الفِراسَةِ بِالعَيْنِ. فَإنَّها مِرْآةُ القَلْبِ وعُنْوانُ ما فِيهِ. ثُمَّ بِاللِّسانِ. فَإنَّهُ رَسُولُهُ وتُرْجُمانُهُ. وبِالِاسْتِدْلالِ بِزُرْقَتِها مَعَ شُقْرَةِ صاحِبِها عَلى رَداءَتِهِ. وبِالوَحْشَةِ الَّتِي تُرى عَلَيْها عَلى سُوءِ داخِلِهِ وفَسادِ طَوِيَّتِهِ.
وَكالِاسْتِدْلالِ بِإفْراطِ الشَّعَرِ في السُّبُوطَةِ عَلى البَلادَةِ. وبِإفْراطِهِ في الجُعُودَةِ عَلى الشَّرِّ. وبِاعْتِدالِهِ عَلى اعْتِدالِ صاحِبِهِ.
وَأصْلُ هَذِهِ الفِراسَةِ: أنَّ اعْتِدالَ الخِلْقَةِ والصُّورَةِ: هو مِنِ اعْتِدالِ المِزاجِ والرُّوحِ. وعَنِ اعْتِدالِها يَكُونُ اعْتِدالُ الأخْلاقِ والأفْعالِ.
وَبِحَسَبِ انْحِرافِ الخِلْقَةِ والصُّورَةِ عَنْ الِاعْتِدالِ: يَقَعُ الِانْحِرافُ في الأخْلاقِ والأعْمالِ.
هَذا إذا خُلِّيتِ النَّفْسُ وطَبِيعَتَها.
وَلَكِنَّ صاحِبَ الصُّورَةِ والخِلْقَةِ المُعْتَدِلَةِ يَكْتَسِبُ بِالمُقارَنَةِ والمُعاشَرَةِ أخْلاقَ مَن يُقارِنُهُ ويُعاشِرُهُ. ولَوْ أنَّهُ مِنَ الحَيَوانِ البَهِيمِ. فَيَصِيرُ مِن أخْبَثِ النّاسِ أخْلاقًا وأفْعالًا، وتَعُودُ لَهُ تِلْكَ طِباعًا، ويَتَعَذَّرُ - أوْ يَتَعَسَّرُ - عَلَيْهِ الِانْتِقالُ عَنْها.
وَكَذَلِكَ صاحَبُ الخِلْقَةِ والصُّورَةِ المُنْحَرِفَةِ عَنْ الِاعْتِدالِ يَكْتَسِبُ بِصُحْبَةِ الكامِلِينَ بِخُلْطَتِهِمْ أخْلاقًا وأفْعالًا شَرِيفَةً. تَصِيرُ لَهُ كالطَّبِيعَةِ. فَإنَّ العَوائِدَ والمُزاوَلاتِ تُعْطِي المَلَكاتِ والأخْلاقَ.
فَلْيَتَأمَّلْ هَذا المَوْضِعَ ولا يُعَجِّلْ بِالقَضاءِ بِالفِراسَةِ دُونَهُ. فَإنَّ القاضِيَ حِينَئِذٍ يَكُونُ خَطَؤُهُ كَثِيرًا. فَإنَّ هَذِهِ العَلاماتِ أسْبابٌ لا مُوجِبَةٌ. وقَدْ تَتَخَلَّفُ عَنْها أحْكامُها لِفَواتِ شَرْطٍ، أوْ لِوُجُودِ مانِعٍ.
وَفِراسَةُ المُتَفَرِّسِ تَتَعَلَّقُ بِثَلاثَةِ أشْياءَ: بِعَيْنِهِ. وأُذُنِهِ. وقَلْبِهِ. فَعَيْنُهُ لِلسِّيماءِ والعَلاماتِ. وأُذُنُهُ: لِلْكَلامِ وتَصْرِيحِهِ وتَعْرِيضِهِ، ومَنطُوقِهِ، ومَفْهُومِهِ، وفَحْواهُ وإشارَتِهِ. ولَحْنِهِ وإيمانِهِ ونَحْوِ ذَلِكَ. وقَلْبُهُ لِلْعُبُورِ: والِاسْتِدْلالِ مِنَ المَنظُورِ والمَسْمُوعِ إلى باطِنِهِ وخَفِيِّهِ. فَيَعْبُرُ إلى ما وراءَ ظاهِرِهِ، كَعُبُورِ النُّقّادِ مِن ظاهِرِ النَّقْشِ والسِّكَّةِ إلى باطِنِ النَّقْدِ والِاطِّلاعِ عَلَيْهِ: هَلْ هو صَحِيحٌ، أوْ زَغَلٌ؟ وكَذَلِكَ عُبُورُ المُتَفَرِّسِ مِن ظاهِرِ الهَيْئَةِ والدَّلِّ، إلى باطِنِ الرُّوحِ والقَلْبِ، فَنِسْبَةُ نَقْدِهِ لِلْأرْواحِ مِنَ الأشْباحِ كَنِسْبَةِ نَقْدِ الصَّيْرَفِيِّ يَنْظُرُ لِلْجَوْهَرِ مِن ظاهِرِ السِّكَّةِ والنَّقْدِ.
وَكَذَلِكَ نَقْدُ أهْلِ الحَدِيثِ. فَإنَّهُ يَمُرُّ إسْنادٌ ظاهِرٌ كالشَّمْسِ عَلى مَتْنٍ مَكْذُوبٍ. فَيُخْرِجُهُ ناقِدُهُمْ، كَما يُخْرِجُ الصَّيْرَفِيُّ الزَّغَلَ مِن تَحْتِ الظّاهِرِ مِنَ الفِضَّةِ.
وَكَذَلِكَ فِراسَةُ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الصّادِقِ والكاذِبِ في أقْوالِهِ وأفْعالِهِ وأحْوالِهِ.
وَلِلْفِراسَةِ سَبَبانِ. أحَدُهُما: جَوْدَةُ ذِهْنِ المُتَفَرِّسِ، وحِدَّةُ قَلْبِهِ، وحُسْنُ فِطْنَتِهِ.
والثّانِي: ظُهُورُ العَلاماتِ والأدِلَّةِ عَلى المُتَفَرِّسِ فِيهِ. فَإذا اجْتَمَعَ السَّبَبانِ لَمْ تَكَدْ تُخْطِئُ لِلْعَبْدِ فِراسَةٌ. وإذا انْتَفَيا لَمْ تَكَدْ تَصِحُّ لَهُ فِراسَةٌ. وإذا قَوِيَ أحَدُهُما وضَعُفَ الآخَرُ. كانَتْ فِراسَتُهُ بَيْنَ بَيْنَ.
وَكانَ إياسُ بْنُ مُعاوِيَةَ مِن أعْظَمِ النّاسِ فِراسَةً. ولَهُ الوَقائِعُ المَشْهُورَةُ.
وَكَذَلِكَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وقِيلَ: إنَّ لَهُ فِيها تَآلِيفُ.
وَلَقَدْ شاهَدْتُ مِن فِراسَةِ شَيْخِ الإسْلامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أُمُورًا عَجِيبَةً. وما لَمْ أُشاهِدْهُ مِنها أعْظَمُ وأعْظَمُ. ووَقائِعُ فِراسَتِهِ تَسْتَدْعِي سِفْرًا ضَخْمًا.
أخْبَرَ أصْحابَهُ بِدُخُولِ التَّتارِ الشّامَ سَنَةَ تِسْعٍ وتِسْعِينَ وسِتِّمِائَةٍ، وأنَّ جُيُوشَ المُسْلِمِينَ تُكْسَرُ، وأنَّ دِمَشْقَ لا يَكُونُ بِها قَتْلٌ عامٌّ ولا سَبْيٌ عامٌّ، وأنَّ كَلَبَ الجَيْشِ وحِدَّتَهُ في الأمْوالِ. وهَذا قَبْلَ أنْ يَهُمَّ التَّتارُ بِالحَرَكَةِ.
ثُمَّ أخْبَرَ النّاسَ والأُمَراءَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وسَبْعِمِائَةٍ لَمّا تَحَرَّكَ التَّتارُ وقَصَدُوا الشّامَ: أنَّ الدّائِرَةَ والهَزِيمَةَ عَلَيْهِمْ. وأنَّ الظَّفَرَ والنَّصْرَ لِلْمُسْلِمِينَ. وأقْسَمَ عَلى ذَلِكَ أكْثَرَ مِن سَبْعِينَ يَمِينًا. فَيُقالُ لَهُ: قُلْ إنْ شاءَ اللَّهُ. فَيَقُولُ: إنْ شاءَ اللَّهُ تَحْقِيقًا لا تَعْلِيقًا. وسَمِعْتُهُ يَقُولُ ذَلِكَ. قالَ: فَلَمّا أكْثَرُوا عَلَيَّ. قُلْتُ: لا تُكْثِرُوا. كَتَبَ اللَّهُ تَعالى في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ. أنَّهم مَهْزُومُونَ في هَذِهِ الكَرَّةِ. وأنَّ النَّصْرَ لِجُيُوشِ الإسْلامِ. قالَ: وأطْمَعَتْ بَعْضَ الأُمَراءِ والعَسْكَرِ حَلاوَةُ النَّصْرِ قَبْلَ خُرُوجِهِمْ إلى لِقاءِ العَدُوِّ.
وَكانَتْ فِراسَتُهُ الجُزْئِيَّةُ في خِلالِ هاتَيْنِ الواقِعَتَيْنِ مِثْلَ المَطَرِ.
وَلَمّا طُلِبَ إلى الدِّيارِ المِصْرِيَّةِ، وأُرِيدَ قَتْلُهُ - بَعْدَما أُنْضِجَتْ لَهُ القُدُورُ، وقُلِّبَتْ لَهُ الأُمُورُ - اجْتَمَعَ أصْحابُهُ لِوَداعِهِ. وقالُوا: قَدْ تَواتَرَتِ الكُتُبُ بِأنَّ القَوْمَ عامِلُونَ عَلى قَتْلِكَ. فَقالَ: واللَّهِ لا يَصِلُونَ إلى ذَلِكَ أبَدًا. قالُوا: أفَتُحْبَسُ؟ قالَ: نَعَمْ، ويَطُولُ حَبْسِي. ثُمَّ أخْرُجُ وأتَكَلَّمُ بِالسُّنَّةِ عَلى رُءُوسِ النّاسِ. سَمِعْتُهُ يَقُولُ ذَلِكَ.
وَلَمّا تَوَلّى عَدُوُّهُ المُلَقَّبُ بِالجاشِنْكِيرِ المُلْكَ أخْبَرُوهُ بِذَلِكَ. وقالُوا: الآنَ بَلَغَ مُرادَهُ مِنكَ. فَسَجَدَ لِلَّهِ شُكْرًا وأطالَ. فَقِيلَ لَهُ: ما سَبَبُ هَذِهِ السَّجْدَةُ؟ فَقالَ: هَذا بِدايَةُ ذُلِّهِ ومُفارَقَةُ عِزِّهِ مِنَ الآنِ، وقُرْبُ زَوالِ أمْرِهِ. فَقِيلَ: مَتى هَذا؟ فَقالَ: لا تُرْبَطُ خُيُولُ الجُنْدِ عَلى القُرْطِ حَتّى تُغْلَبَ دَوْلَتُهُ. فَوَقَعَ الأمْرُ مِثْلَ ما أخْبَرَ بِهِ. سَمِعْتُ ذَلِكَ مِنهُ.
وَقالَ مَرَّةً: يَدْخُلُ عَلَيَّ أصْحابِي وغَيْرُهم. فَأرى في وُجُوهِهِمْ وأعْيُنِهِمْ أُمُورًا لا أذْكُرُها لَهم.
فَقُلْتُ لَهُ - أوَ غَيْرِي - لَوْ أخْبَرْتَهُمْ؟ فَقالَ: أتُرِيدُونَ أنْ أكُونَ مُعَرِّفًا كَمُعَرَّفِ الوُلاةِ؟ وقُلْتُ لَهُ يَوْمًا: لَوْ عامَلْتَنا بِذَلِكَ لَكانَ أدْعى إلى الِاسْتِقامَةِ والصَّلاحِ. فَقالَ: لا تَصْبِرُونَ مَعِي عَلى ذَلِكَ جُمُعَةً، أوْ قالَ: شَهْرًا.
وَأخْبَرَنِي غَيْرَ مَرَّةٍ بِأُمُورٍ باطِنَةٍ تَخْتَصُّ بِي مِمّا عَزَمْتُ عَلَيْهِ، ولَمْ يَنْطِقْ بِهِ لِسانِي.
وَأخْبَرَنِي بِبَعْضِ حَوادِثَ كِبارٍ تَجْرِي في المُسْتَقْبَلِ. ولَمْ يُعَيِّنْ أوْقاتَها. وقَدْ رَأيْتُ بَعْضَها وأنا أنْتَظِرُ بَقِيَّتَها.
وَما شاهَدَهُ كِبارُ أصْحابِهِ مِن ذَلِكَ أضْعافُ أضْعافِ ما شاهَدَتْهُ. واللَّهُ أعْلَمُ.
* (فصل آخر)
قَوْلُهُ " وتُنْبِتُ الفِراسَةَ مَعْناها ".
يَعْنِي أنَّ البَصِيرَةَ تُنْبِتُ في أرْضِ القَلْبِ الفِراسَةَ الصّادِقَةَ، وهي نُورٌ يَقْذِفُهُ اللَّهُ في القَلْبِ، يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ، والصّادِقِ والكاذِبِ، قالَ اللَّهُ تَعالى ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾ [الحجر: ٧٥]
قالَ مُجاهِدٌ: لِلْمُتَفَرِّسِينَ، وفي التِّرْمِذِيِّ مِن حَدِيثِ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ «اتَّقُوا فِراسَةَ المُؤْمِنِ، فَإنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ ثُمَّ قَرَأ ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾ [الحجر: ٧٥]».
والتَّوَسُّمُ مَعْناهُ تَفَعُّلٌ مِنَ السِّيما، وهي العَلامَةُ، فَسُمِّيَ المُتَفَرِّسُ مُتَوَسِّمًا، لِأنَّهُ يَسْتَدِلُّ بِما يَشْهَدُ عَلى ما غابَ، فَيَسْتَدِلُّ بِالعِيانِ عَلى الإيمانِ، ولِهَذا خَصَّ اللَّهُ تَعالى بِالآياتِ والِانْتِفاعِ بِها هَؤُلاءِ، لِأنَّهم يَسْتَدِلُّونَ بِما يُشاهِدُونَ مِنها عَلى حَقِيقَةِ ما أخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ، مِنَ الأمْرِ والنَّهْيِ، والثَّوابِ والعِقابِ، وقَدْ ألْهَمَ اللَّهُ ذَلِكَ لِآدَمَ، وعَلَّمَهُ إيّاهُ حِينَ عَلَّمَهُ أسْماءَ كُلِّ شَيْءٍ، وبَنُوهُ هم نُسْخَتُهُ وخُلَفاؤُهُ، فَكُلُّ قَلْبٍ فَهو قابِلٌ لِذَلِكَ، وهو فِيهِ بِالقُوَّةِ، وبِهِ تَقُومُ الحُجَّةُ، وتَحْصُلُ العِبْرَةُ، وتَصِحُّ الدِّلالَةُ، وبَعَثَ اللَّهُ رُسُلَهُ مُذَكِّرِينَ ومُنَبِّهِينَ، ومُكَمِّلِينَ لِهَذا الِاسْتِعْدادِ، بِنُورِ الوَحْيِ والإيمانِ، فَيَنْضافُ ذَلِكَ إلى نُورِ الفِراسَةِ والِاسْتِعْدادِ، فَيَصِيرُ نُورًا عَلى نُورٍ، فَتَقْوى البَصِيرَةُ، ويَعْظُمُ النُّورُ ويَدُومُ، بِزِيادَةِ مادَّتِهِ ودَوامِها، ولا يَزالُ في تَزايُدٍ حَتّى يُرى عَلى الوَجْهِ والجَوارِحِ، والكَلامِ والأعْمالِ، ومَن لَمْ يَقْبَلْ هُدى اللَّهِ ولَمْ يَرْفَعْ بِهِ رَأْسًا دَخَلَ قَلْبُهُ في الغُلافِ والأكِنَّةِ، فَأظْلَمَ، وعَمِيَ عَنِ البَصِيرَةِ، فَحُجِبَتْ عَنْهُ حَقائِقُ الإيمانِ، فَيَرى الحَقَّ باطِلًا، والباطِلَ حَقًّا، والرُّشْدَ غَيًّا، والغَيَّ رُشْدًا، قالَ تَعالى ﴿كَلّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين: ١٤] " والرَّيْنُ " " والرّانُّ " هو الحِجابُ الكَثِيفُ المانِعُ لِلْقَلْبِ مِن رُؤْيَةِ الحَقِّ والِانْقِيادِ لَهُ.
وَعَلى حَسَبِ قُوَّةِ البَصِيرَةِ وضَعْفِها تَكُونُ الفِراسَةُ، وهي نَوْعانِ:
فِراسَةٌ عُلْوِيَّةٌ شَرِيفَةٌ، مُخْتَصَّةٌ بِأهْلِ الإيمانِ، وفِراسَةٌ سُفْلِيَّةٌ دَنِيئَةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ المُؤْمِنِ والكافِرِ، وهي فِراسَةُ أهْلِ الرِّياضَةِ والجُوعِ والسَّهَرِ والخُلْوَةِ، وتَجْرِيدِ البَواطِنِ مِن أنْواعِ الشَّواغِلِ، فَهَؤُلاءِ لَهم فِراسَةُ كَشْفِ الصُّوَرِ، والإخْبارِ بِبَعْضِ المُغَيَّباتِ السُّفْلِيَّةِ الَّتِي لا يَتَضَمَّنُ كَشْفُها والإخْبارُ بِها كَمالًا لِلنَّفْسِ، ولا زَكاةً ولا إيمانًا ولا مَعْرِفَةً، وهَؤُلاءِ لا تَتَعَدّى فِراسَتُهم هَذِهِ السُفْلِيّاتِ، لِأنَّهم مَحْجُوبُونَ عَنِ الحَقِّ تَعالى، فَلا تَصْعَدُ فِراسَتُهم إلى التَّمْيِيزِ بَيْنَ أوْلِيائِهِ وأعْدائِهِ، وطَرِيقِ هَؤُلاءِ وهَؤُلاءِ.
وَأمّا فِراسَةُ الصّادِقِينَ، العارِفِينَ بِاللَّهِ وأمْرِهِ فَإنَّ هِمَّتَهم لَمّا تَعَلَّقَتْ بِمَحَبَّةِ اللَّهِ ومَعْرِفَتِهِ وعُبُودِيَّتِهِ، ودَعْوَةِ الخَلْقِ إلَيْهِ عَلى بَصِيرَةٍ، كانَتْ فِراسَتُهم مُتَّصِلَةً بِاللَّهِ، مُتَعَلِّقَةً بِنُورِ الوَحْيِ مَعَ نُورِ الإيمانِ، فَمَيَّزَتْ بَيْنَ ما يُحِبُّهُ اللَّهُ وما يُبْغِضُهُ مِنَ الأعْيانِ والأقْوالِ والأعْمالِ، ومَيَّزَتْ بَيْنَ الخَبِيثِ والطَّيِّبِ، والمُحِقِّ والمُبْطِلِ، والصّادِقِ والكاذِبِ، وعَرَفَتْ مَقادِيرَ اسْتِعْدادِ السّالِكِينَ إلى اللَّهِ، فَحَمَلَتْ كُلَّ إنْسانٍ عَلى قَدْرِ اسْتِعْدادِهِ، عِلْمًا وإرادَةً وعَمَلًا.
فَفِراسَةُ هَؤُلاءِ دائِمًا حائِمَةٌ حَوْلَ كَشْفِ طَرِيقِ الرَّسُولِ وتَعَرُّفِها، وتَخْلِيصِها مِن بَيْنِ سائِرِ الطُّرُقِ، وبَيْنَ كَشْفِ عُيُوبِ النَّفْسِ، وآفاتِ الأعْمالِ العائِقَةِ عَنْ سُلُوكِ طَرِيقِ المُرْسَلِينَ، فَهَذا أشْرَفُ أنْواعِ البَصِيرَةِ والفِراسَةِ، وأنْفَعُها لِلْعَبْدِ في مَعاشِهِ ومَعادِهِ.
{"ayah":"إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّلۡمُتَوَسِّمِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق