الباحث القرآني
﴿فَأمّا عادٌ فاسْتَكْبَرُوا في الأرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وقالُوا مَن أشَدُّ مِنّا قُوَّةً أوَلَمْ يَرَوْا أنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهم هو أشَدُّ مِنهم قُوَّةً وكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ﴾ ﴿فَأرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا في أيّامٍ نَحْساتٍ لِنُذِيقَهم عَذابَ الخِزْيِ في الحَياةِ الدُّنْيا ولَعَذابُ الآخِرَةِ أخْزى وهم لا يُنْصَرُونَ﴾ .
بَعْدَ أنْ حَكى عَنْ عادٍ وثَمُودَ ما اشْتَرَكَ فِيهِ الأُمَّتانِ مِنَ المُكابَرَةِ والإصْرارِ عَلى الكُفْرِ فَصَّلَ هُنا بَعْضَ ما اخْتَصَّتْ بِهِ كُلُّ أُمَّةٍ مِنهُما مِن صُورَةِ الكُفْرِ، وذَكَرَ مِن ذَلِكَ ما لَهُ مُناسَبَةٌ لِما حَلَّ بِكُلِّ أُمَّةٍ مِنهُما مِنَ العَذابِ.
(p-٢٥٦)والفاءُ تَفْرِيعٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأنْزَلَ مَلائِكَةً﴾ [فصلت: ١٤] المُقْتَضِيَةِ أنَّهم رَفَضُوا دَعْوَةَ رَسُولَيْهِمْ ولَمْ يَقْبَلُوا إرْشادَهُما واسْتِدْلالَهُما.
وأمّا حَرْفُ شَرْطٍ وتَفْصِيلٍ، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلَيْها عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَأمّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٢٦] في سُورَةِ البَقَرَةِ.
والمَعْنى: فَأمّا عادٌ فَمَنَعَهم مِن قَبُولِ الهُدى اسْتِكْبارُهم.
والِاسْتِكْبارُ المُبالَغَةُ في الكِبْرِ، أيِ التَّعاظُمُ واحْتِقارُ النّاسِ، فالسِّينُ والتّاءُ فِيهِ لِلْمُبالَغَةِ مِثْلَ: اسْتَجابَ، والتَّعْرِيفُ في الأرْضِ لِلْعَهْدِ، أيْ أرْضُهُمُ المَعْهُودَةُ. وإنَّما ذُكِرَ مِن مَساوِيهِمُ الِاسْتِكْبارُ لِأنَّ تَكَبُّرَهم هو الَّذِي صَرَفَهم عَنِ اتِّباعِ رَسُولِهِمْ وعَنْ تَوَقُّعِ عِقابِ اللَّهِ.
وقَوْلُهُ بِغَيْرِ الحَقِّ زِيادَةُ تَشْنِيعٍ لِاسْتِكْبارِهِمْ، فَإنَّ الِاسْتِكْبارَ لا يَكُونُ بِحَقٍّ إذْ لا مُبَرِّرَ لِلْكِبْرِ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ لِأنَّ جَمِيعَ الأُمُورِ المُغْرِياتِ بِالكِبْرِ مِنَ العِلْمِ والمالِ والسُّلْطانِ والقُوَّةِ وغَيْرِ ذَلِكَ لا تُبْلِغُ الإنْسانَ مَبْلَغَ الخُلُوِّ عَنِ النَّقْصِ ولَيْسَ لِلضَّعِيفِ النّاقِصِ حَقٌّ في الكِبْرِ ولِذَلِكَ كانَ الكِبْرُ مِن خَصائِصِ اللَّهِ تَعالى. وهم قَدِ اغْتَرُّوا بِقُوَّةِ أجْسامِهِمْ وعَزَّةِ أُمَّتِهِمْ وادَّعَوْا أنَّهم لا يَغْلِبُهم أحَدٌ، وهو مَعْنى قَوْلِهِمْ (﴿مَن أشَدُّ مِنّا قُوَّةً﴾) فَقَوْلُهم ذَلِكَ هو سَبَبُ اسْتِكْبارِهِمْ؛ لِأنَّهُ أوْرَثَهُمُ الِاسْتِخْفافَ بِمَن عَداهم، فَلَمّا جاءَهم هُودٌ بِإنْكارِ ما هم عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ والطُّغْيانِ عَظُمَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ لِأنَّهُمُ اعْتادُوا العُجْبَ بِأنْفُسِهِمْ وأحْوالِهِمْ فَكَذَّبُوا رَسُولَهم.
فَلَمّا كانَ اغْتِرارُهم بِقُوَّتِهِمْ هو باعِثَهم عَلى الكُفْرِ وكانَ قَوْلُهم (﴿مَن أشَدُّ مِنّا قُوَّةً﴾) دَلِيلًا عَلَيْهِ خُصَّ بِالذِّكْرِ.
وإنَّما عُطِفَ بِالواوِ مَعَ أنَّهُ كالبَيانِ لِقَوْلِهِ ﴿فاسْتَكْبَرُوا في الأرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ﴾ إشارَةً إلى اسْتِقْلالِهِ بِكَوْنِهِ مُوجِبَ الإنْكارِ عَلَيْهِمْ، لِأنَّ قَوْلَهم ذَلِكَ هو بِمُفْرَدِهِ مُنْكَرٌ مِنَ القَوْلِ فَذُكِرَ بِالعَطْفِ عَلى فِعْلِ اسْتَكْبَرُوا لِأنَّ شَأْنَ العَطْفِ أنْ يَقْتَضِيَ المُغايَرَةَ بَيْنَ المَعْطُوفِ والمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، ويُعْلِمَ أنَّهُ باعِثُهم عَلى الِاسْتِكْبارِ بِالسِّياقِ.
(p-٢٥٧)وجُمْلَةُ ﴿أوَلَمْ يَرَوْا أنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهم هو أشَدُّ مِنهم قُوَّةً﴾ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ، والواوُ اعْتِراضِيَّةٌ. والرُّؤْيَةُ عِلْمِيَّةٌ، والِاسْتِفْهامُ إنْكارِيٌّ، والمَعْنى: إنْكارُ عَدَمِ عِلْمِهِمْ بِأنَّ اللَّهَ أشَدُّ مِنهم قُوَّةً حَيْثُ أعْرَضُوا عَنْ رَسُولِ رَبِّهِمْ وعَنْ إنْذارِهِ إيّاهم إعْراضَ مَن لا يَكْتَرِثُ بِعَظَمَةِ اللَّهِ تَعالى لِأنَّهم لَوْ حَسَبُوا لِذَلِكَ حِسابَهُ لَتَوَقَّعُوا عَذابَهُ فَلَأقْبَلُوا عَلى دَلائِلِ صِدْقِ رَسُولِهِ.
وإجْراءُ وصْفِ الَّذِي خَلَقَهم عَلى اسْمِ الجَلالَةِ لِما في الصِّلَةِ مِنَ الإيماءِ إلى وجْهِ الإنْكارِ عَلَيْهِمْ لِجَهْلِهِمْ بِأنَّ اللَّهَ أقْوى مِنهم، فَإنَّ كَوْنَهم مَخْلُوقِينَ مَعْلُومٌ لَهم بِالضَّرُورَةِ، فَكانَ العِلْمُ بِهِ كافِيًا في الدَّلالَةِ عَلى أنَّهُ أشَدُّ مِنهم قُوَّةً، وأنَّهُ حَقِيقٌ بِأنْ يَحْسِبُوا لِغَضَبِهِ حِسابَهُ فَيَنْظُرُوا في أدِلَّةِ صِدْقِ رَسُولِهِ إلَيْهِمْ.
وضَمِيرُ هو أشَدُّ مِنهم ضَمِيرُ فَصْلٍ، وهو مُفِيدٌ تَقْوِيَةَ الحُكْمِ بِمَعْنى وُضُوحِهِ، وإذا كانَ ذَلِكَ الحُكْمُ مُحَقَّقًا كانَ عَدَمُ عِلْمِهِمْ بِمُقْتَضاهُ أشْنَعَ وعُذْرُهم في جَهْلِهِ مُنْتَفِيًا.
والقُوَّةُ حَقِيقَتُها: حالَةٌ في الجِسْمِ يَتَأتّى بِها أنْ يَعْمَلَ الأعْمالَ الشّاقَّةَ، وتُطْلَقُ عَلى لازِمِ ذَلِكَ مِنَ القُدْرَةِ ووَسائِلِ الأعْمالِ، وقَدْ تَقَدَّمَ بَيانُ إطْلاقِها في قَوْلِهِ تَعالى فَخُذْها بِقُوَّةٍ في سُورَةِ الأعْرافِ، والمُرادُ بِها هُنا مَعْناها الحَقِيقِيُّ والكِنائِيُّ والمَجازِيُّ، فَهو مُسْتَعْمَلٌ في حَقِيقَتِهِ تَصْرِيحًا وكِنايَةً، ومَجازُهُ لِما عِنْدَهم مِن وسائِلِ تَذْلِيلِ صِعابِ الأُمُورِ لِقُوَّةِ أجْسامِهِمْ وقُوَّةِ عُقُولِهِمْ. والعَرَبُ تَضْرِبُ المَثَلَ بِعادٍ في أصالَةِ آرائِهِمْ فَيَقُولُونَ أحْلامُ عادٍ قالَ النّابِغَةُ:
؎أحْلامُ عادٍ وأجْسامٌ مُطَهَّرَةٌ مِنَ المَعَقَّةِ والآفاتِ والإثَمِ
ويَقُولُونَ في وصْفِ الأشْياءِ الَّتِي يَقِلُّ صُنْعُ أمْثالِها ”عادِيَّةٌ“ يَقُولُونَ: بِئْرٌ عادِيَّةٌ، وبِناءٌ عادِيٌّ.
ولَمّا كانَتِ القُوَّةُ تَسْتَلْزِمُ سِعَةَ القُدْرَةِ أسْنَدَ القُوَّةَ إلى اللَّهِ تَعالى بِمَعْنى أنَّ قُدْرَتَهُ تَعالى لا يَسْتَعْصِي عَلَيْها شَيْءٌ تَتَعَلَّقُ بِهِ إرادَتُهُ تَعالى، وهَذا المُرادُ هُنا في قَوْلِهِ ﴿أنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهم هو أشَدُّ مِنهم قُوَّةً﴾ أيْ هو أوْسَعُ قُدْرَةً مِن قُدْرَتِهِمْ فَإطْلاقُ القُوَّةِ (p-٢٥٨)عَلى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى بِمَعْنى كَمالِ القُدْرَةِ، أيْ عُمُومُ تَأْثِيرِها وتَعَلُّقِها بِالمُمْكِناتِ عَلى وفْقِ الإرادَةِ لا يَسْتَعْصِي عَلى تَعَلُّقِ قُدْرَتِهِ شَيْءٌ مُمْكِنٌ، وكَمالُ غِناهُ عَنِ التَّأثُّرِ لِلْغَيْرِ، وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ العِقابِ في سُورَةِ الأنْفالِ.
وجُمْلَةُ ﴿أوَلَمْ يَرَوْا أنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهم هو أشَدُّ مِنهم قُوَّةً﴾ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الجُمَلِ المُتَعاطِفَةِ، والواوُ فِيها اعْتِراضِيَّةٌ.
وقَوْلُهُ وكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ يُحْتَمَلُ أنَّ المُرادَ بِالآياتِ مُعْجِزاتُ رَسُولِهِمْ هُودٍ فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِها وأصَرُّوا عَلى العِنادِ ولَمْ يَذْكُرِ القُرْآنُ لِهُودٍ آياتٍ سِوى أنَّهُ أنْذَرَهم عَذابًا يَأْتِيهِمْ مِنَ السَّماءِ، قالَ تَعالى ﴿فَلَمّا رَأوْهُ عارِضًا مُسْتَقْبِلَ أوْدِيَتِهِمْ قالُوا هَذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هو ما اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ ألِيمٌ﴾ [الأحقاف: ٢٤] فَذَلِكَ مِن تَكْذِيبِهِمْ بِأوائِلِ الآياتِ.
ويُحْتَمَلُ أنَّ المُرادَ بِالآياتِ دَلائِلُ الوَحْدانِيَّةِ الَّتِي في دَعْوَةِ رَسُولِهِمْ، وتَذْكِيرُهم بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ كَقَوْلِهِ ﴿واذْكُرُوا إذْ جَعَلَكم خُلَفاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وزادَكم في الخَلْقِ بَسْطَةً﴾ [الأعراف: ٦٩]، وقَوْلِهِ ﴿واتَّقُوا الَّذِي أمَدَّكم بِما تَعْلَمُونَ﴾ [الشعراء: ١٣٢] ﴿أمَدَّكم بِأنْعامٍ وبَنِينَ﴾ [الشعراء: ١٣٣] ﴿وجَنّاتٍ وعُيُونٍ﴾ [الشعراء: ١٣٤] .
ودَلَّ فِعْلُ كانُوا عَلى أنَّ التَّكْذِيبَ بِالآياتِ مُتَأصِّلٌ فِيهِمْ. ودَلَّتْ صِيغَةُ المُضارِعِ في قَوْلِهِ يَجْحَدُونَ أنَّ الجَحْدَ مُتَكَرِّرٌ فِيهِمْ مُتَجَدِّدٌ.
ورَتَّبَ عَلى ذَلِكَ وصْفَ عِقابِهِمْ بِأنَّ اللَّهَ أرْسَلَ عَلَيْهِمْ رِيحًا فَأشارَتِ الفاءُ إلى أنَّ عِقابَهم كانَ مُسَبَّبًا عَلى حالَةِ كُفْرِهِمْ بِصِفَتِها، فَإنَّ باعِثَ كُفْرِهِمْ كانَ اغْتِرارَهم بِقُوَّتِهِمْ، فَأهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِما لا يَتَرَقَّبُ النّاسُ الهَلاكَ بِهِ، فَإنَّ النّاسَ يَقُولُونَ لِلشَّيْءِ الَّذِي لا يُؤْبَهُ بِهِ: هو رِيحٌ، لِيُرِيَهم أنَّ اللَّهَ شَدِيدُ القُوَّةِ وأنَّهُ يَضَعُ القُوَّةَ في الشَّيْءِ الهَيِّنِ مِثْلِ الرِّيحِ لِيَكُونَ عَذابًا وخِزْيًا، أيْ تَحْقِيرًا كَما قالَ ﴿لِنُذِيقَهم عَذابَ الخِزْيِ في الحَياةِ الدُّنْيا﴾، وأيُّ خِزْيٍ أشَدُّ مِن أنْ تَتَراماهُمُ الرِّيحُ في الجَوِّ كالرِّيشِ، وأنْ تُلْقِيَهم هَلْكى عَلى التُّرابِ عَنْ بَكْرَةِ أبِيهِمْ فَيُشاهِدُهُمُ المارُّونَ (p-٢٥٩)بِدِيارِهِمْ جُثَثًا صَرْعى قَدْ تَقَلَّصَتْ جُلُودُهم وبَلِيَتْ أجْسامُهم كَأنَّهم أعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٌ.
والرِّيحُ: تَمَوُّجٌ في الهَواءِ يَحْدُثُ مِن تَعاكُسِ الحَرارَةِ والبُرُودَةِ، وتَنْتَقِلُ مَوْجاتُهُ كَما تَنْتَقِلُ أمْواجُ البَحْرِ، والرِّيحُ الَّذِي أصابَ عادًا هو الرِّيحُ الدَّبُورُ، وهو الَّذِي يَهُبُّ مِن جِهَةِ مَغْرِبِ الشَّمْسِ، سُمِّيَتْ دَبُورًا بِفَتْحِ الدّالِ وتَخْفِيفِ الباءِ لِأنَّها تَهُبُّ مِن جِهَةِ دُبُرِ الكَعْبَةِ قالَ النَّبِيءُ ﷺ «نُصِرْتُ بِالصَّبا وأُهْلِكَتْ عادٌ بِالدَّبُورِ» .
وإنَّما كانَتِ الرِّيحُ الَّتِي أصابَتْ عادًا بِهَذِهِ القُوَّةِ بِسَبَبِ قُوَّةِ انْضِغاطٍ في الهَواءِ غَيْرِ مُعْتادٍ فَإنَّ الِانْضِغاطَ يُصَيِّرُ الشَّيْءَ الضَّعِيفَ قَوِيًّا، كَما شُوهِدَ في عَصْرِنا أنَّ الأجْسامَ الدَّقِيقَةَ مِن أجْزاءٍ كِيمْياوِيَّةٍ تُسَمّى الذَّرَّةَ تَصِيرُ بِالِانْضِغاطِ قادِرَةً عَلى نَسْفِ مَدِينَةٍ كامِلَةٍ، وتُسَمّى الطّاقَةَ الذَّرِّيَّةَ، وقَدْ نُسِفَ بِها جُزْءٌ عَظِيمٌ مِن بِلادِ اليابانِ في الحَرْبِ العامَّةِ.
والصَّرْصَرُ: الرِّيحُ العاصِفَةُ الَّتِي يَكُونُ لَها صَرْصَرَةٌ، أيْ دَوِيٌّ في هُبُوبِها مِن شِدَّةِ سُرْعَةِ تَنَقُّلِها. وتَضْعِيفُ عَيْنِهِ لِلْمُبالَغَةِ في شِدَّتِها بَيْنَ أفْرادِ نَوْعِها كَتَضْعِيفِ كُبْكِبَ لِلْمُبالَغَةِ في كَبَّ. وأصْلُهُ صَرَّ، أيْ صاحَ، وهو وصْفٌ لا يُؤَنَّثُ لَفْظُهُ؛ لِأنَّهُ لا يَجْرِي إلّا عَلى الرِّيحِ وهي مُقَدَّرَةُ التَّأْنِيثِ.
والنَّحِساتُ بِفَتْحِ النُّونِ وسُكُونِ الحاءِ: جَمْعُ نَحِسٍ بِدُونِ تَأْنِيثٍ لِأنَّهُ مَصْدَرٌ لِفِعْلِ نَحِسَ كَعَلِمَ، كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ﴾ [القمر: ١٩] .
وقَرَأهُ نافِعٌ، وابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو، ويَعْقُوبُ بِسِكُونِ الحاءِ. ويَجُوزُ كَسْرُ الحاءِ وبِهِ قَرَأ البَقِيَّةُ عَلى أنَّهُ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِن ”نَحْسٍ“ إذا أصابَهُ النَّحْسُ إصابَةَ سُوءٍ أوْ ضُرٍّ شَدِيدٍ.
وضِدُّهُ البَخْتُ في أوْهامِ العامَّةِ. ولا حَقِيقَةَ لِلنَّحْسِ ولا لِلْبَخْتِ ولَكِنَّهُما عارِضانِ لِلْإنْسانِ، فالنَّحْسُ يَعْرِضُ لَهُ مِن سُوءِ خُلُقِهِ ومِزاجِهِ أوْ مِن تَفْرِيطِهِ أوْ مِن فَسادِ بِيئَتِهِ أوْ قَوْمِهِ، والبَخْتُ يَعْرِضُ مِن جَرّاءِ عَكْسِ ذَلِكَ. وبَعْضُ النَّوْعَيْنِ أُمُورٌ اتِّفاقِيَّةٌ ورُبَّما كانَ بَعْضُها جَزاءً مِنَ اللَّهِ عَلى عَمَلِ خَيْرٍ أوْ شَرٍّ مِن عِبادِهِ أوْ في دِينِهِ (p-٢٦٠)كَما حَلَّ بِعادٍ وأهْلِ الجاهِلِيَّةِ. وعامَّةُ الأُمَمِ يَتَوَهَّمُونَ النَّحْسَ والبَخْتَ مِن نَوْعِ الطِّيَرَةِ ومِنَ التَّشاؤُمِ والتَّيَمُّنِ، ومِنهُ الزَّجْرُ والعِيافَةُ عِنْدَ العَرَبِ في الجاهِلِيَّةِ ومِنهُ تَطَلُّعُ الحَدَثانِ مِن طَوالِعِ الكَواكِبِ والأيّامِ عِنْدَ مُعْظَمِ الأُمَمِ الجاهِلَةِ أوِ المُخْتَلَّةِ العَقِيدَةِ. وكُلُّ ذَلِكَ أبْطَلَهُ الإسْلامُ، أيْ كَشَفَ بُطْلانَهُ، بِما لَمْ يَسْبِقْهُ تَعْلِيمٌ مِنَ الأدْيانِ الَّتِي ظَهَرَتْ قَبْلَ الإسْلامِ.
فَمَعْنى وصْفِ الأيّامِ بِالنَّحِساتِ: أنَّها أيّامُ سُوءٍ شَدِيدٍ أصابَهم وهو عَذابُ الرِّيحِ، وهي ثَمانِيَةُ أيّامٍ كَما جاءَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وثَمانِيَةَ أيّامٍ حُسُومًا﴾ [الحاقة: ٧]، فالمُرادُ: أنَّ تِلْكَ الأيّامَ بِخُصُوصِها كانَتْ نَحْسًا وأنَّ نَحْسَها عَلَيْهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ مِن أهْلِ الأرْضِ لِأنَّ عادًا هُمُ المَقْصُودُونَ بِالعَذابِ. ولَيْسَ المُرادُ أنَّ تِلْكَ الأيّامَ مِن كُلِّ عامٍ هي أيّامُ نَحْسٍ عَلى البَشَرِ لِأنَّ ذَلِكَ لا يَسْتَقِيمُ لِاقْتِضائِهِ أنْ تَكُونَ جَمِيعُ الأُمَمِ حَلَّ بِها سُوءٌ في تِلْكَ الأيّامِ.
ووُصِفَتْ تِلْكَ الأيّامُ بِأنَّها نَحِساتٌ لِأنَّها لَمْ يَحْدُثْ فِيها إلّا السُّوءُ لَهم مِن إصابَةِ آلامِ الهَشْمِ المُحَقَّقِ إفْضاؤُهُ إلى المَوْتِ، ومُشاهَدَةِ الأمْواتِ مِن ذَوِيِهِمْ، ومَوْتِ أنْعامِهِمْ، واقْتِلاعِ نَخِيلِهِمْ.
وقَدِ اخْتَرَعَ أهْلُ القِصَصِ تَسْمِيَةَ أيّامٍ ثَمانِيَةٍ نِصْفُها آخِرُ شَهْرِ شَباطَ ونِصْفُها شَهْرُ آذارَ تَكْثُرُ فِيها الرِّياحُ غالِبًا دَعَوْها أيّامَ الحُسُومِ، ثُمَّ رَكَّبُوا عَلى ذَلِكَ أنَّها المَوْصُوفَةُ بِحُسُومٍ في قَوْلِهِ تَعالى في سُورَةِ الحاقَّةِ ﴿سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وثَمانِيَةَ أيّامٍ حُسُومًا﴾ [الحاقة: ٧]، فَزَعَمُوا أنَّها الأيّامُ المُوافِقَةُ لِأيّامِ الرِّيحِ الَّتِي أصابَتْ عادًا، ثُمَّ رَكَّبُوا عَلى ذَلِكَ أنَّها أيّامُ نَحْسٍ مِن كُلِّ عامٍ وكَذَبُوا عَلى بَعْضِ السَّلَفِ مِثْلِ ابْنِ عَبّاسٍ أكاذِيبَ في ذَلِكَ، وذَلِكَ ضِغْثٌ عَلى إبالَةٍ، وتَفَنُّنٌ في أوْهامِ الضَّلالَةِ.
وجُمِعَ نَحِساتٍ بِالألِفِ والتّاءِ لِأنَّهُ صِفَةٌ لِجَمْعِ غَيْرِ العاقِلِ وهو أيّامٌ.
واللّامُ في لِنُذِيقَهم لِلتَّعْلِيلِ وهي مُتَعَلِّقَةٌ بِـ (أرْسَلْنا)، والإذاقَةُ تَخْيِيلٌ لِمَكْنِيَّةٍ، شُبِّهَ العَذابُ بِطَعامٍ هُيِّئَ لَهم عَلى وجْهِ التَّهَكُّمِ كَما سَمّى عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ الغارَةَ قِرًى في قَوْلِهِ:(p-٢٦١)
؎قَرِيناكم فَعَجَّلْنا قِراكم ∗∗∗ قُبَيْلَ الصُّبْحِ مِرْداةً طَحُونًا
والإذاقَةُ: تَخْيِيلٌ مِن مُلائِماتِ الطَّعامِ المُشَبَّهِ بِهِ.
والخِزْيُ: الذُّلُّ. وإضافَةُ (عَذابَ) إلى (الخِزْيِ) مِن إضافَةِ المَوْصُوفِ إلى الصِّفَةِ بِدَلِيلِ مُقابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ ولَعَذابُ الآخِرَةِ أخْزى، أيْ أشَدُّ إخْزاءً مِن إخْزاءِ عَذابِ الدُّنْيا، وذَلِكَ بِاعْتِبارِ أنَّ الخِزْيَ وصْفٌ لِلْعَذابِ مِن بابِ الوَصْفِ بِالمَصْدَرِ أوِ اسْمِ المَصْدَرِ لِلْمُبالَغَةِ في كَوْنِ ذَلِكَ العَذابِ مُخْزِيًا لِلَّذِي يُعَذَّبُ بِهِ.
ومَعْنى كَوْنِ العَذابِ مُخْزِيًا: أنَّهُ سَبَبُ خِزْيٍ فَوَصْفُ العَذابِ بِأنَّهُ خِزْيٌ بِمَعْنى مُخْزٍ مِن بابِ المَجازِ العَقْلِيِّ، ويُقَدَّرُ قَبْلَ الإضافَةِ: لِنُذِيقَهم عَذابًا خِزْيًا، أيْ مُخْزِيًا، فَلَمّا أُرِيدَتْ إضافَةُ المَوْصُوفِ إلى صِفَتِهِ قِيلَ: عَذابُ الخِزْيِ، لِلْمُبالَغَةِ أيْضًا لِأنَّ إضافَةَ المَوْصُوفِ إلى الصِّفَةِ مُبالَغَةٌ في الِاتِّصافِ حَتّى جُعِلَتِ الصِّفَةُ بِمَنزِلَةِ شَخْصٍ آخَرَ يُضافُ إلَيْهِ المَوْصُوفُ وهو قَرِيبٌ مِن مُحَسِّنِ التَّجْرِيدِ فَحَصَلَتْ مُبالَغَتانِ في قَوْلِهِ (﴿عَذابَ الخِزْيِ﴾) مُبالَغَةُ الوَصْفِ بِالمَصْدَرِ، ومُبالَغَةُ إضافَةِ المَوْصُوفِ إلى الصِّفَةِ.
وجُمْلَةُ (﴿ولَعَذابُ الآخِرَةِ أخْزى﴾) احْتِراسٌ لِئَلّا يَحْسَبَ السّامِعُونَ أنَّ حَظَّ أُولَئِكَ مِنَ العِقابِ هو عَذابُ الإهْلاكِ بِالرِّيحِ فَعَطَفَ عَلَيْهِ الإخْبارَ بِأنَّ عَذابَ الآخِرَةِ أخْزى، أيْ لَهم ولِكُلِّ مَن عُذِّبَ عَذابًا في الدُّنْيا لِغَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِ.
وأخْزى: اسْمُ تَفْضِيلٍ جَرى عَلى غَيْرِ قِياسٍ، وقِياسُهُ أنْ يُقالَ: أشَدُّ إخْزاءً، لِأنَّهُ لا يُقالُ: خَزاهُ، بِمَعْنى أخْزاهُ، أيْ أهانَهُ، ومِثْلُ هَذا في صَوْغِ اسْمِ التَّفْضِيلِ كَثِيرٌ في الِاسْتِعْمالِ.
وجُمْلَةُ وهم لا يُنْصَرُونَ تَذْيِيلٌ، أيْ لا يَنْصُرُهم مَن يَدْفَعُ العَذابَ عَنْهم، ولا مَن يَشْفَعُ لَهم، ولا مَن يُخْرِجُهم مِنهُ بَعْدَ مُهْلَةٍ.
{"ayahs_start":15,"ayahs":["فَأَمَّا عَادࣱ فَٱسۡتَكۡبَرُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ بِغَیۡرِ ٱلۡحَقِّ وَقَالُوا۟ مَنۡ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةًۖ أَوَلَمۡ یَرَوۡا۟ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِی خَلَقَهُمۡ هُوَ أَشَدُّ مِنۡهُمۡ قُوَّةࣰۖ وَكَانُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَا یَجۡحَدُونَ","فَأَرۡسَلۡنَا عَلَیۡهِمۡ رِیحࣰا صَرۡصَرࣰا فِیۤ أَیَّامࣲ نَّحِسَاتࣲ لِّنُذِیقَهُمۡ عَذَابَ ٱلۡخِزۡیِ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَاۖ وَلَعَذَابُ ٱلۡـَٔاخِرَةِ أَخۡزَىٰۖ وَهُمۡ لَا یُنصَرُونَ"],"ayah":"فَأَمَّا عَادࣱ فَٱسۡتَكۡبَرُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ بِغَیۡرِ ٱلۡحَقِّ وَقَالُوا۟ مَنۡ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةًۖ أَوَلَمۡ یَرَوۡا۟ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِی خَلَقَهُمۡ هُوَ أَشَدُّ مِنۡهُمۡ قُوَّةࣰۖ وَكَانُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَا یَجۡحَدُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق