الباحث القرآني

﴿والَّذِينَ إذا أنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا ولَمْ يُقْتِرُوا وكانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوامًا﴾ أفادَ قَوْلُهُ: (﴿إذا أنْفَقُوا﴾) أنَّ الإنْفاقَ مِن خِصالِهِمْ فَكَأنَّهُ قالَ: والَّذِينَ يُنْفِقُونَ وإذا أنْفَقُوا إلَخْ. وأُرِيدَ بِالإنْفاقِ هُنا الإنْفاقُ غَيْرُ الواجِبِ وذَلِكَ إنْفاقُ المَرْءِ عَلى أهْلِ بَيْتِهِ وأصْحابِهِ؛ لِأنَّ الإنْفاقَ الواجِبَ لا يُذَمُّ الإسْرافُ فِيهِ، والإنْفاقُ الحَرامُ لا يُحْمَدُ مُطْلَقًا بَلَهْ أنْ يُذَمَّ الإقْتارُ فِيهِ عَلى أنَّ في قَوْلِهِ: إذا أنْفَقُوا إشْعارًا بِأنَّهُمُ اخْتارُوا أنْ يُنْفِقُوا ولَمْ يَكُنْ واجِبًا عَلَيْهِمْ. والإسْرافُ: تَجاوُزُ الحَدِّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الإنْفاقُ بِحَسَبِ حالِ المُنْفِقِ وحالِ المُنْفَقِ عَلَيْهِ. وتَقَدَّمَ مَعْنى الإسْرافِ في قَوْلِهِ تَعالى: (﴿ولا تَأْكُلُوها إسْرافًا﴾ [النساء: ٦]) في سُورَةِ النِّساءِ، وقَوْلِهِ: (﴿ولا تُسْرِفُوا إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ﴾ [الأنعام: ١٤١]) في سُورَةِ الأنْعامِ. والإقْتارُ عَكْسُهُ. وكانَ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ يُسْرِفُونَ في النَّفَقَةِ في اللَّذّاتِ ويُغْلُونَ السِّباءَ في الخَمْرِ ويُتَمِّمُونَ الأيْسارَ في المَيْسِرِ. وأقْوالُهم في ذَلِكَ كَثِيرَةٌ في أشْعارِهِمْ (p-٧٢)وهِيَ في مُعَلَّقَةِ طَرَفَةَ وفي مُعَلَّقَةِ لَبِيَدٍ وفي مِيمِيَّةِ النّابِغَةِ، ويَفْتَخِرُونَ بِإتْلافِ المالِ لِيَتَحَدَّثَ العُظَماءُ عَنْهم بِذَلِكَ، قالَ الشّاعِرُ مادِحًا: ؎مُفِيدٌ ومِتْلافٌ إذا ما أتَيْتَـهُ تَهَلَّلَ واهْتَزَّ اهْتِزازَ المُهَنَّدِ وقَرَأ نافِعٌ وابْنُ عامِرٍ وأبُو جَعْفَرٍ (﴿ولَمْ يُقْتِرُوا﴾) بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وكَسْرِ الفَوْقِيَّةِ مِنَ الإقْتارِ وهو مُرادِفُ التَّقْتِيرِ. وقَرَأهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو، ويَعْقُوبُ بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وكَسْرِ الفَوْقِيَّةِ مِن الإقْتارِ وهو مُرادِفُ التَّقْتِيرِ، وقَرَأهُ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو ويَعْقُوبُ بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وكَسْرِ الفَوْقِيَّةِ مِن قَتَرَ مِن بابِ ضَرَبَ وهو لُغَةٌ. وقَرَأ عاصِمٌ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وخَلَفٌ بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وضَمِّ الفَوْقِيَّةِ مِن فِعْلِ قَتَرَ مِن بابِ نَصَرَ. والإقْتارُ والقَتْرُ: الإحْجاَفُ والنَّقْصُ مِمّا تَسَعُهُ الثَّرْوَةُ ويَقْتَضِيهِ حالُ المُنْفَقِ عَلَيْهِ. وكانَ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ يُقْتِرُونَ عَلى المَساكِينِ والضُّعَفاءِ؛ لِأنَّهم لا يَسْمَعُونَ ثَناءَ العُظَماءِ في ذَلِكَ. وقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ: (﴿كُتِبَ عَلَيْكم إذا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ﴾ [البقرة: ١٨٠]) . والإشارَةُ في قَوْلِهِ: (بَيْنَ ذَلِكَ) إلى ما تَقَدَّمَ بِتَأْوِيلِ المَذْكُورِ، أيِ: الإسْرافُ والإقْتارُ. والقَوامُ بِفَتْحِ القافِ: العَدْلُ والقَصْدُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ. والمَعْنى أنَّهم يَضَعُونَ النَّفَقاتِ مَواضِعَها الصّالِحَةَ كَما أمَرَهُمُ اللَّهُ فَيَدُومُ إنْفاقُهم وقَدْ رَغَّبَ الإسْلامُ في العَمَلِ الَّذِي يَدُومُ عَلَيْهِ صاحِبُهُ، ولِيَسِيرَ نِظامُ الجَماعَةِ عَلى كِفايَةٍ دُونَ تَعْرِيضِهِ لِلتَّعْطِيلِ فَإنَّ الإسْرافَ مِن شَأْنِهِ اسْتِنْفادُ المالِ فَلا يَدُومُ الإنْفاقُ، وأمّا الإقْتارُ فَمِن شَأْنِهِ إمْساكُ المالِ فَيُحْرَمُ مَن يَسْتَأْهِلُهُ. وقَوْلُهُ: (بَيْنَ ذَلِكَ) خَبَرُ (كانَ)، و(قَوامًا) حالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَعْنى (بَيْنَ ذَلِكَ) . وفِيها إشْعارٌ بِمَدْحِ ما بَيْنَ ذَلِكَ بِأنَّهُ الصَّوابُ الَّذِي لا عِوَجَ فِيهِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ (قَوامًا) خَبَرَ (كانَ) و(بَيْنَ ذَلِكَ) ظَرْفًا مُتَعَلِّقًا بِهِ. وقَدْ جَرَتِ الآيَةُ عَلى مُراعاةِ الأحْوالِ الغالِبَةِ في إنْفاقِ النّاسِ. قالَ القُرْطُبِيُّ: والقَوامُ في كُلِّ واحِدٍ بِحَسَبِ عِيالِهِ وحالِهِ، ولِهَذا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أبا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ يَتَصَدَّقُ بِجَمِيعِ مالِهِ ومَنَعَ غَيْرَهُ مِن ذَلِكَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب