الباحث القرآني
﴿وأنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأسْكَنّاهُ في الأرْضِ وإنّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ﴾ ﴿فَأنْشَأْنا لَكم بِهِ جَنّاتٍ مِن نَخِيلٍ وأعْنابٍ لَكم فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ ومِنها تَأْكُلُونَ﴾ ﴿وشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سِيناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ﴾
مُناسَبَةُ عَطْفِ إنْزالِ ماءِ المَطَرِ عَلى جُمْلَةِ ﴿ولَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكم سَبْعَ طَرائِقَ﴾ [المؤمنون: ١٧] أنَّ ماءَ المَطَرِ يَنْزِلُ مِن صَوْبِ السَّماءِ، أيْ: مِن جِهَةِ السَّماءِ.
وفِي إنْزالِ ماءِ المَطَرِ دَلالَةٌ عَلى سِعَةِ العِلْمِ ودَقِيقِ القُدْرَةِ، وفي ذَلِكَ أيْضًا مِنَّةٌ عَلى الخَلْقِ فالكَلامُ اعْتِبارٌ وامْتِنانٌ مِن قَوْلِهِ: ﴿فَأنْشَأْنا لَكم بِهِ جَنّاتٍ﴾ إلى آخِرِهِ. ومَعْنى هَذِهِ الآيَةِ تَقَدَّمَ في سُورَةِ الأنْعامِ وسُورَةِ الرَّعْدِ وسُورَةِ النَّحْلِ.
وإنْزالُ الماءِ هو إسْقاطُهُ مِنَ السُّحُبِ ماءً وثَلْجًا وبَرَدًا عَلى السُّهُولِ والجِبالِ.
(p-٢٩)والقَدَرُ هُنا: التَّقْدِيرُ والتَّعْيِينُ لِلْمِقْدارِ في الكَمِّ وفي النَّوْبَةِ، فَيَصِحُّ أنْ يُحْمَلَ عَلى صَرِيحِهِ، أيْ: بِمِقْدارٍ مُعَيَّنٍ مُناسِبٍ لِلْإنْعامِ بِهِ؛ لِأنَّهُ إذا أُنْزِلَ كَذَلِكَ حَصَلَ بِهِ الرِّيُّ والتَّعاقُبُ، وكَذَلِكَ ذَوَبانُ الثُّلُوجِ النّازِلَةِ. ويَصِحُّ أنْ يُقْصَدَ مَعَ ذَلِكَ الكِنايَةُ عَنِ الضَّبْطِ والإتْقانِ. ولَيْسَ المُرادُ بِالقَدَرِ هُنا المَعْنى الَّذِي في قَوْلِ النَّبِيءِ ﷺ: وتُؤْمِنُ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ.
والإسْكانُ: جَعْلُ الشَّيْءِ في مَسْكَنٍ، والمَسْكَنُ: مَحَلُّ القَرارِ، وهو مَفْعَلٌ، اسْمُ مَكانٍ مُشْتَقٌّ مِنَ السُّكُونِ.
وأطْلَقَ الإسْكانَ عَلى الإقْرارِ في الأرْضِ عَلى طَرِيقِ الِاسْتِعارَةِ. وهَذا الإقْرارُ عَلى نَوْعَيْنِ: إقْرارٌ قَصِيرٌ مِثْلَ إقْرارِ ماءِ المَطَرِ في القِشْرَةِ الظّاهِرَةِ مِنَ الأرْضِ عَقِبَ نُزُولِ الأمْطارِ عَلى حَسَبِ ما تَقْتَضِيهِ غَزارَةُ المَطَرِ ورَخاوَةُ الأرْضِ وشِدَّةُ الحَرارَةِ أوْ شِدَّةُ البَرْدِ. وهو ما يَنْبُتُ بِهِ النَّباتُ في الحَرْثِ والبَقْلُ في الرَّبِيعِ وتَمْتَصُّ مِنهُ الأشْجارُ بِعُرُوقِها فَتُثْمِرُ إثْمارَها وتَخْرُجُ بِهِ عُرُوقُ الأشْجارِ وأُصُولُها مِنَ البُزُورِ الَّتِي في الأرْضِ.
ونَوْعٌ آخَرُ هو إقْرارٌ طَوِيلٌ وهو إقْرارُ المِياهِ الَّتِي تَنْزِلُ مِنَ المَطَرِ وعَنْ ذَوْبِ الثُّلُوجِ النّازِلَةِ فَتَتَسَرَّبُ إلى دَواخِلِ الأرْضِ فَتَنْشَأُ مِنها العُيُونُ الَّتِي تَنْبُعُ بِنَفْسِها أوْ تُفَجَّرُ بِالحَفْرِ آبارًا.
وجُمْلَةُ ﴿وإنّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ﴾ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الجُمْلَةِ وما تَفَرَّعَ عَلَيْها، وفي هَذا تَذْكِيرٌ بِأنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعالى صالِحَةٌ لِلْإيجادِ والإعْدامِ.
وتَنْكِيرُ (ذَهابٍ) لِلتَّفْخِيمِ والتَّعْظِيمِ، ومَعْنى التَّعْظِيمِ هُنا: تَعَدُّدُ أحْوالِ الذَّهابِ بِهِ مِن تَغْوِيرِهِ إلى أعْماقِ الأرْضِ بِانْشِقاقِ الأرْضِ بِزِلْزالٍ ونَحْوِهِ، ومِن تَجْفِيفِهِ بِشِدَّةِ الحَرارَةِ، ومِن إمْساكِ إنْزالِهِ زَمَنًا طَوِيلًا.
وفِي مَعْناهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ أرَأيْتُمْ إنْ أصْبَحَ ماؤُكم غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكم بِماءٍ مَعِينٍ﴾ [الملك: ٣٠] . وفي الكَشّافِ: ( وهو - أيْ ما في هاتِهِ الآيَةِ - أبْلَغُ في الإيعادِ (p-٣٠)مِن قَوْلِهِ: ﴿قُلْ أرَأيْتُمْ إنْ أصْبَحَ ماؤُكم غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكم بِماءٍ مَعِينٍ﴾ [الملك: ٣٠] اهـ.
فَبَيَّنَ صاحِبُ التَّقْرِيبِ لِلْأبْلَغِيَّةِ ثَمانِيَةَ عَشَرَ وجْهًا:
الأوَّلُ: أنَّ ذَلِكَ عَلى الفَرْضِ والتَّقْدِيرِ، وهَذا عَلى الجَزْمِ عَلى مَعْنى أنَّهُ أدَلُّ عَلى تَحْقِيقِ ما أوْعَدَ بِهِ وإنْ لَمْ يَقَعْ.
الثّانِي: التَّوْكِيدُ بِـ (إنَّ) .
الثّالِثُ: اللّامُ في الخَبَرِ.
الرّابِعُ: أنَّ هَذِهِ في مُطْلَقِ الماءِ المُنَزَّلِ مِنَ السَّماءِ وتِلْكَ في ماءٍ مُضافٍ إلَيْهِمْ.
الخامِسُ: أنَّ الغائِرَ قَدْ يَكُونُ باقِيًا بِخِلافِ الذّاهِبِ.
السّادِسُ: ما في تَنْكِيرِ (ذَهابٍ) مِنَ المُبالَغَةِ.
السّابِعُ: إسْنادُهُ هاهُنا إلى مُذْهِبٍ بِخِلافِهِ ثَمَّتْ حَيْثُ قِيلَ (غَوْرًا) .
الثّامِنُ: ما في ضَمِيرِ المُعَظِّمِ نَفْسَهُ مِنَ الرَّوْعَةِ.
التّاسِعُ: ما في (قادِرُونَ) مِنَ الدَّلالَةِ عَلى القُدْرَةِ عَلَيْهِ، والفِعْلُ الواقِعُ مِنَ القادِرِ أبْلَغُ.
العاشِرُ: ما في جَمْعِهِ.
الحادِي عَشَرَ: ما في لَفْظِ (بِهِ) مِنَ الدَّلالَةِ عَلى أنَّ ما يُمْسِكُهُ فَلا مُرْسِلَ لَهُ.
الثّانِي عَشَرَ: إخْلاؤُهُ مِنَ التَّعْقِيبِ بِإطْماعٍ وهُنالِكَ ذُكِرَ الإتْيانُ المَطْمَعُ.
الثّالِثَ عَشَرَ: تَقْدِيمُ ما في الإيعادِ وهو الذَّهابُ عَلى ما هو كالمُتَعَلِّقِ لَهُ أوْ مُتَعَلِّقِهِ عَلى المَذْهَبَيْنِ البَصْرِيِّ والكُوفِيِّ.
الرّابِعَ عَشَرَ: ما بَيْنَ الجُمْلَتَيْنِ الِاسْمِيَّةِ والفِعْلِيَّةِ مِنَ التَّفاوُتِ ثَباتًا وغَيْرَهُ.
الخامِسَ عَشَرَ: ما في لَفْظِ أصْبَحَ مِنَ الدَّلالَةِ عَلى الِانْتِقالِ والصَّيْرُورَةِ.
السّادِسَ عَشَرَ: أنَّ الإذْهابَ هاهُنا مُصَرَّحٌ بِهِ وهُنالِكَ مَفْهُومٌ مِن سِياقِ الِاسْتِفْهامِ.
(p-٣١)السّابِعَ عَشَرَ: أنَّ هُنالِكَ نَفْيُ ماءٍ خاصٍّ أعْنِي المَعِينَ بِخِلافِهِ هاهُنا.
الثّامِنَ عَشَرَ: اعْتِبارُ مَجْمُوعِ هَذِهِ الأُمُورِ الَّتِي يَكْفِي كُلٌّ مِنها مُؤَكِّدًا.
وزادَ الآلُوسِيُّ في تَفْسِيرِهِ فَقالَ:
التّاسِعَ عَشَرَ: إخْبارُهُ تَعالى نَفْسُهُ بِهِ مِن دُونِ أمْرٍ لِلْغَيْرِ هاهُنا بِخِلافِهِ هُنالِكَ فَإنَّهُ سُبْحانَهُ أمَرَ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أنْ يَقُولَ ذَلِكَ.
العِشْرُونَ: عَدَمُ تَخْصِيصِ مُخاطَبٍ هاهُنا وتَخْصِيصُ الكُفّارِ بِالخِطابِ هُنالِكَ.
الحادِي والعِشْرُونَ: التَّشْبِيهُ المُسْتَفادُ مِن جَعْلِ الجُمْلَةِ حالًا فَإنَّهُ يُفِيدُ تَحْقِيقَ القُدْرَةِ ولا تَشْبِيهَ ثَمَّتَ.
الثّانِي والعِشْرُونَ: إسْنادُ القُدْرَةِ إلَيْهِ تَعالى مَرَّتَيْنِ.
ونَقَلَ الآلُوسِيُّ عَنْ عَصْرِيِّهِ المَوْلى مُحَمَّدٍ الزَّهاوِيِّ وُجُوهًا وهي:
الثّالِثُ والعِشْرُونَ: تَضْمِينُ الإيعادِ هُنا إيعادُهم بِالإبْعادِ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعالى؛ لِأنَّ (ذَهَبَ بِهِ) يَسْتَلْزِمُ مُصاحَبَةَ الفاعِلِ المَفْعُولَ، وذَهابَ اللَّهِ تَعالى عَنْهم مَعَ الماءِ بِمَعْنى ذَهابِ رَحْمَتِهِ سُبْحانَهُ عَنْهم ولَعْنِهِمْ وطَرْدِهِمْ عَنْها ولا كَذَلِكَ ما هُناكَ.
الرّابِعُ والعِشْرُونَ: أنَّهُ لَيْسَ الوَقْتُ لِلذَّهابِ مُعَيَّنًا هُنا بِخِلافِهِ في (إنْ أصْبَحَ) فَإنَّهُ يُفْهَمُ مِنهُ أنَّ الصَّيْرُورَةَ في الصُّبْحِ عَلى أحَدِ اسْتِعْمالَيْ (أصْبَحَ) ناقِصًا.
الخامِسُ والعِشْرُونَ: أنَّ جِهَةَ الذَّهابِ بِهِ لَيْسَتْ مُعَيَّنَةً بِأنَّها السُّفْلُ (أيْ ما دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ غَوْرًا) .
السّادِسُ والعِشْرُونَ: أنَّ الإيعادَ هُنا بِما لَمْ يُبْتَلُوا بِهِ قَطُّ بِما هُنالِكَ.
السّابِعُ والعِشْرُونَ: أنَّ المُوعَدَ بِهِ هُنا إنْ وقَعَ فَهم هالِكُونَ ألْبَتَّةَ.
الثّامِنُ والعِشْرُونَ: أنَّهُ لَمْ يَبْقَ هُنا لَهم مُتَشَبِّثٌ ولَوْ ضَعِيفًا في تَأْمِيلِ امْتِناعِ المَوْعِدِ بِهِ وهُناكَ حَيْثُ أسْنَدَ الإصْباحَ غَوْرًا إلى الماءِ، ومَعْلُومٌ أنَّ الماءَ (p-٣٢)لا يُصْبِحُ غَوْرًا بِنَفْسِهِ كَما هو تَحْقِيقُ مَذْهَبِ الحَكِيمِ، أيْضًا احْتُمِلَ أنْ يُتَوَهَّمَ الشَّرْطِيَّةُ مَعَ صِدْقِها مُمْتَنِعَةَ المَقْدَمِ فَيَأْمَنُوا وُقُوعَهُ.
التّاسِعُ والعِشْرُونَ: أنَّ المُوعَدَ بِهِ هُنا يُحْتَمَلُ في بادِئِ النَّظَرِ وُقُوعُهُ حالًا بِخِلافِهِ هُناكَ فَإنَّ المُسْتَقْبَلَ مُتَعَيِّنٌ لِوُقُوعِهِ لِمَكانِ (إنْ) . وظاهِرٌ أنَّ التَّهْدِيدَ بِمُحْتَمَلِ الوُقُوعِ في الحالِ أهْوَلُ، ومُتَعَيِّنِ الوُقُوعِ في الِاسْتِقْبالِ أهْوَنُ.
الثَّلاثُونَ: أنَّ ما هُنا لا يَحْتَمِلُ غَيْرَ الإيعادِ بِخِلافِ ما هُناكَ فَإنَّهُ يَحْتَمِلُ ولَوْ عُلِمَ بُعْدُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِهِ الِامْتِنانُ بِأنَّهُ: إنْ أصْبَحَ ماؤُكم غَوْرًا فَلا يَأْتِيكم بِماءٍ مَعِينٍ سِوى اللَّهُ تَعالى.
وأنا أقُولُ: عُنِيَ هَؤُلاءِ النَّحارِيرُ بِبَيانِ التَّفاوُتِ بَيْنَ الآيَتَيْنِ ولَمْ يَتَعَرَّضْ أحَدُهم لِلْكَشْفِ عَنْ وجْهِ تَوْفِيرِ الخَصائِصِ في هَذِهِ الآيَةِ دُونَ الآيَةِ الأُخْرى مِمّا يُوازِنُها، ولَيْسَ ذَلِكَ لِخُلُوِّ الآيَةِ عَنْ نُكَتِ الإعْجازِ ولا عَجْزِ النّاظِرِينَ عَنِ اسْتِخْراجِ أمْثالِها؛ ولَكِنْ ما يُبَيَّنُ مِنَ الخَصائِصِ البَلاغِيَّةِ في القُرْآنِ لَيْسَ يُرِيدُ مَن يُبَيِّنُهُ أنَّ ما لاحَ لَهُ ووُفِّقَ إلَيْهِ هو قُصارى ما أوْدَعَهُ اللَّهُ في نَظْمِ القُرْآنِ مِنَ الخَصائِصِ والمَعانِي ولَكِنَّهُ مُبَلِّغٌ ما صادَفَ لَوْحُهُ لِلنّاظِرِ المُتَدَبِّرِ، والعُلَماءُ مُتَفاوِتُونَ في الكَشْفِ عَنْهُ عَلى قَدْرِ القَرائِحِ والفُهُومِ فَقَدْ يُفاضُ عَلى أحَدٍ مِن إدْراكِ الخَصائِصِ البَلاغِيَّةِ في بَعْضِ الآياتِ ولا يُفاضُ عَلَيْهِ مِثْلُهُ أوْ عَلى مِثْلِهِ في غَيْرِها. وإنَّما يَقْصِدُ أهْلُ المَعانِي بِإفاضَةِ القَوْلِ في بَعْضِ الآياتِ أنْ تَكُونَ نَمُوذَجًا لِاسْتِخْراجِ أمْثالِ تِلْكَ الخَصائِصِ في آياتٍ أُخْرى. كَما فَعَلَ السَّكّاكِيُّ في بَيانِ خَصائِصِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وقِيلَ يا أرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ﴾ [هود: ٤٤] الآيَةُ مِن مَبْحَثِ الفَصاحَةِ والبَلاغَةِ مِنَ المِفْتاحِ، وأنَّهُ قالَ في مُنْتَهى كَلامِهِ: (ولا تَظُنَّنَّ الآيَةَ مَقْصُورَةً عَلى ما ذَكَرْتُ فَلَعَلَّ ما تَرَكْتُ أكْثَرُ مِمّا ذَكَرْتُ؛ لِأنَّ المَقْصُودَ لَمْ يَكُنْ إلّا الإرْشادُ لِكَيْفِيَّةِ اجْتِناءِ ثَمَراتِ عِلْمَيِ المَعانِي والبَيانِ) .
(p-٣٣)وقَدْ نَقُولُ: إنَّ آيَةَ سُورَةِ المُؤْمِنِينَ قُصِدَ مِنها الإنْذارُ والتَّهْدِيدُ بِسَلْبِ تِلْكَ النِّعْمَةِ العَظِيمَةِ، وأمّا آيَةُ سُورَةِ المُلْكِ فالقَصْدُ مِنها الِاعْتِبارُ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى عَلى سَلْبِها، فاخْتِلافُ المَقامَيْنِ لَهُ أثَرٌ في اخْتِلافِ المُقْتَضَياتِ فَكانَتْ آيَةُ سُورَةِ المُؤْمِنِينَ آثَرَ بِوَفْرَةِ الخَصائِصِ المُناسِبَةِ لِمَقامِ الإنْذارِ والتَّهْدِيدِ دُونَ تَعْطِيلٍ لِاسْتِخْراجِ خَصائِصٍ فِيها لَعَلَّنا نُلِمُّ بِها حِينَ نَصِلُ إلَيْها.
عَلى أنَّ سُورَةَ المُلْكِ نَزَلَتْ عَقِبَ نُزُولِ سُورَةِ المُؤْمِنِينَ وقَدْ يَتَداخَلُ نُزُولُ بَعْضِها مَعَ نُزُولِ بَعْضِ سُورَةِ المُؤْمِنِينَ، فَلَمّا أُشْبِعَتْ آيَةُ سُورَةِ المُؤْمِنِينَ بِالخُصُوصِيّاتِ الَّتِي اقْتَضاها المَقامُ اكْتُفِيَ عَنْ مِثْلِها في نَظِيرَتِها مِن سُورَةِ المُلْكِ فَسَلَكَ في الثّانِيَةِ مَسْلَكَ الإيجازِ لِقُرْبِ العَهْدِ بِنَظِيرِها.
وإنْشاءُ الجَنّاتِ مِن صُنْعِ اللَّهِ تَعالى أوَّلُ إنْباتِ الجَنّاتِ في الأرْضِ ومِن بَعْدِ ذَلِكَ أُنْبِتَتِ الجَنّاتُ بِغَرْسِ البَشَرِ وذَلِكَ أيْضًا مِن صُنْعِ اللَّهِ بِما أوْدَعَ في العُقُولِ مِن مَعْرِفَةِ الغَرْسِ والزَّرْعِ والسَّقْيِ وتَفْجِيرِ المِياهِ واجْتِلابِها مِن بُعْدٍ، فَكُلُّ هَذا الإنْشاءُ مِنَ اللَّهِ تَعالى.
والجَنَّةُ: المَكانُ ذُو الشَّجَرِ. وأكْثَرُ إطْلاقِهِ عَلى ما كانَ فِيهِ نَخْلٌ وكَرْمٌ. وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ﴾ [البقرة: ٢٦٥] الآيَةَ، في سُورَةِ البَقَرَةِ.
وما ذُكِرَ هُنا مِن أصْنافِ الشَّجَرِ الثَّلاثَةِ هو أكْرَمُ الشَّجَرِ وأنْفَعُهُ ثَمَرًا وهو النَّخِيلُ والأعْنابُ والزَّيْتُونُ، وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى النَّخِيلِ والأعْنابِ والزَّيْتُونِ في سُورَةِ الأنْعامِ وفي سُورَةِ النَّحْلِ.
والفَواكِهُ: جَمَعُ فاكِهَةٍ، وهي الطَّعامُ الَّذِي يُتَفَكَّهُ بِأكْلِهِ، أيْ: يُتَلَذَّذُ بِطَعْمِهِ مِن غَيْرِ قَصْدِ القُوتِ، فَإنْ قُصِدَ بِهِ القُوتُ قِيلَ لَهُ طَعامٌ. فَمِنَ الأطْعِمَةِ ما هو فاكِهَةٌ وطَعامٌ كالتَّمْرِ والعِنَبِ لِأنَّهُ يُؤْكَلُ رَطْبًا ويابِسًا، ومِنها ما هو فاكِهَةٌ ولَيْسَ بِطَعامٍ كاللَّوْزِ والكُمَّثْرى، ومِنها ما هو طَعامٌ غَيْرُ فاكِهَةٍ كالزَّيْتُونِ، ولِذَلِكَ أخَّرَ ذِكْرَ شَجَرَةِ الزَّيْتُونِ عَنْ ذِكْرِ أخَوَيْها؛ لِأنَّهُ أُرِيدَ الِامْتِنانُ بِما في ثَمَرَتِهِما مِنَ التَّفَكُّهِ والقُوتِ فَتَكُونُ مِنَّةً بِالحاجِيِّ والتَّحْسِينِيِّ.
(p-٣٤)ووَصَفَ الفَواكِهَ بِـ (كَثِيرَةٍ) بِاعْتِبارِ اخْتِلافِ الأصْنافِ كالبُسْرِ والرَّطْبِ والتَّمْرِ، وكالزَّيْتِ والعِنَبِ الرَّطْبِ، وأيْضًا بِاعْتِبارِ كَثْرَةِ إثْمارِ هَذَيْنِ الشَّجَرَيْنِ.
(وشَجَرَةً) عَطْفٌ عَلى (جَنّاتٍ) أيْ وأخْرَجْنا لَكم بِهِ شَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْناءَ وهي شَجَرَةُ الزَّيْتُونِ، وجُمْلَةُ (تَخْرُجُ) صِفَةٌ لِـ (شَجَرَةً) .
وتَخْصِيصُها بِالذِّكْرِ مَعَ طَيِّ كَوْنِ النّاسِ مِنها يَأْكُلُونَ تَنْوِيهٌ بِشَأْنِها، وإيماءٌ إلى كَثْرَةِ مَنافِعِها؛ لِأنَّ مِن ثَمَرَتِها طَعامًا وإصْلاحًا ومُداواةً، ومِن أعْوادِها وقُودٌ وغَيْرُهُ. وفي الحَدِيثِ كُلُوا الزَّيْتَ وادَّهِنُوا بِهِ فَإنَّهُ مِن شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ.
وطُورُ سَيْناءَ: جَبَلٌ في صَحْراءِ سَيْناءَ الواقِعَةِ بَيْنَ عَقَبَةِ أيْلَةَ وبَيْنَ مِصْرِ، وهي مِن بِلادِ فِلَسْطِينَ في القَدِيمِ وفِيهِ ناجى مُوسى رَبَّهُ تَعالى، وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلَيْهِ في سُورَةِ الأعْرافِ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿ولَكِنِ انْظُرْ إلى الجَبَلِ﴾ [الأعراف: ١٤٣] . وغَلَبَ عَلَيْهِ اسْمُ الطُّورِ بِدُونِ إضافَةٍ، وطُورُ سَيْناءَ أوْ طُورُ سِينِينَ. ومَعْنى الطُّورِ: الجَبَلُ. وسَيْناءُ قِيلَ: اسْمُ شَجَرٍ يَكْثُرُ هُنالِكَ. وقِيلَ: اسْمُ حِجارَةٍ. وقِيلَ: هو اسْمٌ لِذَلِكَ المَكانِ. قِيلَ: هو اسْمٌ نَبَطِيٌّ وقِيلَ: هو اسْمٌ حَبَشِيٌّ ولا يَصِحُّ. وإنَّما اغْتَرَّ مَن قالَهُ بِمُشابَهَةِ هَذا الِاسْمِ لِوَصْفِ الحُسْنِ في اللُّغَةِ الحَبَشِيَّةِ وهو كَلِمَةُ: سَناهُ. ومِثْلُ هَذا التَّشابُهِ قَدْ أثارَ أغْلاطًا.
وسُكِّنَتْ ياءُ (سَيْناءَ) سُكُونًا مَيِّتًا وبِهِ قَرَأ الجُمْهُورُ. ويَجُوزُ فِيها الفَتْحُ وسُكُونُ الياءِ سُكُونًا حَيًّا، وبِهِ قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وعاصِمٌ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ وخَلَفٌ، وهو في القِراءَتَيْنِ مَمْدُودٌ، وهو فِيهِما مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ فَقِيلَ لِلْعَلَمِيَّةِ والعُجْمَةِ عَلى قِراءَةِ الكَسْرِ؛ لِأنَّ وزْنَ فَعِلاءَ إذا كانَ عَيْنُهُ أصْلًا لا تَكُونُ ألِفُهُ لِلتَّأْنِيثِ بَلْ لِلْإلْحاقِ وألِفُ الإلْحاقِ لا تَمْنَعُ الصَّرْفَ، وعَلى قِراءَةِ الفَتْحِ فَمَنعُهُ لِأجْلِ ألِفِ التَّأْنِيثِ؛ لِأنَّ وزْنَ فَعَلاءَ مِن أوْزانِ ألِفِ التَّأْنِيثِ.
وقَوْلُهُ: ﴿تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْناءَ﴾ يَقْتَضِي أنَّ لَها مَزِيدَ اخْتِصاصٍ بِطُورِ سَيْناءَ. وقَدْ غُمِضَ وجْهُ ذاكَ. والَّذِي أراهُ أنَّ الخُرُوجَ مُسْتَعْمَلٌ في مَعْنى النَّشْأةِ (p-٣٥)والتَّخَلُّقِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَأخْرَجْنا بِهِ أزْواجًا مِن نَباتٍ شَتّى﴾ [طه: ٥٣] وقَوْلِهِ: ﴿يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا ألْوانُهُ﴾ [الزمر: ٢١] . وذَلِكَ أنَّ حَقِيقَةَ الخُرُوجِ هو البُرُوزُ مِنَ المَكانِ ولَمّا كانَ كُلُّ مَخْلُوقٍ يَبْرُزُ بَعْدَ العَدَمِ وكانَ المَكانُ لازِمًا لِكُلِّ حادِثٍ شَبَّهَ ظُهُورَ الشَّيْءِ بَعْدَ أنْ كانَ مَعْدُومًا بِخُرُوجِ الشَّيْءِ مِنَ المَكانِ الَّذِي كانَ مَحْجُوبًا فِيهِ. وهي اسْتِعارَةٌ شائِعَةٌ في القُرْآنِ.
فَيَظْهَرُ أنَّ المَعْنى أنَّ اللَّهَ خَلَقَ أوَّلَ شَجَرِ الزَّيْتُونِ في طُورِ سَيْناءَ، وذَلِكَ أنَّ الأجْناسَ والأنْواعَ المَوْجُودَةَ عَلى الكُرَةِ الأرْضِيَّةِ لا بُدَّ لَها مِن مَواطِنَ كانَ فِيها ابْتِداءُ وجُودِها قَبْلَ وُجُودِها في غَيْرِها؛ لِأنَّ بَعْضَ الأمْكِنَةِ تَكُونُ أسْعَدَ لِنَشْأةِ بَعْضِ المَوْجُوداتِ مِن بَعْضٍ آخَرَ لِمُناسَبَةٍ بَيْنَ طَبِيعَةِ المَكانِ وطَبِيعَةِ الشَّيْءِ المَوْجُودِ فِيهِ مِن حَرارَةٍ أوْ بُرُودَةٍ أوِ اعْتِدالٍ، وكَذَلِكَ فُصُولُ السَّنَةِ كالرَّبِيعِ لِبَعْضِ الحَيَوانِ والشِّتاءِ لِبَعْضٍ آخَرَ والصَّيْفِ لِبَعْضٍ غَيْرِها، فاللَّهُ تَعالى يُوجِدُ المَوْجُوداتِ في الأحْوالِ المُناسِبَةِ لَها فالحَيَوانُ والنَّباتُ كُلُّهُ جارٍ عَلى هَذا القانُونِ.
ثُمَّ إنَّ البَشَرَ إذا نَقَلُوا حَيَوانًا أوْ نَباتًا مِن أرْضٍ إلى أرْضٍ أوْ أرادُوا الِانْتِفاعَ بِهِ في فَصْلٍ غَيْرِ فَصْلِهِ ورَأوْا عَدَمَ صَلاحِيَةِ المَكانِ أوِ الزَّمانِ المَنقُولِ إلَيْهِما يَحْتالُونَ لَهُ بِما يُكْمِلُ نَقْصَهُ مِن تَدْفِئَةٍ في شِدَّةِ بَرْدٍ أوْ تَبْرِيدٍ بِسَبْحٍ في الماءِ في شِدَّةِ الحَرِّ حَتّى لا يَتَعَطَّلَ تَناسُلُ ذَلِكَ المَنقُولِ إلى غَيْرِ مَكانِهِ، فَكَما أنَّ بَعْضَ الحَيَوانِ أوِ النَّباتِ لا يَعِيشُ طَوِيلًا في بَعْضِ المَناطِقِ غَيْرِ المُلايِمَةِ لِطِباعِهِ كالغَزالِ في بِلادِ الثُّلُوجِ، فَكَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بَعْضُ الأماكِنِ مِنَ المِنطَقَةِ المُلائِمَةِ لِلْحَيَوانِ أوِ النَّباتِ أصْلَحَ بِهِ مِن بَعْضِ جِهاتِ تِلْكَ المِنطَقَةِ، فَلَعَلَّ جَوَّ طُورِ سَيْناءَ لِتَوَسُّطِهِ بَيْنَ المَناطِقِ المُتَطَرِّفَةِ حَرًّا وبَرْدًا ولِتَوَسُّطِ ارْتِفاعِهِ بَيْنَ النُّجُودِ والسُّهُولِ يَكُونُ أسْعَدَ بِطَبْعِ فَصِيلَةِ الزَّيْتُونِ كَما قالَ تَعالى: ﴿زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ ولا غَرْبِيَّةٍ﴾ [النور: ٣٥]، فاللَّهُ تَعالى هَيَّأ لِتَكْوِينِها حِينَ أرادَ تَكْوِينَها ذَلِكَ المَكانَ كَما هَيَّأ لِتَكْوِينِ آدَمَ طِينَةً خاصَّةً فَقالَ: ﴿خَلَقَ الإنْسانَ مِن صَلْصالٍ﴾ [الرحمن: ١٤] . ثُمَّ يَكُونُ الزَّيْتُونُ قَدْ نُقِلَ مِن أوَّلِ مَكانٍ (p-٣٦)ظَهَرَ فِيهِ إلى أمْكِنَةٍ أُخْرى نَقَلَهُ إلَيْها ساكِنُوها لِلِانْتِفاعِ بِهِ فَنَجَحَ في بَعْضِها ولَمْ يَنْجَحْ في بَعْضٍ.
وقَدْ ثَبَتَ في التَّوْراةِ أنَّ شَجَرَةَ الزَّيْتُونِ كانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ الطُّوفانِ وبَعْدَهُ. فَفي الإصْحاحِ الثّامِنِ مِن سِفْرِ التَّكْوِينِ: أنَّ نُوحًا أرْسَلَ حَمامَةً تَبْحَثُ عَنْ مَكانٍ غِيضَتْ عَنْهُ مِياهُ الطُّوفانِ فَرَجَعَتِ الحَمامَةُ عِنْدَ المَساءِ تَحْمِلُ في مِنقارِها ورَقَةَ زَيْتُونٍ خَضْراءَ فَعَلِمَ نُوحٌ أنَّ الماءَ أخَذَ يَغِيضُ عَنِ الأرْضِ.
ومَعْلُومٌ أنَّ ابْتِداءَ غَيْضِ الماءِ إنَّما يَنْكَشِفُ عَنْ أعالِي الجِبالِ أوَّلَ الأمْرِ فَلَعَلَّ ورَقَةَ الزَّيْتُونِ الَّتِي حَمَلَتْها الحَمامَةُ كانَتْ مِن شَجَرَةٍ في طُورِ سَيْناءَ.
وأيًّا ما كانَ فَقَدْ عَرَفَ نُوحٌ ورَقَةَ الزَّيْتُونِ فَدَلَّ عَلى أنَّهم كانُوا يَعْرِفُونَ هَذِهِ الشَّجَرَةَ قَبْلَ الطُّوفانِ. ولَكِنْ لَمْ يَرِدْ ذِكْرُ اسْتِعْمالِ زَيْتِ الزَّيْتُونِ في طَعامٍ في التّارِيخِ القَدِيمِ إلّا في عَهْدِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ أيّامَ كانَ بَنُو إسْرائِيلَ حَوْلَ طُورِ سَيْناءَ؛ فَقَدِ اسْتُعْمِلَ الزَّيْتُ لِإنارَةِ خَيْمَةِ الِاجْتِماعِ بِوَحْيِ اللَّهِ لِمُوسى، وسَكَبَ مُوسى دُهْنَ المَسْحَةِ عَلى رَأْسِ هارُونَ أخِيهِ حِينَ أقامَهُ كاهِنًا لِبَنِي إسْرائِيلَ.
ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَعْنى تَخْرُجُ: تَظْهَرُ وتُعْرَفُ، فَيَكُونُ أوَّلُ اهْتِداءِ النّاسِ إلى مَنافِعِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ وانْتِقالِهِمْ إيّاها كانَ مِنَ الزَّيْتُونِ الَّذِي بِطُورِ سَيْناءَ. وهَذا كَما نُسَمِّي الدِّيكَ الرُّومِيَّ في بَلَدِنا بِالدِّيكِ الهِنْدِيِّ؛ لِأنَّ النّاسَ عَرَفُوهُ مِن بِلادِ الهِنْدِ، وكَما تُسَمّى بَعْضُ السُّيُوفِ في بِلادِ العَرَبِ بِالمَشْرَفِيَّةِ؛ لِأنَّها عُرِفَتْ مِن مَشارِفِ الشّامِ، وبَعْضُ الرِّماحِ الخَطِّيَّةِ؛ لِأنَّها تَرِدُ إلى بِلادِ العَرَبِ مِن مَرْفَأٍ يُقالُ لَهُ: الخَطُّ، وبَعْضُ السُّيُوفِ بِالمُهَنَّدِ؛ لِأنَّهُ يُجْلَبُ مِنَ الهِنْدِ، وقَدْ كانَ الزَّيْتُ يُجْلَبُ إلى بِلادِ العَرَبِ مِنَ الشّامِ ومِن فِلَسْطِينِ.
(p-٣٧)وأيًّا ما كانَ فَلَيْسَ القَصْدُ مِن ذِكْرِ أنَّها تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْناءَ إلّا التَّنْبِيهُ عَلى أنَّهُ مَنبَتُها الأصْلِيُّ وإلّا فَإنَّ الِامْتِنانَ بِها لَمْ يَكُنْ مُوَجَّهًا يَوْمَئِذٍ لِسُكّانِ طُورِ سَيْناءَ. وما كانَ هَذا التَّنْبِيهُ إلّا لِلتَّنْوِيهِ بِشَرَفِ مَنبَتِها وكَرَمِ المَوْطِنِ الَّذِي ظَهَرَتْ فِيهِ، ولَمْ تَزَلْ شَجَرَةُ الزَّيْتُونِ مَشْهُورَةً بِالبَرَكَةِ بَيْنَ النّاسِ. ورَأيْتُ في لِسانِ العَرَبِ عَنِ الأصْمَعِيِّ عَنْ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ صالِحٍ: أنَّ كُلَّ زَيْتُونَةٍ بِفِلَسْطِينَ مِن غَرْسِ أُمَمٍ يُقالُ لَهُمُ اليُونانِيُّونَ اهـ. والظّاهِرُ أنَّهُ يَعْنِي بِهِ زَيْتُونَ زَمانِهِمُ الَّذِي أخْلَفُوا بِهِ أشْجارًا قَدِيمَةً بادَتْ.
وفِي أساطِيرِ اليُونانِ (مِيثُولُوجْيا) أنَّ مِنِيرْفا ونَبْتُونَ (الرَّبَّيْنِ في اعْتِقادِ اليُونانِ) تَنازَعا في تَعْيِينِ أحَدِهِما لِيَضَعَ اسْمًا لِمَدِينَةٍ بَناها (كَكْرابِيسُ) فَحَكَمَتِ الأرْبابُ بَيْنَهُما بِأنَّ هَذا الشَّرَفَ لا يَنالُهُ إلّا مَن يَصْنَعُ أنْفَعَ الأشْياءِ. فَأمّا (نَبْتُونُ) فَأوْجَدَ فَرَسًا بَحْرِيًّا عَظِيمَ القُوَّةِ، وأمًّا (مِينِيرْفا) فَصَنَعَتْ شَجَرَةَ الزَّيْتُونِ بِثَمَرَتِها، فَحَكَمَ الأرْبابُ لَها بِأنَّها أحَقُّ، فَلِذَلِكَ وضَعُوا لِلْمَدِينَةِ اسْمَ (أثِينا) الَّذِي هو اسْمُ مِنِيرْفا. وزَعَمُوا أنَّ (هِيرْكُولْ) لَمّا رَجَعَ مِن بَعْضِ غَزَواتِهِ جاءَ مَعَهُ بِأغْصانٍ مِنَ الزَّيْتُونِ فَغَرَسَها في جَبَلِ (أُولُمْبُوسَ) وهو مَسْكَنُ آلِهَتِهِمْ في زَعْمِهِمْ.
فَقَدْ كانَ زَيْتُ الزَّيْتُونِ مُسْتَعْمَلًا عِنْدَ اليُونانِ مِن عَهْدِ (هُومِيرُوسَ) إذْ ذَكَرَ في الإلْياذَةِ أنَّ (أخْيُلَ) سَكَبَ زَيْتًا عَلى شِلْوِ (فِطْرِ قَلْيُوسَ) وشِلْوِ (هِكْتُورَ) .
وكانَ الزَّيْتُ نادِرًا في مُعْظَمِ بِلادِ العَرَبِ إذْ كانَ يُجْلَبُ إلى بِلادِ العَرَبِ مِنَ الشّامِ.
وقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ بِزَيْتِ الزَّيْتُونَةِ مَثَلًا لِنُورِهِ في قَوْلِهِ: ﴿مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ المِصْباحُ في زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ ولا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ ولَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ﴾ [النور: ٣٥] .
(p-٣٨)والتَّعْبِيرُ بِالمُضارِعِ في قَوْلِهِ: ﴿تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْناءَ﴾ لِاسْتِحْضارِ الصُّورَةِ العَجِيبَةِ المُهِمَّةِ الَّتِي كُوِّنَتْ بِها تِلْكَ الشَّجَرَةُ في أوَّلِ تَكْوِينِها حَتّى كَأنَّ السّامِعَ يُبْصِرُها خارِجَةً بِالنَّباتِ في طُورِ سَيْناءَ. وذَلِكَ كَقَوْلِهِ: ﴿وإذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾ [المائدة: ١١٠] . وهَذا أنْسَبُ بِالوَجْهِ الأوَّلِ في تَفْسِيرِ مَعْنى: تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْناءَ.
ومَعْنى ﴿تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ﴾ أنَّها تَنْبُتُ مُلابِسَةً لِلدُّهْنِ فالباءُ لِلْمُلابَسَةِ.
وهَذِهِ الآيَةُ مِثالٌ لِباءِ المُلابَسَةِ. والمُلابَسَةُ مَعْنًى واسِعٌ. فَمُلابَسَةُ نَباتِ شَجَرَةِ الزَّيْتُونِ لِلدُّهْنِ والصِّبْغِ مُلابَسَةٌ بِواسِطَةِ مُلابَسَةِ ثَمَرَتِها لِلدُّهْنِ والصِّبْغِ؛ فَإنَّ ثَمَرَتَها تَشْتَمِلُ عَلى الزَّيْتِ وهو يُكَوِّنُ دُهْنًا وصِبْغًا لِلْآكِلِينَ. فَأمّا كَوْنُهُ دُهْنًا فَهو أنَّهُ يَدْهِنُ بِهِ النّاسُ أجْسادَهم ويُرَجِّلُونَ بِهِ شُعُورَهم ويَجْعَلُونَ فِيهِ عُطُورًا فَيُرَجِّلُونَ بِهِ الشُّعُورَ، وقَدْ كانَ النَّبِيءُ ﷺ يَدْهِنُ بِالزَّيْتِ في رَأْسِهِ.
والدُّهْنُ بِضَمِّ الدّالِ: اسْمٌ لِما يُدْهَنُ بِهِ، أيْ يُطْلى بِهِ شَيْءٌ، ويُطْلَقُ الدُّهْنُ عَلى الزَّيْتِ بِاعْتِبارِ أنَّهُ يُطْلى بِهِ الجَسَدُ لِلتَّداوِي والشَّعْرُ لِلتَّرْجِيلِ.
والصِّبْغُ، بِكَسْرِ الصّادِ: ما يُصْبَغُ بِهِ أيْ يُغَيَّرُ بِهِ اللَّوْنُ. ثُمَّ تُوُسِّعَ في إطْلاقِهِ عَلى كُلِّ مائِعٍ يُطْلى بِهِ ظاهِرُ جِسْمٍ ما، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٣٨] وسُمِّيَ الزَّيْتُ صِبْغًا؛ لِأنَّهُ يُصْبَغُ بِهِ الخُبْزُ. وعَطْفُ (صِبْغٍ) عَلى (الدُّهْنِ) بِاعْتِبارِ المُغايَرَةِ فِيما تَدُلُّ عَلَيْهِ مادَّةُ اشْتِقاقِ الوَصْفِ فَإنَّ الصِّبْغَ ما يُصْبَغُ بِهِ والدُّهْنَ ما يُدْهَنُ بِهِ والصِّبْغُ أخَصُّ؛ فَهو مِن بابِ عَطْفِ الخاصِّ عَلى العامِّ لِلِاهْتِمامِ، وكانُوا يَأْدِمُونَ بِهِ الطَّعامَ وذَلِكَ صِبْغٌ لِلطَّعامِ. أخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ في سُنَنِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ وعَنْ أبِي أُسَيْدٍ أنَّ النَّبِيءَ ﷺ قالَ: «كُلُوا الزَّيْتَ وادْهِنُوا بِهِ فَإنَّهُ مِن شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ» .
وقَرَأ الجُمْهُورُ تَنْبُتُ بِفَتْحِ التّاءِ وضَمِّ المُوَحَّدَةِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو ورُوَيْسٌ ويَعْقُوبُ بِضَمِّ التّاءِ وكَسْرِ المُوَحَّدَةِ عَلى لُغَةِ مَن يَقُولُ: (p-٣٩)أنْبَتَ بِمَعْنى نَبَتَ، أوْ عَلى حَذْفِ المَفْعُولِ، أيْ تُنْبِتُ هي ثَمَرَها، أيْ تُخْرِجُهُ.
{"ayahs_start":18,"ayahs":["وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءَۢ بِقَدَرࣲ فَأَسۡكَنَّـٰهُ فِی ٱلۡأَرۡضِۖ وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابِۭ بِهِۦ لَقَـٰدِرُونَ","فَأَنشَأۡنَا لَكُم بِهِۦ جَنَّـٰتࣲ مِّن نَّخِیلࣲ وَأَعۡنَـٰبࣲ لَّكُمۡ فِیهَا فَوَ ٰكِهُ كَثِیرَةࣱ وَمِنۡهَا تَأۡكُلُونَ","وَشَجَرَةࣰ تَخۡرُجُ مِن طُورِ سَیۡنَاۤءَ تَنۢبُتُ بِٱلدُّهۡنِ وَصِبۡغࣲ لِّلۡـَٔاكِلِینَ"],"ayah":"وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءَۢ بِقَدَرࣲ فَأَسۡكَنَّـٰهُ فِی ٱلۡأَرۡضِۖ وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابِۭ بِهِۦ لَقَـٰدِرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق