الباحث القرآني

﴿وإذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فادّارَأْتُمْ فِيها واللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ ﴿فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ المَوْتى ويُرِيكُمُ آياتِهِ لَعَلَّكم تَعْقِلُونَ﴾ تَصْدِيرُهُ بِإذْ عَلى طَرِيقَةِ حِكايَةِ ما سَبَقَ مِن تَعْدادِ النِّعَمِ والألْطافِ ومُقابَلَتِهِمْ إيّاها بِالكُفْرانِ والِاسْتِخْفافِ يُومِئُ إلى أنَّ هَذِهِ قِصَّةٌ غَيْرُ قِصَّةِ الذَّبْحِ ولَكِنَّها حَدَثَتْ عَقِبَ الأمْرِ بِالذَّبْحِ (p-٥٦٠)لِإظْهارِ شَيْءٍ مِن حِكْمَةِ ذَلِكَ الأمْرِ الَّذِي أظْهَرُوا اسْتِنْكارَهُ عِنْدَ سَماعِهِ إذْ قالُوا أتَتَّخِذُنا هُزُؤًا وفي ذَلِكَ إظْهارُ مُعْجِزَةٍ لِمُوسى. وقَدْ قِيلَ إنَّ ما حُكِيَ في هَذِهِ الآيَةِ هو أوَّلُ القِصَّةِ وإنَّ ما تَقَدَّمَ هو آخِرُها وذَكَرُوا لِلتَّقْدِيمِ نُكْتَةً تَقَدَّمَ القَوْلُ في بَيانِها وتَوْهِينِها. ولَيْسَ فِيما رَأيْتُ مِن كُتُبِ اليَهُودِ ما يُشِيرُ إلى هَذِهِ القِصَّةِ فَلَعَلَّها مِمّا أُدْمِجَ في قِصَّةِ البَقَرَةِ المُتَقَدِّمَةِ لَمْ تَتَعَرَّضِ السُّورَةُ لِذِكْرِها لِأنَّها كانَتْ مُعْجِزَةً لِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ ولَمْ تَكُنْ تَشْرِيعًا بَعْدَهُ. وأشارَ قَوْلُهُ قَتَلْتُمْ إلى وُقُوعِ قَتْلٍ فِيهِمْ وهي طَرِيقَةُ القُرْآنِ في إسْنادِ أفْعالِ البَعْضِ إلى الجَمِيعِ جَرْيًا عَلى طَرِيقَةِ العَرَبِ في قَوْلِهِمْ قَتَلَتْ بَنُو فُلانٍ فُلانًا قالَ النّابِغَةُ يَذْكُرُ بَنِي حُنٍّ. ؎وهم قَتَلُوا الطّائِيَّ بِالجَوِّ عَنْوَةً أبا جابِرٍ واسْتَنْكَحُوا أُمَّ جابِرِ وذَلِكَ أنَّ نَفَرًا مِنَ اليَهُودِ قَتَلُوا ابْنَ عَمِّهِمُ الوَحِيدَ لِيَرِثُوا عَمَّهم وطَرَحُوهُ في مَحِلَّةِ قَوْمٍ وجاءُوا مُوسى يُطالِبُونَ بِدَمِ ابْنِ عَمِّهِمْ بُهْتانًا وأنْكَرَ المُتَّهَمُونَ فَأمَرَهُ اللَّهُ بِأنْ يَضْرِبَ القَتِيلَ بِبَعْضِ تِلْكَ البَقَرَةِ فَيَنْطِقَ ويُخْبِرَ بِقاتِلِهِ، والنَّفْسُ الواحِدُ مِنَ النّاسِ لِأنَّهُ صاحِبُ نَفْسٍ أيْ رُوحٍ وتَنَفُّسٍ وهي مَأْخُوذَةٌ مِنَ التَّنَفُّسِ وفي الحَدِيثِ ما مِن نَفْسٍ مَنفُوسَةٍ، ولِإشْعارِها بِمَعْنى التَّنَفُّسِ اخْتُلِفَ في جَوازِ إطْلاقِ النَّفْسِ عَلى اللَّهِ وإضافَتِها إلى اللَّهِ فَقِيلَ يَجُوزُ لِقَوْلِهِ تَعالى حِكايَةً عَنْ كَلامِ عِيسى ﴿تَعْلَمُ ما في نَفْسِي ولا أعْلَمُ ما في نَفْسِكَ﴾ [المائدة: ١١٦] ولِقَوْلِهِ في الحَدِيثِ القُدُسِيِّ «وإنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي» وقِيلَ لا يَجُوزُ إلّا لِلْمُشاكَلَةِ كَما في الآيَةِ والحَدِيثِ القُدُسِيِّ والظّاهِرُ الجَوازُ ولا عِبْرَةَ بِأصْلِ مَأْخَذِ الكَلِمَةِ مِنَ التَّنَفُّسِ فالنَّفْسُ الذّاتُ قالَ تَعالى ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها﴾ [النحل: ١١١] وتُطْلَقُ النَّفْسُ عَلى رُوحِ الإنْسانِ وإدْراكِهِ ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿تَعْلَمُ ما في نَفْسِي﴾ [المائدة: ١١٦] وقَوْلُ العَرَبِ: قُلْتُ في نَفْسِي أيْ في تَفَكُّرِي دُونَ قَوْلٍ لَفْظِيٍّ، ومِنهُ إطْلاقُ العُلَماءِ الكَلامَ النَّفْسِيَّ عَلى المَعانِي الَّتِي في عَقْلِ المُتَكَلِّمِ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْها بِاللَّفْظِ. وادّارَأْتُمُ افْتِعالٌ، وادّارَأْتُمْ أصْلُهُ تَدارَأْتُمْ تَفاعُلٌ مِنَ الدَّرْءِ وهو الدَّفْعُ لِأنَّ كُلَّ فَرِيقٍ يَدْفَعُ الجِنايَةَ عَنْ نَفْسِهِ فَلَمّا أُرِيدَ إدْغامُ التّاءِ في الدّالِ عَلى قاعِدَةِ تاءِ الِافْتِعالِ مَعَ الدّالِ والذّالِ جُلِبَتْ هَمْزَةُ الوَصْلِ لِتَيْسِيرِ التَّسْكِينِ لِلْإدْغامِ. وقَوْلُهُ ﴿واللَّهُ مُخْرِجٌ﴾ جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ مِنِ ادّارَأْتُمْ أيْ تَدارَأْتُمْ في حالِ أنَّ اللَّهَ سَيُخْرِجُ ما كَتَمْتُمُوهُ فاسْمُ الفاعِلِ فِيهِ لِلْمُسْتَقْبَلِ بِاعْتِبارِ عامِلِهِ وهو ادّارَأْتُمْ. (p-٥٦١)والخِطابُ هُنا عَلى نَحْوِ الخِطابِ في الآياتِ السّابِقَةِ المَبْنِيِّ عَلى تَنْزِيلِ المُخاطَبِينَ مَنزِلَةَ أسْلافِهِمْ لِحَمْلِ تَبِعَتِهِمْ عَلَيْهِمْ بِناءً عَلى ما تَقَرَّرَ مِن أنَّ خُلُقَ السَّلَفِ يَسْرِي إلى الخَلَفِ كَما بَيَّنّاهُ فِيما مَضى وسَنُبَيِّنُهُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى عِنْدَ قَوْلِهِ ﴿أفَتَطْمَعُونَ أنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾ [البقرة: ٧٥] وإنَّما تَعَلَّقَتْ إرادَةُ اللَّهِ تَعالى بِكَشْفِ حالِ قاتِلِي هَذا القَتِيلِ مَعَ أنَّ دَمَهُ لَيْسَ بِأوَّلِ دَمٍ طَلٍّ في الأُمَمِ إكْرامًا لِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ أنْ يَضِيعَ دَمٌ في قَوْمِهِ وهو بَيْنَ أظْهُرِهِمْ وبِمَرْأًى مِنهُ ومَسْمَعٍ لا سِيَّما وقَدْ قَصَدَ القاتِلُونَ اسْتِغْفالَ مُوسى ودَبَّرُوا المَكِيدَةَ في إظْهارِهِمُ المُطالَبَةَ بِدَمِهِ فَلَوْ لَمْ يُظْهِرِ اللَّهُ تَعالى هَذا الدَّمَ في أُمَّةٍ لَضَعُفَ يَقِينُها بِرَسُولِها ولَكانَ ذَلِكَ مِمّا يَزِيدُهم شَكًّا في صِدْقِهِ فَيَنْقَلِبُوا كافِرِينَ فَكانَ إظْهارُ هَذا الدَّمِ كَرامَةً لِمُوسى ورَحْمَةً بِالأُمَّةِ لِئَلّا تَضِلَّ فَلا يُشْكَلُ عَلَيْكم أنَّهُ قَدْ ضاعَ دَمٌ في زَمَنِ نَبِيِّنا ﷺ كَما في حَدِيثِ حُوَيِّصَةَ ومُحَيِّصَةَ الآتِي لِظُهُورِ الفَرْقِ بَيْنَ الحالَيْنِ بِانْتِفاءِ تَدْبِيرِ المَكِيدَةِ وانْتِفاءِ شَكِّ الأُمَّةِ في رَسُولِها وهي خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ. وقَوْلُهُ ﴿كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ المَوْتى﴾ الإشارَةُ إلى مَحْذُوفٍ لِلْإيجازِ أيْ فَضَرَبُوهُ فَحَيِيَ فَأخْبَرَ بِمَن قَتَلَهُ؛ أيْ كَذَلِكَ الإحْياءُ يُحْيِي اللَّهُ المَوْتى فالتَّشْبِيهُ في التَّحَقُّقِ وإنْ كانَتْ كَيْفِيَّةُ المُشَبَّهِ أقْوى وأعْظَمَ لِأنَّها حَياةٌ عَنْ عَدَمٍ بِخِلافِ هاتِهِ فالمَقْصِدُ مِنَ التَّشْبِيهِ بَيانُ إمْكانِ المُشَبَّهِ كَقَوْلِ المُتَنَبِّي: ؎فَإنْ تَفُقِ الأنامَ وأنْتَ مِنهم ∗∗∗ فَإنَّ المِسْكَ بَعْضُ دَمِ الغَزالِ وقَوْلُهُ ﴿كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ المَوْتى﴾ مِن بَقِيَّةِ المَقُولِ لِبَنِي إسْرائِيلَ فَيَتَعَيَّنُ أنْ يُقَدَّرَ ”وقُلْنا لَهم كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ المَوْتى“ لِأنَّ الإشارَةَ لِشَيْءٍ مُشاهَدٍ لَهم ولَيْسَ هو اعْتِراضًا أُرِيدَ بِهِ مُخاطَبَةُ الأُمَّةِ الإسْلامِيَّةِ لِأنَّهم لَمْ يُشاهِدُوا ذَلِكَ الإحْياءَ حَتّى يُشَبَّهَ بِهِ إحْياءُ اللَّهِ المَوْتى. وقَوْلُهُ ﴿لَعَلَّكم تَعْقِلُونَ﴾ رَجاءٌ لِأنْ يَعْقِلُوا فَلَمْ يَبْلُغِ الظَّنُّ بِهِمْ مَبْلَغَ القَطْعِ مَعَ هَذِهِ الدَّلائِلِ كُلِّها. وقَدْ جَرَتْ عادَةُ فُقَهائِنا أنْ يَحْتَجُّوا بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى مَشْرُوعِيَّةِ اعْتِبارِ قَوْلِ المَقْتُولِ: دَمِي عِنْدَ فُلانٍ مُوجِبًا لِلْقَسامَةِ ويَجْعَلُونَ الِاحْتِجاجَ بِها لِذَلِكَ مُتَفَرِّعًا عَلى الِاحْتِجاجِ بِشَرْعِ مَن قَبْلَنا وفي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ مَحَلَّ الِاسْتِدْلالِ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى مَشْرُوعِيَّةِ ذَلِكَ هو أنَّ إحْياءَ المَيِّتِ لَمْ يُقْصَدْ مِنهُ إلّا سَماعُ قَوْلِهِ فَدَلَّ عَلى أنَّ قَوْلَ المَقْتُولِ كانَ مُعْتَبَرًا في أمْرِ الدِّماءِ. والتَّوْراةُ قَدْ أجْمَلَتْ أمْرَ الدِّماءِ إجْمالًا شَدِيدًا في قِصَّةِ ذَبْحِ البَقَرَةِ الَّتِي قَدَّمْناها، نَعَمْ إنَّ الآيَةَ لا تَدُلُّ عَلى (p-٥٦٢)وُقُوعِ القَسامَةِ مَعَ قَوْلِ المَقْتُولِ ولَكِنَّها تَدُلُّ عَلى اعْتِبارِ قَوْلِ المَقْتُولِ سَبَبًا مِن أسْبابِ القِصاصِ ولَمّا كانَ الظَّنُّ بِتِلْكَ الشَّرِيعَةِ أنْ لا يُقْتَلَ أحَدٌ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوى مِنَ المَطْعُونِ تَعَيَّنَ أنَّ هُنالِكَ شَيْئًا تَقْوى بِهِ الدَّعْوى وهو القَسامَةُ وقَدْ أُورِدَ عَلى احْتِجاجِ المالِكِيَّةِ بِها أنَّ هَذا مِن خَوارِقِ العاداتِ وهي لا تُفِيدُ أحْكامًا وأجابَ ابْنُ العَرَبِيِّ بِأنَّ المُعْجِزَةَ في إحْياءِ المَيِّتِ فَلَمّا حَيِيَ صارَ كَلامُهُ كَكَلامِ سائِرِ الأحْياءِ وهو جَوابٌ لَطِيفٌ لَكِنَّهُ غَيْرُ قاطِعٍ، والخِلافُ في القَضاءِ بِالقَسامَةِ إثْباتًا ونَفْيًا وفي مِقْدارِ القَضاءِ بِها مَبْسُوطٌ في كُتُبِ الفِقْهِ وقَدْ تَقَصّاهُ القُرْطُبِيُّ ولَيْسَ مِن أغْراضِ الآيَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب