الباحث القرآني

﴿قالَ إنَّهُ يَقُولُ إنَّها بَقَرَةٌ﴾ الكَلامُ عَلى هَذا كالكَلامِ عَلى نَظِيرِهِ. (p-٢٥٥)﴿لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ ولا تَسْقِي الحَرْثَ﴾، لا ذَلُولٌ صِفَةٌ لِلْبَقَرَةِ، عَلى أنَّهُ مِنَ الوَصْفِ بِالمُفْرَدِ، ومَن قالَ هو مِنَ الوَصْفِ بِالجُمْلَةِ، وأنَّ التَّقْدِيرَ: لا هي ذَلُولٌ، فَبَعِيدٌ عَنِ الصَّوابِ. وتُثِيرُ الأرْضَ: صِفَةٌ لِذَلُولٍ، وهي صِلَةٌ داخِلَةٌ في حَيِّزِ النَّفْيِ، والمَقْصُودُ نَفْيُ إثارَتِها الأرْضَ، أيْ لا تُثِيرُ فَتَذِلَّ، فَهو مِن بابِ: ؎عَلى لاحِبٍ لا يُهْتَدى بِمَنارِهِ اللَّفْظُ نَفْيُ الذِّلِّ، والمَقْصُودُ نَفْيُ الإثارَةِ، فَيَنْتَفِي كَوْنُها ذَلُولًا ولا تَسْقِي الحَرْثَ نَفْيَ مُعادِلٍ لِقَوْلِهِ: لا ذَلُولٌ. والجُمْلَةُ صِفَةٌ، والصِّفَتانِ مَنفِيَّتانِ مِن حَيْثُ المَعْنى، كَما أنَّ ”لا تَسْقِي“ مَنفِيٌّ مِن حَيْثُ المَعْنى أيْضًا. ومَعْنى الكَلامِ: أنَّها لَمْ تُذَلَّلْ بِالعَمَلِ، لا في حَرْثٍ، ولا في سَقْيٍ، ولِهَذا نُفِيَ عَنْها إثارَةُ الأرْضِ وسَقْيُها. وقالَ الحَسَنُ: كانَتْ تِلْكَ البَقَرَةُ وحْشِيَّةً، ولِهَذا وُصِفَتْ بِأنَّها لا تُثِيرُ الأرْضَ بِالحَرْثِ، ولا يُسْنى عَلَيْها فَتُسْقِيَ. وقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إلى أنَّ قَوْلَهُ: ﴿تُثِيرُ الأرْضَ﴾، فِعْلٌ مُثْبَتٌ لَفْظًا ومَعْنًى، وأنَّهُ أثْبَتَ لِلْبَقَرَةِ أنَّها تُثِيرُ الأرْضَ وتَحْرُثُها، ونَفى عَنْها سَقْيُ الحَرْثِ. ورُدَّ هَذا القَوْلُ مِن حَيْثُ المَعْنى؛ لِأنَّ ما كانَ يَحْرُثُ لا يَنْتَفِي كَوْنُهُ ذَلُولًا. وقالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: مَعْنى تُثِيرُ الأرْضَ بِغَيْرِ الحَرْثِ بَطَرًا ومَرَحًا، ومِن عادَةِ البَقَرِ إذا بَطِرَتْ تَضْرِبُ بِقَرْنِها وأظْلافِها، فَتُثِيرُ تُرابَ الأرْضِ، ويَنْعَقِدُ عَلَيْهِ الغُبارُ، فَيَكُونُ هَذا المَعْنى مِن تَمامِ قَوْلِهِ: ﴿لا ذَلُولٌ﴾؛ لِأنَّ وصْفَها بِالمَرَحِ والبَطَرِ دَلِيلٌ عَلى أنَّها لا ذَلُولٌ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لا ذَلُولٌ، صِفَةٌ لِبَقَرَةٍ بِمَعْنى: بَقَرَةٌ غَيْرُ ذَلُولٍ، يَعْنِي: لَمْ تُذَلَّلْ لِلْحَرْثِ وإثارَةِ الأرْضِ، ولا هي مِنَ النَّواضِحِ الَّتِي يُسْنى عَلَيْها بِسَقْيِ الحُرُوثِ. ولا الأُولى لِلنَّفْيِ، والثّانِيَةُ مَزِيدَةٌ لِتَوْكِيدِ الأُولى؛ لِأنَّ المَعْنى: لا ذَلُولٌ تُثِيرُ وتَسْقِي، عَلى أنَّ الفِعْلَيْنِ صِفَتانِ لِـ ”ذَلُولٌ“ كَأنَّهُ قِيلَ: لا ذَلُولٌ مُثِيرَةً وساقِيَةً. انْتَهى كَلامُهُ. ووافَقَهُ عَلى جَعْلِ لا الثّانِيَةِ مَزِيدَةً صاحِبُ المُنْتَخَبِ، وما ذَهَبا إلَيْهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: لا ذَلُولٌ صِفَةٌ مَنفِيَّةٌ بِلا، وإذا كانَ الوَصْفُ قَدْ نُفِيَ بِلا، لَزِمَ تَكْرارُ لا النّافِيَةِ لِما دَخَلَتْ عَلَيْهِ، تَقُولُ مَرَرْتُ بِرَجُلٍ لا كِرِيمٍ ولا شُجاعٍ، وقالَ تَعالى: ﴿ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ﴾ [المرسلات: ٣٠] ﴿لا ظَلِيلٍ ولا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ﴾ [المرسلات: ٣١] ﴿وظِلٍّ مِن يَحْمُومٍ﴾ [الواقعة: ٤٣] ﴿لا بارِدٍ ولا كَرِيمٍ﴾ [الواقعة: ٤٤] ﴿لا فارِضٌ ولا بِكْرٌ﴾ [البقرة: ٦٨]، ولا يَجُوزُ أنْ تَأْتِيَ بِغَيْرِ تَكْرارٍ؛ لِأنَّ المُسْتَفادَ مِنها النَّفْيُ، إلّا إنْ ورَدَ في ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، وإذا آلَ تَقْدِيرُهُما إلى لا ذَلُولٌ مُثِيرَةً وساقِيَةً، كانَ غَيْرَ جائِزٍ لِما ذَكَرْناهُ مِن وُجُوبِ تَكْرارِ لا النّافِيَةِ، وعَلى ما قَدَّراهُ كانَ نَظِيرَ: جاءَنِي رَجُلٌ لا كِرِيمٌ، وذَلِكَ لا يَجُوزُ إلّا إنْ ورَدَ في شِعْرٍ، كَما نَبَّهْنا عَلَيْهِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ولا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ هَذِهِ الجُمْلَةُ في مَوْضِعِ الحالِ لِأنَّها مِن نَكِرَةٍ. انْتَهى كَلامُهُ. والجُمْلَةُ الَّتِي أشارَ إلَيْها هي قَوْلُهُ: تُثِيرُ الأرْضَ، والنَّكِرَةُ هي قَوْلُهُ: لا ذَلُولٌ، أوْ قَوْلُهُ: بَقَرَةٌ، فَإنْ عَنى بِالنَّكِرَةِ بَقَرَةً، فَقَدْ وُصِفَتْ، والحالُ مِنَ النَّكِرَةِ المَوْصُوفَةِ جائِزَةٌ جَوازًا حَسَنًا، وإنْ عَنى بِالنَّكِرَةِ لا ذَلُولٌ، فَهو قَوْلُ الجُمْهُورِ مِمَّنْ لَمْ يُحَصِّلْ مَذْهَبَ سِيبَوَيْهِ، ولا أمْعَنَ النَّظَرَ في كِتابِهِ، بَلْ قَدْ أجازَ سِيبَوَيْهِ في كِتابِهِ، في مَواضِعَ، مَجِيءَ الحالِ مِنَ النَّكِرَةِ، وإنْ لَمْ تُوصَفْ، وإنْ كانَ الإتْباعُ هو الوَجْهَ والأحْسَنَ، قالَ سِيبَوَيْهِ في بابِ ما لا يَكُونُ الِاسْمُ فِيهِ إلّا نَكِرَةً: وقَدْ يَجُوزُ نَصْبُهُ عَلى نَصْبِ: هَذا رَجُلٌ مُنْطَلِقًا، يُرِيدُ عَلى الحالِ مِنَ النَّكِرَةِ، ثُمَّ قالَ: وهو قَوْلُ عِيسى، ثُمَّ قالَ: وزَعَمَ الخَلِيلُ أنَّ هَذا جائِزٌ، ونَصَبَهُ كَنَصْبِهِ في المَعْرِفَةِ جَعَلَهُ حالًا، ولَمْ يَجْعَلْهُ صِفَةً، ومِثْلُ ذَلِكَ: مَرَرْتُ بِرِجُلٍ قائِمًا، إذا جَعَلْتَ المُرُورَ بِهِ في حالِ قِيامٍ، وقَدْ يَجُوزُ عَلى هَذا: فِيها رَجُلٌ قائِمًا، ومِثْلُ ذَلِكَ: عَلَيْهِ مِائَةٌ بَيْضاءَ، والرَّفْعُ الوَجْهُ، وعَلَيْهِ مِائَةٌ دَيْنًا، الرَّفْعُ الوَجْهُ، وزَعَمَ يُونُسُ أنَّ ناسًا مِنَ العَرَبِ يَقُولُونَ: مَرَرْتُ بِماءٍ قَعْدَةَ رَجُلٍ، والوَجْهُ الجَرُّ، وكَذَلِكَ قالَ سِيبَوَيْهِ في بابِ ما يَنْتَصِبُ لِأنَّهُ قَبِيحٌ أنْ يَكُونَ صِفَةً فَقالَ: راقُودٌ خَلا وعَلَيْكَ نِحْيٌ سَمْنًا، وقالَ في بابِ نَعَمْ، فَإذا قُلْتَ لِي عَسَلٌ مِلْءُ جَرَّةٍ، وعَلَيْهِ دَيْنٌ شَعْرُ كَلْبَيْنِ، فالوَجْهُ الرَّفْعُ؛ لِأنَّهُ صِفَةٌ، والنَّصْبُ يَجُوزُ كَنَصْبِهِ: عَلَيْهِ مِائَةٌ بَيْضاءَ، فَهَذِهِ نُصُوصُ سِيبَوَيْهِ، ولَوْ كانَ ذَلِكَ غَيْرَ جائِزٍ، كَما قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، لَما قاسَهُ سِيبَوَيْهِ؛ لِأنَّ غَيْرَ الجائِزِ لا يُقالُ بِهِ فَضْلًا عَنْ أنْ يُقاسَ، وإنْ كانَ الإتْباعُ لِلنَّكِرَةِ (p-٢٥٦)أحْسَنَ، وإنَّما امْتَنَعَتْ في هَذِهِ المَسْألَةِ؛ لِأنَّ ما ذَهَبَ إلَيْهِ أبُو مُحَمَّدٍ هو قَوْلُ الضُّعَفاءِ في صِناعَةِ الإعْرابِ، الَّذِينَ لَمْ يَطَّلِعُوا عَلى كَلامِ الإمامِ. وأجازَ بَعْضُ المُعْرِبِينَ أنْ يَكُونَ: تُثِيرُ الأرْضَ، في مَوْضِعِ الحالِ مِنَ الضَّمِيرِ المَسْتَكِنِّ في ”ذَلُولٌ“، تَقْدِيرُهُ: لا تُذَلُّ في حالِ إثارَتِها، والوَجْهُ ما بَدَأْنا بِهِ أوَّلًا، وقَرَأ أبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ: لا ذَلُولَ، بِالفَتْحِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِمَعْنى لا ذَلُولَ هُناكَ، أيْ حَيْثُ هي، وهو نَفْيٌ لِذِلِّها، ولِأنْ تُوصَفَ بِهِ فَيُقالَ: هي ذَلُولٌ، ونَحْوُهُ قَوْلُكَ: مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لا بَخِيلَ ولا جَبانَ، أيْ فِيهِمْ، أوْ حَيْثُ هم. انْتَهى كَلامُهُ. فَعَلى ما قَدَّرَهُ يَكُونُ الخَبَرُ مَحْذُوفًا، ويَكُونُ قَوْلُهُ: تُثِيرُ الأرْضَ، صِفَةً لِاسْمِ لا، وهي مَنفِيَّةٌ مِن حَيْثُ المَعْنى، ولِذَلِكَ عُطِفَ عَلَيْها جُمْلَةٌ مَنفِيَّةٌ، وهو قَوْلُهُ: ولا تَسْقِي الحَرْثَ. وإذا تَقَرَّرَ هَذا، فَلا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ ﴿تُثِيرُ الأرْضَ ولا تَسْقِي الحَرْثَ﴾ خَبَرًا؛ لِأنَّهُ كانَ يَتَنافَرُ هَذا التَّرْكِيبُ مَعَ ما قَبْلَهُ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿يَقُولُ إنَّها بَقَرَةٌ﴾ [البقرة: ٦٨] يَبْقى كَلامًا مُنْفَلِتًا مِمّا بَعْدَهُ، إذْ لا تَحْصُلُ بِهِ الإفادَةُ إلّا عَلى تَقْدِيرِ أنْ تَكُونَ هَذِهِ الجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ الصِّفَةِ والمَوْصُوفِ، ويَكُونَ مَحَطَّ الخَبَرِ هو قَوْلُهُ: ﴿مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها﴾، لِأنَّها صِفَةٌ في اللَّفْظِ، وهي الخَبَرُ في المَعْنى، ويَكُونُ ذَلِكَ الِاعْتِراضُ مِن حَيْثُ المَعْنى نافِيًا ذِلَّةَ هَذِهِ البَقَرَةِ، إذْ هي فَرْدٌ مِن أفْرادِ الجِنْسِ المَنفِيِّ بِلا الَّذِي بُنِيَ مَعَها، ولا يَجُوزُ أنْ تَقَعَ هَذِهِ الجُمْلَةُ، أعْنِي لا ذَلُولَ، عَلى قِراءَةِ السُّلَمِيِّ، في مَوْضِعِ الصِّفَةِ عَلى تَقْدِيرِ أنَّ تُثِيرُ وما بَعْدَها الخَبَرُ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ فِيها عائِدٌ عَلى المَوْصُوفِ الَّذِي هو بَقَرَةٌ، إذِ العائِدُ الَّذِي في تُثِيرُ وفي تَسْقِي ضَمِيرُ اسْمِ لا، ولا يُتَخَيَّلُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ ولا تَسْقِي الحَرْثَ﴾ عَلى تَقْدِيرِ أنَّ تُثِيرُ وما بَعْدَهُ خَبَرٌ يَكُونُ دالًّا عَلى نَفْيِ ”ذَلُولٌ“ مَعَ الخَبَرِ عَنِ الوُجُودِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ كانَ يَكُونُ غَيْرَ مُطابِقٍ لِما عَلَيْهِ الوُجُودُ، وإنَّما المَعْنى نَفْيُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلى أرْضِهِمْ وإلى حَرْثِها؛ والألِفُ واللّامُ لِلْعَهْدِ. فَكَما يُتَعَقَّلُ انْتِفاءُ ”ذَلُولٌ“ مَعَ اعْتِقادِ كَوْنِ تُثِيرُ وما بَعْدَهُ صِفَةً، لِأنَّكَ قَيَّدْتَ الخَبَرَ بِتَقْدِيرِكَهُ حَيْثُ هي، فَصَلُحَ هَذا النَّفْيُ، كَذَلِكَ يُتَعَقَّلُ انْتِفاءُ ”ذَلُولٌ“ مَعَ الخَبَرِ عَنْهُ، حَيْثُ اعْتُقِدَ أنَّ مُتَعَلِّقَ الخَبَرَيْنِ مَخْصُوصٌ، وهو الأرْضُ والحَرْثُ، وكَما تُقَدِّرُ ما مِن ذَلُولٍ مُثِيرَةٍ ولا ساقِيَةٍ حَيْثُ تِلْكَ البَقَرَةُ، كَذَلِكَ تُقَدَّرُ ما مِن ذَلُولٍ تُثِيرُ أرْضَهم ولا تَسْقِي حَرْثَهم. فَكِلاهُما نَفْيٌ قَدْ تَخَصَّصَ، إمّا بِالخَبَرِ المَحْذُوفِ، وإمّا بِتَعَلُّقِ الخَبَرِ المُثْبِتِ. وقَدِ انْتَفى وصْفُ البَقَرَةِ بِـ ”ذَلُولٌ“ وما بَعْدَها، إمّا بِكَوْنِ الجُمْلَةِ صِفَةً والرّابِطُ الخَبَرُ المَحْذُوفُ، وإمّا بِكَوْنِ الجُمْلَةِ اعْتِراضِيَّةً بَيْنَ الصِّفَةِ والمَوْصُوفِ، إذْ لَمْ تَشْتَمِلْ عَلى رابِطٍ يَرْبُطُها بِما قَبْلَها، إذا جَعَلْتَ تُثِيرُ خَبَرًا لا يُقالَ: إنَّ الرّابِطَ هُنا هو العُمُومُ، إذِ البَقَرَةُ فَرْدٌ مِن أفْرادِ اسْمِ الجِنْسِ؛ لِأنَّ الرّابِطَ بِالعُمُومِ إنَّما قِيلَ بِهِ في نَحْوِ: زَيْدٌ نِعْمَ الرَّجُلُ، عَلى خِلافٍ في ذَلِكَ، ولَعَلَّ الأصَحَّ خِلافُهُ. وبابُ نِعْمَ بابٌ شاذٌّ لا يُقاسُ عَلَيْهِ، لَوْ قُلْتَ زَيْدٌ لا رَجُلٌ في الدّارِ، ومَرَرْتُ بِرَجُلٍ لا عاقِلٍ في الدّارِ، وأنْتَ تَعْنِي الخَبَرَ والصِّفَةَ وتَجْعَلُ الرّابِطَ العُمُومَ، لِأنَّكَ إذا نَفَيْتَ لا رَجُلَ في الدّارِ، انْتَفى زَيْدٌ فِيها، وإذا قُلْتَ: لا عاقِلَ في الدّارِ، انْتَفى العَقْلُ عَنِ المُرُورِ بِهِ، لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، فَلِذَلِكَ اخْتَرْنا في هَذِهِ القِراءَةِ عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِ تُثِيرُ وتَسْقِي خَبَرًا لِـ ”لا ذَلُولٌ“، أنْ تَكُونَ الجُمْلَةُ اعْتِراضِيَّةً بَيْنَ الصِّفَةِ والمَوْصُوفِ، وتَدُلَّ عَلى نَفْيِ الإثارَةِ ونَفْيِ السَّقْيِ، مِن حَيْثُ المَعْنى، لا مِن حَيْثُ كَوْنُ الجُمْلَتَيْنِ صِفَةً لِلْبَقَرَةِ. وأمّا تَمْثِيلُ الزَّمَخْشَرِيِّ بِذَلِكَ، بِمَرَرْتُ بِقَوْمٍ لا بَخِيلَ ولا جَبانَ فِيهِمْ، أوْ حَيْثُ هم، فَتَمْثِيلٌ صَحِيحٌ؛ لِأنَّ الجُمْلَةَ الواقِعَةَ صِفَةً لِقَوْمٍ لَيْسَ الرّابِطُ فِيها العُمُومَ، إنَّما الرّابِطُ هَذا الضَّمِيرُ، وكَذَلِكَ ما قَرَّرَهُ هو الرّابِطُ فِيهِ الضَّمِيرُ، إذْ قَدَّرَهُ لا ذَلُولَ هُناكَ، أيْ حَيْثُ هي، فَهَذا الضَّمِيرُ عائِدٌ عَلى البَقَرَةِ، وحَصَلَ بِهِ الرَّبْطُ كَما حَصَلَ في تَمْثِيلِهِ بِقَوْلِهِ: فِيهِمْ، أوْ: حَيْثُ هم، فَتَحَصَّلَ مِن هَذا الَّذِي قَرَّرْناهُ أنَّ قَوْلَهَ تَعالى: ﴿لا ذَلُولٌ﴾ في قِراءَةِ السُّلَمِيِّ يَتَخَرَّجُ عَلى وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةً، وذَلِكَ عَلى تَقْدِيرِ حَذْفِ خَبَرٍ، والثّانِي: أنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةً، وذَلِكَ عَلى تَقْدِيرِ أنْ تَكُونَ خَبَرَ لا تُثِيرُ الأرْضَ (p-٢٥٧)ولا تَسْقِي الحَرْثَ. وكانَتْ قِراءَةُ الجُمْهُورِ أوْلى؛ لِأنَّ الوَصْفَ بِالمُفْرَدِ أوْلى مِنَ الوَصْفِ بِالجُمْلَةِ، ولِأنَّ في قِراءَةِ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَلى أحَدِ تَخْرِيجَيْها، تَكُونُ قَدْ بَدَأْتَ بِالوَصْفِ بِالجُمْلَةِ وقَدَّمْتَهُ عَلى الوَصْفِ بِالمُفْرَدِ، وذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالضَّرُورَةِ عِنْدَ بَعْضِ أصْحابِنا؛ لِأنَّ لا ذَلُولٌ المَنفِيُّ مَعَها جُمْلَةٌ ومُسَلَّمَةٌ مُفْرَدٌ، فَقَدْ قَدَّمْتَ الوَصْفَ بِالجُمْلَةِ عَلى الوَصْفِ بِالمُفْرَدِ، والمَفْعُولُ الثّانِي لِتَسْقِي مَحْذُوفٌ؛ لِأنَّ سَقى يَتَعَدّى إلى اثْنَيْنِ. وقَرَأ بَعْضُهم: تُسْقِي بِضَمِّ التّاءِ مِن أسْقى، وهُما بِمَعْنًى واحِدٍ. وقَدْ قُرِئَ: نَسْقِيكم بِفَتْحِ النُّونِ وضَمِّها. مُسَلَّمَةٌ مِنَ العُيُوبِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وقَتادَةُ وأبُو العالِيَةِ ومُقاتِلٌ، أوْ مِنَ الشِّياتِ والألْوانِ، قالَهُ مُجاهِدٌ وابْنُ زَيْدٍ، أوْ مِنَ العَمَلِ في الحَرْثِ والسَّقْيِ وسائِرِ أنْواعِ الِاسْتِعْمالِ، قالَهُ الحَسَنُ وابْنُ قُتَيْبَةَ. والمَعْنى: أنَّ أهْلَها أعْفَوْها مِن ذَلِكَ، كَما قالَ الآخَرُ: ؎أوْ مُعْبِرُ الظَّهْرِ يُنْبِي عَنْ ولَيْتَهُ ∗∗∗ ما حَجَّ رَبَّهُ في الدُّنْيا ولا اعْتَمَرا أوْ مِنَ الحَرامِ، لا غَصْبَ فِيها ولا سَرِقَةَ ولا غَيْرُهُما، بَلْ هي مُطَهَّرَةٌ مِن ذَلِكَ، أوْ مُسَلَّمَةُ القَوائِمِ والخَلْقِ، قالَهُ عَطاءٌ الخُراسانِيُّ، أوْ مُسَلَّمَةٌ مِن جَمِيعِ ما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، لِتَكُونَ خالِيَةً مِنَ العُيُوبِ، بَرِيئَةً مِنَ الغُصُوبِ، مُكَمَّلَةَ الخَلْقِ، شَدِيدَةَ الأسْرِ، كامِلَةَ المَعانِي، صالِحَةً لِأنْ تَظْهَرَ فِيها آيَةُ اللَّهِ تَعالى ومُعْجِزَةُ رَسُولِهِ. قالَ أبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ: ومُسَلَّمَةٌ، بِناءُ مُبالَغَةٍ مِنَ السَّلامَةِ، وقالَهُ غَيْرُهُ، فَقالَ: هي مِن صِيَغِ المُبالَغَةِ؛ لِأنَّ وزْنَها مُفَعَّلَةٌ مِنَ السَّلامَةِ، ولَيْسَ كَما ذَكَرَ؛ لِأنَّ التَّضْعِيفَ الَّذِي في ”مُسَلَّمَةٌ“ لَيْسَ لِأجْلِ المُبالَغَةِ، بَلْ هو تَضْعِيفُ النَّقْلِ والتَّعْدِيَةِ، يُقالُ: سَلَّمَ كَذا، ثُمَّ إذا عَدَّيْتَهُ بِالتَّضْعِيفِ، فالتَّضْعِيفُ هُنا كَهو في قَوْلِهِ: فَرَّحْتُ زَيْدًا، إذْ أصْلُهُ: فَرِحَ زَيْدٌ، وكَذَلِكَ هَذا أصْلُهُ: سَلَّمَ زَيْدًا، ثُمَّ يُضَعَّفُ فَيَصِيرُ يَتَعَدّى. فَلَيْسَ إذَنْ هُنا مُبالَغَةٌ بَلْ هو المُرادِفُ لِلْبِناءِ المُتَعَدِّي بِالهَمْزَةِ. شِيَةَ فِيها: أيْ لا بَياضَ، قالَهُ السُّدِّيُّ، أوْ: لا وضَحَ، وهو الجَمْعُ بَيْنَ لَوْنَيْنِ مِن سَوادٍ وبَياضٍ، أوْ لا عَيْبَ فِيها، أوْ: لا لَوْنَ يُخالِفُ لَوْنَها مِن سَوادٍ أوْ بَياضٍ، أوْ: لا سَوادَ في الوَجْهِ والقَوائِمِ، وهو الشِّيَةُ في البَقَرِ، يُقالُ ثَوْرٌ مُوَشًّى، إذا كانَ في وجْهِهِ وقَوائِمِهِ سَوادٌ. وقِيلَ: ”شِيَةَ فِيها“، تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: ”مُسَلَّمَةٌ“، أيْ خَلُصَتْ صُفْرَتُها عَنْ أخْلاطِ سائِرِ الألْوانِ، قالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والثَّوْرُ الأشْيَهُ، الَّذِي ظَهَرَ بَلَقُهُ، يُقالُ: فَرَسٌ أبْلَقُ، وكَبْشٌ أخْرَجُ، وتَيْسٌ أبْرَقُ، وكَلْبٌ أبْقَعُ، وثَوْرٌ أشْيَهُ. كُلُّ ذَلِكَ بِمَعْنى البَلِقَةِ. انْتَهى. ولَيْسَ الأشْيَهُ مَأْخُوذًا مِنَ الشِّيَةِ لِاخْتِلافِ المادَّتَيْنِ. * * * ﴿قالُوا الآنَ جِئْتَ بِالحَقِّ﴾: قَرَأ الجُمْهُورُ: بِإسْكانِ اللّامِ والهَمْزَةِ بَعْدَهُ، وقَرَأ نافِعٌ: بِحَذْفِ الهَمْزَةِ وإلْقاءِ حَرَكَتِها عَلى اللّامِ، وعَنْهُ رِوايَتانِ: إحْداهُما: حَذَفُ واوِ قالُوا، إذْ لَمْ يَعْتَدَّ بِنَقْلِ الحَرَكَةِ، إذْ هو نَقْلٌ عارِضٌ، والرِّوايَةُ الأُخْرى: إقْرارُ الواوِ اعْتِدادًا بِالنَّقْلِ، واعْتِبارًا لِعارِضِ التَّحْرِيكِ؛ لِأنَّ الواوَ لَمْ تُحْذَفْ إلّا لِأجْلِ سُكُونِ اللّامِ بَعْدَها. فَإذا ذَهَبَ مُوجِبُ الحَذْفِ عادَتِ الواوُ إلى حالِها مِنَ الثُّبُوتِ. وانْتِصابُ ”الآنَ“ عَلى الظَّرْفِيَّةِ، وهو ظَرْفٌ يَدُلُّ عَلى الوَقْتِ الحاضِرِ، وهو قَوْلُهُ لَهم: ﴿إنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ﴾ إلى ﴿لا شِيَةَ فِيها﴾، والعامِلُ فِيهِ ”جِئْتَ“، ولا يُرادُ بِجِئْتَ أنَّهُ كانَ غائِبًا فَجاءَ، وإنَّما مَجازُهُ نَطَقْتَ بِالحَقِّ، فَبِالحَقِّ مُتَعَلِّقٌ بِجِئْتَ عَلى هَذا المَعْنى، أوْ تَكُونُ الباءُ لِلتَّعْدِيَةِ، فَكَأنَّهُ قالَ: أجَأْتَ الحَقَّ، أيْ إنَّ الحَقَّ كانَ لَمْ يَجِئْنا فَأجَأْتَهُ. وهُنا وصْفٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ بِالحَقِّ المُبِينِ، أيِ الواضِحِ الَّذِي لَمْ يَبْقَ مَعَهُ إشْكالٌ، واحْتِيجَ إلى تَقْدِيرِ هَذا الوَصْفِ لِأنَّهُ في كُلِّ مُحاوَرَةٍ حاوَرَها مَعَهم جاءَ بِالحَقِّ، فَلَوْ لَمْ يُقَدَّرْ هَذا الوَصْفُ لَما كانَ لِتَقْيِيدِهِمْ مَجِيئَهُ بِالحَقِّ بِهَذا الطَّرَفِ الخاصِّ فائِدَةٌ. وقَدْ ذَهَبَ قَتادَةُ إلى أنَّهُ لا وصْفَ مَحْذُوفٌ هُنا، وقالَ: كَفَرُوا بِهَذا القَوْلِ لِأنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ وعَلى نَبِيِّنا أفْضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامُ - كانَ لا يَأْتِيهِمْ إلّا بِالحَقِّ في كُلِّ وقْتٍ، وقالُوا: ومَعْنى بِالحَقِّ: بِحَقِيقَةِ نَعْتِ البَقَرَةِ، وما بَقِيَ فِيها إشْكالٌ. (فَذَبَحُوها): قَبْلَ هَذِهِ الجُمْلَةِ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: فَطَلَبُوها وحَصَّلُوها، أيْ هَذِهِ البَقَرَةَ (p-٢٥٨)الجامِعَةَ لِلْأوْصافِ السّابِقَةِ، وتَحْصِيلُها كانَ بِأنَّ اللَّهَ أنْزَلَها مِنَ السَّماءِ، أوْ بِأنَّها كانَتْ وحْشِيَّةً فَأخَذُوها، أوْ بِاشْتِرائِها مِنَ الشّابِّ البارِّ بِأبَوَيْهِ. وهَذا الَّذِي تَظافَرَتْ عَلَيْهِ أقاوِيلُ أكْثَرِ المُفَسِّرِينَ، وذَكَرُوا في ذَلِكَ اخْتِلافًا وقَصَصًا كَثِيرًا مُضْطَرِبًا أضْرَبْنا عَنْ نَقْلِهِ صَفْحًا كَعادَتِنا في أكْثَرِ القِصَصِ الَّذِي يَنْقُلُونَهُ، إذْ لا يَنْبَغِي أنْ يُنْقَلَ مِن ذَلِكَ إلّا ما صَحَّ عَنِ اللَّهِ تَعالى، أوْ عَنْ رَسُولِهِ في قُرْآنٍ أوْ سُنَّةٍ. ﴿وما كادُوا يَفْعَلُونَ﴾: كَنّى عَنِ الذَّبْحِ بِالفِعْلِ؛ لِأنَّ الفِعْلَ يُكَنّى بِهِ عَنْ كُلِّ فِعْلٍ. وكادَ في الثُّبُوتِ تَدُلُّ عَلى المُقارَبَةِ. فَإذا قُلْتَ: كادَ زَيْدٌ يَقُومُ، فَمَعْناهُ مُقارَبَةُ القِيامِ ولَمْ يَتَلَبَّسْ بِهِ، فَإذا قُلْتَ: ما كادَ زَيْدٌ يَقُومُ فَمَعْناهُ نَفْيُ المُقارَبَةِ، فَهي كَغَيْرِها مِنَ الأفْعالِ وُجُوبًا ونَفْيًا. وقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ النّاسِ إلى أنَّها إذا أُثْبِتَتْ، دَلَّتْ عَلى نَفْيِ الخَبَرِ، وإذا نُفِيَتْ، دَلَّتْ عَلى إثْباتِ الخَبَرِ، مُسْتَدِلًّا بِهَذِهِ الآيَةِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: (فَذَبَحُوها) يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ، والصَّحِيحُ القَوْلُ الأوَّلُ. وأمّا الآيَةُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ زَمانُ نَفْيِ المُقارَبَةِ والذَّبْحِ، إذِ المَعْنى: وما قارَبُوا ذَبْحَها قَبْلَ ذَلِكَ، أيْ وقَعَ الذَّبْحُ بَعْدَ أنْ نَفى مُقارَبَتُهُ. فالمَعْنى أنَّهم تَعَسَّرُوا في ذَبْحِها، ثُمَّ ذَبَحُوها بَعْدَ ذَلِكَ. قِيلَ: والسَّبَبُ الَّذِي لِأجْلِهِ ما كادُوا يَذْبَحُونَ هو: إمّا غَلاءُ ثَمَنِها، وإمّا خَوْفُ فَضِيحَةِ القاتِلِ، وإمّا قِلَّةُ انْقِيادٍ وتَعَنُّتٍ عَلى الأنْبِياءِ عَلى ما عُهِدَ مِنهم. واخْتَلَفُوا في هَذِهِ البَقَرَةِ المَذْبُوحَةِ: أهِيَ الَّتِي أُمِرُوا أوَّلًا بِذَبْحِها، وأنَّها مُعَيَّنَةٌ في الأمْرِ الأوَّلِ، وأنَّهُ لَوْ وقَعَ الذَّبْحُ عَلَيْها أوَّلًا لَما وقَعَ إلّا عَلى هَذِهِ المُعَيَّنَةِ ؟ أمِ المَأْمُورُ بِها أوَّلًا هي بَقَرَةٌ غَيْرُ مَخْصُوصَةٍ، ثُمَّ انْقَلَبَتْ مَخْصُوصَةً بِلَوْنٍ وصِفاتٍ، فَذَبَحُوا المَخْصُوصَةَ ؟ فَكانَ الأمْرُ الأوَّلُ مَخْصُوصًا لِانْتِقالِ الحُكْمِ مِنَ البَقَرَةِ المُطْلَقَةِ إلى البَقَرَةِ المَخْصُوصَةِ، ويَجُوزُ النَّسْخُ قَبْلَ الفِعْلِ عَلى أنَّ هَذِهِ البَقَرَةَ المَخْصُوصَةَ يَتَناوَلُها الأمْرُ بِذَبْحِ بِقَرَةٍ، فَلَوْ وقَعَ الذَّبْحُ عَلَيْها بِالخِطابِ الأوَّلِ، لَكانُوا مُمْتَثِلِينَ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ التَّخْصِيصِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ القائِلُونَ بِهَذا الثّانِي: هَلِ الواجِبُ كَوْنُها بِالصِّفَةِ الأخِيرَةِ فَقَطْ، وهي كَوْنُها لا ذَلُولٌ إلى آخِرِهِ ؟ أمْ يَنْضافُ إلى هَذِهِ الأوْصافِ في جَوابِ السُّؤالَيْنِ قَبْلُ، فَيَجِبُ أنْ يَكُونَ مَعَ الوَصْفِ الأخِيرِ لا فارِضٌ ولا بِكْرٌ، وصَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها ؟ والَّذِي نَخْتارُهُ هَذا الثّانِي؛ لِأنَّ الظّاهِرَ اشْتِراكُ هَذِهِ الأوْصافِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: (ما هي)، و﴿ما لَوْنُها﴾ [البقرة: ٦٩]، و(ما هي)، يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ، وهَذا هو الَّذِي اشْتُهِرَ في الإخْبارِ أنَّها كانَتْ بِهَذِهِ الأوْصافِ جَمِيعًا، وإذا كانَ البَيانُ لا يَتَأخَّرُ عَنْ وقْتِ الحاجَةِ، كانَ ذَلِكَ تَكْلِيفًا بَعْدَ تَكْلِيفٍ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى نَسْخِ التَّسْهِيلِ بِالأشَقِّ، وعَلى جَوازِ النَّسْخِ قَبْلَ الفِعْلِ. ﴿وإذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا﴾: مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ﴾ [البقرة: ٦٧] . ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ تَرْتِيبُ وجُودِهِما ونُزُولِهِما عَلى حَسَبِ تِلاوَتِهِما، فَيَكُونَ اللَّهُ تَعالى قَدْ أمَرَهم بِذَبْحِ البَقَرَةِ، فَذَبَحُوها وهم لا يَعْلَمُونَ بِما لَهُ تَعالى فِيها مِنَ السِّرِّ، ثُمَّ وقَعَ بَعْدَ ذَلِكَ أمْرُ القَتِيلِ، فَأظْهَرَ لَهم ما كانَ أخْفاهُ عَنْهم مِنَ الحِكْمَةِ بِقَوْلِهِ: ”اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها“، ولا شَيْءَ يَضْطَرُّنا إلى اعْتِقادِ تَقَدُّمِ قَتْلِ القَتِيلِ. ثُمَّ سَألُوا عَنْ تَعْيِينِ قاتِلِهِ، إذْ كانُوا قَدِ اخْتَلَفُوا في ذَلِكَ، فَأمَرَهُمُ اللَّهُ تَعالى بِذَبْحِ بَقَرَةٍ، فَيَكُونُ الأمْرُ بِالذَّبْحِ مُتَقَدِّمًا في النُّزُولِ والتِّلاوَةِ، مُتَأخِّرًا في الوُجُودِ، ويَكُونُ قَتْلُ القَتِيلِ مُتَأخِّرًا في النُّزُولِ والتِّلاوَةِ، مُتَقَدِّمًا في الوُجُودِ، ولا إلى اعْتِقادِ كَوْنِ الأمْرِ بِالذَّبْحِ وما بَعْدَهُ مُؤَخَّرًا في النُّزُولِ، مُتَقَدِّمًا في التِّلاوَةِ، والإخْبارِ عَنْ قَتْلِهِمْ مُقَدَّمًا في النُّزُولِ، مُتَأخِّرًا في التِّلاوَةِ، دُونَ تَعَرُّضٍ لِزَمانِ وُجُودِ القِصَّتَيْنِ. وإنَّما حَمَلَ مَن حَمَلَ عَلى خِلافِ الظّاهِرِ، اعْتِبارَ ما رَوَوْا مِنَ القَصَصِ الَّذِي لا يَصِحُّ، إذْ لَمْ يَرِدْ بِهِ كِتابٌ ولا سُنَّةٌ، ومَتى أمْكَنَ حَمْلُ الشَّيْءِ عَلى ظاهِرِهِ كانَ أوْلى، إذِ العُدُولُ عَنِ الظّاهِرِ إلى غَيْرِ الظّاهِرِ، إنَّما يَكُونُ لِمُرَجِّحٍ، ولا مُرَجِّحَ، بَلْ تَظْهَرُ الحِكْمَةُ البالِغَةُ في تَكْلِيفِهِمْ أوَّلًا ذَبْحَ بَقَرَةٍ. هَلْ يَمْتَثِلُونَ ذَلِكَ أمْ لا ؟ وامْتِثالُ التَّكالِيفِ الَّتِي لا يَظْهَرُ فِيها بِبادِئِ الرَّأْيِ حِكْمَةٌ أعْظَمُ مِنِ امْتِثالِ ما تَظْهَرُ فِيهِ حِكْمَةٌ، لِأنَّها طَواعِيَةٌ صِرْفٌ، وعُبُودِيَّةٌ (p-٢٥٩)مَحْضَةٌ، واسْتِسْلامٌ خالِصٌ، بِخِلافِ ما تَظْهَرُ لَهُ حِكْمَةٌ، فَإنَّ في العَقْلِ داعِيَةً إلى امْتِثالِهِ، وحَضًّا عَلى العَمَلِ بِهِ. وقالَ صاحِبُ المُنْتَخَبِ: إنَّ وُقُوعَ ذَلِكَ القَتِيلِ لا بُدَّ أنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا لِأمْرِهِ تَعالى بِالذَّبْحِ، فَأمّا الإخْبارُ عَنْ وُقُوعِ ذَلِكَ القَتِيلِ، وعَنْ أنَّهُ لا بُدَّ أنْ يُضْرَبَ القَتِيلُ بِبَعْضِ تِلْكَ البَقَرَةِ، فَلا يَجِبُ أنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا عَلى الإخْبارِ عَنْ قِصَّةِ البَقَرَةِ. فَقَوْلُ مَن يَقُولُ: هَذِهِ القِصَّةُ يَجِبُ أنْ تَكُونَ مُتَقَدِّمَةً عَلى الأُولى خَطَأٌ؛ لِأنَّ هَذِهِ القِصَّةَ في نَفْسِها يَجِبُ أنْ تَكُونَ مُتَقَدِّمَةً عَلى الأُولى في الوُجُودِ. فَأمّا التَّقْدِيمُ في الذِّكْرِ فَغَيْرُ واجِبٍ؛ لِأنَّهُ تارَةً يُقَدَّمُ ذِكْرُ السَّبَبِ عَلى ذِكْرِ الحُكْمِ، وأُخْرى عَلى العَكْسِ مِن ذَلِكَ، فَكَأنَّهُ لَمّا وقَعَتْ لَهم تِلْكَ الواقِعَةُ أمَرَهم بِذَبْحِ البَقَرَةِ، فَلَمّا ذَبَحُوها قالَ: ﴿وإذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا﴾ مِن قَبْلُ واخْتَلَفْتُمْ فَإنِّي مُظْهِرٌ لَكُمُ القاتِلَ الَّذِي سَتَرْتُمُوهُ، بِأنْ يُضْرَبَ القَتِيلُ بِبَعْضِ هَذِهِ البَقَرَةِ المَذْبُوحَةِ. وتَقَدَّمَتْ قِصَّةُ الأمْرِ بِذَبْحِ البَقَرَةِ عَلى ذِكْرِ القَتِيلِ؛ لِأنَّهُ لَوْ عَكَسَ لَما كانَتْ قِصَّةً واحِدَةً، ولَذَهَبَ الغَرَضُ في تَثْنِيَةِ التَّقْرِيعِ. انْتَهى كَلامُهُ، وهو مَبْنِيٌّ عَلى أنَّ القَتْلَ وقَعَ أوَّلًا، ثُمَّ أُمِرُوا بَعْدَ ذَلِكَ بِذَبْحِ البَقَرَةِ، ولَيْسَ لَهُ دَلِيلٌ عَلى ذَلِكَ إلّا نَقْلُ شَيْءٍ مِنَ القِصَصِ الَّتِي لَمْ تَثْبُتْ في كِتابٍ ولا سُنَّةٍ. وقَدْ بَيَّنّا حَمْلَ الآيَتَيْنِ عَلى أنَّ الأمْرَ بِالذَّبْحِ يَكُونُ مُتَقَدِّمًا وأنَّ القَتْلَ تَأخَّرَ، كَحالِهِما في التِّلاوَةِ. وقالَ بَعْضُ النّاسِ: التَّقْدِيمُ والتَّأْخِيرُ حَسَنٌ؛ لِأنَّ ذَلِكَ مَوْجُودٌ في القُرْآنِ، في الجُمَلِ، وفي الكَلِماتِ، وفي كَلامِ العَرَبِ. وأوْرَدَ مِن ذَلِكَ جُمَلًا، مِن ذَلِكَ: قِصَّةُ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - في إهْلاكِ قَوْمِهِ، وقَوْلُهُ: ﴿وقالَ ارْكَبُوا فِيها﴾ [هود: ٤١]، وفي حُكْمِ مَن ماتَ عَنْها زَوْجُها بِالتَّرَبُّصِ بِالأرْبَعَةِ الأشْهُرِ وعَشْرٍ، وبِمَتاعٍ إلى الحَوْلِ، إذِ النّاسِخُ مُقَدَّمٌ، والمَنسُوخُ مُتَأخِّرٌ. وذَكَرَ مِن تَقْدِيمِ الكَلِماتِ في القُرْآنِ والشِّعْرِ عَلى زَعْمِهِ كَثِيرًا، والتَّقْدِيمُ والتَّأْخِيرُ، ذَكَرَ أصْحابُنا أنَّهُ مِنَ الضَّرائِرِ، فَيَنْبَغِي أنْ يُنَزَّهَ القُرْآنُ عَنْهُ. ونِسْبَةُ القَتِيلِ إلى جَمْعٍ، إمّا لِأنَّ القاتِلِينَ جَمْعٌ، وهم ورَثَةُ المَقْتُولِ، وقَدْ نُقِلَ أنَّهُمُ اجْتَمَعُوا عَلى قَتْلِهِ، أوْ لِأنَّ القاتِلَ واحِدٌ، ونُسِبَ ذَلِكَ إلَيْهِمْ لِوُجُودِ ذَلِكَ فِيهِمْ، عَلى طَرِيقَةِ العَرَبِ في نِسْبَةِ الأشْياءِ إلى القَبِيلَةِ، إذا وُجِدَ مِن بَعْضِها ما يُذَمُّ بِهِ أوْ يُمْدَحُ. ﴿فادّارَأْتُمْ فِيها﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ: بِالإدْغامِ، وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ: فَتَدارَأْتُمْ، عَلى وزْنِ تَفاعَلْتُمْ، وهو الأصْلُ، هَكَذا نَقَلَ بَعْضُ مَن جَمَعَ في التَّفْسِيرِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَرَأ أبُو حَيْوَةَ، وأبُو السَّوّارِ الغَنَوِيُّ: وإذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فادَّرَأْتُمْ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: فَتَدارَأْتُمْ عَلى الأصْلِ. انْتَهى كَلامُهُ. ونَقَلَ مَن جَمَعَ في التَّفْسِيرِ أنَّ أبا السَّوّارِ قَرَأ: فَدَرَأْتُمْ، بِغَيْرِ ألِفٍ قَبْلَ الرّاءِ. ويَحْتَمِلُ هَذا التَّدارُؤُ، وهو التَّدافُعُ، أنْ يَكُونَ حَقِيقَةً، وهو أنْ يَدْفَعَ بَعْضُهم بَعْضًا بِالأيْدِي، لِشِدَّةِ الِاخْتِصامِ. ويَحْتَمِلُ المَجازَ، بِأنْ يَكُونَ بَعْضُهم طَرَحَ قَتْلَهُ عَلى بَعْضٍ، فَدَفَعَ المَطْرُوحُ عَلَيْهِ ذَلِكَ إلى الطّارِحِ، أوْ بِأنْ دَفَعَ بَعْضُهم بَعْضًا بِالتُّهْمَةِ والبَراءَةِ. والضَّمِيرُ في: فِيها عائِدٌ عَلى النَّفْسِ، وهو ظاهِرٌ، وقِيلَ: عَلى القَتَلَةِ، فَيَعُودُ عَلى المَصْدَرِ المَفْهُومِ مِنَ الفِعْلِ، وقِيلَ: عَلى التُّهْمَةِ، فَيَعُودُ عَلى ما دَلَّ عَلَيْهِ مَعْنى الكَلامِ. ﴿واللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾، ما: مَنصُوبٌ بِاسْمِ الفاعِلِ، وهو مَوْصُولٌ مَعْهُودٌ، فَلِذَلِكَ أتى بِاسْمِ الفاعِلِ لِأنَّهُ يَدُلُّ عَلى الثُّبُوتِ، ولَمْ يَأْتِ بِالفِعْلِ الَّذِي هو دالٌّ عَلى التَّجَدُّدِ والتَّكْرارِ، ولا تَكْرارَ، إذْ لا تَجَدُّدَ فِيهِ، لِأنَّها قِصَّةٌ واحِدَةٌ مَعْرُوفَةٌ، فَلِذَلِكَ، واللَّهُ أعْلَمُ، لَمْ يَأْتِ بِالفِعْلِ. وجاءَ اسْمُ الفاعِلِ مُعْمَلًا، ولَمْ يُضَفْ، وإنْ كانَ مِن حَيْثُ المَعْنى ماضِيًا؛ لِأنَّهُ حَكى ما كانَ مُسْتَقْبَلًا وقْتَ التَّدارُؤِ، وذَلِكَ مِثْلُ ما حَكى الحالَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وكَلْبُهم باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالوَصِيدِ﴾ [الكهف: ١٨] . ودَخَلَتْ كانَ هُنا لِيَدُلَّ عَلى تَقَدُّمِ الكِتْمانِ، والعائِدُ عَلى ما مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَهُ. والظّاهِرُ أنَّ المَعْنى ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ مِن أمْرِ القَتِيلِ وقاتِلِهِ، وعَلى هَذا ذَهَبَ الجُمْهُورُ. وقِيلَ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ عامًّا في القَتِيلِ وغَيْرِهِ، فَيَكُونَ القَتِيلُ مِن جُمْلَةِ أفْرادِهِ، وفي ذَلِكَ نَظَرٌ، إذْ لَيْسَ كُلُّ ما كَتَمُوهُ عَنِ النّاسِ أظْهَرَهُ اللَّهُ تَعالى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب