الباحث القرآني

﴿قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هي إنَّ البَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وإنّا إنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ﴾ ﴿قالَ إنَّهُ يَقُولُ إنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ ولا تَسْقِي الحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الآنَ جِئْتَ بِالحَقِّ﴾ [البقرة: ٧١] القَوْلُ في ما هي كالقَوْلِ في نَظِيرِهِ فَإنْ كانَ اللَّهُ تَعالى حَكى مُرادِفَ كَلامِهِمْ بِلُغَةِ العَرَبِ فالجَوابُ لَهم بِأنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ لِما عُلِمَ مِن أنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنَ الصِّفاتِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ الأغْراضُ بِها إلّا الكَرامَةُ والنَّفاسَةُ، وإنْ كانَ المَحْكِيُّ في القُرْآنِ اخْتِصارًا لِكَلامِهِمْ فالأمْرُ ظاهِرٌ. عَلى أنَّ اللَّهَ قَدْ عَلِمَ مُرادَهم فَأنْبَأهم بِهِ. وجُمْلَةُ إنَّ البَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا لِأنَّهم عَلِمُوا أنَّ إعادَتَهُمُ السُّؤالَ تُوقِعُ في نَفْسِ مُوسى تَساؤُلًا عَنْ سَبَبِ هَذا التَّكْرِيرِ في السُّؤالِ. وقَوْلُهم إنَّ البَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا اعْتِذارٌ عَنْ إعادَةِ السُّؤالِ، وإنَّما لَمْ يَعْتَذِرُوا في المَرَّتَيْنِ الأُولَيَيْنِ واعْتَذَرُوا الآنَ لِأنَّ لِلثّالِثَةِ في التَّكْرِيرِ وقْعًا مِنَ النَّفْسِ في التَّأْكِيدِ والسَّآمَةِ وغَيْرِ ذَلِكَ ولِذَلِكَ كَثُرَ في أحْوالِ البَشَرِ وشَرائِعِهِمُ التَّوْقِيتُ بِالثَّلاثَةِ. وقَدْ جِيءَ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ في خَبَرٍ لا يَشُكُّ مُوسى في صِدْقِهِ فَتَعَيَّنَ أنْ يَكُونَ الإتْيانُ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمامِ ثُمَّ يُتَوَسَّلُ بِالِاهْتِمامِ إلى إفادَةِ مَعْنى التَّفْرِيعِ والتَّعْلِيلِ فَتُفِيدُ إنَّ مَفادَ فاءِ التَّفْرِيعِ والتَّسَبُّبِ وهو ما اعْتَنى الشَّيْخُ عَبْدُ القاهِرِ بِالتَّنْبِيهِ عَلَيْهِ في دَلائِلِ الإعْجازِ ومَثَّلَهُ بِقَوْلِ بِشارٍ: بَكِّرا صاحِبَيَّ قَبْلَ الهَجِيرِ إنَّ ذاكَ النَّجاحَ في التَّبْكِيرِ تَقَدَّمَ ذِكْرُها عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّكَ أنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ﴾ [البقرة: ٣٢] في هَذِهِ السُّورَةِ وذَكَرَ فِيهِ قِصَّةً. وقَوْلُهم ﴿وإنّا إنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ﴾ تَنْشِيطٌ لِمُوسى ووَعْدٌ لَهُ بِالِامْتِثالِ لِيَنْشَطَ إلى دُعاءِ رَبِّهِ بِالبَيانِ ولِتَنْدَفِعَ عَنْهُ سَآمَةُ مُراجَعَتِهِمُ الَّتِي ظَهَرَتْ بَوارِقِها في قَوْلِهِ فافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ ولِإظْهارِ حُسْنِ المَقْصِدِ مِن كَثْرَةِ السُّؤالِ وأنْ لَيْسَ قَصْدُهُمُ الإعْناتَ. تَفادِيًا مِن غَضَبِ مُوسى عَلَيْهِمْ. والتَّعْلِيقُ بِإنْ شاءَ اللَّهُ لِلتَّأدُّبِ مَعَ اللَّهِ في رَدِّ الأمْرِ إلَيْهِ في طَلَبِ حُصُولِ الخَيْرِ. والقَوْلُ في وجْهِ التَّأْكِيدِ في أنَّهُ يَقُولُ إنَّها بَقَرَةٌ كالقَوْلِ في نَظِيرِهِ الأوَّلِ. (p-٥٥٥)والذَّلُولُ بِفَتْحِ الذّالِ فَعُولٌ مِن ذَلَّ ذِلًّا بِكَسْرِ الذّالِ في المَصْدَرِ بِمَعْنى لانَ وسَهُلَ. وأمّا الذُّلُّ بِضَمِّ الذّالِ فَهو ضِدُّ العِزِّ وهُما مَصْدَرانِ لِفِعْلٍ واحِدٍ خَصَّ الِاسْتِعْمالُ أحَدَ المَصْدَرَيْنِ بِأحَدِ المَعْنَيَيْنِ. والمَعْنى أنَّها لَمْ تَبْلُغْ سِنَّ أنْ يُحْرَثَ عَلَيْها وأنْ يُسْقى بِجَرِّها أيْ هي عِجْلَةٌ قارَبَتْ هَذا السِّنَّ وهو المُوافِقُ لِما حُدِّدَ بِهِ سِنُّها في التَّوْراةِ. ولا ذَلُولٌ صِفَةٌ لِبَقَرَةٍ. وجُمْلَةُ تُثِيرُ الأرْضَ حالٌ مِن ذَلُولٍ. وإثارَةُ الأرْضِ حَرْثُها وقَلْبُ داخِلِ تُرابِها ظاهِرًا وظاهِرِهِ باطِنًا. أُطْلِقَ عَلى الحَرْثِ فِعْلُ الإثارَةِ تَشْبِيهًا لِانْقِلابِ أجْزاءِ الأرْضِ بِثَوْرَةِ الشَّيْءِ مِن مَكانِهِ إلى مَكانٍ آخَرَ كَما قالَ تَعالى فَتُثِيرُ سَحابًا أيْ تَبْعَثُهُ وتَنْقُلُهُ ونَظِيرُ هَذا الِاسْتِعْمالِ قَوْلُهُ في سُورَةِ الرُّومِ وأثارُوا الأرْضَ. ولا تَسْقِي الحَرْثَ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ. وإقْحامُ (لا) بَعْدَ حَرْفِ العَطْفِ في قَوْلِهِ ولا تَسْقِي الحَرْثَ مَعَ أنَّ حَرْفَ العَطْفِ عَلى المَنفِيِّ بِها يُغْنِي عَنْ إعادَتِها إنَّما هو لِمُراعاةِ الِاسْتِعْمالِ الفَصِيحِ في كُلِّ وصْفٍ أوْ ما في مَعْناهُ أُدْخِلَ فِيهِ حَرْفُ لا كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى لا فارِضٌ ولا بِكْرٌ فَإنَّهُ لَمّا قُيِّدَتْ صِفَةُ ذَلُولٍ بِجُمْلَةِ تَسْقِي الحَرْثَ صارَ تَقْدِيرُ الكَلامِ أنَّها بَقَرَةٌ لا تُثِيرُ الأرْضَ ولا تَسْقِي الحَرْثَ فَجَرَتِ الآيَةُ عَلى الِاسْتِعْمالِ الفَصِيحِ مِن إعادَةِ (لا) وبِذَلِكَ لَمْ تَكُنْ في هَذِهِ الآيَةِ حُجَّةٌ لِلْمُبَرِّدِ كَما يَظْهَرُ بِالتَّأمُّلِ. واخْتِيرَ الفِعْلُ المُضارِعُ في تُثِيرُ وتَسْقِي لِأنَّهُ الأنْسَبُ بِذَلُولٍ إذِ الوَصْفُ شَبِيهٌ بِالمُضارِعِ ولِأنَّ المُضارِعَ دالٌّ عَلى الحالِ. ومُسَلَّمَةٌ أيْ سَلِيمَةٌ مِن عُيُوبِ نَوْعِها فَهو اسْمُ مَفْعُولٍ مِن (سُلِّمَتِ) المَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ وكَثِيرًا ما تُذْكَرُ الصِّفاتُ الَّتِي تُعْرَضُ في أصْلِ الخِلْقَةِ بِصِيغَةِ البِناءِ لِلْمَجْهُولِ في الفِعْلِ والوَصْفِ إذْ لا يَخْطُرُ عَلى بالِ المُتَكَلِّمِ تَعْيِينُ فاعِلِ ذَلِكَ ومِن هَذا مُعْظَمُ الأفْعالِ الَّتِي التُزِمَ فِيها البِناءُ لِلْمَجْهُولِ. وقَوْلُهُ لا شِيَةَ فِيها صِفَةٌ أُخْرى تُمَيِّزُ هَذِهِ البَقَرَةَ عَنْ غَيْرِها. والشِّيَةُ العَلامَةُ وهي بِزِنَةِ فِعْلَةٍ مِن وشى الثَّوْبَ إذا نَسَجَهُ ألْوانًا وأصْلُ شِيَةٍ وشْيَةٌ ويَقُولُ العَرَبُ ثَوْبٌ مُوَشًّى وثَوْبٌ وشِيٌّ، ويَقُولُونَ ثَوْرٌ مُوَشّى الأكارِعِ لِأنَّ في أكارِعِ ثَوْرِ الوَحْشِ سَوادٌ يُخالِطُ صُفْرَتَهُ فَهو ثَوْرٌ أشْيَهٌ ونَظائِرُهُ قَوْلُهم فَرَسٌ أبْلَقُ. وكَبْشٌ أدْرَعُ. وتَيْسٌ أزْرَقُ وغُرابٌ أبْقَعُ. بِمَعْنى مُخْتَلِطٍ لَوْنَيْنِ. وقَوْلُهُ قالُوا الآنَ جِئْتَ بِالحَقِّ أرادُوا بِالحَقِّ الأمْرَ الثّابِتَ الَّذِي لا احْتِمالَ فِيهِ كَما تَقُولُ جاءَ بِالأمْرِ عَلى وجْهِهِ، ولَمْ يُرِيدُوا مِنَ الحَقِّ ضِدَّ الباطِلِ لِأنَّهم ما كانُوا يُكَذِّبُونَ نَبِيَّهم فَإنْ (p-٥٥٦)قُلْتَ: لِماذا ذُكِرَ هُنا بِلَفْظِ الحَقِّ وهَلّا قِيلَ قالُوا الآنَ جِئْتَ بِالبَيانِ أوْ بِالثَّبْتِ. قُلْتُ: لَعَلَّ الآيَةَ حَكَتْ مَعْنى ما عَبَّرَ عَنْهُ اليَهُودُ لِمُوسى بِلَفْظٍ هو في لُغَتِهِمْ مُحْتَمِلٌ لِلْوَجْهَيْنِ فَحَكى بِما يُرادِفُهُ مِنَ العَرَبِيَّةِ تَنْبِيهًا عَلى قِلَّةِ اهْتِمامِهِمْ بِانْتِقاءِ الألْفاظِ النَّزِيهَةِ في مُخاطَبَةِ أنْبِيائِهِمْ وكُبَرائِهِمْ كَما كانُوا يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ ﷺ راعِنا، فَنُهِينا نَحْنُ عَنْ أنْ نَقُولَهُ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وقُولُوا انْظُرْنا﴾ [البقرة: ١٠٤] وهم لِقِلَّةِ جَدارَتِهِمْ بِفَهْمِ الشَّرائِعِ قَدْ تَوَهَّمُوا أنَّ في الأمْرِ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ دُونَ بَيانِ صِفاتِها تَقْصِيرًا كَأنَّهم ظَنُّوا الأمْرَ بِالذَّبْحِ كالأمْرِ بِالشِّراءِ فَجَعَلُوا يَسْتَوْصِفُونَها بِجَمِيعِ الصِّفاتِ واسْتَكْمَلُوا مُوسى لَمّا بَيَّنَ لَهُمُ الصِّفاتِ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِها أغْراضُ النّاسِ في الكَسْبِ لِلْبَقَرِ ظَنًّا مِنهم أنَّ في عِلْمِ النَّبِيءِ بِهَذِهِ الأغْراضِ الدُّنْيَوِيَّةِ كَمالًا فِيهِ، فَلِذا مَدَحُوهُ بَعْدَ البَيانِ بِقَوْلِهِمُ الآنَ جِئْتَ بِالحَقِّ كَما يَقُولُ المُمْتَحِنُ لِلتِّلْمِيذِ بَعْدَ جَمْعِ صُوَرِ السُّؤالِ الآنَ أصَبْتَ الجَوابَ. ولَعَلَّهم كانُوا لا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الوَصْفِ الطَّرْدِيِّ وغَيْرِهِ في التَّشْرِيعِ. فَلْيَحْذَرِ المُسْلِمُونَ أنْ يَقَعُوا في فَهْمِ الدِّينِ عَلى شَيْءٍ مِمّا وقَعَ فِيهِ أُولَئِكَ وذُمُّوا لِأجْلِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب