الباحث القرآني

﴿قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها﴾ لَمّا تَعَرَّفُوا سِنَّ هَذِهِ، شَرَعُوا في تَعَرُّفِ لَوْنِها، وذَلِكَ كُلُّهُ يَدُلُّ عَلى نَقْصِ فِطَرِهِمْ وعُقُولِهِمْ، إذْ قَدْ تَقَدَّمَ أمْرُ اللَّهِ لَهم بِذَبْحِ بَقَرَةٍ، وأمْرُ المُبَلِّغِ عَنِ اللَّهِ، النّاصِحِ لَهم، المُشْفِقِ عَلَيْهِمْ، بِقَوْلِهِ: ﴿فافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ﴾ [البقرة: ٦٨]، ومَعَ ذَلِكَ لَمْ يَرْتَدِعُوا عَنِ السُّؤالِ عَنْ لَوْنِها، والقَوْلُ في: ﴿ادْعُ لَنا رَبَّكَ﴾ [البقرة: ٦٨]، وفي جَزْمِ: (يُبَيِّنْ)، وفي الجُمْلَةِ المُسْتَفْهَمِ بِها والمَحْذُوفِ بَعْدَهُ سَبَقَ نَظِيرُهُ في الآيَةِ قَبْلَهُ، فَأغْنى عَنْ ذِكْرِهِ. ﴿قالَ إنَّهُ يَقُولُ إنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ﴾: قالَ الجُمْهُورُ: هو اللَّوْنُ المَعْرُوفُ: ولِذَلِكَ أُكِّدَ بِالفُقُوعِ والسُّرُورِ، فَهي صَفْراءُ حَتّى القَرْنُ والظِّلْفُ، وقالَ الحَسَنُ وأبُو عُبَيْدَةَ: عَنى بِهِ هُنا السَّوادَ، قالَ الشّاعِرُ: ؎وصَفْراءُ لَيْسَتْ بِمُصْفَرَّةٍ ولَكِنَّ سَوْداءَ مِثْلَ الحُمَمْ وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: صَفْراءُ القَرْنِ والظِّلْفِ خاصَّةً. (فاقِعٌ): أيْ شَدِيدُ الصُّفْرَةِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ، أوِ الخالِصُ الصُّفْرَةِ، قالَهُ قُطْرُبٌ، أوِ الصّافِي، قالَهُ أبُو العالِيَةِ وقَتادَةُ. (لَوْنُها): ذَكَرُوا في إعْرابِهِ وُجُوهًا: أحَدُها: أنَهُ فاعِلٌ مَرْفُوعٌ بِـ ”فاقِعٌ“، و”فاقِعٌ“ صِفَةٌ لِلْبَقَرَةِ. الثّانِي: أنَّهُ مُبْتَدَأٌ وخَبَرُهُ ”فاقِعٌ“ . والثّالِثُ: أنَّهُ مُبْتَدَأٌ، و﴿تَسُرُّ النّاظِرِينَ﴾ خَبَرٌ. وأُنِّثَ عَلى أحَدِ مَعْنَيَيْنِ: أحَدُهُما: لِكَوْنِهِ أُضِيفَ إلى مُؤَنَّثٍ، كَما قالُوا: ذَهَبَتْ بَعْضُ أصابِعِهِ. والثّانِي: أنَّهُ يُرادُ بِهِ المُؤَنَّثُ، إذْ هو الصُّفْرَةُ، فَكَأنَّهُ قالَ: صُفْرَتُها تَسُرُّ النّاظِرِينَ، فَحُمِلَ عَلى المَعْنى كَقَوْلِهِمْ: جاءَتْهُ كِتابِي فاحْتَقَرَها، عَلى مَعْنى الصَّحِيفَةِ، والوَجْهُ الإعْرابُ الأوَّلُ؛ لِأنَّ إعْرابَ ”لَوْنُها“ مُبْتَدَأً، و”فاقِعٌ“ خَبَرًا مُقَدَّمًا لا يُجِيزُهُ الكُوفِيُّونَ، أوْ ”تَسُرُّ النّاظِرِينَ“ خَبَرَهُ فِيهِ تَأْنِيثُ الخَبَرِ، ويَحْتاجُ إلى تَأْوِيلٍ، كَما قَرَّرْناهُ. وكَوْنُ ”لَوْنُها“ فاعِلًا بِـ ”فاقِعٌ“ جارٍ عَلى نَظْمِ الكَلامِ، ولا يَحْتاجُ إلى تَقْدِيمٍ ولا تَأْخِيرٍ ولا تَأْوِيلٍ، ولَمْ يُؤَنِّثْ فاقِعًا وإنْ كانَ صِفَةً لِمُؤَنَّثٍ؛ لِأنَّهُ رَفَعَ السَّبَبِيَّ، وهو مُذَكَّرٌ فَصارَ نَحْوَ: جاءَتْنِي امْرَأةٌ حَسَنٌ أبُوها، ولا يَصِحُّ هُنا أنْ يَكُونَ تابِعًا لِـ ”صَفْراءُ“ عَلى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ؛ لِأنَّهُ يَلْزَمُ المُطابَقَةَ إذْ ذاكَ لِلْمَتْبُوعِ. ألاَ تَرى أنَّكَ تَقُولُ: أسْوَدُ حالِكٌ، وسَوْداءُ حالِكَةٌ، ولا يَجُوزُ سَوْداءُ حالِكٌ ؟ فَأمّا قَوْلُهُ: ؎وإنِّي لَأسْقِي الشَّرْبَ صَفْراءَ فاقِعًا ∗∗∗ كَأنَّ ذَكِيَّ المِسْكِ فِيها يُفَتَّقُ فَبابُهُ الشِّعْرُ، إذا كانَ وجْهُ الكَلامِ صَفْراءَ فاقِعَةً، وجاءَ ﴿صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها﴾، ولَمْ يَكْتَفِ بِقَوْلِهِ: صَفْراءُ فاقِعَةٌ؛ لِأنَّهُ أرادَ تَأْكِيدَ نِسْبَةِ الصُّفْرَةِ، فَحَكَمَ عَلَيْها أنَّها صَفْراءُ، ثُمَّ حَكَمَ عَلى اللَّوْنِ أنَّهُ شَدِيدُ الصُّفْرَةِ، فابْتَدَأ أوَّلًا بِوَصْفِ البَقَرَةِ بِالصُّفْرَةِ، ثُمَّ أكَّدَ ذَلِكَ بِوَصْفِ اللَّوْنِ بِها، فَكَأنَّهُ قالَ: هي صَفْراءُ، ولَوْنُها شَدِيدُ الصُّفْرَةِ. (p-٢٥٣)فَقَدِ اخْتَلَفَتْ جِهَتا تَعَلُّقِ الصُّفْرَةِ لَفْظًا، إذْ تَعَلَّقَتْ أوَّلًا بِالذّاتِ، ثُمَّ ثانِيًا بِالعَرَضِ الَّذِي هو اللَّوْنُ، واخْتَلَفَ المُتَعَلِّقُ أيْضًا؛ لِأنَّ مُطْلَقَ الصُّفْرَةِ مُخالِفٌ لِشَدِيدِ الصُّفْرَةِ، ومَعَ هَذا الِاخْتِلافِ الظّاهِرِ فَلا يَحْتاجُ ذَلِكَ إلى التَّوْكِيدِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ، فَهَلّا قِيلَ: صَفْراءُ فاقِعَةٌ ؟ وأيُّ فائِدَةٍ في ذَلِكَ اللَّوْنِ ؟ قُلْتُ: الفائِدَةُ فِيهِ التَّوْكِيدُ؛ لِأنَّ اللَّوْنَ اسْمٌ لِلْهَيْئَةِ، وهي الصُّفْرَةُ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: شَدِيدُ الصُّفْرَةِ صُفْرَتُها، فَهو مِن قَوْلِكَ: جَدَّ جِدُّهُ، وجُنُونُكَ جُنُونٌ اهـ كَلامُهُ. وقالَ وهْبٌ: إذا نَظَرْتَ إلَيْها خُيِّلَ إلَيْكَ أنَّ شُعاعَ الشَّمْسِ يَخْرُجُ مِن جِلْدِها. ﴿تَسُرُّ النّاظِرِينَ﴾: أيْ تُبْهِجُ النّاظِرِينَ إلَيْها مِن سِمَنِها ومَنظَرِها ولَوْنِها. وهَذِهِ الجُمْلَةُ صِفَةٌ لِلْبَقَرَةِ، وقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ مَن جَعَلَها خَبَرًا، كَقَوْلِهِ: لَوْنُها، وفِيهِ تَكَلُّفٌ قَدْ ذَكَرْناهُ. وجاءَ هَذا الوَصْفُ بِالفِعْلِ، ولَمْ يَجِئْ بِاسْمِ الفاعِلِ؛ لِأنَّ الفِعْلَ يُشْعِرُ بِالحُدُوثِ والتَّجَدُّدِ. ولَمّا كانَ لَوْنُها مِنَ الأشْياءِ الثّابِتَةِ الَّتِي لا تَتَجَدَّدُ، جاءَ الوَصْفُ بِهِ بِالِاسْمِ لا بِالفِعْلِ، وتَأخَّرَ هَذا الوَصْفُ عَنِ الوَصْفِ قَبْلَهُ؛ لِأنَّهُ ناشِئٌ عَنِ الوَصْفِ قَبْلَهُ، أوْ كالنّاشِئِ؛ لِأنَّ اللَّوْنَ إذا كانَ بَهِجًا جَمِيلًا، دَهِشَتْ فِيهِ الأبْصارُ، وعَجِبَتْ مِن حُسْنِهِ البَصائِرُ، وجاءَ بِوَصْفِ الجَمْعِ في النّاظِرِينَ، لِيُوَضِّحَ أنَّ أعْيُنَ النّاسِ طامِحَةٌ إلَيْها، مُتَلَذِّذَةٌ فِيها بِالنَّظَرِ. فَلَيْسَتْ مِمّا تُعْجِبُ شَخْصًا دُونَ شَخْصٍ، ولِذَلِكَ أدْخَلَ الألِفَ واللّامَ الَّتِي تَدُلُّ عَلى الِاسْتِغْراقِ، أيْ هي بِصَدَدِ مَن نَظَرَ إلَيْها سُرَّ بِها، وإنْ كانَ النَّظَرُ هُنا مِن نَظَرِ القَلْبِ، وهو الفِكْرُ، فَيَكُونُ السُّرُورُ قَدْ حَصَلَ مِنَ التَّفَكُّرِ في بَدائِعِ صُنْعِ اللَّهِ، مِن تَحْسِينِ لَوْنِها وتَكْمِيلِ خَلْقِها. والضَّمِيرُ في تَسُرُّ عائِدٌ عَلى البَقَرَةِ، عَلى تَقْدِيرِ أنَّ تَسُرُّ صِفَةٌ، وإنْ كانَ خَبَرًا، فَهو عائِدٌ عَلى اللَّوْنِ الَّذِي تَسُرُّ خَبَرٌ عَنْهُ. وقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُ التَّأْنِيثِ، ولِذَلِكَ مَن قَرَأ يَسُرُّ بِالياءِ، فَهو عائِدٌ عَلى اللَّوْنِ، فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ لَوْنُها مُبْتَدَأً، ويَسُرُّ خَبَرًا، ويَكُونَ فاقِعٌ صِفَةً تابِعَةً لِـ ”صَفْراءُ“ عَلى حَدِّ هَذا البَيْتِ الَّذِي أنْشَدْناهُ وهو: ؎وإنِّي لَأسْقِي الشَّرْبَ صَفْراءَ فاقِعًا عَلى قِلَّةِ ذَلِكَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ لَوْنُها فاعِلًا بِـ ”فاقِعٌ“ ويَسُرُّ إخْبارًا مُسْتَأْنَفًا. وجُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ يُشِيرُونَ إلى أنَّ الصُّفْرَةَ مِنَ الألْوانِ السّارَّةِ، ولِهَذا كانَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وجْهُهُ، يَرْغَبُ في النِّعالِ الصُّفْرِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: الصُّفْرَةُ تَبْسُطُ النَّفْسَ وتُذْهِبُ الهَمَّ، وكانَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا يَحُضُّ عَلى لُبْسِ النِّعالِ الصُّفْرِ. ونَهى ابْنُ الزُّبَيْرِ ويَحْيى بْنُ أبِي كَثِيرٍ عَنْ لِباسِ النِّعالِ السُّودِ، لِأنَّها تُهِمُّ. ﴿قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ﴾ [البقرة: ٦٨] قالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أبِي الفَضْلِ المُرْسِيُّ في رِيِّ الظَّمْآنِ: وجْهُ الِاشْتِباهِ عَلَيْهِمْ، أنَّ كُلَّ بَقَرَةٍ لا تَصْلُحُ عِنْدَهم أنْ تَكُونَ آيَةً، لِما عَلِمُوا مِن ناقَةِ صالِحٍ وما كانَ فِيها مِنَ العَجائِبِ، فَظَنُّوا أنَّ الحَيَوانَ لا يَكُونُ آيَةً إلّا إذا كانَ عَلى ذَلِكَ الأُسْلُوبِ، وذَلِكَ لَمّا نُبِّئُوا أنَّها آيَةٌ، سَألُوا عَنْ ماهِيَّتِها وكَيْفِيَّتِها، ولِذَلِكَ لَمْ يَسْألُوا مُوسى عَنْ ذَلِكَ، بَلْ سَألُوهُ أنْ يَسْألَ اللَّهَ لَهم عَنْ ذَلِكَ، إذِ اللَّهُ تَعالى هو العالِمُ بِالآياتِ، وإنَّما سَألُوا عَنِ التَّعْيِينِ، وإنْ كانَ اللَّفْظُ مُقْتَضاهُ الإطْلاقُ، لِأنَّهم لَوْ عَمِلُوا بِمُطْلَقِهِ لَمْ يَحْصُلِ التَّقَصِّي عَنِ الأمْرِ بِيَقِينٍ. انْتَهى كَلامُهُ. وقالَ غَيْرُهُ: لَمّا لَمْ يُمْكِنُ التَّماثُلُ مِن كُلِّ وجْهٍ، وحَصَلَ الِاشْتِباهُ ساغَ لَهُمُ السُّؤالُ، فَأُخْبِرُوا بِسِنِّها، فَوَجَدُوا مِثْلَها في السِّنِّ كَثِيرًا، فَسَألُوا عَنِ اللَّوْنِ، فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ، فَلَمْ يَزُلِ اللَّبْسُ بِذَلِكَ، فَسَألُوا عَنِ العَمَلِ، فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ، وعَنْ بَعْضِ أوْصافِها الخاصِّ بِها، فَزالَ اللَّبْسُ بِتَبْيِينِ السِّنِّ واللَّوْنِ والعَمَلِ وبَعْضِ الأوْصافِ، إذْ وُجُودُ بَقَرٍ كَثِيرٍ عَلى هَذِهِ الأوْصافِ يَنْدُرُ، فَهَذا هو السَّبَبُ الَّذِي جَرَّأهم عَلى تَكْرارِ السُّؤالِ: ﴿قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ﴾ [البقرة: ٦٨]، تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى هَذِهِ الجُمْلَةِ. ﴿إنَّ البَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا﴾: هَذا تَعْلِيلٌ لِتَكْرارِ هَذا السُّؤالِ إلى أنَّ الحامِلَ عَلى اسْتِقْصاءِ أوْصافِ هَذِهِ البَقَرَةِ، وهو تَشابُهُها عَلَيْنا، فَإنَّهُ كَثِيرٌ مِنَ البَقَرِ يُماثِلُها في السِّنِّ واللَّوْنِ. وقَرَأ عِكْرِمَةُ ويَحْيى بْنُ يَعْمَرَ: إنَّ الباقِرَ، وقَدْ تَقَدَّمَ أنَّهُ اسْمُ جَمْعٍ، قالَ الشّاعِرُ:(p-٢٥٤) ؎ما لِي رَأيْتُكَ بَعْدَ عَهْدِكَ مُوحِشًا ∗∗∗ خَلَقًا كَحَوْضِ الباقِرِ المُتَهَدِّمِ وقَرَأ الجُمْهُورُ: تَشابَهَ، جَعَلُوهُ فِعْلًا ماضِيًا عَلى وزْنِ تَفاعَلَ، مُسْنَدًا لِضَمِيرِ البَقَرِ، عَلى أنَّ البَقَرَ مُذَكَّرٌ. وقَرَأ الحَسَنُ: تَشابَهُ، بِضَمِّ الهاءِ، جَعَلَهُ مُضارِعًا مَحْذُوفَ التّاءِ، وماضِيهِ تَشابَهَ، وفِيهِ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلى البَقَرِ، عَلى أنَّ البَقَرَ مُؤَنَّثٌ. وقَرَأ الأعْرَجُ: كَذَلِكَ، إلّا أنَّهُ شَدَّدَ الشِّينَ، جَعَلَهُ مُضارِعًا وماضِيهِ تَشابَهُ، أصْلُهُ: تَتَشابَهُ، فَأُدْغِمَ، وفِيهِ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلى البَقَرِ. ورُوِيَ أيْضًا عَنِ الحَسَنِ، وقَرَأ مُحَمَّدٌ المُعَيْطِيُّ، المَعْرُوفُ بِذِي الشّامَةِ: تُشُبِّهَ عَلَيْنا. وقَرَأ مُجاهِدٌ: تَشَبَّهَ، جَعَلَهُ ماضِيًا عَلى تَفَعَّلَ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: يَشّابَهُ، بِالياءِ وتَشْدِيدِ الشِّينِ، جَعَلَهُ مُضارِعًا مِن تَفاعَلَ، ولَكِنَّهُ أدْغَمَ التّاءَ في الشِّينِ. وقُرِئَ: مُتَشَبِّهٌ، اسْمُ فاعِلٍ مِن تَشَبَّهَ. وقَرَأ بَعْضُهم: يَتَشابَهُ، مُضارِعُ تَشابَهَ، وفِيهِ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلى البَقَرِ. وقَرَأ أُبَيٌّ: تَشابَهَتْ. وقَرَأ الأعْمَشُ: مُتَشابِهٌ ومُتَشابِهَةٌ. وقَرَأ ابْنُ أبِي إسْحاقَ: تَشّابَهَتْ، بِتَشْدِيدِ الشِّينِ مَعَ كَوْنِهِ فِعْلًا ماضِيًا، وبِتاءِ التَّأْنِيثِ آخِرَهُ. فَهَذِهِ اثْنَتا عَشْرَةَ قِراءَةً. وتَوْجِيهُ هَذِهِ القِراءاتِ ظاهِرٌ، إلّا قِراءَةَ ابْنِ أبِي إسْحاقَ تَشّابَهَتْ، فَقالَ بَعْضُ النّاسِ: لا وجْهَ لَها. وتَبْيِينُ ما قالَهُ: إنَّ تَشْدِيدَ الشِّينِ إنَّما يَكُونُ بِإدْغامِ التّاءِ فِيهِ، والماضِي لا يَكُونُ فِيهِ تاءانِ، فَتَبْقى إحْداهُما وتُدْغَمُ الأُخْرى. ويُمْكِنُ أنْ تُوَجَّهَ هَذِهِ القِراءَةُ عَلى أنَّ أصْلَهُ: اشّابَهَتْ، والتّاءُ هي تاءُ البَقَرَةِ، وأصْلُهُ أنَّ البَقَرَةَ اشّابَهَتْ عَلَيْنا، ويُقَوِّي ذَلِكَ لِحاقُ تاءِ التَّأْنِيثِ في آخِرِ الفِعْلِ، أوِ اشّابَهَتْ أصْلُهُ: تَشابَهَتْ، فَأُدْغِمَتِ التّاءُ في الشِّينِ واجْتُلِبَتْ هَمْزَةُ الوَصْلِ. فَحِينَ أدْرَجَ ابْنُ أبِي إسْحاقَ القِراءَةَ، صارَ اللَّفْظُ: أنَّ البَقَرَةَ اشّابَهَتْ، فَظَنَّ السّامِعُ أنَّ تاءَ البَقَرَةِ هي تاءٌ في الفِعْلِ، إذِ النُّطْقُ واحِدٌ، فَتَوَهَّمَ أنَّهُ قَرَأ: تَشّابَهَتْ، وهَذا لا يُظَنُّ بِابْنِ أبِي إسْحاقَ، فَإنَّهُ رَأْسٌ في عِلْمِ النَّحْوِ، ومِمَّنْ أخَذَ النَّحْوَ عَنْ أصْحابِ أبِي الأسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ مُسْتَنْبِطِ عِلْمِ النَّحْوِ. وقَدْ كانَ ابْنُ أبِي إسْحاقَ يُزْرِي عَلى العَرَبِ وعَلى مَن يَسْتَشْهِدُ بِكَلامِهِمْ، كالفَرَزْدَقِ، إذا جاءَ في شِعْرِهِمْ ما لَيْسَ بِالمَشْهُورِ في كَلامِ العَرَبِ، فَكَيْفَ يَقْرَأُ قِراءَةً لا وجْهَ لَها، وإنَّ البَقَرَ تَعْلِيلٌ لِلسُّؤالِ، كَما تَقُولُ: أكْرِمْ زَيْدًا إنَّهُ عالِمٌ، فالحامِلُ لَهم عَلى السُّؤالِ هو حُصُولُ تَشابُهِ البَقَرِ عَلَيْهِمْ. ﴿وإنّا إنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ﴾: أيْ لَمُهْتَدُونَ إلى عَيْنِ البَقَرَةِ المَأْمُورِ بِذَبْحِها، أوْ إلى ما خَفِيَ مِن أمْرِ القاتِلِ، أوْ إلى الحِكْمَةِ الَّتِي مِن أجْلِها أُمِرْنا بِذَبْحِ البَقَرَةِ. وفي تَعْلِيقِ هِدايَتِهِمْ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ إنابَةٌ وانْقِيادٌ ودَلالَةٌ عَلى نَدَمِهِمْ عَلى تَرْكِ مُوافَقَةِ الأمْرِ. وقَدْ جاءَ في الحَدِيثِ: «ولَوْ لَمْ يَسْتَثْنُوا لَما بُيِّنَتْ لَهم آخِرَ الأبَدِ» . وجَوابُ هَذا الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَضْمُونُ الجُمْلَةِ، أيْ إنْ شاءَ اللَّهُ اهْتَدَيْنا، وإذا حُذِفَ الجَوابُ كانَ فِعْلُ الشَّرْطِ ماضِيًا في اللَّفْظِ ومَنفِيًّا بِلَمْ، وقِياسُ الشَّرْطِ الَّذِي حُذِفَ جَوابُهُ أنْ يَتَأخَّرَ عَنِ الدَّلِيلِ عَلى الجَوابِ، فَكانَ التَّرْتِيبُ أنْ يُقالَ في الكَلامِ: إنَّ زَيْدًا لَقائِمٌ إنْ شاءَ اللَّهُ، أيْ: إنْ شاءَ اللَّهُ فَهو قائِمٌ، لَكِنَّهُ تَوَسَّطَ هُنا بَيْنَ اسْمِ إنَّ وخَبَرِها، لِيَحْصُلَ تَوافُقُ رُءُوسِ الآيِ، ولِلِاهْتِمامِ بِتَعْلِيقِ الهِدايَةِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وجاءَ خَبَرُ إنَّ اسْمًا؛ لِأنَّهُ أدَلُّ عَلى الثُّبُوتِ وعَلى أنَّ الهِدايَةَ حاصِلَةٌ لَهم، وأكَّدَ بِحَرْفَيِ التَّأْكِيدِ إنَّ واللّامِ، ولَمْ يَأْتُوا بِهَذا الشَّرْطِ إلّا عَلى سَبِيلِ الأدَبِ مَعَ اللَّهِ تَعالى، إذْ أخْبَرُوا بِثُبُوتِ الهِدايَةِ لَهم. وأكَّدُوا تِلْكَ النِّسْبَةَ، ولَوْ كانَ تَعْلِيقًا مَحْضًا لَما احْتِيجَ إلى تَأْكِيدٍ، ولَكِنَّهُ عَلى قَوْلِ القائِلِ: أنا صانِعُ كَذا إنْ شاءَ اللَّهُ، وهو مُتَلَبِّسٌ بِالصُّنْعِ، فَذَكَرَ إنْ شاءَ اللَّهُ عَلى طَرِيقِ الأدَبِ. قالَ الماتُرِيدِيُّ: إنَّ قَوْمَ مُوسى، مَعَ غِلَظِ أفْهامِهِمْ وقِلَّةِ عُقُولِهِمْ، كانُوا أعْرَفَ بِاللَّهِ وأكْمَلَ تَوْحِيدًا مِنَ المُعْتَزِلَةِ، لِأنَّهم قالُوا: ﴿وإنّا إنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ﴾، والمُعْتَزِلَةُ يَقُولُونَ: قَدْ شاءَ اللَّهُ أنْ يَهْتَدُوا، وهم شاءُوا أنْ لا يَهْتَدُوا، فَغَلَبَتْ مَشِيئَتُهم مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعالى، حَيْثُ كانَ الأمْرُ عَلى: ما شاءُوا لا كَما شاءَ اللَّهُ تَعالى، فَتَكُونُ الآيَةُ حُجَّةً لَنا عَلى المُعْتَزِلَةِ. انْتَهى كَلامُهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب