الباحث القرآني

﴿ومِنَ النّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ في الحَياةِ الدُّنْيا ويُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما في قَلْبِهِ وهْوَ ألَدُّ الخِصامِ﴾ ﴿وإذا تَوَلّى سَعى في الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها ويُهْلِكَ الحَرْثَ والنَّسْلَ واللَّهُ لا يُحِبُّ الفَسادَ﴾ ﴿وإذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أخَذَتْهُ العِزَّةُ بِالإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ولَبِئْسَ المِهادُ﴾ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿فَمِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنا آتِنا في الدُّنْيا﴾ [البقرة: ٢٠٠] إلَخْ، لِأنَّهُ ذَكَرَ هُنالِكَ حالَ المُشْرِكِينَ الصُّرَحاءَ الَّذِينَ لا حَظَّ لَهم في الآخِرَةِ، وقابَلَ ذِكْرَهم بِذِكْرِ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَهم رَغْبَةٌ في الحَسَنَةِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، فانْتَقَلَ هُنا إلى حالِ فَرِيقٍ آخَرِينَ مِمَّنْ لا حَظَّ لَهم في الآخِرَةِ وهم مُتَظاهِرُونَ بِأنَّهم راغِبُونَ فِيها، مَعَ مُقابَلَةِ حالِهِمْ بِحالِ المُؤْمِنِينَ الخالِصِينَ الَّذِينَ يُؤْثِرُونَ الآخِرَةَ والحَياةَ الأبَدِيَّةَ عَلى الحَياةِ الدُّنْيا، وهُمُ المَذْكُورُونَ في قَوْلِهِ ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاةِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٠٧] . ومِن بِمَعْنى بَعْضٍ كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ آمَنّا بِاللَّهِ﴾ [البقرة: ٨] فَهي صالِحَةٌ (p-٢٦٦)لِلصِّدْقِ عَلى فَرِيقٍ أوْ عَلى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ و(مَنِ) المَوْصُولَةُ كَذَلِكَ صالِحَةٌ لِفَرِيقٍ وشَخْصٍ. والإعْجابُ إيجادُ العُجْبِ في النَّفْسِ والعَجَبُ: انْفِعالٌ يَعْرِضُ لِلنَّفْسِ عِنْدَ مُشاهَدَةِ أمْرٍ غَيْرِ مَأْلُوفٍ خُفِيَ سَبَبُهُ. ولَمّا كانَ شَأْنُ ما يَخْفى سَبَبُهُ أنْ تَرْغَبَ فِيهِ النَّفْسُ، صارَ العَجَبُ مُسْتَلْزِمًا لِلْإحْسانِ، فَيُقالُ: أعْجَبَنِي الشَّيْءُ بِمَعْنى أوْجَبَ لِي اسْتِحْسانَهُ، قالَ الكَواشِيُّ يُقالُ في الِاسْتِحْسانِ: أعْجَبَنِي كَذا، وفي الإنْكارِ: عَجِبْتُ مِن كَذا، فَقَوْلُهُ: يُعْجِبُكَ أيْ يَحْسُنُ عِنْدَكَ قَوْلُهُ. والمُرادُ مِنَ القَوْلِ هُنا ما فِيهِ مِن دَلالَتِهِ عَلى حالِهِ في الإيمانِ والنُّصْحِ لِلْمُسْلِمِينَ، لِأنَّ ذَلِكَ هو الَّذِي يُهِمُّ الرَّسُولَ ويُعْجِبُهُ، ولَيْسَ المُرادُ صِفَةَ قَوْلِهِ في فَصاحَةٍ وبَلاغَةٍ؛ إذْ لا غَرَضَ في ذَلِكَ هُنا لِأنَّ المَقْصُودَ ما يُضادُّ قَوْلَهُ: ﴿وهُوَ ألَدُّ الخِصامِ﴾ إلى آخِرِهِ. والخِطابُ إمّا لِلنَّبِيءِ ﷺ؛ أيْ ومِنَ النّاسِ مَن يُظْهِرُ لَكَ ما يُعْجِبُكَ مِنَ القَوْلِ وهو الإيمانُ وحُبُّ الخَيْرِ والإعْراضُ عَنِ الكُفّارِ، فَيَكُونُ المُرادُ بِـ ”مِن“ المُنافِقِينَ ومُعْظَمُهم مِنَ اليَهُودِ، وفِيهِمْ مِنَ المُشْرِكِينَ مِن أهْلِ يَثْرِبَ وهَذا هو الأظْهَرُ عِنْدِي، أوْ طائِفَةً مُعَيَّنَةً مِنَ المُنافِقِينَ، وقِيلَ: أُرِيدَ بِهِ الأخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ الثَّقَفِيُّ واسْمُهُ أُبَيٌّ وكانَ مَوْلًى لِبَنِي زُهْرَةَ مِن قُرَيْشٍ وهم أخْوالُ النَّبِيءِ ﷺ، وكانَ يُظْهِرُ المَوَدَّةَ لِلنَّبِيءِ ﷺ . ولَمْ يَنْضَمَّ إلى المُشْرِكِينَ في واقِعَةِ بَدْرٍ بَلْ خَنَسَ أيْ تَأخَّرَ عَنِ الخُرُوجِ مَعَهم إلى بَدْرٍ وكانَ لَهُ ثَلاثُمِائَةٍ مِن بَنِي زُهْرَةَ أحْلافِهِ فَصَدَّهم عَلى الِانْضِمامِ إلى المُشْرِكِينَ فَقِيلَ: إنَّهُ كانَ يُظْهِرُ الإسْلامَ وهو مُنافِقٌ، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَمْ يَثْبُتْ أنَّهُ أسْلَمَ قَطُّ، ولَكِنْ كانَ يُظْهِرُ الوُدَّ لِلرَّسُولِ فَلَمّا انْقَضَتْ وقْعَةُ بَدْرٍ قِيلَ: إنَّهُ حَرَقَ زَرْعًا لِلْمُسْلِمِينَ وقَتَلَ حَمِيرًا لَهم فَنَزَلَتْ فِيهِ هاتِهِ الآيَةُ ونَزَلَتْ فِيهِ أيْضًا ﴿ولا تُطِعْ كُلَّ حَلّافٍ مَهِينٍ هَمّازٍ مَشّاءٍ بِنَمِيمٍ﴾ [القلم: ١٠] ونَزَلَتْ فِيهِ ﴿ويْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ﴾ [الهمزة: ١]، وقِيلَ بَلْ كانَتْ بَيْنَهُ وبَيْنَ قَوْمِهِ ثَقِيفٍ عَداوَةٌ فَبَيَّتَّهم لَيْلًا فَأحْرَقَ زَرْعَهم وقَتَلَ مَواشِيَهم فَنَزَلَتْ فِيهِ الآيَةُ وعَلى هَذا فَتَقْرِيعُهُ لِأنَّهُ غَدَرَهم وأفْسَدَ. ويَجُوزُ أنَّ الخِطابَ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لِيَعُمَّ كُلَّ مُخاطَبٍ تَحْذِيرًا لِلْمُسْلِمِينَ مِن أنْ تَرُوجَ عَلَيْهِمْ حِيَلُ المُنافِقِينَ، وتَنْبِيهُهُ لَهم إلى اسْتِطْلاعِ أحْوالِ النّاسِ وذَلِكَ لا بُدَّ مِنهُ والظَّرْفُ مِن قَوْلِهِ ﴿فِي الحَياةِ الدُّنْيا﴾ يَجُوزُ أنْ يَتَعَلَّقَ بِـ يُعْجِبُكَ فَيُرادُ بِهَذا الفَرِيقِ مِنَ النّاسِ المُنافِقُونَ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ كَلِمَةَ الإسْلامِ والرَّغْبَةَ فِيهِ. عَلى حَدِّ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وإذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا﴾ [البقرة: ١٤] أيْ إعْجابُكَ بِقَوْلِهِمْ لا يَتَجاوَزُ الحُصُولَ في الحَياةِ الدُّنْيا فَإنَّكَ في الآخِرَةِ (p-٢٦٧)تَجِدُهم بِحالَةٍ لا تُعْجِبُكَ فَهو تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ في آخِرِ الآيَةِ ﴿فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ﴾ والظَّرْفِيَّةُ المُسْتَفادَةُ مِن في ظَرْفِيَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ. ويَجُوزٌ أنْ يَتَعَلَّقَ بِكَلِمَةِ قَوْلِهِ أيْ كَلامِهِ عَنْ شُئُونِ الدُّنْيا مِن مَحامِدِ الوَفاءِ في الحَلِفِ مَعَ المُسْلِمِينَ والوُدِّ لِلنَّبِيءِ ولا يَقُولُ شَيْئًا في أُمُورِ الدِّينِ، فَهَذا تَنْبِيهٌ عَلى أنَّهُ لا يَتَظاهَرُ بِالإسْلامِ فَيُرادُ بِهَذا الأخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ‌‌ . وحَرْفُ (في) عَلى هَذا الوَجْهِ لِلظَّرْفِيَّةِ المَجازِيَّةِ بِمَعْنى (عَنْ) والتَّقْدِيرُ قَوْلُهُ (عَنِ الحَياةِ الدُّنْيا) . ومَعْنى يُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما في قَلْبِهِ أنَّهُ يَقْرِنُ حُسْنَ قَوْلِهِ وظاهِرَ تَوَدُّدِهِ بِإشْهادِ اللَّهِ تَعالى عَلى أنَّ ما في قَلْبِهِ مُطابِقٌ لِما في لَفْظِهِ، ومَعْنى إشْهادِ اللَّهِ حَلِفُهُ بِأنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ إنَّهُ لَصادِقٌ. وإنَّما أفادَ ما في قَلْبِهِ مَعْنى المُطابَقَةِ لِقَوْلِهِ لِأنَّهُ لَمّا أشْهَدَ اللَّهَ حِينَ قالَ كَلامًا حُلْوًا تَعَيَّنَ أنْ يَكُونَ مُدَّعِيًا أنَّ قَلْبَهُ كَلِسانِهِ قالَ تَعالى ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكم لِيُرْضُوكُمْ﴾ [التوبة: ٦٢] . ومَعْنى ﴿وهُوَ ألَدُّ الخِصامِ﴾ أنَّهُ شَدِيدُ الخُصُومَةِ أيِ العَداوَةِ مُشْتَقٌّ: مِن لَدَّهُ يَلَدُّهُ بِفَتْحِ اللّامِ لِأنَّهُ مِن فَعِلَ، تَقُولُ: لَدِدْتَ يا زَيْدُ بِكَسْرِ الدّالِّ إذا خاصَمَ، فَهو لادٌّ ولَدُودٌ فاللَّدَدُ شِدَّةُ الخُصُومَةِ والألَدُّ الشَّدِيدُ الخُصُومَةِ قالَ الحَماسِيُّ رَبِيعَةُ بْنُ مَقْرُومٍ: ؎وألَدَّ ذِي حَنَقٍ عَلَيَّ كَأنَّما تَغْلِي حَرارَةُ صَدْرِهِ في مِرْجَلِ فَألَدُّ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ ولَيْسَ اسْمَ تَفْضِيلٍ، ألا تَرى أنَّ مُؤَنَّثَهُ جاءَ عَلى فَعْلاءَ فَقالُوا: لَدّاءُ وجَمْعَهُ جاءَ عَلى فُعْلٍ قالَ تَعالى ﴿وتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا﴾ [مريم: ٩٧] وحِينَئِذٍ فَفي إضافَتِهِ لِلْخِصامِ إشْكالٌ؛ لِأنَّهُ يَصِيرُ مَعْناهُ شَدِيدَ الخِصامِ مِن جِهَةِ الخِصامِ، فَقالَ في الكَشّافِ: إمّا أنْ تَكُونَ الإضافَةُ عَلى المُبالَغَةِ فَجُعِلَ الخِصامُ ألَدَّ أيْ نُزِّلَ خِصامُهُ مَنزِلَةَ شَخْصٍ لَهُ خِصامٌ فَصارا شَيْئَيْنِ فَصَحَّتِ الإضافَةُ عَلى طَرِيقَةِ المَجازِ العَقْلِيِّ، كَأنَّهُ قِيلَ: خِصامُهُ شَدِيدُ الخِصامِ كَما قالُوا: جُنَّ جُنُونُهُ وقالُوا: جَدَّ جَدُّهِ، أوِ الإضافَةُ عَلى مَعْنى في أيْ وهو شَدِيدُ الخِصامِ في الخِصامِ أيْ في حالِ الخِصامِ، وقالَ بَعْضُهم يُقَدَّرُ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفٌ بَعْدَ ”وهو“ تَقْدِيرُهُ: وهو خِصامُهُ ألَدُّ الخِصامِ وهَذا التَّقْدِيرُ لا يَصِحُّ لِأنَّ الخِصامَ لا يُوصَفُ بِالألَدِّ فَتَعَيَّنَ أنْ يُؤَوَّلَ بِأنَّهُ جُعِلَ بِمَنزِلَةِ الخَصْمِ وحِينَئِذٍ فالتَّأْوِيلُ مَعَ عَدَمِ التَّقْدِيرِ أوْلى، وقِيلَ الخِصامُ هُنا جَمْعُ خَصْمٍ كَصَعْبٍ وصِعابٍ ولَيْسَ هو مَصْدَرًا وحِينَئِذٍ تَظْهَرُ الإضافَةُ أيْ وهو ألَدُّ النّاسِ المُخاصِمِينَ. (p-٢٦٨)وقَوْلُهُ تَعالى ﴿وإذا تَوَلّى سَعى في الأرْضِ﴾ إذا ظَرْفٌ تَضَمَّنَ مَعْنى الشَّرْطِ. وتَوَلّى إمّا مُشْتَقٌّ مِنَ التَّوْلِيَةِ: وهي الإدْبارُ والِانْصِرافُ، يُقالُ ولّى وتَوَلّى وقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعالى ﴿ما ولّاهم عَنْ قِبْلَتِهِمُ﴾ [البقرة: ١٤٢] أيْ وإذا فارَقَكَ سَعى في الأرْضِ لِيُفْسِدَ. ومُتَعَلِّقُ تَوَلّى مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ تَوَلّى عَنْكَ، والخِطابُ المُقَدَّرُ يَجْرِي عَلى الوَجْهَيْنِ المُتَقَدِّمَيْنِ وإمّا مُشْتَقٌّ مِنَ الوِلايَةِ: يُقالُ ولِيَ البَلَدَ وتَوَلّاهُ، أيْ وإذا صارَ والِيًا أيْ إذا تَزَعَّمَ ورَأسَ النّاسَ سَعى في الأرْضِ بِالفَسادِ، وقَدْ كانَ الأخْنَسُ زَعِيمَ مَوالِيهِ وهم بَنُو زُهْرَةَ.وقَوْلُهُ ﴿سَعى في الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها﴾ السَّعْيُ حَقِيقَتُهُ المَشْيُ الحَثِيثُ قالَ تَعالى: ﴿وجاءَ رَجُلٌ مِن أقْصى المَدِينَةِ يَسْعى﴾ [القصص: ٢٠] ويُطْلَقُ السَّعْيُ عَلى العَمَلِ والكَسْبِ، قالَ تَعالى: ﴿ومَن أرادَ الآخِرَةَ وسَعى لَها سَعْيَها﴾ [الإسراء: ١٩] وقالَ امْرُؤُ القَيْسِ: ؎فَلَوْ أنَّ ما أسْعى لِأدْنى مَعِيشَةٍ البَيْتَيْنِ، ويُطْلَقُ عَلى التَّوَسُّطِ بَيْنَ النّاسِ لِإصْلاحِ ذاتِ البَيْنِ أوْ لِتَخْفِيفِ الإضْرارِ قالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ: ؎ومِنّا قَبْلَهُ السّاعِي كُلَيْبٌ ∗∗∗ فَأيُّ الفَضْلِ إلّا قَدْ وُلِينا وقالَ لَبِيدٌ: ؎وهُمُ السُّعاةُ إذا العَشِيرَةُ أفْظَعَتْ البَيْتَ، ويُطْلَقُ عَلى الحِرْصِ وبَذْلِ العَزْمِ لِتَحْصِيلِ شَيْءٍ كَما قالَ تَعالى في شَأْنِ فِرْعَوْنَ ﴿ثُمَّ أدْبَرَ يَسْعى﴾ [النازعات: ٢٢] فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ هُنا بِالمَعْنَيَيْنِ الأوَّلِ والرّابِعِ أيْ ذَهَبَ يَسِيرُ في الأرْضِ غازِيًا ومُغِيرًا لِيُفْسِدَ فِيها. فَيَكُونُ إشارَةً إلى ما فَعَلَهُ الأخْنَسُ بِزَرْعِ بَعْضِ المُسْلِمِينَ، لِأنَّ ذَلِكَ مُؤْذِنٌ بِكُفْرِهِ وكَذِبِهِ في مَوَدَّةِ النَّبِيءِ ﷺ، إذْ لَوْ كانَ وُدُّهُ صادِقًا لَما آذى أتْباعَهُ. أوْ إلى ما صَنَعَهُ بِزَرْعِ ثَقِيفٍ عَلى قَوْلِ مَن قالَ مِنَ المُفَسِّرِينَ أنَّ الأخْنَسَ بَيَّتَ ثَقِيفًا وكانَتْ بَيْنَهُ وبَيْنَهم عَداوَةٌ وهم قَوْمُهُ فَأغارَ عَلَيْهِمْ بِمَن مَعَهُ مِن بَنِي زُهْرَةَ فَأحْرَقَ زُرُوعَهم وقَتَلَ مَواشِيَهم. لِأنَّ صَنِيعَهُ هَذا بِقَوْمٍ وإنْ كانُوا يَوْمَئِذٍ كُفّارًا لا يُهِمُّ المُسْلِمِينَ ضُرُّهم، ولِأنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ انْتِصارًا لِلْإسْلامِ ولَمْ يَكُنْ في حالَةِ حَرْبٍ مَعَهم فَكانَ فِعْلُهُ يَنُمُّ عَنْ خُبْثِ طَوِيَّةٍ لا تَتَطابَقُ (p-٢٦٩)مَعَ ما يُظْهِرُهُ مِنَ الخَيْرِ ولِينِ القَوْلِ؛ إذْ مِن شَأْنِ أخْلاقِ المَرْءِ أنْ تَتَماثَلَ وتَتَظاهَرَ فاللَّهُ لا يَرْضى بِإضْرارِ عَبِيدِهِ ولَوْ كُفّارًا ضُرًّا لا يَجُرُّ إلى نَفْعِهِمْ؛ لِأنَّهم لَمْ يَغْزُهم حَمْلًا لَهم عَلى الإيمانِ بَلْ إفْسادًا وإتْلافًا ولِذَلِكَ قالَ تَعالى ﴿واللَّهُ لا يُحِبُّ الفَسادَ﴾ . وقَوْلُهُ في الأرْضِ تَأْكِيدٌ لِمَدْلُولِ سَعى لِرَفْعِ تَوَهُّمِ المَجازِ مِن أنْ يُرادَ بِالسَّعْيِ العَمَلُ والِاكْتِسابُ فَأُرِيدَ التَّنْصِيصُ عَلى أنَّ هَذا السَّعْيَ هو السَّيْرُ في الأرْضِ لِلْفَسادِ وهو الغارَةُ والتَّلَصُّصُ لِغَيْرِ إعْلاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ، ولِذَلِكَ قالَ بَعْدَهُ ﴿لِيُفْسِدَ فِيها﴾ فاللّامُ لِلتَّعْلِيلِ، لِأنَّ الإفْسادَ مَقْصُودٌ لِهَذا السّاعِي. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ سَعى مَجازًا في الإرادَةِ والتَّدْبِيرِ أيْ دَبَّرَ الكَيْدَ لِأنَّ ابْتِكارَ الفَسادِ وإعْمالَ الحِيلَةِ لِتَحْصِيلِهِ مَعَ إظْهارِ النُّصْحِ بِالقَوْلِ كَيْدٌ ويَكُونُ لِيُفْسِدَ مَفْعُولًا بِهِ لِفِعْلِ سَعى والتَّقْدِيرُ: أرادَ الفَسادَ في الأرْضِ ودَبَّرَهُ، وتَكُونُ اللّامُ لامَ التَّبْلِيغِ كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ﴾ [البقرة: ١٨٥] إلى قَوْلِهِ ﴿ولِتُكْمِلُوا العِدَّةَ﴾ [البقرة: ١٨٥] فاللّامُ شَبِيهٌ بِالزّائِدِ وما بَعْدَ اللّامِ مِنَ الفِعْلِ المُقَدَّرَةِ مَعَهُ (أنْ) مَفْعُولٌ بِهِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأفْواهِهِمْ﴾ [الصف: ٨] وقَوْلِ جُزْءِ بْنِ كُلَيْبٍ الفَقْعَسِيِّ: ؎تَبَغّى ابْنُ كُوزٍ والسَّفاهَةُ كاسْمِها ∗∗∗ لِيَسْتادَ مِنّا أنْ شَتَوْنا لَيالِيا إذِ التَّقْدِيرُ تَبَغّى الِاسْتِيادَ مِنّا، قالَ المَرْزُوقِيُّ: أتى بِالفِعْلِ واللّامِ لِأنَّ تَبَغّى مِثْلُ أرادَ فَكَما قالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأفْواهِهِمْ﴾ [الصف: ٨] والمَعْنى يُرِيدُونَ إطْفاءَ نُورِ اللَّهِ كَذَلِكَ قالَ تَبَغّى لِيَسْتادَ أيْ تَبَغّى الِاسْتِيادَ مِنّا اهـ. وأقُولُ: إنَّ هَذا الِاسْتِعْمالَ يَتَأتّى في كُلِّ مَوْضِعٍ يَقَعُ فِيهِ مَفْعُولُ الفِعْلِ عِلَّةً لِلْفِعْلِ مَعَ كَوْنِهِ مَفْعُولًا بِهِ، فالبَلِيغُ يَأْتِي بِهِ مُقْتَرِنًا بِلامِ العِلَّةِ اعْتِمادًا عَلى أنَّ كَوْنَهُ مَفْعُولًا بِهِ يُعْلَمُ مِن تَقْدِيرِ (أنْ) المَصْدَرِيَّةِ. ويَكُونُ قَوْلُهُ في الأرْضِ مُتَعَلِّقًا بِسَعى لِإفادَةِ أنَّ سَعْيَهُ في أمْرٍ مِن أُمُورِ أهْلِ أرْضِكم، وبِذَلِكَ تَكُونُ إعادَةُ فِيها مِن قَوْلِهِ ﴿لِيُفْسِدَ فِيها﴾ بَيانًا لِإجْمالِ قَوْلِهِ في الأرْضِ مَعَ إفادَةِ التَّأْكِيدِ. وقَوْلُهُ ﴿ويُهْلِكَ الحَرْثَ والنَّسْلَ﴾ بِضَمِّ الياءِ أيْ يُتْلِفُهُ. والحَرْثُ هَنا مُرادٌ مِنهُ الزَّرْعُ، والنَّسْلُ أطْفالُ الحَيَوانِ مُشْتَقٌّ مِن نَسْلِ الصُّوفِ نُسُولًا (p-٢٧٠)إذا سَقَطَ وانْفَصَلَ، وعِنْدِي أنَّ إهْلاكَ الحَرْثِ والنَّسْلِ كِنايَةٌ عَنِ اخْتِلالِ ما بِهِ قِوامُ أحْوالِ النّاسِ، وكانُوا أهْلَ حَرْثٍ وماشِيَةٍ فَلَيْسَ المُرادُ خُصُوصَ هَذَيْنِ بَلِ المُرادُ ضَياعُ ما بِهِ قِوامُ النّاسِ، وهَذا جارٍ مَجْرى المَثَلِ، وقِيلَ الحَرْثُ والنَّسْلُ هُنا إشارَةٌ إلى ما صَنَعَ الأخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ، وأيًّا ما كانَ فالآيَةُ دالَّةٌ عَلى أنَّ مَن يَتَسَبَّبُ في مِثْلِ ذَلِكَ صَرِيحًا وكِنايَةً مُسْتَحِقٌّ لِلْعِقابِ في الآخِرَةِ ولِذَلِكَ عَقَّبَ بِجُمْلَةِ التَّذْيِيلِ وهي ﴿واللَّهُ لا يُحِبُّ الفَسادَ﴾ تَحْذِيرًا وتَوْبِيخًا. ومَعْنى نَفْيِ المَحَبَّةِ نَفْيُ الرِّضا بِالفَسادِ، وإلّا فالمَحَبَّةُ وهي انْفِعالُ النَّفْسِ وتَوَجُّهٌ طَبِيعِيٌّ يَحْصُلُ نَحْوُ اسْتِحْسانٍ ناشِئٍ مُسْتَحِيلَةٌ عَلى اللَّهِ تَعالى فَلا يَصِحُّ نَفْيُها فالمُرادُ لازِمُها وهو الرِّضا عِنْدَنا وعِنْدَ المُعْتَزِلَةِ: الإرادَةُ والمَسْألَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلى مَسْألَةِ خَلْقِ الأفْعالِ. ولا شَكَّ أنَّ التَّقْدِيرَ: إذا لَمْ يَرْضَ بِشَيْءٍ يُعاقِبْ فاعِلَهُ، إذْ لا يَعُوقُهُ عَنْ ذَلِكَ عائِقٌ وقَدْ سَمّى اللَّهُ ذَلِكَ فَسادًا وإنْ كانَ الزَّرْعُ والحَرْثُ لِلْمُشْرِكِينَ؛ لِأنَّ إتْلافَ خَيْراتِ الأرْضِ رَزْءٌ عَلى النّاسِ كُلِّهِمْ وإنَّما يَكُونُ القِتالُ بِإتْلافِ الأشْياءِ الَّتِي هي آلاتُ الإتْلافِ وأسْبابُ الِاعْتِداءِ. والفَسادُ ضِدَّ الصَّلاحِ، ومَعْنى الفَسادِ: إتْلافُ ما هو نافِعٌ لِلنّاسِ نَفْعًا مَحْضًا أوْ راجِحًا، فَإتْلافُ الألْبانِ مَثَلًا إتْلافُ نَفْعٍ مَحْضٍ، وإتْلافُ الحَطَبِ بِعِلَّةِ الخَوْفِ مِنَ الِاحْتِراقِ إتْلافُ نَفْعٍ راجِحٍ والمُرادُ بِالرُّجْحانِ رُجْحانُ اسْتِعْمالِهِ عِنْدَ النّاسِ لا رُجْحانُ كَمِّيَّةِ النَّفْعِ عَلى كَمِّيَّةِ الضُّرِّ، فَإتْلافُ الأدْوِيَةِ السّامَّةِ فَسادٌ، وإنْ كانَ التَّداوِي بِها نادِرًا لَكِنَّ الإهْلاكَ بِها كالمَعْدُومِ لِما في عُقُولِ النّاسِ مِنَ الوازِعِ عَنِ الإهْلاكِ بِها فَيُتَفادى عَنْ ضُرِّها بِالِاحْتِياطِ في رَواجِها وبِأمانَةِ مَن تُسَلَّمُ إلَيْهِ، وأمّا إتْلافُ المَنافِعِ المَرْجُوحَةِ فَلَيْسَ مِنَ الفَسادِ كَإتْلافِ الخُمُورِ بَلْهَ إتْلافِ ما لا نَفْعَ فِيهِ بِالمَرَّةِ كَإتْلافِ الحَيّاتِ والعَقارِبِ والفِئْرانِ والكِلابِ الكَلِبَةِ، وإنَّما كانَ الفَسادُ غَيْرَ مَحْبُوبٍ عِنْدَ اللَّهِ: لِأنَّ في الفَسادِ بِالتَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْناهُ تَعْطِيلًا لِما خَلَقَهُ اللَّهُ في هَذا العالَمِ لِحِكْمَةِ صَلاحِ النّاسِ فَإنَّ الحَكِيمَ لا يُحِبُّ تَعْطِيلَ ما تَقْتَضِيهِ الحِكْمَةُ، فَقِتالُ العَدُوِّ إتْلافٌ لِلضُّرِّ الرّاجِحِ ولِذَلِكَ يُقْتَصَرُ في القِتالِ عَلى ما يَحْصُلُ بِهِ إتْلافُ الضُّرِّ بِدُونِ زِيادَةٍ، ومِن أجْلِ ذَلِكَ نَهى عَنْ إحْراقِ الدِّيارِ في الحَرْبِ وعَنْ قَطْعِ الأشْجارِ إلّا إذا رَجَحَ في نَظَرِ أمِيرِ الجَيْشِ أنَّ بَقاءَ شَيْءٍ مِن ذَلِكَ يَزِيدُ قُوَّةَ العَدُوِّ ويُطِيلُ مُدَّةَ القِتالِ ويُخافُ مِنهُ عَلى جَيْشِ المُسْلِمِينَ أنْ يَنْقَلِبَ إلى هَزِيمَةٍ وذَلِكَ يَرْجِعُ إلى قاعِدَةِ: الضَّرُورَةُ تُقَدَّرُ بِقَدْرِها. (p-٢٧١)وقَوْلُهُ ﴿وإذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أخَذَتْهُ العِزَّةُ بِالإثْمِ﴾ إي وإذا وعَظَهُ واعِظٌ بِما يَقْتَضِي تَذْكِيرَهُ بِتَقْوى اللَّهِ تَعالى غَضِبَ لِذَلِكَ، والأخْذُ أصْلُهُ تَناوُلُ الشَّيْءِ بِاليَدِ، واسْتُعْمِلَ مَجازًا مَشْهُورًا في الِاسْتِيلاءِ قالَ تَعالى ﴿وخُذُوهم واحْصُرُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥] وفي القَهْرِ نَحْوَ وأخَذْناهم بِالبَأْساءِ. وفِي التَّلَقِّي مِثْلُ ﴿أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ﴾ [آل عمران: ٨١] ومِنهُ أُخِذَ فُلانٌ بِكَلامٍ فُلانٍ، وفي الِاحْتِواءِ والإحاطَةِ يُقالُ أخَذَتْهُ الحُمّى وأخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ، ومِنهُ قَوْلُهُ هُنا ﴿أخَذَتْهُ العِزَّةُ﴾ أيِ احْتَوَتْ عَلَيْهِ عَزَّةُ الجاهِلِيَّةِ. والعِزَّةُ صِفَةٌ: يَرى صاحِبُها أنَّهُ لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ ولا يُعارَضُ في كَلامِهِ لِأجْلِ مَكانَتِهِ في قَوْمِهِ واعْتِزازِهِ بِقُوَّتِهِمْ قالَ السَّمَوْألُ: ؎ونُنْكِرُ إنْ شِئْنا عَلى النّاسِ قَوْلَهم ∗∗∗ ولا يُنْكِرُونَ القَوْلَ حِينَ نَقُولُ ومِنهُ العِزَّةُ بِمَعْنى القُوَّةِ والغَلَبَةِ وإنَّما تَكُونُ غالِبًا في العَرَبِ بِسَبَبِ كَثْرَةِ القَبِيلَةِ، وقَدْ تُغْنِي الشَّجاعَةُ عَنِ الكَثْرَةِ ومِن أمْثالِهِمْ: وإنَّما العِزَّةُ لِلْكاثِرِ، وقالُوا: لَنْ نُغْلَبَ مِن قِلَّةٍ وقالَ السَّمَوْألُ: ؎وما ضَرَّنا أنّا قَلِيلٌ وجارُنا ∗∗∗ عَزِيزٌ وجارُ الأكْثَرِينَ ذَلِيلُ ومِنها جاءَ الوَصْفُ بِالعَزِيزِ كَما سَيَأْتِي في قَوْلِهِ ﴿فاعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٠٩] . فَـ (ال) في العِزَّةِ لِلْعَهْدِ أيِ العِزَّةُ المَعْرُوفَةُ لِأهْلِ الجاهِلِيَّةِ الَّتِي تَمْنَعُ صاحِبَها مِن قَبُولِ اللَّوْمِ أوِ التَّغْيِيرِ عَلَيْهِ، لِأنَّ العِزَّةَ تَقْتَضِي مَعْنى المَنَعَةِ فَأخْذُ العِزَّةِ لَهُ كِنايَةٌ عَنْ عَدَمِ إصْغائِهِ لِنُصْحِ النّاصِحِينَ. وقَوْلُهُ بِالإثْمِ الباءُ فِيهِ لِلْمُصاحَبَةِ أيْ أخَذَتْهُ العِزَّةُ المُلابِسَةُ لِلْإثْمِ والظُّلْمِ وهو الِاحْتِراسُ لِأنَّ مِنِ العِزَّةِ ما هو مَحْمُودٌ قالَ تَعالى ﴿ولِلَّهِ العِزَّةُ ولِرَسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون: ٨] أيْ فَمَنَعَتْهُ مِن قَبُولِ المَوْعِظَةِ وأبْقَتْهُ حَلِيفَ الإثْمِ الَّذِي اعْتادَهُ لا يَرْعَوِي عَنْهُ وهُما قَرِينانِ. وقَوْلُهُ ﴿فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ﴾ تَفْرِيعٌ عَلى هاتِهِ الحالَةِ، وأصْلُ الحَسْبِ هو الكافِي كَما سَيَجِيءُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وقالُوا حَسْبُنا اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ﴾ [آل عمران: ١٧٣] في آلِ عِمْرانَ. ولَمّا كانَ كافِي الشَّيْءِ مِن شَأْنِهِ أنْ يَكُونَ عَلى قَدْرِهِ ومِمّا يُرْضِيهِ كَما قالَ أبُو الطَّيِّبِ ؎عَلى قَدْرِ أهْلِ العَزْمِ تَأْتِي العَزائِمُ أطْلَقَ الحَسَبَ عَلى الجَزاءِ كَما هُنا. وجَهَنَّمُ: عَلَمٌ عَلى دارِ العُقابِ المُوقَدَةِ نارًا، وهو اسْمٌ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ قالَ بَعْضُ النُّحاةِ لِلْعَلَمِيَّةِ والتَّأْنِيثِ، لِأنَّ العَرَبَ اعْتَبَرَتْهُ كَأسْماءِ الأماكِنِ وقالَ بَعْضُهم لِلْعِلَمِيَّةِ والعُجْمَةِ وهو (p-٢٧٢)قَوْلُ الأكْثَرِ: جاءَ مِن لُغَةٍ غَيْرِ عَرَبِيَّةٍ، ولِذَلِكَ لا حاجَةَ إلى البَحْثِ عَنِ اشْتِقاقِهِ، ومَن جَعَلَهُ عَرَبِيًّا زَعَمَ أنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الجَهْمِ وهو الكَراهِيَةُ فَزَعَمَ بَعْضُهم أنَّ وزْنَهُ فَعَنَّلْ بِزِيادَةِ نُونَيْنِ أصْلُهُ فَعْنَلْ بِنُونٍ واحِدَةٍ ضُعِفَّتْ وقِيلَ وزْنُهُ فَعَلَّلْ بِتَكْرِيرِ لامِهِ الأُولى وهي النُّونُ إلْحاقًا لَهُ بِالخُماسِيِّ ومَن قالَ: أصْلُها بِالفارِسِيَّةِ كَهْنامُ فَعُرِّبَتْ جَهَنَّمَ. وقِيلَ أصْلُها عِبْرانِيَّةٌ كِهِنامُ بِكَسْرِ الكافِ وكَسْرِ الهاءِ فَعُرِّبَتْ وأنَّ مَن قالَ: إنَّ وزْنَ ”فَعَنَّلْ“ لا وُجُودَ لَهُ ولا يُلْتَفَتُ لِقَوْلِهِ لِوُجُودِ دَوْنَكَ اسْمُ وادٍ بِالعالِيَةِ وحَفَنْكى اسْمٌ لِلضَّعِيفِ وهو بِحاءٍ مُهْمَلَةٍ وفاءٍ مَفْتُوحَتَيْنِ ونُونٍ ساكِنَةٍ وكافٍ وألِفٍ وهُما نادِرانِ، فَيَكُونُ جَهَنَّمُ نادِرًا، وأمّا قَوْلُ العَرَبِ رَكِيَّةُ جَهَنَّمَ أيْ بَعِيدُ القَعْرِ فَلا حُجَّةَ فِيهِ، لِأنَّهُ ناشِئٌ عَنْ تَشْبِيهِ الرَّكِيَّةِ بِجَهَنَّمَ، لِأنَّهم يَصِفُونَ جَهَنَّمَ أنَّها كالبِئْرِ العَمِيقَةِ المُمْتَلِئَةِ نارًا قالَ ورَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ أوْ أُمَيَّةُ بْنُ أبِي الصَّلْتِ يَرْثِي زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ وكانا مَعًا مِمَّنْ تَرَكَ عِبادَةَ الأوْثانِ في الجاهِلِيَّةِ: ؎رَشَدْتَ وأنْعَمْتَ ابْنَ عَمْرٍو وإنَّما ∗∗∗ تَجَنَّبْتَ تَنُّورًا مِنَ النّارِ مُظْلِمًا وقَدْ جاءَ وصْفُ جَهَنَّمَ في الحَدِيثِ بِمِثْلِ ذَلِكَ وسَمّاها اللَّهُ في كِتابِهِ في مَواضِعَ كَثِيرَةٍ نارًا وجَعَلَ ﴿وقُودُها النّاسُ والحِجارَةُ﴾ [البقرة: ٢٤] وقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ في ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿فاتَّقُوا النّارَ الَّتِي وقُودُها النّاسُ والحِجارَةُ﴾ [البقرة: ٢٤] . وقَوْلُهُ ﴿ولَبِئْسَ المِهادُ﴾ أيْ جَهَنَّمُ، والمِهادُ ما يُمَهَّدُ أيْ يُهَيَّأُ لِمَن يَنامُ، وإنَّما سَمّى جَهَنَّمَ مِهادًا تَهَكُّمًا، لِأنَّ العُصاةَ يُلْقَوْنَ فِيها فَتُصادِفُ جَنُوبَهم وظُهُورَهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب