الباحث القرآني

. لَمّا فَرَغَ سُبْحانَهُ مِن ذِكْرِ ما طَعَنُوا بِهِ عَلى القُرْآنِ ذَكَرَ ما طَعَنُوا بِهِ عَلى رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - فَقالَ، ﴿وقالُوا مالِ هَذا الرَّسُولِ﴾ وفي الإشارَةِ هُنا تَصْغِيرٌ لِشَأْنِ المُشارِ إلَيْهِ وهو رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ، وسَمَّوْهُ رَسُولًا اسْتِهْزاءً وسُخْرِيَةً ﴿يَأْكُلُ الطَّعامَ ويَمْشِي في الأسْواقِ﴾ أيْ: ما بالُهُ يَأْكُلُ الطَّعامَ كَما نَأْكُلُ ويَتَرَدَّدُ في الأسْواقِ لِطَلَبِ المَعاشِ كَما نَتَرَدَّدُ، وزَعَمُوا أنَّهُ كانَ يَجِبُ أنْ يَكُونَ مَلَكًا مُسْتَغْنِيًا عَنِ الطَّعامِ والكَسْبِ، وما الِاسْتِفْهامِيَّةُ في مَحَلِّ رَفْعٍ عَلى الِابْتِداءِ، والِاسْتِفْهامُ لِلِاسْتِنْكارِ، أوْ خَبَرُ المُبْتَدَأِ لِهَذا الرَّسُولِ، وجُمْلَةُ يَأْكُلُ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ، وبِها تَتِمُّ فائِدَةُ الإخْبارِ كَقَوْلِهِ: ﴿فَما لَهم عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ﴾ [المدثر: ٤٩] والإنْكارُ مُتَوَجِّهٌ إلى السَّبَبِ مَعَ تَحَقُّقِ المُسَبَّبِ، وهو الأكْلُ والمَشْيُ، ولَكِنَّهُ اسْتَبْعَدَ تَحَقُّقَ ذَلِكَ لِانْتِفاءِ سَبَبِهِ عِنْدَهم تَهَكُّمًا واسْتِهْزاءً. والمَعْنى: أنَّهُ إنْ صَحَّ ما يَدَّعِيهِ مِنَ النُّبُوَّةِ فَما بالُهُ لَمْ يُخالِفْ حالُهُ حالَنا ﴿لَوْلا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا﴾ طَلَبُوا أنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - مَصْحُوبًا بِمَلَكٍ يُعَضِّدُهُ ويُساعِدُهُ، تَنَزَّلُوا عَنِ اقْتِراحِ أنْ يَكُونَ الرَّسُولُ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - مَلَكًا مُسْتَغْنِيًا عَنِ الأكْلِ والكَسْبِ، إلى اقْتِراحِ أنْ يَكُونَ مَعَهُ مَلَكٌ يُصَدِّقُهُ ويَشْهَدُ لَهُ بِالرِّسالَةِ. قَرَأ الجُمْهُورُ فَيَكُونَ بِالنَّصْبِ عَلى كَوْنِهِ جَوابَ التَّحْضِيضِ. وقُرِئَ ( فَيَكُونُ ) بِالرَّفْعِ عَلى أنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى أُنْزِلَ، وجازَ عَطْفُهُ عَلى الماضِي لِأنَّ المُرادَ بِهِ المُسْتَقْبَلُ. ﴿أوْ يُلْقى إلَيْهِ كَنْزٌ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى ( أُنْزِلَ )، ولا يَجُوزُ عَطْفُهُ عَلى ( فَيَكُونَ )، والمَعْنى: أوْ هَلّا يُلْقى إلَيْهِ كَنْزٌ تَنَزَّلُوا مِن مَرْتَبَةِ نُزُولِ المَلَكِ مَعَهُ، إلى اقْتِراحِ أنْ يَكُونَ مَعَهُ كَنْزٌ يُلْقى إلَيْهِ مِنَ السَّماءِ لِيَسْتَغْنِيَ بِهِ عَنْ طَلَبِ الرِّزْقِ ﴿أوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنها﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ تَكُونُ بِالمُثَنّاةِ الفَوْقِيَّةِ، وقَرَأ الأعْمَشُ وقَتادَةُ ( يَكُونُ ) بِالتَّحْتِيَّةِ، لِأنَّ تَأْنِيثَ الجَنَّةِ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ. وقَرَأ ( نَأْكُلُ ) بِالنُّونِ حَمْزَةُ وعَلِيٌّ وخَلَفٌ، وقَرَأ الباقُونَ يَأْكُلُ بِالمُثَنّاةِ التَّحْتِيَّةِ أيْ: بُسْتانٌ نَأْكُلُ نَحْنُ مِن ثِمارِهِ، أوْ يَأْكُلُ هو وحْدَهُ مِنهُ لِيَكُونَ لَهُ بِذَلِكَ مَزِيَّةٌ عَلَيْنا حَيْثُ يَكُونُ أكْلُهُ مِن جَنَّتِهِ. قالَ النَّحّاسُ: والقِراءَتانِ حَسَنَتانِ وإنْ كانَتِ القِراءَةُ بِالياءِ أبْيَنَ، لِأنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - وحْدَهُ، فَعَوْدُ الضَّمِيرِ إلَيْهِ بَيِّنٌ ﴿وقالَ الظّالِمُونَ إنْ تَتَّبِعُونَ إلّا رَجُلًا مَسْحُورًا﴾ المُرادُ بِالظّالِمُونَ هُنا هُمُ القائِلُونَ بِالمَقالاتِ الأُولى، وإنَّما وضَعَ الظّاهِرَ مَوْضِعَ المُضْمَرِ مَعَ الوَصْفِ بِالظُّلْمِ لِلتَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِهِ أيْ: ما تَتَّبِعُونَ إلّا رَجُلًا مَغْلُوبًا عَلى عَقْلِهِ بِالسِّحْرِ، وقِيلَ: ذا سِحْرٍ، وهي الرِّئَةُ أيْ: بَشَرًا لَهُ رِئَةٌ لا مَلَكًا، وقَدْ تَقَدَّمَ بَيانُ مِثْلِ هَذا في سُبْحانَ. ﴿انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثالَ﴾ لِيَتَوَصَّلُوا بِها إلى تَكْذِيبِكَ، والأمْثالُ هي الأقْوالُ النّادِرَةُ والِاقْتِراحاتُ الغَرِيبَةُ، وهي ما ذَكَرُوهُ هاهُنا فُضِّلُوا عَنِ الصَّوابِ فَلا يَجِدُونَ طَرِيقًا إلَيْهِ ولا وصَلُوا إلى شَيْءٍ مِنهُ، بَلْ جاءُوا بِهَذِهِ المَقالاتِ الزّائِفَةِ الَّتِي لا تَصْدُرُ عَنْ أدْنى العُقَلاءِ وأقَلِّهِمْ تَمْيِيزًا ولِهَذا قالَ: ﴿فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا﴾ أيْ لا يَجِدُونَ (p-١٠٣٤)إلى القَدْحِ في نُبُوَّةِ هَذا النَّبِيِّ طَرِيقًا مِنَ الطُّرُقِ. ﴿تَبارَكَ الَّذِي إنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِن ذَلِكَ﴾ أيْ: تَكاثَرَ خَيْرُ الَّذِي إنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ في الدُّنْيا مُعَجَّلًا خَيْرًا مِن ذَلِكَ الَّذِي اقْتَرَحُوهُ. ثُمَّ فَسَّرَ الخَيْرَ؛ فَقالَ: ﴿جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ﴾ فَ ( جَنّاتٍ ) بَدَلٌ مِن ( خَيْرًا ) ﴿ويَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا﴾ مَعْطُوفٌ عَلى مَوْضِعِ ( جَعَلَ )، وهو الجَزْمُ، وبِالجَزْمِ قَرَأ الجُمْهُورُ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وابْنُ عامِرٍ وأبُو بَكْرٍ بِرَفْعِ ( يَجْعَلُ ) عَلى أنَّهُ مُسْتَأْنَفٌ، وقَدْ تَقَرَّرَ في عِلْمِ الإعْرابِ: أنَّ الشَّرْطَ إذا كانَ ماضِيًا جازَ في جَوابِهِ الجَزْمُ والرَّفْعُ فَجازَ أنْ يَكُونَ ( جَعَلَ ) هاهُنا في مَحَلِّ جَزْمٍ ورَفْعٍ فَيَجُوزُ فِيما عُطِفَ عَلَيْهِ أنْ يُجْزَمَ ويُرْفَعَ. وقُرِئَ بِالنَّصْبِ. وقُرِئَ بِإدْغامِ لامِ لَكَ في لامِ ( يَجْعَلْ ) لِاجْتِماعِ المِثْلَيْنِ. وقُرِئَ بِتَرْكِ الإدْغامِ لِأنَّ الكَلِمَتَيْنِ مُنْفَصِلَتانِ، والقَصْرُ البَيْتُ مِنَ الحِجارَةِ، لِأنَّ السّاكِنَ بِهِ مَقْصُورٌ عَنْ أنْ يُوصَلَ إلَيْهِ، وقِيلَ: هو بَيْتُ الطِّينِ وبُيُوتُ الصُّوفِ والشَّعْرِ. ثُمَّ أضْرَبَ سُبْحانَهُ عَنْ تَوْبِيخِهِمْ بِما حَكاهُ عَنْهم مِنَ الكَلامِ الَّذِي لا يَصْدُرُ عَنِ العُقَلاءِ. ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِالسّاعَةِ﴾ أيْ: بَلْ أتَوْا بِأعْجَبَ مِن ذَلِكَ كُلِّهِ. وهو تَكْذِيبُهم بِالسّاعَةِ، فَلِهَذا لا يَنْتَفِعُونَ بِالدَّلائِلِ ولا يَتَأمَّلُونَ فِيها. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحانَهُ ما أعَدَّهُ لِمَن كَذَّبَ بِالسّاعَةِ فَقالَ: ﴿وأعْتَدْنا لِمَن كَذَّبَ بِالسّاعَةِ سَعِيرًا﴾ أيْ: نارًا مُشْتَعِلَةً مُتَسَعِّرَةً، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ أيْ: بَلْ كَذَّبُوا بِالسّاعَةِ، والحالُ ( أنّا أعْتَدْنا ) . قالَ أبُو مُسْلِمٍ: أعْتَدْنا أيْ: جَعَلْناهُ عَتِيدًا ومُعَدًّا لَهم. ﴿إذا رَأتْهم مِن مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظًا وزَفِيرًا﴾ هَذِهِ الجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ في مَحَلِّ نَصْبٍ صِفَةٌ لِ ( سَعِيرًا ) لِأنَّهُ مُؤَنَّثٌ بِمَعْنى النّارِ، قِيلَ مَعْنى إذا رَأتْهم: إذا ظَهَرَتْ لَهم فَكانَتْ بِمَرْأى النّاظِرِ في البُعْدِ، وقِيلَ: المَعْنى: إذا رَأتْهم خَزَنَتُها، وقِيلَ: إنَّ الرُّؤْيَةَ مِنها حَقِيقِيَّةٌ وكَذَلِكَ التَّغَيُّظُ والزَّفِيرُ، ولا مانِعَ مِن أنْ يَجْعَلَها اللَّهُ سُبْحانَهُ مُدْرِكَةً هَذا الإدْراكَ. ومَعْنى ﴿مِن مَكانٍ بَعِيدٍ﴾ أنَّها رَأتْهم وهي بَعِيدَةٌ عَنْهم، قِيلَ بَيْنَها وبَيْنَهم مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عامٍ. ومَعْنى التَّغَيُّظِ: أنَّ لَها صَوْتًا يَدُلُّ عَلى التَّغَيُّظِ عَلى الكُفّارِ أوْ لِغَلَيانِها صَوْتًا يُشْبِهُ صَوْتَ المُغْتاظِ، والزَّفِيرُ: هو الصَّوْتُ الَّذِي يُسْمَعُ مِنَ الجَوْفِ. قالَ الزَّجّاجُ: المُرادُ سَماعُ ما يَدُلُّ عَلى الغَيْظِ وهو الصَّوْتُ أيْ: سَمِعُوا لَها صَوْتًا يُشْبِهُ صَوْتَ المُتَغَيِّظِ. وقالَ قُطْرُبٌ: أرادَ عَلِمُوا لَها تَغَيُّظًا وسَمِعُوا لَها زَفِيرًا، كَما قالَ الشّاعِرُ: ؎مُتَقَلِّدًا سَيْفًا ورُمْحًا أيْ: وحامِلًا رُمْحًا، وقِيلَ: المَعْنى: سَمِعُوا فِيها تَغَيُّظًا وزَفِيرًا لِلْمُعَذَّبِينَ كَما قالَ: ﴿لَهم فِيها زَفِيرٌ وشَهِيقٌ﴾ [هود: ١٠٦] وفي اللّامِ مُتَقارِبانِ، تَقُولُ: افْعَلْ هَذا في اللَّهِ ولِلَّهِ. ﴿وإذا أُلْقُوا مِنها مَكانًا ضَيِّقًا﴾ وُصِفَ المَكانُ بِالضِّيقِ لِلدَّلالَةِ عَلى زِيادَةِ الشِّدَّةِ وتَناهِي البَلاءِ عَلَيْهِمْ، وانْتِصابُ مُقَرَّنِينَ عَلى الحالِ أيْ: إذا أُلْقُوا مِنها مَكانًا ضَيِّقًا حالَ كَوْنِهِمْ مُقْرَّنِينَ قَدْ قُرِنَتْ أيْدِيهِمْ إلى أعْناقِهِمْ بِالجَوامِعِ مُصَفَّدِينَ بِالحَدِيدِ، وقِيلَ: مُكَتَّفِينَ، وقِيلَ: قُرِنُوا مَعَ الشَّياطِينِ أيْ: قُرِنَ كُلُّ واحِدٍ مِنهم إلى شَيْطانِهِ، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى مِثْلِ هَذا في سُورَةِ إبْراهِيمَ ﴿دَعَوْا هُنالِكَ﴾ أيْ في ذَلِكَ المَكانِ الضَّيِّقِ ثُبُورًا أيْ: هَلاكًا. قالَ الزَّجّاجُ: وانْتِصابُهُ عَلى المَصْدَرِيَّةِ أيْ: ثُبِرْنا ثُبُورًا، وقِيلَ: مُنْتَصِبٌ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، والمَعْنى: أنَّهم يَتَمَنَّوْنَ هُنالِكَ الهَلاكَ ويُنادُونَهُ لِما حَلَّ بِهِمْ مِنَ البَلاءِ. فَأُجِيبَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿لا تَدْعُوا اليَوْمَ ثُبُورًا واحِدًا﴾ أيْ فَيُقالُ لَهم هَذِهِ المَقالَةُ، والقائِلُ لَهم هُمُ المَلائِكَةُ أيِ: اتْرُكُوا دُعاءَ ثُبُورٍ واحِدٍ، فَإنَّ ما أنْتُمْ فِيهِ مِنَ الهَلاكِ أكْبَرُ مِن ذَلِكَ وأعْظَمُ، كَذا قالَ الزَّجّاجُ ﴿وادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا﴾ والثُّبُورُ مَصْدَرٌ يَقَعُ عَلى القَلِيلِ والكَثِيرِ فَلِهَذا لَمْ يُجْمَعْ، ومِثْلُهُ: ضَرَبْتُهُ ضَرْبًا كَثِيرًا، وقَعَدَ قُعُودًا طَوِيلًا، فالكَثْرَةُ هاهُنا هي بِحَسَبِ كَثْرَةِ الدُّعاءِ المُتَعَلِّقِ بِهِ، لا بِحَسَبِ كَثْرَتِهِ في نَفْسِهِ، فَإنَّهُ شَيْءٌ واحِدٌ. والمَعْنى: لا تَدْعُوا عَلى أنْفُسِكم بِالثُّبُورِ دُعاءً واحِدًا وادْعُوهُ أدْعِيَةً كَثِيرَةً، فَإنَّ ما أنْتُمْ فِيهِ مِنَ العَذابِ أشَدُّ مِن ذَلِكَ لِطُولِ مُدَّتِهِ وعَدَمِ تَناهِيهِ، وقِيلَ: هَذا تَمْثِيلٌ وتَصْوِيرٌ لِحالِهِمْ بِحالِ مَن يُقالُ لَهُ ذَلِكَ مِن غَيْرِ أنْ يَكُونَ هُناكَ قَوْلٌ، وقِيلَ: إنَّ المَعْنى إنَّكم وقَعْتُمْ فِيما لَيْسَ ثُبُورُكم فِيهِ واحِدًا بَلْ هو ثُبُورٌ كَثِيرٌ لِأنَّ العَذابَ أنْواعٌ، والأوْلى أنَّ المُرادَ بِهَذا الجَوابِ عَلَيْهِمُ الدِّلالَةُ عَلى خُلُودِ عَذابِهِمْ وإقْناطِهِمْ عَنْ حُصُولِ ما يَتَمَنَّوْنَهُ مِنَ الهَلاكِ المُنَجِّي لَهم مِمّا هم فِيهِ، ثُمَّ وبَّخَهُمُ اللَّهُ سُبْحانَهُ تَوْبِيخًا بالِغًا عَلى لِسانِ رَسُولِهِ فَقالَ: ﴿قُلْ أذَلِكَ خَيْرٌ أمْ جَنَّةُ الخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ﴾ والإشارَةُ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ إلى السَّعِيرِ المُتَّصِفَةِ بِتِلْكَ الصِّفاتِ العَظِيمَةِ، أيْ: أتِلْكَ السَّعِيرُ خَيْرٌ أمْ جَنَّةُ الخُلْدِ، وفي إضافَةِ الجَنَّةِ إلى الخُلْدِ إشْعارٌ بِدَوامِ نَعِيمِها وعَدَمِ انْقِطاعِهِ، ومَعْنى ﴿الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ﴾ الَّتِي وُعِدَها المُتَّقُونَ، والمَجِيءُ بِلَفْظِ خَيْرٍ هُنا مَعَ أنَّهُ لا خَيْرَ في النّارِ أصْلًا، لِأنَّ العَرَبَ قَدْ تَقُولُ ذَلِكَ، ومِنهُ ما حَكاهُ سِيبَوَيْهَ عَنْهم أنَّهم يَقُولُونَ: السَّعادَةُ أحَبُّ إلَيْكَ أمِ الشَّقاوَةُ ؟ وقِيلَ: لَيْسَ هَذا مِن بابِ التَّفْضِيلِ، وإنَّما هو كَقَوْلِكَ: عِنْدَهُ خَيْرٌ. قالَ النَّحّاسُ: وهَذا قَوْلٌ حَسَنٌ كَما قالَ: ؎أتَهْجُوهُ ولَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ ∗∗∗ فَشَرُّكُما لِخَيْرِكُما الفِداءُ ثُمَّ قالَ سُبْحانَهُ: ﴿كانَتْ لَهم جَزاءً ومَصِيرًا﴾ أيْ كانَتْ تِلْكَ الجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ جَزاءً عَلى أعْمالِهِمْ ومَصِيرًا يَصِيرُونَ إلَيْهِ. ﴿لَهم فِيها ما يَشاءُونَ﴾ أيْ: ما يَشاءُونَهُ مِنَ النَّعِيمِ وضُرُوبِ المَلاذِّ كَما في قَوْلِهِ: ﴿ولَكم فِيها ما تَشْتَهِي أنْفُسُكُمْ﴾ [فصلت: ٣١] وانْتِصابُ " خالِدِينَ " عَلى الحالِ، وقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَعْنى الخُلُودِ ﴿كانَ عَلى رَبِّكَ وعْدًا مَسْئُولًا﴾ أيْ كانَ ما يَشاءُونَهُ، وقِيلَ: كانَ الخُلُودُ، وقِيلَ: كانَ الوَعْدُ المَدْلُولُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وُعِدَ المُتَّقُونَ، ومَعْنى الوَعْدِ المَسْئُولِ: الوَعْدُ المُحَقَّقُ بِأنْ يُسْألَ ويُطْلَبَ كَما في قَوْلِهِ: ﴿رَبَّنا وآتِنا ما وعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ﴾ [آل عمران: ١٩٤] وقِيلَ: إنَّ المَلائِكَةَ تَسْألُ لَهُمُ الجَنَّةَ كَقَوْلِهِ: ﴿وأدْخِلْهم جَنّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وعَدْتَهُمْ﴾ وقِيلَ: المُرادُ بِهِ الوَعْدُ الواجِبُ وإنْ لَمْ يُسْألْ. (p-١٠٣٥)وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ إسْحاقَ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ «أنَّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وأبا سُفْيانَ بْنَ حَرْبٍ والنَّضْرَ بْنَ الحارِثِ وأبا البُحْتُرِيِّ والأسْوَدَ بْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ وزَمْعَةَ بْنَ الأسْوَدِ والوَلِيدَ بْنَ المُغِيرَةِ وأبا جَهْلِ بْنَ هِشامٍ وعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أبِي أُمَيَّةَ وأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ والعاصَ بْنَ وائِلٍ ونَبِيهَ بْنَ الحَجّاجِ ومُنَبِّهَ بْنَ الحَجّاجِ اجْتَمَعُوا، فَقالَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ: ابْعَثُوا إلى مُحَمَّدٍ وكَلِّمُوهُ وخاصِمُوهُ حَتّى تُعْذَرُوا مِنهُ، فَبَعَثُوا إلَيْهِ إنَّ أشْرافَ قَوْمِكَ قَدِ اجْتَمَعُوا لَكَ لِيُكَلِّمُوكَ، قالَ: فَجاءَهم رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ، فَقالُوا: يا مُحَمَّدُ إنّا بَعَثْنا إلَيْكَ لِنُعَذِّرَ مِنكَ، فَإنْ كُنْتَ إنَّما جِئْتَ بِهَذا الحَدِيثِ تَطْلُبُ بِهِ مالًا جَمَعْنا لَكَ مِن أمْوالِنا، وإنْ كُنْتَ تَطْلُبُ بِهِ الشَّرَفَ فَنَحْنُ نُسَوِّدُكَ، وإنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ مُلْكًا مَلَّكْناكَ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: ما بِي مِمّا تَقُولُونَ، ما جِئْتُكم بِهِ أطْلُبُ أمْوالَكم ولا الشَّرَفَ فِيكم ولا المُلْكَ عَلَيْكم. ولَكِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إلَيْكم رَسُولًا، وأنْزَلَ عَلِيَّ كِتابًا، وأمَرَنِي أنْ أكُونَ لَكم بَشِيرًا ونَذِيرًا، فَبَلَّغْتُكم رِسالَةَ رَبِّي ونَصَحْتُ لَكم، فَإنْ تَقْبَلُوا مِنِّي ما جِئْتُكم بِهِ فَهو حَظُّكم في الدُّنْيا والآخِرَةِ، وإنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ أصْبِرْ لِأمْرِ اللَّهِ حَتّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنِي وبَيْنَكم، قالُوا: يا مُحَمَّدُ فَإنْ كُنْتَ غَيْرَ قابِلٍ مِنّا شَيْئًا مِمّا عَرَضْنا عَلَيْكَ، أوْ قالُوا: فَإذا لَمْ تَفْعَلْ هَذا فَسَلْ لِنَفْسِكَ وسَلْ رَبَّكَ أنْ يَبْعَثَ مَعَكَ مَلَكًا يُصَدِّقُكَ بِما تَقُولُ، ويُراجِعُنا عَنْكَ، وسَلْهُ أنْ يَجْعَلَ لَكَ جِنانًا وقُصُورًا مِن ذَهَبٍ وفِضَّةٍ تُغْنِيكَ عَمّا نَراكَ تَبْتَغِي، فَإنَّكَ تَقُومُ بِالأسْواقِ وتَلْتَمِسُ المَعاشَ كَما نَلْتَمِسُهُ، حَتّى نَعْرِفَ فَضْلَكَ ومَنزِلَتَكَ مِن رَبِّكِ إنْ كُنْتَ رَسُولًا كَما تَزْعُمُ، فَقالَ لَهم رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: ما أنا بِفاعِلٍ، ما أنا بِالَّذِي يَسْألُ رَبَّهُ هَذا، وما بُعِثْتُ إلَيْكم بِهَذا، ولَكِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي بَشِيرًا ونَذِيرًا، فَأنْزَلَ اللَّهُ في ذَلِكَ ﴿وقالُوا مالِ هَذا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ﴾ ﴿وجَعَلْنا بَعْضَكم لِبَعْضٍ فِتْنَةً أتَصْبِرُونَ وكانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾» [الفرقان: ٢٠] أيْ جَعَلْتُ بَعْضَكم لِبَعْضٍ بَلاءً لِتَصْبِرُوا، ولَوْ شِئْتُ أنْ أجْعَلَ الدُّنْيا مَعَ رُسُلِي فَلا يُخالِفُونَ لَفَعَلْتُ. وأخْرَجَ الفِرْيابِيُّ وابْنُ أبِي شَيْبَةَ في المُصَنَّفِ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ خَيْثَمَةَ قالَ: «قِيلَ لِلنَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: إنْ شِئْتَ أعْطَيْناكَ مِن خَزائِنِ الأرْضِ ومَفاتِيحِها ما لَمْ يُعْطَ نَبِيٌّ قَبْلَكَ ولا نُعْطِها أحَدًا بَعْدَكَ ولا يُنْقِصُكَ ذَلِكَ مِمّا لَكَ عِنْدَ اللَّهِ شَيْئًا وإنْ شِئْتَ جَمَعْتَها لَكَ في الآخِرَةِ، فَقالَ: اجْمَعُوها لِي في الآخِرَةِ، فَأنْزَلَ اللَّهُ سُبْحانَهُ: ﴿تَبارَكَ الَّذِي إنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِن ذَلِكَ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ ويَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا﴾» . وأخْرَجَ نَحْوَهُ عَنْهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِن طَرِيقٍ أُخْرى. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ مِن طَرِيقِ خالِدِ بْنِ دُرَيْكٍ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحابَةِ قالَ: قالَ النَّبِيُّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «مَن يَقُلْ عَلَيَّ ما لَمْ أقُلْ، أوِ ادَّعى إلى غَيْرِ والِدَيْهِ، أوِ انْتَمى إلى غَيْرِ مَوالِيهِ، فَلْيَتَبَوَّأْ بَيْنَ عَيْنَيْ جَهَنَّمَ مَقْعَدًا، قِيلَ يا رَسُولَ اللَّهِ، وهَلْ لَها مِن عَيْنَيْنِ ؟ قالَ: نَعَمْ، أما سَمِعْتُمُ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿إذا رَأتْهم مِن مَكانٍ بَعِيدٍ﴾» . وأخْرَجَ آدَمُ بْنُ أبِي إياسٍ في تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿إذا رَأتْهم مِن مَكانٍ بَعِيدٍ﴾ قالَ: مِن مَسِيرَةِ مِائَةِ عامٍ، وذَلِكَ إذا أُتِيَ بِجَهَنَّمَ تُقادُ بِسَبْعِينَ ألْفَ زِمامٍ يَشِدُّ بِكُلِّ زِمامٍ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ لَوْ تُرِكَتْ لَأتَتْ عَلى كُلِّ بَرٍّ وفاجِرٍ ﴿سَمِعُوا لَها تَغَيُّظًا وزَفِيرًا﴾ تَزْفِرُ زَفْرَةً لا تَبْقَيْ قَطْرَةٌ مِن دَمْعٍ إلّا بَدَتْ، ثُمَّ تَزْفِرُ الثّانِيَةَ فَتُقْطَعُ القُلُوبُ مِن أماكِنِها وتَبْلُغُ القُلُوبُ الحَناجِرَ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ «عَنْ يَحْيى بْنِ أُسَيْدٍ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وإذا أُلْقُوا مِنها مَكانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ﴾ قالَ: والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّهم لَيُسْتَكْرَهُونَ في النّارِ كَما يُسْتَكْرَهُ الوَتَدُ في الحائِطِ» وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُورًا﴾ قالَ: ويْلًا ﴿لا تَدْعُوا اليَوْمَ ثُبُورًا واحِدًا﴾ يَقُولُ: لا تَدْعُوا اليَوْمَ ويْلًا واحِدًا. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وأحْمَدُ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ والبَزّارُ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ والبَيْهَقِيُّ في البَعْثِ. قالَ السُّيُوطِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أنَسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «إنَّ أوَّلَ مَن يُكْسى حُلَّتَهُ مِنَ النّارِ إبْلِيسُ، فَيَضَعُها عَلى حاجِبَيْهِ ويَسْحَبُها مِن خَلْفِهِ وذُرِّيَّتُهُ مِن بَعْدِهِ وهو يُنادِي يا ثُبُوراهُ، ويَقُولُونَ يا ثُبُورَهم حَتّى يَقِفَ عَلى النّاسِ فَيَقُولَ: يا ثُبُوراهُ ويَقُولُونَ يا ثُبُورَهم، فَيُقالُ لَهم: ﴿لا تَدْعُوا اليَوْمَ ثُبُورًا واحِدًا وادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا﴾» . وإسْنادُ أحْمَدَ هَكَذا: حَدَّثَنا عَفّانُ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أنَسٍ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - فَذَكَرَهُ. وفِي عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعانَ مَقالٌ مَعْرُوفٌ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿كانَ عَلى رَبِّكَ وعْدًا مَسْئُولًا﴾ يَقُولُ: سَلُوا الَّذِي وعَدْتُكم تُنْجَزُوهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب