الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإَذا أُلْقُوا مِنها مَكانًا ضَيِّقًا مُّقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُورًا﴾ ﴿لا تَدْعُوا اليَوْمَ ثُبُورًا واحِدًا وادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا﴾ . ذَكَرَ جَلَّ وعَلا في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: أنَّ أهْلَ النّارِ إذا أُلْقُوا: أيْ طُرِحُوا في مَكانٍ ضَيِّقٍ مِنَ النّارِ، في حالِ كَوْنِهِمْ مُقَرَّنِينَ، دَعَوْا هُنالِكَ: أيْ في ذَلِكَ المَكانِ الضَّيِّقِ ثُبُورًا، فَيُقالُ لَهم: ﴿لا تَدْعُوا اليَوْمَ ثُبُورًا واحِدًا وادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا﴾، فَقَوْلُهُ: (مَكانًا) مَنصُوبٌ عَلى الظَّرْفِ، كَما قالَ أبُو حَيّانَ في البَحْرِ المُحِيطِ.
وَما ذَكَرَهُ هُنا مِن أنَّهم يُلْقَوْنَ في مَكانٍ ضَيِّقٍ مِنَ النّارِ، جاءَ مَذْكُورًا أيْضًا في غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ﴾ ﴿فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ﴾ [الهمزة: ٨ - ٩] وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هم أصْحابُ المَشْأمَةِ﴾ ﴿عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ﴾ [البلد: ١٩ - (p-٢٧)٢٠] ومَعْنى مُؤْصَدَةٌ في المَوْضِعَيْنِ بِهَمْزٍ، وبِغَيْرِ هَمْزٍ: مُطْبَقَةٌ أبْوابُها، مُغَلَّقَةٌ عَلَيْهِمْ كَما أوْضَحْناهُ بِشَواهِدِهِ العَرَبِيَّةِ في سُورَةِ الكَهْفِ في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَكَلْبُهم باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالوَصِيدِ﴾ [الكهف: ١٨] ومَن كانَ في مَكانٍ مُطْبَقٍ مُغَلَّقٍ عَلَيْهِ، فَهو في مَكانٍ ضَيِّقٍ، والعِياذُ بِاللَّهِ، وقَدْ ذُكِرَ أنَّ الواحِدَ مِنهم يُجْعَلُ في مَحَلِّهِ مِنَ النّارِ بِشِدَّةٍ كَما يُدَقُّ الوَتَدُ في الحائِطِ، وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أنَّ جَهَنَّمَ تَضِيقُ عَلى الكافِرِ كَتَضْيِيقِ الزُّجِّ عَلى الرُّمْحِ. والزُّجُّ بِالضَّمِّ: الحَدِيدَةُ الَّتِي في أسْفَلِ الرُّمْحِ.
وَقَوْلُهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: مُقَرَّنِينَ: أيْ في الأصْفادِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى في سُورَةِ إبْراهِيمَ: ﴿وَتَرى المُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ في الأصْفادِ﴾ [إبراهيم: ٤٩] والأصْفادُ: القُيُودُ. والأظْهَرُ أنَّ مَعْنى مُقَرَّنِينَ: أنَّ الكُفّارَ يُقْرَنُ بَعْضُهم إلى بَعْضٍ في الأصْفادِ والسَّلاسِلِ، وقالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ: كُلُّ كافِرٍ يُقْرَنُ هو وشَيْطانُهُ، وقَدْ قالَ تَعالى: ﴿حَتّى إذا جاءَنا قالَ يالَيْتَ بَيْنِي وبَيْنَكَ بُعْدَ المَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ القَرِينُ﴾ [الزخرف: ٣٨] .
وَهَذا أظْهَرُ مِن قَوْلِ مَن قالَ: مُقَرَّنِينَ مُكَتَّفِينَ، ومِن قَوْلِ مَن قالَ: مُقَرَّنِينَ: أيْ قُرِنَتْ أيْدِيهِمْ إلى أعْناقِهِمْ في الأغْلالِ، والثُّبُورُ: الهَلاكُ والوَيْلُ والخُسْرانُ.
وَقالَ ابْنُ كَثِيرٍ: والأظْهَرُ أنَّ الثُّبُورَ يَجْمَعُ الخَسارَ والهَلاكَ والوَيْلَ والدَّمارَ. كَما قالَ مُوسى لِفِرْعَوْنَ: ﴿وَإنِّي لَأظُنُّكَ يافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا﴾ [الإسراء: ١٠٢] أيْ هالِكًا، قالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرى السَّهْمِيُّ:
؎إذا جارى الشَّيْطانَ في سُنَنِ الغَسَـ ـى ومَن مالَ مَيْلَهُ مَثْبُورُ
ا هـ.
وَقالَ الجَوْهَرِيُّ في صِحاحِهِ: والثُّبُورُ الهَلاكُ والخُسْرانُ أيْضًا، قالَ الكُمَيْتُ:
؎وَرَأتْ قُضاعَةُ في الأيا ∗∗∗ مِنِ رَأْيَ مَثْبُورٍ وثابِرِ
أيْ مَخْسُورٍ وخاسِرٍ يَعْنِي في انْتِسابِها لِلْيَمَنِ. ا هـ مِنهُ.
وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُورًا﴾ مَعْنى دُعائِهِمُ الثُّبُورَ هو قَوْلُهم: واثُبُوراهُ، يَعْنُونَ: يا ويْلَ، ويا هَلاكَ، تَعالَ، فَهَذا حِينُكَ وزَمانُكَ.
وَقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ومَعْنى وادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا أنَّكم وقَعْتُمْ فِيما لَيْسَ ثُبُورُكم فِيهِ واحِدًا، إنَّما هو ثُبُورٌ كَثِيرٌ، إمّا لِأنَّ العَذابَ أنْواعٌ وألْوانٌ، كُلُّ نَوْعٍ مِنها ثُبُورٌ، لِشِدَّتِهِ (p-٢٨)وَفَظاعَتِهِ، أوْ لِأنَّهم كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهم بُدِّلُوا غَيْرَها، فَلا غايَةَ لِهَلاكِهِمْ. ا ه.
* * *
تَنْبِيهٌ.
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ قالَ: مَكانًا ضَيِّقًا، وكَذَلِكَ في الأنْعامِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا﴾ [الأنعام: ١٢٥] وقالَ في هُودٍ ﴿وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ﴾ [هود: ١٢] فَما وجْهُ التَّعْبِيرِ في سُورَةِ هُودٍ، بِقَوْلِهِ: ضائِقٌ عَلى وزْنِ فاعِلٍ، وفي الفُرْقانِ والأنْعامِ بِقَوْلِهِ: ضَيِّقًا عَلى وزْنٍ فَيْعِلٍ، مَعَ أنَّهُ في المَواضِعِ الثَّلاثَةِ هو الوَصْفُ مِن ضاقَ يَضِيقُ، فَهو ضَيِّقٌ.
والجَوابُ عَنْ هَذا هو أنَّهُ تَقَرَّرَ في فَنِّ الصَّرْفِ أنَّ جَمِيعَ أوْزانِ الصِّفَةِ المُشَبَّهَةِ بِاسْمِ الفاعِلِ إنْ قُصِدَ بِها الحُدُوثُ والتَّجَدُّدُ جاءَتْ عَلى وزْنِ فاعِلٍ مُطْلَقًا، كَما أشارَ لَهُ ابْنُ مالِكٍ في لامِيَّتِهِ بِقَوْلِهِ:
؎وَفاعِلٌ صالِحٌ لِلْكُلِّ إنْ قَصَدَ الـ حُدُوثَ نَحْوَ غَدًا ذا فارِحٌ جَذِلا
وَإنْ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ الحُدُوثُ والتَّجَدُّدُ بَقِيَ عَلى أصْلِهِ.
وَإذا عَلِمْتَ ذَلِكَ فاعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى في سُورَةِ هُودٍ: ﴿فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إلَيْكَ وضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ﴾ [هود: ١٢] أُرِيدَ بِهِ أنَّهُ يَحْدُثُ لَهُ ضِيقُ الصَّدْرِ، ويَتَجَدَّدُ لَهُ بِسَبَبِ عِنادِهِمْ وتَعَنُّتِهِمْ في قَوْلِهِمْ: ﴿لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ﴾ ولَمّا كانَ كَذَلِكَ، قِيلَ فِيهِ: ضائِقٌ بِصِيغَةِ اسْمِ الفاعِلِ، أمّا قَوْلُهُ: ضَيِّقًا في الفُرْقانِ والأنْعامِ فَلَمْ يُرَدْ بِهِ حُدُوثٌ، ولِذَلِكَ بَقِيَ عَلى أصْلِهِ.
وَمِن أمْثِلَةِ إتْيانِ الفَيْعِلِ عَلى فاعِلٍ إنْ قُصِدَ بِهِ الحُدُوثُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ﴾ وقَوْلُ قَيْسِ بْنِ الخُطَيْمِ الأنْصارِيِّ:
؎أبْلِغْ خِداشًا أنَّنِي مَيِّتٌ ∗∗∗ كُلُّ امْرِئٍ ذِي حَسَبٍ مائِتُ
فَلَمّا أرادَ حُدُوثَ المَوْتِ قالَ: مائِتُ بِوَزْنِ فاعِلُ، وأصْلُهُ مَيِّتٌ عَلى وزْنِ فَيْعِلٌ.
وَمِن أمْثِلَتِهِ في فَعِلٍ بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ قَوْلُ أبِي عَمْرٍو أشْجَعَ بْنِ عَمْرٍو السُّلَمِيِّ يَرْثِي قُتَيْبَةَ بْنَ مُسْلِمٍ: (p-٢٩)
؎فَما أنا مِن رُزْءٍ وإنْ جَلَّ جازِعُ ∗∗∗ ولا بِسُرُورٍ بَعْدَ مَوْتِكَ فارِحُ
فَلَمّا نَفى أنْ يَحْدُثَ لَهُ في المُسْتَقْبَلِ فَرَحٌ ولا جَزَعٌ قالَ جازِعٌ وفارِحٌ، والأصْلُ: جَزِعٌ وفَرِحٌ.
وَمِثالُهُ في فَعِيلٍ قَوْلُ لَبِيدٍ:
؎حَسِبْتُ التُّقى والجُودَ خَيْرَ تِجارَةٍ ∗∗∗ رَباحًا إذا ما المَرْءُ أصْبَحَ ثاقِلًا
فَلَمّا أرادَ حُدُوثَ الثِّقَلِ قالَ: ثاقِلًا والأصْلُ ثَقِيلٌ، وقَوْلُ السَّمْهَرِيِّ العُكْلِيِّ:
؎بِمَنزِلَةٍ أمّا اللَّئِيمُ فَسامِنٌ ∗∗∗ بِها وكِرامُ النّاسِ بادٍ شُحُوبُها
فَلَمّا أرادَ حُدُوثَ السِّمَنِ قالَ: فَسامِنٌ والأصْلُ سَمِينٌ.
واعْلَمْ أنَّ قِراءَةَ ابْنِ كَثِيرٍ ”ضَيْقًا“ بِسُكُونِ الياءِ في المَوْضِعَيْنِ راجِعَةٌ في المَعْنى إلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ بِتَشْدِيدِ الياءِ لِأنَّ إسْكانَ الياءِ تَخْفِيفٌ كَهَيْنٍ ولَيْنٍ، في هَيِّنٍ ولَيِّنٍ. والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
{"ayah":"وَإِذَاۤ أُلۡقُوا۟ مِنۡهَا مَكَانࣰا ضَیِّقࣰا مُّقَرَّنِینَ دَعَوۡا۟ هُنَالِكَ ثُبُورࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق